يكتم أمرما وهذا من باب السياسة الشرعية، والنظر المصلحي للدعوة إذا كان الجهر يضر بها (1).
3 - أسلم السابقون الأولون مثل خديجة وعلي وزيد أبي بكر وغيرهم.
الشرح:
قد علمنا فيما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ يدعو من يغلب على ظنه أنه سيدخل هذا الدين، وأنه سوف يكتم أمره.
فكانت خديجة - رضي الله عنها - أول من دعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام فأسلمت، ثم ثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمين سره وموضع ثقته أبي بكر فأسلم، ولم يتردد، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أبو بَكْرٍ: صَدَقَ ... " (2).
فكان الصديق - رضي الله عنه - أول داعية في الإِسلام.
وكان ببركة إسلامه ودعوته ثلة مباركة دخلت في الدين وكانت من السابقين الأولين وكان لها في الإِسلام أعظم بذل وبلاء، فرضي الله عنهم أجمعين، منهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ذو النورين والزبير بن العوام وهو حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص خال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وطلحة بن عبيد الله وكل هؤلاء الذين دخلوا الإِسلام على يد أبي بكر من العشرة المبشرين رضي الله عنهم أجمعين.
(1) "وقفات تربوية مع السيرة النبوية" الشيخ أحمد فريد (68) بتصرف.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3661)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذًا خليلاً، وأحمد في "فضائل الصحابة " (297).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60
* * *
وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - , وكان ابن ثماني سنين، وقيل أكثر من ذلك، وكان من سابق سعادته أنه كان في كفاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكان أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكان غلامًا لخديجة فوهبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها.
ثم دخل بعد هذه الثلة الفاضلة التي سبقت لها السعادة وسبقت إلى الإيمان والعبادة، ثلة أخرى كريمة فاضلة منهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعيد بن زيد من العشرة المبشرين، وخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود، وأسماء، وعائشة، وقد أسلمت عائشة - رضي الله عنها - وهي طفلة صغيرة، أما أسماء فكانت متزوجة بالزبير بن العوام.
وتوالى إسلام الأفاضل من قريش، فأسلم جعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان الرومي (1).
وكان من السابقين بلال بن رباح، وعمر بن عبسه السلمي، وياسر وسمية والدا عمار، والمقداد بن الأسود.
4 - ثم أُمر - صلى الله عليه وسلم - بالجهر فجهر فعاداه قومه.
الشرح:
وكانت نزول آية الشعراء: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] إيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بالجهر بالدعوة المباركة، وانتهاء المرحلة السرية.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} صَعِدَ
(1) "وقفات تربوية" 68، 69.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61
* * *
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَابني فِهْرٍ يَابني عَدِيٍّ" - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أبو لَهَب وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيكُمْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: "فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فَقَالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد:1 - 2] (1).
ثم شمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ساعديه، وألقى النوم والراحة وراء ظهره، وأخذ يدعو إلى الله وإلى دين ربه عز وجل فهو لا يريد أن يضيع لحظة واحدة في غير الدعوة إلى الله.
ولم تكن الدعوة سهلة يسيرة، ولم يكن طريقها مفروش بالورود، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد واجه من الصعوبات والمشقة مالا يتحمله غيره، وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5].
وكان سبب هذه الصعوبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث على فترة من الرسل حتى إن كفار قريش قد ورثوا عبادة الأصنام والأوثان كابرًا عن كابر، فلم تكن عندهم أدنى موافقة على ترك دين آبائهم وأجدادهم إلى التدين بهذا الدين الجديد، بل كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22].
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4770)، كتاب: التفسير، سورة الشعراء، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين، مسلم (208) كتاب الإيمان, باب: وأنذر عشيرتك الأقربين كلاهما عن ابن عباس ونحوه عن أبي هريرة, ومسلم عن عائشة وزهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62
* * *
ورغم ذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الحرص، وبذل كل الجهد حتى يخرج هؤلاء من عبادة الأوثان إلى عبادة رب الأنام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في الأسواق يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله تُفْلِحُوا" (1).
حتى إن الله تعالى لما رأى منه كل هذا الجهد والحزن الذي ملأ قلبه حتى كاد يقتله الحزن لخوفه عليهم من عذاب ربهم، رأف الله تعالى به فأنزل عليه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]. وأنزل: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6]. أي: فلعك قاتل نفسك أسفًا وحزنًا لعدم إيمانهم بك وبرسالتك فلا تحزن كل هذا الحزن {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40].
ثم استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته التي واجه فيها صناديد قريش وكبراءها فآذوه أشد إيذاء وتعداه هذا الإيذاء إلى أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي - صلى الله عليه وسلم -.
5 - قام كفار قريش بتعذيب من علموا بإسلامه ليردوهم عن دينهم لكنهم صبروا وثبتوا.
الشرح:
واعتقد كفار مكة أن إيذاءهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعذيبهم لأصحابه سينال من عزيمتهم ويوهن قوتهم فيرضخون لهم ويطيعونهم فيما أرادوا, ولكن هيهات، هيهات، فما نالت هذه الأفعال من عزيمة الأبطال شيئًا، بل زادتهم قوة وصلابة.
(1) حسن: أخرجه أحمد 3/ 492، والطبراني في "الكبير" (4582)، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" 142/ 143.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63
* * *
فكما علمت أخي الكريم لم يقف هذا الإيذاء عند حد معين، ولا على شخص معين، بل فاق كل الحدود ونال من كل شخص نطق بكلمة التوحيد {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8].
وإليك أخي الكريم بعض الصور لما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين:
عَنْ عبد الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيتِ وَأبو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أبو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلى سَلَا جَزُورِ بني فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ في كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (1) فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ (2) فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ عَلَيْكَ بِأبي جَهْلِ بن هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بن رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ, وَأُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ" وَذَكَرَ السَّابعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. قَالَ أبو إِسْحَقَ: الْوَلِيدُ بن عُقْبَةَ غَلَطٌ في هَذَا الْحَدِيثِ (3).
(1) هو عقبة بن أبي معيط كما ثبت في بعض الروايات.
(2) أي صغيرة.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3854)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - =
* * *
5
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64
* * *
وقد وقع شك من الراوي في "صحيح البخاري" أهو أمية بن خلف أم أُبيّ؟ والصحيح أنه أمية فهو الذي قتل يوم بدر أما أبي فقد قتل يوم أحد، وقد تقطعت أوصال أمية فلم يلق في البئر.
واعلم أخي الكريم أكرمك الله أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم لم يكن بسبب إيذائهم له - صلى الله عليه وسلم -، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يغضب لنفسه قط، وإنما كان ذلك لردهم دعوته وعدم قبولها.
عن عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بن الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: بَينَما النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بن أبي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أبو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] (1).
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ أبو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى- يمينًا يحلف بها- لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ, قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ
= وأصحابه من المشركين بمكة, مسلم (1794) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين. وهذا سياق مسلم، والسابع هو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في بعض الروايات.
(1) "صحيح البخاري" (3856) كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65
* * *
الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" قَالَ: فَأَنْزَلَ الله عز وجل {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق:6 - 19] (1).
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "لَقَدْ أُوذِيتُ في الله عز وجل وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ في الله وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ" (2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أن أبا جَهْلٍ جاء إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَاهُ، فَتَهَدَّدَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَتُهَدِّدُنِي؟! أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا! فَأَنْزَلَ الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} إلى قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ (3).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4958) كتاب: التفسير، تفسير سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق، مسلم (2797)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى، والسياق له.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (12151)، الترمذي (2472) كتاب: صفة القيامة والرقاق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2222)، "صحيح الجامع" (5001).
(3) صحيح: أخرجه أحمد (3045)، والترمذي (3349) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة اقرأ باسم ربك، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (275).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66
* * *
ولما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} أقبلت أم جميل أروى بنت حرب، امرأة أبي جهل وهي تنشد: مذمم أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - فلما رأها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تراني" وقرأ قرآنًا فاعتصم به، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر إني أُخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها (1).
وكأنَّ الله تعالى أراد ألا يُسب نبيه من هؤلاء.
فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا تَعْجَبُونَ كَيفَ يَصْرِفُ الله عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟! " قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ" (2).
وكان الْمُشْرِكُونَ إذا سمعوا القرآن يجهر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بأصحابه مستخفيًا يسبون الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فأمره الله تَعَالَى أن يتوسط بالقراءة بحيث يسمعه أتباعه دون المشركين، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110] (3).
(1) صحيح: أخرجه الحاكم (3376) كتاب: التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي "التعليقات الحسان" (6477)، "صحيح السيرة" للألباني (138).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3533)، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحمد 2/ 244، 340، 366.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4722)، كتاب: التفسير، سورة بني إسرائيل، مسلم (446) كتاب: الصلاة، باب: التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67
* * *
ولكن الله تعالى قد كفى نبيه - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين وعصمه منهم فلم يضروه بشيء، وقد تجلت هذه الرعاية وظهرت لما اجتمع كفار قُرَيْشٍ في الْحِجْرِ فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، فلما علمت بذلك فَاطِمَةُ - رضي الله عنها - أقبلت تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ في الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وقَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ من ذلك، فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بنيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا"، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا هَذَا هو، فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ.
قَالَ ابن عباس: فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (1).
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم كل هذا الإيذاء والتعنت ضده وضد دعوته رؤفًا بهم رحيمًا، حتى إن جِبْرِيلَ عليه السلام لما جاءه ومعه مَلَكُ الْجِبَالِ- يوم العقبة- وعرض عليه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يطْبِقَ عَلَيهِمْ الْأَخْشَبَينِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُه لَا يُشْرِك بِهِ شَيْئًا" (2).
فهل عرفت البشرية مثل هذه الرحمة؟ كلا والله ما عرفت ولن تعرف. بأبي هو وأمي ونفسي - صلى الله عليه وسلم -.
هذا ما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما عن أصحابه رضوان الله عليهم.
(1) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 303، 368، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
(2) متفق عليه: البخاري (3231) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه, ومسلم (1795) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68
* * *
فهذا بلال بن رباح -رضي الله عنه وأرضاه- عذب بلال في الله عذابًا لا يتحمَّلُه بشر، حتى إن المشركين ألبسوه أدرع الحديد وصهروه في الشمس هو ومن معه من السابقين فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال.
عَنْ ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأبو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ، وَأَمَّا أبو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَعَ الْحَدِيدِ، فصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ من أحد إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله, وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فأخذوه فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فجعلوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ (1).
(1) حسن: أخرجه أحمد 1/ 404، وابن ماجه (150) باب: فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والحاكم 3/ 284، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (121).
ويرد على هذا الحديث إشكالان:
الأول: في قول ابن مسعود: فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه. وظاهر هذا أن ابن مسعود ينفي تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للإيذاء، وهذا ليس مراد ابن مسعود - رضي الله عنه - بلا شك، وإلا فقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك في الأحاديث التي رواها ابن مسعود نفسه، إذًا فمراد ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحبس ولم يُسجن كبقية المستضعفين وذلك لحماية عمه له. والله أعلم.
والثاني: قول ابن مسعود: فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً.
فظاهر هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم قد رجعوا عن دين الإِسلام إلى الكفر مرة أخرى، وهذا أيضًا ليس مراد ابن مسعود بلا شك, لأن هؤلاء الصحابة الذين ذكرهم لم يرتد منهم أحد بل ظلوا - رضي الله عنهم - أعمدة للإسلام وحماة له حتى وفاتهم - رضي الله عنهم - إذًا فمراد ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه ما منهم من أحد إلا وقد أخذ برخصة الله تعالى مع ثبوت الإيمان في قلبه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69
* * *
قال الذهبي:
من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله (1).
وظل المشركون يعذبون بلالاً حتى إن كان أمية بن خلف - عليه لعائن الله - يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد (2).
وظل بلال يتحمل هذا التعذيب الشديد الذي يفوق طاقات البشر وهو يردد كلمته الخالدة: أحد، أحد، حتى اشتراه الصديق فأعتقه في سبيل الله.
عن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أواقٍ من ذهب، فقالوا: لو أبيت إلا أُوقية لبعناكه، قال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته (3).
فكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أبو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا (4).
ثم أمكن الله بلالاً من عدوه أمية بن خلف في غزوة بدر فاقتص منه.
يقول عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي في صَاغِيَتِي (5) بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ في صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا
(1) "سير أعلام النبلاء" 3/ 206.
(2) "سيرة ابن هشام" 1/ 262.
(3) "سير أعلام النبلاء" 3/ 210، وقال الذهبي: إسناده قوي.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3754)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: مناقب بلال بن رباح.
(5) الصاغية: بصاد مهملة وغين معجمة خاصة الرجل، مأخوذ من صاغ إليه إذا مال، قال الأصمعي: صاغية الرجل كل ما يميل إليه، ويطلق على الأهل والمال. اهـ. "فتح الباري" 4/ 561.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70
* * *
أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عبد عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ في يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إلى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أُمَيَّةُ بن خَلَفٍ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ في آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ (1).
صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة:
وكان ممن عذب في الله عمار وأبواه ياسر وسمية - رضي الله عنهم -.
قال ابن حجر في ترجمة عمار:
كان من السابقين الأولين هو وأبوه وكانوا ممن يعذب في الله (2).
وقال ابن عبد البر:
كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله (3).
فكان الكفار يلبسوهم أدرع الحديد فيصهروهم في الشمس حتى قتل ياسر.
وأما سمية فقيل أن أبا جهل طعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2301)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل المسلم حربيًا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز.
(2) "الإصابة" 2/ 1300، ط. دار المعرفة، بيروت.
(3) "الاستيعاب" (548)، ط. دار المعرفة, بيروت.
(4) "الإصابة" 4/ 2542.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71
* * *
وقيل طُعنت في فخذها فسرى الرمح إلى فرجها فماتت شهيدة (1).
فلما قتل والدا عمار واشتد عليه العذاب تابعهم على ما أرادوا وقلبه كاره له، قال ابن حجر: واتفقوا على أنه نزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (2).
وكان من مناقب آل ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بهم وهم يعذبون ويقول: "أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة" (3).
وكان خباب بن الأرتِّ ممن عذب في الله:
قال ابن عبد البر:
وكان قديم الإِسلام ممن عذب في الله، وصبر على دينه (4).
وقال ابن حجر:
وروى البارودي، أنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه وعذب عذابًا شديدًا لأجل ذلك (5).
(1) "الاستيعاب" (896).
(2) "الإصابة" 2/ 1300.
(3) ذكره الألباني في "صحيح السيرة" (155) وقال: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 388، 389 من طريق أبي الزبير عن جابر، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، إلا أن أبا الزبير مدلس، وقد عنعنه. وقد أخرجه عنه ابن سعد 3/ 249 من الطريق نفسها ولم يذكر فيه جابرًا، وقد ذكره الهيثمي 9/ 293 من مسنده وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة, ثم ذكر له شاهدًا من حديث عثمان بن عفان مرفوعًا مثله، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
(4) "الاستيعاب" (236).
(5) "الإصابة" 1/ 473.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72
* * *
حتى إن خبابًا ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو له شدة ما يلقونه من المشركين، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فقال له هو وجماعة من الصحابة: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثم يؤتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ الله تعالى هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا الله وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (1).
وقد جَاءَ خَبَّابٌ يومًا إلى عُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - فَقَالَ له: ادْنُ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلَّا عَمَّارٌ، فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهِ آثَارًا بِظَهْرِهِ مِمَّا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ (2).
ولم يتوقف إيذاء المشركين للمسلمين على الإيذاء الجسدي فقط، بل إنَّ المشركين استحلوا أموالهم فأكلوها بالباطل.
قال خباب: كنت رجلاً قينًا (3).
وَكَانَ عَلَى الْعَاصِ بن وَائِلٍ دين، فَأَتَيْتُهُ، أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا والله, لا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ, لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تموت ثُمَّ تبعث، قَالَ: فإني إذا مت ثُمَّ أُبْعَثَ، جئتني ولي ثم مَال وَوَلَد فاعطيك، فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3852)، كتاب: "مناقب الأنصار"، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (153) باب: "فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -" وابن سعد 3/ 165، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (157).
(3) بفتح القاف وسكون الياء وأصل القين الحداد ثم صار كل صائغ عند العرب قينًا، وقال الزجاج: القين الذي يصلح الأسنة. "فتح الباري".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق