الاثنين، 7 مايو 2018

4 الاغصان



11 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والعشرين تزوج خديجة - رضي الله عنها -.
الشرح:
ثم تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وكان - صلى الله عليه وسلم - آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، وخديجة - رضي الله عنها - في الأربعين من عمرها.
وذكر ابن إسحاق أنها كانت في الثامنة والعشرين (1).
وتشير روايات ضعيفة- بل معظمها واهٍ - إلى تفاصيل تتعلق بزواج الرسول من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وهي تحدد بداية التعارف بينهما عن طريق عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تجارة خديجة، التي كانت ثرية تضارب بأموالها وقد ذهب بتجارتها إلى قريش مرتين- قرب خميس مشيط وكانت متابعة لليمن- أو حباشة- سوق بتهامة من نواحي مكة- أو الشام، فربح بتجارتها وحكي لها غلامها ميسرة الذي صحبه عن أخلاقه وطباعه، فأعجبت
= معيشتهم في ظلمات العصبية الجاهلية وقبل إشراقة أنوار النبوهّ المحمدية، لم يمنعهم هذا من نصرة المظلوم الغريب على الظالم القريب، وهو خلق عظيم جاء الإِسلام فزاده نورًا وبهاءً، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152].
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَنْصُرهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: "تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْم فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ" صحيح: أخرجه البخاري (6952)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه وكذلك كل مكرهٍ يخاف فإنه يذب عنه المظالم ويقاتل دونه ولا يخذله فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص.
(1) "مستدرك الحاكم" 3/ 182 من كلام ابن إسحاق بدون إسناد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42
* * *
به، وقد خطبها لأبيها خويلد بن أسد فزوجه منها .... اهـ (1).
وقيل مات خويلد بن أسد قبل الفجار، وقيل مات في الفجار وكان زعيم قومه فيها والذي زوجها هو عمها عمرو بن أسد.
12 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والثلاثين اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه فحكم بينهم.
الشرح:
روى الإِمام أحمد: عن السائب بن عبد الله أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ في الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَكان لِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ الله قال: وكنت أَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ (2) الَّذِي أَنْفَسُهُ (3) عَلَى نَفْسِي فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ (4) فَيَبُولُ عليه. قال: فَبَنَينَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَلا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ. فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا. فقَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنْ الْفَجِّ، فَجَاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: أَتَاكُمْ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ في ثَوْبٍ، ثمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ، فرفعوا بنوَاحِيهِ مَعَهُ فَوَضعَهُ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - (5).
وروى الطيالسي عن علي - رضي الله عنه - قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش،
(1) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 112 - 113.
(2) الغليظ.
(3) أبخل به.
(4) يختلي.
(5) حسن: أخرجه أحمد 1/ 425، والحاكم 1/ 458 وصححه، وأخرجه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (45).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43
* * *
فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا، من يضعه؟ فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل بطن أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، وأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه (1).
وروى البخاري في "صحيحه": عن جابر بن عبد الله أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَه عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ؟ قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رؤي بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا - صلى الله عليه وسلم - (2).
وكان عمره - صلى الله عليه وسلم - حين تجديد بناء الكعبة خمسًا وثلاثين سنة (3).
13 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الثامنة والثلاثين ترادفت عليه علامات نبوته وتحدث بها الرهبان والكهان.
الشرح:
لقد مهد الله تعالى لبعثه: نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، منها ما هو حسي بأحداث تحدث له، كالذي رأته أمه حين ولادته وما حدث له أثناء رضاعه عند حليمة السعدية، وقصة بحيري الراهب وتسليم الحجر عليه، وغير ذلك.
ومنها ما هو معنوي ظهر في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، كتركه الكذب وتركه شرب
(1) حسن: أخرجه الطيالسي 2/ 86، والحاكم 1/ 459، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (45).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1582). كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها.
(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 102 - 104 بإسناد صحيح.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44
* * *
الخمر خلافًا لعادة الرجال في ذلك الوقت، وعدم سجوده لصنم حتى أقسم زيد بن حارثة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مس صنمًا قط حتى أكرمه الله بالوحي (1).
وعدم طوافه بالبيت عُريانًا وغيرها من صفات الرجولة والشهامة حتى قَالَتْ له خَدِيجَةُ: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (2).
وحتى يشاهد هذه العلامات كل من حوله ويرونها رأي العين، ويتناقلونها بينهم، حتى إذا ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكونون في عجبة من أمره. وكان ما أراده الله عزّ وجلّ فما أن بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سارع كثير من المقربين إليه وغير المقربين بالإيمان به والدخول في دعوته المباركة، ولم يبق إلا من ختم الله على قلبه، أو من أراد الله أن يؤخر إسلامه إلى حين آخر.
ولذلك حتى الذين لم يؤمنوا به - صلى الله عليه وسلم - كانوا على يقين أنه على حق وأنه لا يكذب، وذلك لما علموه عنه من أخلاق كريمة، ومما حدث له من أحداث قبل نبوته، ومن تحديث الكهان والرهبان وأهل الكتاب به - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ما منعهم أن يؤمنوا به وأن يجحدوا بتلك العلامات إلا الكبر، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14]، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].
(1) حسن: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 5/ 88، والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 34، والحاكم في "المستدرك" (4956)، وحسنه الذهبي في "السيرة".
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4953) كتاب: التفسير، باب: اقرأ باسم ربك الذي خلق، ومسلم (252) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45
* * *
فلما كان قبيل بعثته - صلى الله عليه وسلم - ترادفت عليه علامات نبوته وتكاثرت وحدث بها الأحبار والرهبان والكهان، فأما الأحبار والرهبان فبما علموه من كتبهم، وأما الكهان فبما تأتيهم به شياطينهم من استراق السمع.
ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه": عَنْ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ في الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَى الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا في السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ:
أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وإِبْلَاسَهَا (1) ... وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا
وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحْ (2) أَمْرٌ
(1) تقول أبلس الرجل إذا سكت ذليلًا أو مغلوبًا. ويأسها من بعد إنكاسها: اليأس ضد الرجاء، والإنكاس الإنقلاب، ومعناه: أنها يأست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته فانقلبت عن الاستراق مذ يأست من السمع.
والقلاص بكسر القاف وبالمهملة: جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق.
والأحلاس: جمع حلس بكسر فسكون وهو كساء جلد يوضع علي ظهر البعير.
(2) الجليح معناه: الوقح المكافح بالعداوة. قال ابن حجر: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها يا آل ذريح وهم بطن مشهور في العرب.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46
* * *
نَجِيحْ رَجُلٌ فَصيحْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَوَثَبَ الْقَوْمُ فقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيح أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ، فَصِيحْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا (1) أَنْ قِيلَ: هَنَا نبِيٌّ (2).
وصرح ابن حجر أن الرجل هو: سواد بن قارب، كما جاء في بعض طرق الحديث.
وكان من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - أن مُنعت الشياطينُ من استراق السمع (3).
وعندها قالت الجنُّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 8 - 9].
ومن هواتف الجان أيضًا ما رواه أبو نعيم عن جابر بن عبد الله، قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا وتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا، ووضع منا القرار (4).
وكان من تحديث يهود ما أخرجه ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَلَمَةَ بن سَلَامَةَ بن وَقْشٍ وَكَانَ مِنْ أهل بَدْرٍ قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ في بني عبد الْأَشْهَلِ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيتِهِ حتى وقف على بني عبد الْأَشْهَلِ- قَالَ سَلَمَةُ: وَأَنَا
(1) أي: فما لبثنا.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3866)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4921) عن ابن عباس كتاب: التفسير، سورة قل أوحي إليَّ.
(4) حسن: أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" (29)، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (83).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47
* * *
يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ مُضطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي- فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ، وَالْبَعْثَ، وَالْحِسَابَ، وَالْمِيزَان، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ.
قال: فقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ! أو تَرَى هَذَا كَائِنًا، إِنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، أَنَّ لَهُ عظة مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ في الدار يُحَمُّونَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فيطينونه عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا.
قَالُوا: وَيْحَكَ يا فلان! فمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيُّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبلَادِ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ.
قَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟
قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ.
قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ الله محمدًا رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؛ فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا.
قال: فَقُلْنَا له: ويحك يَا فُلَانُ! أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلكن لَيْسَ بِهِ (1).
وروى ابن إسحاق أيضًا عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام- مع رحمة الله تعالى وهداه لنا- لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم
(1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 467، وابن هشام في "السيرة" 1/ 158 - 159، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (59).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48
* * *
ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89] (1).
وروى عن عاصم بن عمر بن قتادة أيضًا عن شيخ من بني قريظة قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبيد؟ - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة؛ كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإِسلام- قال: قلت: لا والله. قال: فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيِّبان قدم علينا قبل الإِسلام بسنين، فحلَّ بين أظهرنا، لا والله, ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا. قيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم.
(1) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 1/ 158، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (57).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49
* * *
قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (1) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تُسْبَقَنَّ إليه يا معشر يهود! فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية- وكانوا شبابًا أحداثًا: يا بني قريظة! والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به.
قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته. فنزلوا فأحرزوا دمائهم وأموالهم وأهليهم (2).
ومن تحديث الرهبان به ما جاء في قصة إسلام سلمان الفارسي وأنه كان مجوسيًا ثم دخل كنيسة نصارى فأعجبته عبادتهم، فدخل دينهم، ثم استوصى قس الكنيسة عند وفاته فأوصاه بالذهاب إلى قس الموصل الذي أوصاه عند وفاته بالذهاب إلى قس نصيبين الذي أوصاه عند وفاته أيضًا بقس عمورية، فأوصاه بإتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفه له (3).
وتنبؤ ورقة بن نوفل به عندما ذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إليه (4).
وتنبؤ هرقل بانتشار دعوته - صلى الله عليه وسلم - وقوله: فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين (5).
(1) أتوقع وأنتظر.
(2) صحيح: أخرجه ابن هشام 1/ 159 - 160، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (61).
(3) صحيح: أخرجه أحمد 5/ 441 - 444، وابن هشام 1/ 160 - 164، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (70).
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50
* * *
وكذلك قصة ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وخروجهما من مكة بحثًا عن الدين الحق حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال الراهب لزيد: إن الذي تلتمس يوشك أن يظهر (1).
فكانت هذه (الآيات والمعجزات التي وقعت للرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل الإرهاصات الدالة على تميزه عن غيره من الحنيفيين الذين عاصروه، وأن الله عزّ وجلّ سيختاره بالذات لأمر عظيم) (2).
14 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - التاسعة والثلاثين حُبب إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهر رمضان يتحنف فيه.
الشرح:
روى البخاري في "صحيحه": عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ،- قال الزهري: أحد رواه الحديث، والتحنث: التَّعبد اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ-، قَبْلَ أَنْ يرجع إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا (3). وجاء في رواية ابن إسحاق أن ذلك كان في شهر رمضان (4).
15 - وقبل مبعثه بستة أشهر كان وحيه منامًا، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الشرح:
جاء في حدثنا عائشة السابق أنها قالت: كان أول ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) صحيح: أخرجه الحاكم 3/ 439 وصححه، ورواه أبو داود الطيالسي 2/ 161.
(2) "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" 1/ 163.
(3) سبق تخريجه.
(4) "السيرة" لابن هشام 1/ 172.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51
* * *
الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبْحِ (1).
قال ابن حجر:
هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقًا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر .... اهـ (2).
(1) سبق تخريجه.
(2) "فتح الباري" 8/ 587.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52
* * *
من البعثة
إلى الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53
* * *
من البعثة إلى الهجرة
1 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه وهو في غار حراء.
الشرح:
ولما أتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأربعين من عمره- على القول الراجح من أقوال أهل العلم- وذلك لما رواه البخاري بسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَرْبَعِينَ سَنَةً (1).
ولما رواه مسلم بسنده: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَا بِالْآدَمِ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ الله عَلَى رَأسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً (2).
لما أتم الأربعين أنعم الله عليه بنور النبوة والإيمان ليبدد به ظلمات الكفر والطغيان، حيث اختاره الله تعالى نبيًا له ورسولاً في الأرض، ونورًا يُهدى به إلى الجنة، وقد وصفه الله بذلك فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3902)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2347)، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه وسنه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55
* * *
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16].
فكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - والنور الذي جاء به حجة على الناس، فمن تبعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.
اللهم اجعلنا من أتباعه إلى أن نلقاك يا رب العالمين.
فكيف كان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - لأول مرة؟ وأين كان هذا؟ وما الذي حدث له - صلى الله عليه وسلم - حينها؟ وكيف كان موقف من حوله منه حين أخبرهم بذلك؟
هذا ما سنعرفه من خلال الحديث الصحيح الذي يرويه الإِمام البخاري رحمه الله عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وبعض جمل الحديث من "مدرج الزهري" أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعبد اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِحَ إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ في غَارِ حرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 1 - 3] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ - رضي الله عنها - فَقَالَ: "زَمِّلُونِي رمِّلُونِي" فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56
* * *
الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَت بِهِ وَرَقَةَ بن نَوْفَلِ بن أَسَدِ بن عبد الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجْاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ الله عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ " قَالَ: نَعَمْ لَم يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ (1).
وكان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى يوم الاثنين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن سبب صيامه ليوم الاثنين قال: "ذلك يوم ولدت ميه، ويوم بعثت أو أنزل عليَّ فيه" (2).
وكان ذلك في شهر رمضان (3).
فترة الوحي:
ثم فتر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة، كما ثبت ذلك في بعض طرق حديث عائشة السابق، وفي "الصحيحين" عن جَابِر بن عبد الله أَنَّهُ سَمِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْي فَتْرَةً" ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كانت مدة
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3)، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسلم (160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 172.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57
* * *
فترة الوحي، واختلفت فيه أقوال العلماء اختلافًا شديدًا.
إلا أن المبارك فوري قال في كتابه "الرحيق المختوم": وقد ظهر لي شيء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان يجاور بحراء شهرًا واحداً، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة، وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا -أي: لأول يوم من شهر شوال- ويعود إلى البيت. وقد ورد التنصيص في رواية "الصحيحين" على أن الوحي الذي نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد الفترة إنما نزل وهو راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر. أقول فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحي، وأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة (1) من شهر رمضان فهذا يعني أن فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط، وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة (2).
وأما ما ذكر في حديث عائشة - رضي الله عنها - عن محاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - التردِّي من شواهق الجبال فقد ذهب ابن حجر إلى أنه بلاغ مرسل من مراسيل الزهري ومراسيل الزهري ضعيفة (3).
وردَّ الألبانيُّ هذه الزيادة بعلتين:
الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة.
(1) والصواب: الحادية والعشرين.
(2) "الرحيق المختوم" (76).
(3) "فتح الباري" 12/ 359 - 360.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58
* * *
الثانية: أنها مرسلة معضلة ولم تأت من طريق موصولة يحتج بها.
ثم ذكر أنها زيادة منكرة من حيث المعنى، إذ لا يليق بالنبي المعصوم أن يحاول قتل نفسه مهما كان الدافع له على ذلك (1).
عودة الوحي:
ثم حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عودة الْوَحْيِ إليه مرة أخرى فَقَالَ: "فَبَينَما أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَئِثْتُ (2) مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5] ثم حمي الوحي وتتابع" (3).
2 - ظل - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًا ثلاث سنوات.
الشرح:
فلما نزلت يا أيها المدثر كان إيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - ببدء الدعوة إلى الله، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًا حفاظًا منه على الدعوة وعلى من معه من المؤمنين وهم قلة، وحتى لا يعلم المشركون بذلك فيقضون علي الدعوة في مهدها.
وأكد العلماء على أن هذه الفترة كانت ثلاث سنوات، فقد اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة في دعوة من يغلب على ظنه أنه سيدخل في هذا الدين، وسوف
(1) انظر: "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة" (41).
(2) جُئثتُ: ذُعِرتُ وخفت. يقال: جُئث الرجل، وجئف وجُثَّ إذا فَزع.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4925)، كتاب: التفسير، باب: وثيابك فطهر، ومسلم (161) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59
* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق