الخميس، 12 أبريل 2018

ج5 البداية والنهاية لابن كثير الحافظ


مروره صلى الله عليه وسلم بمساكن ثمود

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا.
قال رسول الله ﷺ: «لا تشربوا من مياهها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا».
هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا: معمر عن الزهري أخبرني: سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ لما مر بالحجر.
قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» وتقنع بردائه وهو على الرحل.
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه.
وقال مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال، كلاهما عن عبد الله بن دينار.
ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله ﷺ بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم.
فأمرهم رسول الله ﷺ فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا.
فقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم».
وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
وإنما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.
قال البخاري: وتابعه أسامة عن عبيد الله.
ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر النبي ﷺ بالحجر قال:
«لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء، منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله».
قيل: من هو يا رسول الله؟
قال: «هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».
إسناده صحيح ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا: المسعودي عن إسماعيل بن واسط عن محمد ابن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنودي في الناس: الصلاة جامعة.
قال: فأتيت رسول الله ﷺ وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم».
فناداه رجل: نعجب منهم؟
قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا».
إسناده حسن ولم يخرجوه.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله ابن أبي بكر ابن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، أو عن العباس بن سعد: الشك مني أن رسول الله ﷺ حين مر بالحجر ونزلها، استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها.
قال رسول الله ﷺ للناس لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له».
ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ﷺ إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه.
وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك فقال: «ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له» ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي.
وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله ﷺ من تبوك.
وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله ﷺ حين رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله ابن أبي بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين لكنه استكتمه إياهما، فلم يحدثني بهما.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد، ثنا عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «أخرصوا»
فخرص القوم، وخرص رسول الله ﷺ عشرة أوسق.
وقال رسول الله ﷺ للمرأة: «أحصي ما يخرج منها، حتى أرجع إليك إن شاء الله».
قال: فخرج حتى قدم تبوك.
فقال رسول الله ﷺ: «إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله».
قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة، فقام رجل، فألقته في جبل طيء، ثم جاء رسول الله ملك إيلة، فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا، وكتب له يجيرهم، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القرى.
قال للمرأة: «كم جاءت حديقتك؟»
قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله.
فقال رسول الله: «إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل».
قال: فخرج رسول الله، وخرجنا معه، حتى إذا أوفى على المدينة.
قال: «هذه طابة»
فلما رأى أحدا قال: «هذا أحد يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار»
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني ساعدة، ثم في كل دور الأنصار خير».
وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.
وقال الإمام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتونها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا، حتى آتي».
قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله ﷺ: «هل مسستما من مائها شيئا».
قالا: نعم.
فسبهما وقال لهما: «ما شاء الله أن يقول»
ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.
ثم قال رسول الله ﷺ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا».
أخرجه مسلم من حديث مالك به.
فصل تخلف عبد الله ابن أبي وأهل الريب عام تبوك

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله ﷺ سفره، وأجمع السير، فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله ابن أبي في طائفة من المنافقين، وأهل الريب.
قال ابن هشام: واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
قال: وذكر الدراوردي: أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك، أخذ علي سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله ﷺ وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قالوا.
فقال: «كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».
فرجع علي، ومضى رسول الله ﷺ في سفره.
ثم قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول لعلي هذه المقالة.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه به.
وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: خلف رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب في غزوة تبوك.
فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان؟
فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي».
وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه.
وعلقه البخاري أيضا من طريق أبي داود عن شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سمعت رسول الله ﷺ يقول له - وخلفه في بعض مغازيه -.
فقال علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟
فقال: «يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».
ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة.
زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله ﷺ أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له.
فقال رسول الله ﷺ في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف!والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله ﷺ فهيئا زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ﷺ حتى أدركه حين نزل تبوك.
وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله ﷺ فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك.
قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ﷺ ففعل حتى إذا دنا من رسول الله ﷺ.
قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل.
فقال رسول الله ﷺ: «كن أبا خيثمة».
فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.
فلما بلغ، أقبل فسلم على رسول الله ﷺ.
فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة».
ثم أخبر رسول الله ﷺ الخبر فقال: خيرا ودعا له بخير.
وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط، وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف، فالله أعلم.
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد * فلم أكتسب إثما لم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت * إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن بريدة، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله ﷺ - إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف.
فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان.
فيقول: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك به غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.
فقال: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
فتلوم أبو ذر بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله ﷺ ماشيا، ونزل رسول الله ﷺ بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق.
فقال رسول الله ﷺ «كن أبا ذر»
فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر.
فقال رسول الله ﷺ: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
قال: فضرب الدهر من ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه.
فقال: إذا مت فاغسلاني، وكفناني من الليل، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به، حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا؟
فقيل: جنازة أبي ذر.
فاستهل ابن مسعود يبكي وقال: صدق رسول الله ﷺ يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه.
إسناده حسن، ولم يخرجوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا: معمر أخبرنا: عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: «الذين اتبعوه في ساعة العسرة».
قال: خرجوا في غزوة تبوك؛ الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حر شديد، فأصابهم في يوم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر.
قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.
فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا.
فقال: «أو تحب ذلك؟»
قال: نعم!
قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقد ذكر ابن إسحاق: عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق: ويحك هل بعد هذا من شيء؟!
فقال: سحابة مارة.
وذكر أن ناقة رسول الله ﷺ ضلت فذهبوا في طلبها.
فقال رسول الله ﷺ لعمارة بن حزم الأنصاري، وكان عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها»
فانطلقوا فجاءوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فحدثهم عما جاء رسول الله ﷺ من خبر الرجل.
فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك لزيد بن اللصيت.
وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إن في رحلي لداهية وأنا لا أدري، اخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني.
فقال بعض الناس: إن زيدا تاب.
وقال بعضهم: لم يزل متهما بشرحتى هلك.
قال الحافظ البيهقي: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة، ثم روى من حديث الأعمش.
وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري - شك الأعمش - قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا، فأكلنا وادهنا.
فقال رسول الله ﷺ: «افعلوا»
فجاء عمر فقال: (يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة).
فقال رسول الله: «نعم!»
فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله ﷺ بالبركة ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم»
فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوها، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة.
فقال رسول الله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها غير شاك فيحجب عن الجنة».
ورواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.
ورواه الإمام أحمد من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة به، ولم يذكر غزوة تبوك، بل قال: كان غزوة غزاها.


فصل فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم

قال الله تعالى: { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم * وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } [التوبة: 86 - 93] .
قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله ﷺ ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم.
فمن بني عمرو بن عوفي: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان.
فقال: ما يبكيكما؟
قالا: جئنا رسول الله ﷺ ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي ﷺ.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد، فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو جسد أو عرض).
ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله ﷺ: «أين المتصدق هذه الليلة؟».
فلم يقم أحد.
ثم قال: «أين المتصدق فليقم».
فقام إليه فأخبره.
فقال رسول الله ﷺ: «أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة».
وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الأشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني، حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله ﷺ أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة غزوة تبوك.
فقلت: يا نبي الله!إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم.
فقال: «والله لا أحملكم على شيء».
ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله ﷺ ومن مخافة أن يكون رسول الله ﷺ قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله ﷺ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟
فأجبته فقال: أجب رسول الله ﷺ يدعوك فلما أتيت رسول الله ﷺ قال: «خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين»
لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال: «انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن».
قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي فقلت: إن رسول الله ﷺ يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم، حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله، حين سألته لكم ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله.
فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت.
قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله ﷺ من منعه إياهم ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة.
وفي رواية لهما: عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله ﷺ في رهط من الأشعريين ليحملنا.
فقال: «والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»
قال: ثم جيء رسول الله ﷺ بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها.
ثم قلنا: يعقلنا رسول الله ﷺ يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له.
فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم».
ثم قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».
قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة، حتى تخلفوا عن رسول الله ﷺ من غير شك ولا ارتياب.
منهم: كعب بن مالك ابن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
قلت: أما الثلاثة الأول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى الذين، وهم أنزل الله فيهم: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }. [التوبة: 118] .
وأما أبو خيثمة: فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله ﷺ كما سيأتي.




قدوم تميم الداري على رسول الله صلى الله عليه وسلم

في خروج النبي ﷺ وإيمان من آمن به
أخبرنا: أبو عبد الله سهل بن محمد بن نصرويه المروزي بنيسابور، أنبانا أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن القاضي، أنبأنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبير، أنبأنا وهب بن جرير، حدثنا أبي سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: قدم على رسول الله ﷺ تميم الداري، فأخبر رسول الله ﷺ أنه ركب البحر فتاهت به سفينته، فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء، فلقي إنسانا يجر شعره فقال له: من أنت؟
قال: أنا الجساسة.
قالوا: فأخبرنا.
قال: لا أخبركم، ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد فقال: من أنتم؟
قلنا: ناس من العرب.
قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟
قلنا: قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه.
قال: ذلك خير لهم.
قال: أفلا تخبروني عن عين زعر ما فعلت.
فأخبرناه عنها، فوثب وثبة كاد أن يخرج من وراء الجدار ثم قال: ما فعل نخل بيسان هل أطعم بعد.
فأخبرناه: أنه قد أطعم، فوثب مثلها، ثم قال: أما لوقد أذن لي في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة.
قالت: فأخرجه رسول الله ﷺ فحدث الناس فقال: «هذه طيبة، وذاك الدجال».
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن فاطمة بنت قيس.
وقد أورد له الإمام أحمد شاهدا من رواية أبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين.
وسيأتي هذا الحديث بطرقه وألفاظه في كتاب الفتن.
وذكر الواقدي وفد الدارين من لخم وكانوا عشرة.
-----

الصلاة على معاوية ابن أبي معاوية

روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله ﷺ بتبوك فطلعت الشمس بضياء، ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله.
فقال: «يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بيضاء ونور وشعاع، لم أرها طلعت فيما مضى».
قال: ذلك أن معاوية ابن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه.
قال: «ومم ذاك؟»
قال: بكثرة قراءته { قل هو الله أحد } بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟
قال: «نعم!».
قال: فصلى عليه، ثم رجع.
وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا، وقد تكلموا فيه.
ثم قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هاشم بن علي، أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء ابن أبي ميمونة، عن أنس قال: جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية ابن أبي معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه؟
قال: «نعم!».
فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت له.
قال: فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك.
قال: قلت: «يا جبريل بم نال هذه المنزلة من الله؟».
قال: بحبه «قل هو الله أحد» يقرؤها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.
قال عثمان: فسألت أبي أين كان النبي ﷺ؟
قال: بغزوة تبوك بالشام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه، وصلى عليه.
وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.
 --------

قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك

قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ﷺ بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ العقد أو قرب.
فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله ﷺ ورسالة رسول الله ﷺ إلى هرقل؟.
قال: بلى، قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلما جاءه كتاب رسول الله ﷺ دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار.
فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم؟
وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب.
والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم فلنتبعه على دينه، أو نعطيه مالنا على أرضنا.
فنخروا نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من براسنهم.
وقالوا: تدعونا إلى نذر أن النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز.
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم، ولم يكد.
وقال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إلي هرقل كتابا.
فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال؛ انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره، هل به شيء يربيك.
قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء.
فقلت: أين صاحبكم؟
قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره.
ثم قال: «ممن أنت؟».
فقلت: أنا أخو تنوخ.
قال: «هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟».
قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم.
فضحك.
وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، يا أخو تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه، ومخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير».
قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جنب سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره.
قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟
قالوا: معاوية.
فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟
فقال رسول الله ﷺ: «سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار».
قال: فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي.
قال: «إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون».
قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري.
قلت: من صاحب الجائزة؟
قيل لي: عثمان.
ثم قال رسول الله: «أيكم ينزل هذا الرجل؟».
فقال فتى من الأنصار: أنا.
فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس، ناداني رسول الله فقال: «تعال يا أخا تنوخ».
فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، وقال: «ها هنا امض لما أمرت به».
فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف، مثل الحمحمة الضخمة.
هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد.
 --------------
مصالحته عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك

قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة، فصالح رسول الله ﷺ وأعطاه الجزية.
وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية.
وكتب لهم رسول الله ﷺ كتابا فهو عندهم.
وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله، ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة، وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر».
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا؛ وهذا كتاب جهيم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
قال يونس عن ابن إسحاق، وكتب لأهل جرباء وأذرح:
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله، لأهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين».
قال: وأعطى النبي ﷺ أهل أيلة بردة مع كتابه أمانا لهم.
قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس، عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار.
------------------
بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة، كان ملكا عليها، وكان نصرانيا.
وقال رسول الله ﷺ لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر».
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر.
فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟
قال: لا والله.
قالت: فمن يترك هذا؟
قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له، يقال له: حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم.
فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي ﷺ فأخذته وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله ﷺ قبل قدومه عليه.
قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله ﷺ فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه.
فقال رسول الله ﷺ: «أتعجبون من هذا فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا».
قال ابن إسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله ﷺ حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من بني طيء يقال له: بجير بن بجرة في ذلك:
تبارك سائق البقرات إني * رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك * فإنا قد أمرنا بالجهاد
وقد حكى البيهقي أن رسول الله ﷺ قال لهذا الشاعر: «لا يفضض الله فاك».
فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله ﷺ بعث خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة، فذكر نحو ما تقدم.
إلا أنه ذكر أنه ما كره حتى أنزله من الحصن.
وذكر أنه قدم مع أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبي ألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح.
وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة ابن رؤبة بقضية أكيدر دومة أقبل قادما إلى رسول الله ﷺ يصالحه فاجتمعا عند رسول الله ﷺ بتبوك فالله أعلم.
وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل.
وخالد بن الوليد على الأعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم.

--------------------


فصل

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب، والراكبين، والثلاثة بواد يقال له: وادي المشقق.
فقال رسول الله ﷺ: «من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه».
قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه.
فلما أتاه رسول الله ﷺ وقف عليه فلم ير فيه شيئا.
فقال: «من سبقنا إلى هذا الماء؟».
فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان.
فقال: «أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه» ثم لعنهم، ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به، ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس، واستقوا حاجتهم منه.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه».
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث.
قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها.
قال: فإذا رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول: «أدنيا إلي أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه.
قال: «اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه».
قال: يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمي: ذو البجادين، لأنه كان يريد الإسلام، فمنعه قومه، وضيقوا عليه، حتى خرج من بينهم، وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه بإثنين فائتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، ثم أتى رسول الله ﷺ فسمي ذو البجادين.
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب الشجرة يقول:
غزوت مع رسول الله ﷺ غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وألقى الله علي النعاس، وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي ﷺ فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته، ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله: «حس».
فقلت: يا رسول الله استغفر لي.
قال: «سر».
فجعل رسول الله ﷺ يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار، فأخبره به.
فقال وهو يسألني: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم؟».
فحدثته بتخلفهم.
قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟».
قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا.
قال: «بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ».
فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا.
فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.
فقال رسول الله ﷺ: «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار، وغفار وأسلم».
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبيرقال: لما قفل رسول الله ﷺ من تبوك إلى المدينة، هم جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله ﷺ عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله، وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ﷺ فأمرهما، فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس.
ثم قال رسول الله ﷺ لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟»
قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟»
قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تمالئوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك؟
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟
فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي ﷺ إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده، وهذا هو الأشبه والله أعلم.
ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد، والوساد - يعني: ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني: حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني: عمارا -.
وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم؟
قال: لا ولا أبرئ بعدك أحدا يعني: حتى لا يكون مفشيا سر النبي ﷺ.
قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا.
وقيل: كانوا اثني عشر رجلا.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول الله ﷺ ما كان من أمرهم، وبما تمالئوا عليه.
ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم.
قال: وفيهم أنزل الله عز وجل: { وهموا بما لم ينالوا }. [التوبة: 74] .
وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة، إذا باثني عشر رجلا قد اعترضوه فيها.
قال: فأنبهت رسول الله ﷺ فصرخ بهم فولوا مدبرين.
فقال لنا رسول الله: «هل عرفتم القوم؟».
قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.
قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟».
قلنا: لا.
قال: «أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها».
قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟.
قال: «لا أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم».
ثم قال: «اللهم ارمهم بالدبيلة».
قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟
قال: «هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك»
وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة قال:
قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي، أرأي رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله؟
فقال: ما عهد إلينا رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله ﷺ أنه قال «في أصحابي إثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».
وفي رواية من وجه آخر عن قتادة: «إن في أمتي إثنى عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم».
قال الحافظ البيهقي: وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثنى عشر، منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله ﷺ يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله ﷺ وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل.
فقال رسول الله ﷺ لحذيفة: «قد قد».
حتى هبط رسول الله ﷺ من الوادي، فلما هبط، ورجع عمار.
قال يا عمار: «هل عرفت القوم؟».
قال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون.
قال: «هل تدري ما أرادوا؟».
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».
قال: فسار عمار رجلا من أصحاب النبي ﷺ فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟
قال: أربعة عشر رجلا.
فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر.
قال: فعذر رسول الله ﷺ منهم ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
 -----------------

قصة مسجد الضرار

قال الله تعالى: { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم }. [التوبة: 106 - 110] .
وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله ﷺ بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله ﷺ فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله ﷺ من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك.
فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } الآية.
أما قوله: { ضرارا } فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء.
{ وكفرا } بالله لا للإيمان به.
{ وتفريقا } للجماعة عن مسجد قباء.
{ وإرصادا } لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله ﷺ وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى: { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل }.
ثم قال: { وليحلفن } أي: الذين بنوه.
{ إن أردنا إلا الحسنى } أي: غنما أردنا ببنائه الخير.
قال الله تعالى: { والله يشهد إنهم لكاذبون }.
ثم قال الله تعالى إلى رسوله: { لا تقم فيه أبدا }.
فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.
وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله ﷺ لا ينافي ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد الرسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت في الفضل منه وأقوى.
وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن رسول الله ﷺ لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: وهم خذام بن خالد - وفي جنب داره - كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن الأزعر، وعباد بن حنيف - أخو سهل بن حنيف -، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخرج - وهو إلى بني ضبيعة -، وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة -، ووديعة بن ثابت - وهو إلى بني أمية -.
قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله ﷺ خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله ﷺ ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع.
فقال لهم رسول الله ﷺ: «أحسنتم وأصبتم».
وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا: حدثنا.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة.
فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم».
فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟
قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر».
تفرد به من هذا الوجه.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثني عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد، قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة.
قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه».
ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله ﷺ إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.
ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع
قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمة المدينة من مكة، لا إنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع، عند مقدمة من تبوك، والله أعلم.
فذكرناه ها هنا أيضا.
قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال:
سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك.
قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله ﷺ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حتى تواثبنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفر بعيدا وعددا وعدادا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.
فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا.
فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك.
فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟».
فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.
فسكت رسول الله ﷺ.
قال كعب بن مالك قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله ﷺ قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء من كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله ﷺ قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب.
ثم قال: «تعال».
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.
فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك».
فقلت: بلى وإني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله ﷺ: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك».
فقمت، فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني.
فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى ههمت أن أرجع فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟
قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.
فقلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي.
فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما.
ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف.
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟
فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته.
فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟
فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير.
فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله ﷺ يأتيني.
فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟
قال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.
فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله.
فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟
قال: «لا ولكن لا يقربك».
قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك، كما استأذن هلال ابن أمية أن تخدمه.
فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يباشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ﷺ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.
يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله ﷺ جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ﷺ.
قال رسول الله ﷺ وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».
قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟
قال: «لا بل من عند الله».
وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
قال رسول الله ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
وقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين - أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله ﷺ: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار }، إلى قوله: { وكونوا مع الصادقين }. [التوبة: 117 - 119] .
فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا.
فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد.
قال الله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم }.
إلى قوله: { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }. [التوبة: 95 - 96] .
قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله، حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه.
فبذلك قال الله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }.
ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم.
وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.
وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري.
وقد سقناه في التفسير من مسند الإمام أحمد، وفيه زيادات يسيرة، ولله الحمد والمنة.
 =================
  ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء | ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك | قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من سنة تسع | موت عبد الله بن أبي قبحه الله | فصل غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام | أبو بكر الصديق أميرا على الحج | موت النجاشي سنة تسع وموت أم كلثوم بنت رسول الله | كتاب الوفود الواردين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | حديث في فضل بني تميم | وفد بني عبد القيس | قصة ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب | وفد أهل نجران | وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس | قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا على قومه | فصل إسلام ضماد الأزدي وقومه | وفد طيء مع زيد الخيل رضي الله عنه | قصة عدي بن حاتم الطائي | قصة دوس والطفيل بن عمرو | قدوم الأشعريين وأهل اليمن | قصة عمان والبحرين | وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | قدوم عمرو بن معد يكرب في أناس من زبيد | قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة | قدوم أعشى بن مازن على النبي صلى الله عليه وسلم | قدوم صرد بن عبد الله الأزدي في نفر من قومه ثم وفود أهل جرش بعدهم | قدوم رسول ملوك حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | قدوم جرير بن عبد الله البجلي وإسلامه | وفادة وائل بن حجر أحد ملوك اليمن | وفادة لقيط بن عامر المنتفق أبي رزين العقيلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | وفادة زياد بن الحارث رضي الله عنه | وفادة الحارث بن حسان البكري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | وفادة عبد الرحمن ابن أبي عقيل مع قومه | قدوم طارق بن عبيد الله وأصحابه | قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان | قدوم تميم الداري على رسول الله صلى الله عليه وسلم | وفد بني أسد | وفد بني عبس | وفد بني فزارة | وفد بني مرة | وفد بني ثعلبة | وفد بني محارب | وفد بني كلاب | وفد بني رؤاس من كلاب | وفد بني عقيل بن كعب | وفد بني قشير بن كعب | وفد بني البكاء | وفد كنانة | وفد أشجع | وفد باهلة | وفد بني سليم | وفد بني هلال بن عامر | وفد بني بكر بن وائل | وفد بني تغلب | وفادات أهل اليمن: وفد تجيب | وفد خولان | وفد جعفي | فصل في قدوم الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم | وفد كندة | وفد الصدف | وفد خشين | وفد بني سعد | وفد السباع | فصل ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة | سنة عشر من الهجرة باب بعث رسول الله خالد بن الوليد | بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى أهل اليمن | بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وخالد إلى اليمن | كتاب حجة الوداع في سنة عشر | باب بيان أنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة | باب خروجه عليه السلام من المدينة لحجة الوداع | باب صفة خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة للحج | باب بيان الموضع الذي أهل منه عليه السلام | باب بسط البيان لما أحرم به عليه السلام في حجته هذه | ذكر ما قاله أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا | ذكر حجة من ذهب إلى أنه عليه السلام كان قارنا | اختلاف جماعة من الصحابة في صفة حج رسول الله | فصل عدم نهي النبي عليه السلام عن حج التمتع والقران | ذكر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل في التلبية | ذكرالأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته | باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة شرفها الله عز وجل | صفة طوافه صلوات الله وسلامه عليه | ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه | ذكر طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة | فصل من لم يسق معه هدي فليحل ويجعلها عمرة | فصل قول بعض الصحابة فيمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة | فصل نزول النبي عليه السلام بالأبطح شرقي مكة | فصل قدوم رسول الله منيخ بالبطحاء خارج مكة | فصل صلاته صلى الله عليه وسلم بالأبطح الصبح وهو يوم التروية | فصل دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة | ذكر ما نزل على رسول الله من الوحي في هذا الموقف | ذكر إفاضته عليه السلام من عرفات إلى المشعر الحرام | فصل تقديم رسول الله ضعفة أهله بالليل ليقفوا بالمزدلفة | ذكر تلبيته عليه السلام بالمزدلفة | وقوفه عليه السلام بالمشعر الحرام ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس | ذكر رميه عليه السلام جمرة العقبة وحدها يوم النحر | فصل انصراف رسول الله إلى المنحر واشراكه سيدنا علي بالهدي | صفة حلقه رأسه الكريم عليه الصلاة والتسليم | فصل تحلله صلى الله عليه وسلم بعد رمي جمرة العقبة | ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق | فصل اكتفاء رسول الله عليه السلام بطوافه الأول | فصل رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى منى | فصل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر | فصل نزوله عليه الصلاة والسلام في منى | فصل خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في ثاني أيام التشريق | حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يزور البيت كل ليلة من ليالي منى | فصل يوم الزينة | فصل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة | فائدة عزيزة | فصل خطبته صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة | سنة إحدى عشرة من الهجرة | فصل في الآيات والأحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم | ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالصحابة أجمعين | احتضاره ووفاته عليه السلام | فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه | قصة سقيفة بني ساعدة | فصل خلافة أبي بكر | فصل في ذكر الوقت الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة غسله عليه السلام | صفة كفنه عليه الصلاة والسلام | كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم | صفة دفنه عليه السلام وأين دفن | آخر الناس به عهدا عليه الصلاة والسلام | متى وقع دفنه عليه الصلاة والسلام | صفة قبره عليه الصلاة والسلام | ما أصاب المسلمين من المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم | ما ورد من التعزية به عليه الصلاة والسلام | فصل فيما روي من معرفة أهل الكتاب بيوم وفاته عليه السلام | فصل ارتداد العرب بوفاته صلى الله عليه وسلم | فصل قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم | باب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم | باب بيان أنه عليه السلام قال لا نورث | بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك | فصل النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث | باب زوجاته وأولاده صلى الله عليه وسلم | فصل فيمن خطبها عليه السلام ولم يعقد عليها | فصل في ذكر سراريه عليه السلام | فصل في ذكر أولاده عليه الصلاة والسلام | باب ذكر عبيده عليه الصلاة والسلام وإمائه وخدمه وكتابه وأمنائه | إماؤه عليه السلام | فصل وأما خدامه عليه السلام الذين خدموه من الصحابة | فصل أما كتاب الوحي وغيره بين يديه صلوات الله وسلامه عليه | فصل أمناء الرسول صلى الله عليه وسلم
-----------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق