17 - وفي موسم الحج من هذه السنة: وافاه اثنا عشر رجلاً من الأنصار بعضهم ممن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموسم السابق، فبايعوه عند العقبة فسميت ببيعة العقبة الأولى وأرسل معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن فأسلم على يديه كثير من أهل المدينة.
الشرح:
فلما كان موسم الحج من العام الثاني عشر من البعثة -أي بعد عام فقط من التقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنصاريين الستة أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفد من الأنصار
= كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} صحيح: أخرجه مسلم (177)، كتاب: الإيمان. وفي لفظ لمسلم أيضًا: أن مسروقًا سأل عائشة - رضي الله عنه - هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري لمّا قلت.
والذي عليه الجمهور أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه بعينيه قط إنما رآه بفؤاده، وأنه لا تعارض بين ما ذهب إليه ابن عباس وما ذهبت إليه عائشة - رضي الله عنه -، وذلك أنه ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: رآه بقلبه. مسلم (176). وفي لفظ أنه قال في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال: رآه بفؤاده مرتين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها ... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحمل نفيها علي رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره الرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة خلقها في العين. اهـ.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117
* * *
قوامه اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج وهم:
1 - أسعد بن زرارة.
2 - عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عفراء.
3 - رافع بن مالك بن العجلان.
4 - قُطْبة بن عامر بن حديدة.
5 - عقبة بن عامر بن نابي.
6 - معاذ بن الحارث بن عفراء.
7 - ذكوان بن عبد قيس.
8 - عبادة بن الصامت.
9 - يزيد بن ثعلبة.
10 - العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان.
واثنان من الأوس وهم:
11 - أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك (1).
12 - عُويم بن ساعدة (2).
(1) التيهان: يخفف ويثقل، كقوله ميّت وميْت. "سيرة ابن هشام" 2/ 24.
(2) ذكر ابن إسحاق أسماء أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية "سيرة ابن هشام" 2/ 22، 24 قال: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قلت: وعاصم تابعي، قال ابن حجر: ثقة، عالم بالمغازي. (تقريب). وقال الذهبي: صدوق علامة بالمغازي. (كاشف).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118
* * *
لم يتخلف من الستة الأُول إلا جابر بن عبد الله بن رئاب فقط.
فبايع هذا الوفد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الثانية.
يقول عُبادَةَ بن الصّامِتِ - رضي الله عنه - وكان ممن شهد البيعة: إِنِّي لَمِنْ النُّقَباءِ الَّذِينَ بايَعُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقالَ: بايَعْناهُ عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيئًا، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلّا بِالْحَقِّ، وَلا نَنْتَهِبَ، وَلا نَعْصِيَ، فالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، كانَ قَضاءُ ذَلِكَ إلى الله (1).
وفي رواية قال عُبادَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "تَعالَوْا بايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأتُوا بِبُهْتانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فأَجْرُهُ عَلَى الله وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَعوقِبَ بِهِ في الدُّنْيا فَهُوَ لَهُ كَفّارَةٌ، وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَسَتَرَهُ الله فأَمْرُهُ إِلَى الله إِنْ شاءَ عاقَبَه، وَإِنْ شاءَ عَفا عَنْهُ"، قالَ: فَبايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ (2).
أول سفير في الإسلام:
فانطلق القوم- بعد ذلك- عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإِسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى في المدينة بالمقرئ.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3893)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3892)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119
* * *
وكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (1).
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 24 بتصرف.
قال بعض أهل السير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مع مصعب ابن عمير ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وممن قال بذلك العلامة ابن سيّد الناس رحمه الله حيث قال في "عيون الأثر" 1/ 265: فلما انصرفوا -أي: أصحاب البيعة- بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن. اهـ.
قلت: الصواب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرسل إلا مصعب بن عمير فقط كما نص على ذلك أكثر أهل السير.
وأظن أن الوهم دخل على من قال بذلك مما رواه البخاري في "صحيحه" (3924، 3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرئون الناس ... الحديث.
قلت: الصحيح أن هذا الحديث إنما يتحدث فيه البراء - رضي الله عنه - عن الهجرة لا عن البيعة ولا عن من أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحاب البيعة.
ومما يدلّ على ذلك:
1 - أنه لم يرد في الحديث قط ذكر البيعة، إنما ورد ذكر الهجرة صريحًا في إحدى روايات الحديث كما ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 306 حيث قال: في رواية عن شعبة عند الحاكم في "الإكليل" عن عبد الله بن رجاء في روايته (من المهاجرين). اهـ.
2 - ما ذُكر في الرواية نفسها حيث قال البراء - رضي الله عنه - ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال وسعد، ثم قدم عمر بن الخطّاب في عشرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث. فهذا يوضح أنه يتكلم في شأن الهجرة.
وقد فهم ذلك الإمام البخاري - رضي الله عنه - فبوب على الحديث باب: مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة.
فيُعلم مما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مصعب وحده. ثم إن مصعب رجع إلى مكة قبل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120
* * *
أول جمعة بالمدينة المنورة وإمامها:
قام سفير الإسلام مصعب بن عمير بمهمته على أكمل وجه؛ فدعا إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأقرأ الناس وعلمهم وفقههم في الدين، وانتشر الإسلام بالمدينة، فأقيمت أول جمعة في الإسلام بالمدينة المنورة، وأمَّ المسلمين فيها أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - (1).
عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ -وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ- عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بنا في هَزْمِ النَّبِيتِ (2) مِنْ حَرَّةِ بني بَيَاضَةَ (3) في نَقِيعٍ (4) يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ (5) قُلْتُ كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ (6).
= البيعة الثانية - كما ذكر ذلك أهل السير- ثم هاجر إلى المدينة مرة أخرى لما أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة وكان أول المهاجرين إلى المدينة -كما دل عليه حديث البراء - رضي الله عنه - السابق - ثم استأنف مصعب نشاطه السابق في إقراء الناس وتعليمهم، وتبعه ابن أم مكتوم وكان يساعده في مهمته. والله أعلم.
(1) رُوي أن الذي أم المسلمين في هذه الجمعة مصعب بن عمير وهو ضعيف. قال ابن كثير - رحمه الله -: وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة. والله أعلم. "البداية والنهاية" 3/ 163.
(2) الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت: موضع.
(3) حرة: بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء هي الأرض ذات الحجارة السود.
(4) هو المنخفض من الأرض يستنقع فيه الماء.
(5) نقيع الخَضَمات: موضع بنواحي المدينة.
(6) حسن: أخرجه أبو داود (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، وابن ماجه =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121
* * *
18 - وفي السنه الثالثه عشرة من البعثة في موسم الحج: وافاه سبعون رجلاً منه الأنصار فبايعوه عند العقبة أيضًا على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبنائهم, فأخرجوا له اثني عشر نقيبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم - للنقباء: "أنتم على قومكم كفلاء" فسميت ببيعه العقبه الثانية.
الشرح:
ثم كانت بيعة العقبة الثانية في الموسم التالي مباشرة.
يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وكان ممن شهد هذه البيعة: مَكَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ في مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ، وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابعِ، حَتَّى بَعَثَنَا الله إِلَيهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إلى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتًّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطْرَدُ في جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ
= (1082)، كتاب: الصلاة, باب: فرض الجمعة.
والمعنى أنه جمّع في قرية يقال لها هزم النبيت، هي كانت في حرّة بني بياضة في المكان الذي يجتمع فيه الماء، واسم ذلك المكان نقيع الخضمات، وتلك القرية هي على ميل من المدينة. "عون المعبود" 2/ 425.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122
* * *
رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله: علام نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي الله لَا تَخَافُونَ فِي الله لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِما قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمْ الْجَنَّةُ" فَقُمْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بن زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ -وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا- فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ الله، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى الله، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ الله، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ (1).
وعن كَعْبِ بن مَالِكِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة مع مشركي قوْمنا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ تعلموا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟! فقُلْنَا: وَمَا هو يا أبا بشر؟ قَالَ: إني قَدْ أردت أَنْ أصلي إلى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ ولا أجعلها مِنِّي بِظهْرٍ، فَقُلْنَا: لا وَاللهِ لا تفعل، والله مَا بَلَغَنَا أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إِلَّا إلى الشَّامِ، قَالَ: فإِنِّي والله لمصل إِلَيْهَا، فكان إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ توجه إلى الْكَعْبَةِ وتوجهنا إلى الشام، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فقَالَ لي البراء: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ، فلقد وجدت فِي
(1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 32، 339 - 340، الحاكم 2/ 624، 625، وصححه وأقره الذهبي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123
* * *
نَفْسِي بخِلَافِكُمْ إِيَّايَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمَّد؟ قَالَ: وهَلْ تَعْرِفَانِهِ إن رأيتماه؟ قُلْنَا: لَا والله، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ؟ فقُلْنَا: نَعَمْ، وقد كُنَّا نَعْرِفُه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فانظروا الْعَبَّاسِ، قَالَ: فهو الرجل الذي معه، قال: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والْعَبَّاسُ ناحية المسجد جالسين، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَينِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بن مَالِكٍ، فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّاعِرُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ له الْبَرَاءُ: يَا رسول الله إِنِّي قد رأيت في سَفَرِي هَذَا رأيًا، وقد أحببت أن أسألك عنه قال: "وما ذاك؟ " قال: رَأَيْتُ أَلَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيتُ إِلَيْهَا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا"، فَرَجَعَ إلى قِبْلَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصَلَّى مَعَنَا إلى الشَّامِ. ثم وَاعَدْنَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ، أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ونحن سبعون رجلاً للبيعة، وَمَعَنَا عبد الله بن عَمْرِو بن حَرَامٍ والد جَابِرٍ، وإنه لعلى شركه، فأخذنِاه وَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتَكُونَ لهذه النَّارِ غَدًا حطبًا، وإن الله قد بعث رَسُولًا يأمر بتوحيده وعبادته وقد أَسْلَمَ رجلاً من قومك، وقد واعدنا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة فأسم وطهر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبًا، فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا، حتى اجْتَمَعْنَا بالعقبة، فأتى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، ليس معه غيره، أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فكان أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ في مَنَعَةٍ من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124
* * *
أنفسكم خُذلانًا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه، فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ الله، فَتَكَلَّمَ وَدَعَا إلى الله، وتلا القرآن وَرَغَّبَ في الْإِسْلَامِ، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك فقَالَ: "إني أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَكُمْ" فأجابه الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ فقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ الله فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فعرض في الحديث أبو الْهَيْثَمِ بن التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا لقَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ الله أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فقَالَ: "بَلْ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ" فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك.
فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا" فَأَخْرَجُوهم له، فكان نقيب بني النجار؛ أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة، البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة، سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ونقيب بني زريق، رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج، عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج، عبادة بن الصامت -وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف، سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ الْبَرَاءُ بيد رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمعته قط، فقال: يا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ (1) هَلْ لَكُمْ في مُذَمَّمٍ
(1) الجُباجب: جمع جُبجب -بالضم- وهو المستوي من الأرض، وهي ههنا أسماء منازل بمنيً (نهاية).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125
* * *
وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدْ أَجْتمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ, هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، أَمَا وَاللهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ".
فَقَالَ الْعَبَّاسُ بن عُبَادَةَ أخو بني سالم: يا رسول الله وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "إنا لَمْ نؤمَرْ بِذَلِكَ"، فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أَصْبَحْنَا، أقبلت جُلَّةُ من قُرَيْشٍ فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلى صَاحِبِنَا لتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وإنه وَاللهِ مَا مِنْ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قومنا من المشركين يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا فعلناه، فلما تثور القوم لينطلقوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكَهم في الكلام: يَا أَبَا جَابِرٍ -يريد عبد الله بن عمرو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وكهل من كهولنا, لا تستطيع أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَي هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، وقَالَ: وَاللهِ لتلبسنهما، فقَالَ أبو جَابِرٍ: مهلًا أَحْفَظْتَ لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- أردُدْ عليه نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لَا أَرُدَّهُمَا، فقَالَ: صُلْحٌ إني لأرجو أن أسلبه (1).
19 - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ أصحابه بالهجرة إلى المدينه، وأقام - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الإذن بالهجرة وحبس معه أبا بكر وعليًا - رضي الله عنهما -.
الشرح:
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة في رؤية منامية أراها الله إياه؛ فكان ذلك وحيًا من الله وإيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد
(1) صحيح: أخرجه ابن إسحاق، في "السيرة" 2/ 27، 33، أحمد 3/ 46، 462، ابن جرير الطبري في "تاريخه" 2/ 90، 93، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (177): هذا سند صحيح.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126
* * *
والدعوة في سبيل الله، عسى أن تكون أفضل من سابقتها.
عن عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" -وَهُمَا الْحَرَّتَانِ- فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عامة مَنْ كَانَ هَاجَرَ بأَرْضِ الْحَبَشَةِ إلى المدينة وَتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَل المدينة فَقَالَ لَهُ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكَ فَإنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فقَالَ أبو بَكْرٍ: وهَلْ تَرْجُوا ذَلِكَ بِأبي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وهو الخبط أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (1).
وعَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ رَأَيْتُ في الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" (2).
بداية الرحلة إلى المدينة:
بدأ الصحابة رضوان الله عليهم في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة، حيث علموا أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا لهم، إذن منه - صلى الله عليه وسلم - بالخروج (3) فخرجوا.
فكان أَوَّلُ مَنْ خرج مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٌ، وسعد، وعَمَّارُ بن يَاسِرٍ ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905) كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) ولذلك تقول السيدة عائشة - رضي الله عنه - في الحديث لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ... " تقول: فهاجر من هاجر قبل المدينة.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3924، 3925)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127
* * *
وكان من أوائل المهاجرين أيضًا أبو سلمة - رضي الله عنه - وكان لخروجه قصة عجيبة تحكيها السيدة أم سلمة - رضي الله عنه - حيث تقول: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقودُ بي بعيرَه، فلما رأته رجالُ بني الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهْط أبي سَلمَة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بنيّ سَلمَة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو الْمُغيرَة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غَدَاة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أُمْسِي، سنةً أو قريبًا منها، حتى مرّ بي رجلٌ من بني عمّي، أحدُ بني الْمُغيرَة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني الْمُغِيرَة: ألا تُخْرجون هذه المسكينة! فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين وَلدها! قالت: فقالوا لي: الحَقي بزوجك إن شئتِ. قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بَعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خَلْقِ الله قالت: فقلت: أَتبلَّغ بمن لقيت حتى أقْدَم علي زوجي؛ حتى إذا كنت بالتّنْعيم لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار؛ فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبُنَيّ هذا. قال: والله مالك من مَتْرك، فأخذ بخطام البعير، وانطلق معي يَهْوِى بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط، أرى أنه كان أكْرَمَ منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عَنِّي، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثم
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128
* * *
قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواح قام إلى بعيري فقّدمه فَرَحَلَه، ثم استأخر عَنِّي، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أَقْدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بُقباء، قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة نازلاً بها- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعًا إلى مكة، قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمَة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة (1).
وتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبس معه أبا بكر -كما تقدم- وعليًا أيضًا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليس بمكة أحد عنده شيء يُخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم - (2).
30 - واجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل - عليه السلام - بالوحي من عند الله فأخبره بذلك وأذن الله له بالهجرة فهاجر.
الشرح:
يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
(1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" 2/ 44، بسند متصل صرح فيه بالتحديث، قال: حدثني أبي إسحاق ابن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة به، وسلمة بن عبد الله قال عنه ابن حجر في "التقريب": مقبول، ووثقه ابن حبان.
(2) "سيرة ابن هشام" 2/ 55.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129
* * *
السنة الأولى من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131
* * *
السنة الأولى من الهجرة
وفيها تسعة عشر حدثًا:
1 - في ربيع الأول من هذه السنة: هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة.
الشرح:
ثم رد الله تعالى كيد المشركين واستطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج ومعه أبو بكر من مكة متوجهين إلى المدينة لم يرهما أحد.
وتعود بداية هذه الرحلة المباركة عندما كان أبو بكر جالسا في بيته وقت الظَّهِيرَةِ قَالَ له قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا في سَاعَةٍ لَم يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أبي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ عائشة: فَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَ، فأذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأبي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِالثَّمَنِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً في جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بنتُ أبي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ بِغَارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عبد الله بن أبي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ في رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133
* * *
بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ (1).
وفي تلك الأثناء تفطَّن المشركون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد خرجا فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الْغَارِ وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمع صرير أقدامهم حول الغار فرفع رأسه فَإِذَا هو بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فقال: يَا رسول الله لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ الله ثَالِثُهُمَا" (2).
ثم اسْتَأْجَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بني الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بني عبد بن عَدِيٍّ (3) هَادِيَا خِرِّيتًا -وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ (4).
ثم انتظروا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ (5).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198.
لقنٌ ثقِف: أي حسن الاستماع لما يقال، الدلجة: السير أول الليل، المنيحة: الناقة، رشل: لبن، خريتًا: دليلاً.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3922)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, مسلم (2381)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي بكر.
(3) هو عبد الله بن أريقط.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، أحمد 6/ 198.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134
* * *
فانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ (1).
يقول أبو بكر - رضي الله عنه -: فأَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ظِلِّهَا ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إلى الصخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى فَحَلَبَ لِي في قَعْبٍ مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ "، قُلْتُ: بَلَي، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بن مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ في جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ (2)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُتِينَا فَقَالَ: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا"، فَدَعَا عَلَيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ -ساخت- فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ، أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا الله فَنَجَا (3).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, أحمد 6/ 198.
(2) أرض جلْدة: أي أرض صُلبة. (النهاية).
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135
الشرح:
فلما كان موسم الحج من العام الثاني عشر من البعثة -أي بعد عام فقط من التقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنصاريين الستة أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفد من الأنصار
= كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} صحيح: أخرجه مسلم (177)، كتاب: الإيمان. وفي لفظ لمسلم أيضًا: أن مسروقًا سأل عائشة - رضي الله عنه - هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري لمّا قلت.
والذي عليه الجمهور أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه بعينيه قط إنما رآه بفؤاده، وأنه لا تعارض بين ما ذهب إليه ابن عباس وما ذهبت إليه عائشة - رضي الله عنه -، وذلك أنه ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: رآه بقلبه. مسلم (176). وفي لفظ أنه قال في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال: رآه بفؤاده مرتين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها ... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحمل نفيها علي رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره الرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة خلقها في العين. اهـ.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117
* * *
قوامه اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج وهم:
1 - أسعد بن زرارة.
2 - عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عفراء.
3 - رافع بن مالك بن العجلان.
4 - قُطْبة بن عامر بن حديدة.
5 - عقبة بن عامر بن نابي.
6 - معاذ بن الحارث بن عفراء.
7 - ذكوان بن عبد قيس.
8 - عبادة بن الصامت.
9 - يزيد بن ثعلبة.
10 - العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان.
واثنان من الأوس وهم:
11 - أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك (1).
12 - عُويم بن ساعدة (2).
(1) التيهان: يخفف ويثقل، كقوله ميّت وميْت. "سيرة ابن هشام" 2/ 24.
(2) ذكر ابن إسحاق أسماء أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية "سيرة ابن هشام" 2/ 22، 24 قال: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قلت: وعاصم تابعي، قال ابن حجر: ثقة، عالم بالمغازي. (تقريب). وقال الذهبي: صدوق علامة بالمغازي. (كاشف).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118
* * *
لم يتخلف من الستة الأُول إلا جابر بن عبد الله بن رئاب فقط.
فبايع هذا الوفد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الثانية.
يقول عُبادَةَ بن الصّامِتِ - رضي الله عنه - وكان ممن شهد البيعة: إِنِّي لَمِنْ النُّقَباءِ الَّذِينَ بايَعُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقالَ: بايَعْناهُ عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيئًا، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلّا بِالْحَقِّ، وَلا نَنْتَهِبَ، وَلا نَعْصِيَ، فالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، كانَ قَضاءُ ذَلِكَ إلى الله (1).
وفي رواية قال عُبادَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "تَعالَوْا بايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأتُوا بِبُهْتانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فأَجْرُهُ عَلَى الله وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَعوقِبَ بِهِ في الدُّنْيا فَهُوَ لَهُ كَفّارَةٌ، وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَسَتَرَهُ الله فأَمْرُهُ إِلَى الله إِنْ شاءَ عاقَبَه، وَإِنْ شاءَ عَفا عَنْهُ"، قالَ: فَبايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ (2).
أول سفير في الإسلام:
فانطلق القوم- بعد ذلك- عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإِسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى في المدينة بالمقرئ.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3893)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3892)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119
* * *
وكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (1).
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 24 بتصرف.
قال بعض أهل السير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مع مصعب ابن عمير ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وممن قال بذلك العلامة ابن سيّد الناس رحمه الله حيث قال في "عيون الأثر" 1/ 265: فلما انصرفوا -أي: أصحاب البيعة- بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن. اهـ.
قلت: الصواب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرسل إلا مصعب بن عمير فقط كما نص على ذلك أكثر أهل السير.
وأظن أن الوهم دخل على من قال بذلك مما رواه البخاري في "صحيحه" (3924، 3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرئون الناس ... الحديث.
قلت: الصحيح أن هذا الحديث إنما يتحدث فيه البراء - رضي الله عنه - عن الهجرة لا عن البيعة ولا عن من أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحاب البيعة.
ومما يدلّ على ذلك:
1 - أنه لم يرد في الحديث قط ذكر البيعة، إنما ورد ذكر الهجرة صريحًا في إحدى روايات الحديث كما ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 306 حيث قال: في رواية عن شعبة عند الحاكم في "الإكليل" عن عبد الله بن رجاء في روايته (من المهاجرين). اهـ.
2 - ما ذُكر في الرواية نفسها حيث قال البراء - رضي الله عنه - ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال وسعد، ثم قدم عمر بن الخطّاب في عشرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث. فهذا يوضح أنه يتكلم في شأن الهجرة.
وقد فهم ذلك الإمام البخاري - رضي الله عنه - فبوب على الحديث باب: مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة.
فيُعلم مما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مصعب وحده. ثم إن مصعب رجع إلى مكة قبل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120
* * *
أول جمعة بالمدينة المنورة وإمامها:
قام سفير الإسلام مصعب بن عمير بمهمته على أكمل وجه؛ فدعا إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأقرأ الناس وعلمهم وفقههم في الدين، وانتشر الإسلام بالمدينة، فأقيمت أول جمعة في الإسلام بالمدينة المنورة، وأمَّ المسلمين فيها أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - (1).
عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ -وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ- عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بنا في هَزْمِ النَّبِيتِ (2) مِنْ حَرَّةِ بني بَيَاضَةَ (3) في نَقِيعٍ (4) يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ (5) قُلْتُ كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ (6).
= البيعة الثانية - كما ذكر ذلك أهل السير- ثم هاجر إلى المدينة مرة أخرى لما أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة وكان أول المهاجرين إلى المدينة -كما دل عليه حديث البراء - رضي الله عنه - السابق - ثم استأنف مصعب نشاطه السابق في إقراء الناس وتعليمهم، وتبعه ابن أم مكتوم وكان يساعده في مهمته. والله أعلم.
(1) رُوي أن الذي أم المسلمين في هذه الجمعة مصعب بن عمير وهو ضعيف. قال ابن كثير - رحمه الله -: وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة. والله أعلم. "البداية والنهاية" 3/ 163.
(2) الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت: موضع.
(3) حرة: بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء هي الأرض ذات الحجارة السود.
(4) هو المنخفض من الأرض يستنقع فيه الماء.
(5) نقيع الخَضَمات: موضع بنواحي المدينة.
(6) حسن: أخرجه أبو داود (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، وابن ماجه =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121
* * *
18 - وفي السنه الثالثه عشرة من البعثة في موسم الحج: وافاه سبعون رجلاً منه الأنصار فبايعوه عند العقبة أيضًا على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبنائهم, فأخرجوا له اثني عشر نقيبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم - للنقباء: "أنتم على قومكم كفلاء" فسميت ببيعه العقبه الثانية.
الشرح:
ثم كانت بيعة العقبة الثانية في الموسم التالي مباشرة.
يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وكان ممن شهد هذه البيعة: مَكَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ في مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ، وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابعِ، حَتَّى بَعَثَنَا الله إِلَيهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إلى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتًّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطْرَدُ في جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ
= (1082)، كتاب: الصلاة, باب: فرض الجمعة.
والمعنى أنه جمّع في قرية يقال لها هزم النبيت، هي كانت في حرّة بني بياضة في المكان الذي يجتمع فيه الماء، واسم ذلك المكان نقيع الخضمات، وتلك القرية هي على ميل من المدينة. "عون المعبود" 2/ 425.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122
* * *
رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله: علام نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي الله لَا تَخَافُونَ فِي الله لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِما قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمْ الْجَنَّةُ" فَقُمْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بن زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ -وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا- فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ الله، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى الله، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ الله، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ (1).
وعن كَعْبِ بن مَالِكِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة مع مشركي قوْمنا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ تعلموا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟! فقُلْنَا: وَمَا هو يا أبا بشر؟ قَالَ: إني قَدْ أردت أَنْ أصلي إلى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ ولا أجعلها مِنِّي بِظهْرٍ، فَقُلْنَا: لا وَاللهِ لا تفعل، والله مَا بَلَغَنَا أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إِلَّا إلى الشَّامِ، قَالَ: فإِنِّي والله لمصل إِلَيْهَا، فكان إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ توجه إلى الْكَعْبَةِ وتوجهنا إلى الشام، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فقَالَ لي البراء: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ، فلقد وجدت فِي
(1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 32، 339 - 340، الحاكم 2/ 624، 625، وصححه وأقره الذهبي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123
* * *
نَفْسِي بخِلَافِكُمْ إِيَّايَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمَّد؟ قَالَ: وهَلْ تَعْرِفَانِهِ إن رأيتماه؟ قُلْنَا: لَا والله، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ؟ فقُلْنَا: نَعَمْ، وقد كُنَّا نَعْرِفُه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فانظروا الْعَبَّاسِ، قَالَ: فهو الرجل الذي معه، قال: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والْعَبَّاسُ ناحية المسجد جالسين، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَينِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بن مَالِكٍ، فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّاعِرُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ له الْبَرَاءُ: يَا رسول الله إِنِّي قد رأيت في سَفَرِي هَذَا رأيًا، وقد أحببت أن أسألك عنه قال: "وما ذاك؟ " قال: رَأَيْتُ أَلَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيتُ إِلَيْهَا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا"، فَرَجَعَ إلى قِبْلَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصَلَّى مَعَنَا إلى الشَّامِ. ثم وَاعَدْنَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ، أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ونحن سبعون رجلاً للبيعة، وَمَعَنَا عبد الله بن عَمْرِو بن حَرَامٍ والد جَابِرٍ، وإنه لعلى شركه، فأخذنِاه وَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتَكُونَ لهذه النَّارِ غَدًا حطبًا، وإن الله قد بعث رَسُولًا يأمر بتوحيده وعبادته وقد أَسْلَمَ رجلاً من قومك، وقد واعدنا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة فأسم وطهر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبًا، فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا، حتى اجْتَمَعْنَا بالعقبة، فأتى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، ليس معه غيره، أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فكان أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ في مَنَعَةٍ من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124
* * *
أنفسكم خُذلانًا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه، فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ الله، فَتَكَلَّمَ وَدَعَا إلى الله، وتلا القرآن وَرَغَّبَ في الْإِسْلَامِ، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك فقَالَ: "إني أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَكُمْ" فأجابه الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ فقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ الله فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فعرض في الحديث أبو الْهَيْثَمِ بن التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا لقَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ الله أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فقَالَ: "بَلْ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ" فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك.
فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا" فَأَخْرَجُوهم له، فكان نقيب بني النجار؛ أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة، البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة، سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ونقيب بني زريق، رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج، عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج، عبادة بن الصامت -وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف، سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ الْبَرَاءُ بيد رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمعته قط، فقال: يا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ (1) هَلْ لَكُمْ في مُذَمَّمٍ
(1) الجُباجب: جمع جُبجب -بالضم- وهو المستوي من الأرض، وهي ههنا أسماء منازل بمنيً (نهاية).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125
* * *
وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدْ أَجْتمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ, هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، أَمَا وَاللهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ".
فَقَالَ الْعَبَّاسُ بن عُبَادَةَ أخو بني سالم: يا رسول الله وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "إنا لَمْ نؤمَرْ بِذَلِكَ"، فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أَصْبَحْنَا، أقبلت جُلَّةُ من قُرَيْشٍ فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلى صَاحِبِنَا لتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وإنه وَاللهِ مَا مِنْ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قومنا من المشركين يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا فعلناه، فلما تثور القوم لينطلقوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكَهم في الكلام: يَا أَبَا جَابِرٍ -يريد عبد الله بن عمرو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وكهل من كهولنا, لا تستطيع أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَي هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، وقَالَ: وَاللهِ لتلبسنهما، فقَالَ أبو جَابِرٍ: مهلًا أَحْفَظْتَ لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- أردُدْ عليه نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لَا أَرُدَّهُمَا، فقَالَ: صُلْحٌ إني لأرجو أن أسلبه (1).
19 - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ أصحابه بالهجرة إلى المدينه، وأقام - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الإذن بالهجرة وحبس معه أبا بكر وعليًا - رضي الله عنهما -.
الشرح:
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة في رؤية منامية أراها الله إياه؛ فكان ذلك وحيًا من الله وإيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد
(1) صحيح: أخرجه ابن إسحاق، في "السيرة" 2/ 27، 33، أحمد 3/ 46، 462، ابن جرير الطبري في "تاريخه" 2/ 90، 93، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (177): هذا سند صحيح.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126
* * *
والدعوة في سبيل الله، عسى أن تكون أفضل من سابقتها.
عن عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" -وَهُمَا الْحَرَّتَانِ- فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عامة مَنْ كَانَ هَاجَرَ بأَرْضِ الْحَبَشَةِ إلى المدينة وَتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَل المدينة فَقَالَ لَهُ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكَ فَإنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فقَالَ أبو بَكْرٍ: وهَلْ تَرْجُوا ذَلِكَ بِأبي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وهو الخبط أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (1).
وعَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ رَأَيْتُ في الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" (2).
بداية الرحلة إلى المدينة:
بدأ الصحابة رضوان الله عليهم في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة، حيث علموا أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا لهم، إذن منه - صلى الله عليه وسلم - بالخروج (3) فخرجوا.
فكان أَوَّلُ مَنْ خرج مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٌ، وسعد، وعَمَّارُ بن يَاسِرٍ ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905) كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) ولذلك تقول السيدة عائشة - رضي الله عنه - في الحديث لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ... " تقول: فهاجر من هاجر قبل المدينة.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3924، 3925)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127
* * *
وكان من أوائل المهاجرين أيضًا أبو سلمة - رضي الله عنه - وكان لخروجه قصة عجيبة تحكيها السيدة أم سلمة - رضي الله عنه - حيث تقول: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقودُ بي بعيرَه، فلما رأته رجالُ بني الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهْط أبي سَلمَة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بنيّ سَلمَة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو الْمُغيرَة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غَدَاة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أُمْسِي، سنةً أو قريبًا منها، حتى مرّ بي رجلٌ من بني عمّي، أحدُ بني الْمُغيرَة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني الْمُغِيرَة: ألا تُخْرجون هذه المسكينة! فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين وَلدها! قالت: فقالوا لي: الحَقي بزوجك إن شئتِ. قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بَعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خَلْقِ الله قالت: فقلت: أَتبلَّغ بمن لقيت حتى أقْدَم علي زوجي؛ حتى إذا كنت بالتّنْعيم لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار؛ فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبُنَيّ هذا. قال: والله مالك من مَتْرك، فأخذ بخطام البعير، وانطلق معي يَهْوِى بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط، أرى أنه كان أكْرَمَ منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عَنِّي، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثم
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128
* * *
قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواح قام إلى بعيري فقّدمه فَرَحَلَه، ثم استأخر عَنِّي، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أَقْدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بُقباء، قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة نازلاً بها- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعًا إلى مكة، قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمَة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة (1).
وتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبس معه أبا بكر -كما تقدم- وعليًا أيضًا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليس بمكة أحد عنده شيء يُخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم - (2).
30 - واجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل - عليه السلام - بالوحي من عند الله فأخبره بذلك وأذن الله له بالهجرة فهاجر.
الشرح:
يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
(1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" 2/ 44، بسند متصل صرح فيه بالتحديث، قال: حدثني أبي إسحاق ابن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة به، وسلمة بن عبد الله قال عنه ابن حجر في "التقريب": مقبول، ووثقه ابن حبان.
(2) "سيرة ابن هشام" 2/ 55.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129
* * *
السنة الأولى من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131
* * *
السنة الأولى من الهجرة
وفيها تسعة عشر حدثًا:
1 - في ربيع الأول من هذه السنة: هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة.
الشرح:
ثم رد الله تعالى كيد المشركين واستطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج ومعه أبو بكر من مكة متوجهين إلى المدينة لم يرهما أحد.
وتعود بداية هذه الرحلة المباركة عندما كان أبو بكر جالسا في بيته وقت الظَّهِيرَةِ قَالَ له قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا في سَاعَةٍ لَم يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أبي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ عائشة: فَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَ، فأذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأبي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِالثَّمَنِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً في جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بنتُ أبي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ بِغَارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عبد الله بن أبي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ في رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133
* * *
بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ (1).
وفي تلك الأثناء تفطَّن المشركون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد خرجا فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الْغَارِ وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمع صرير أقدامهم حول الغار فرفع رأسه فَإِذَا هو بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فقال: يَا رسول الله لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ الله ثَالِثُهُمَا" (2).
ثم اسْتَأْجَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بني الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بني عبد بن عَدِيٍّ (3) هَادِيَا خِرِّيتًا -وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ (4).
ثم انتظروا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ (5).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198.
لقنٌ ثقِف: أي حسن الاستماع لما يقال، الدلجة: السير أول الليل، المنيحة: الناقة، رشل: لبن، خريتًا: دليلاً.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3922)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, مسلم (2381)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي بكر.
(3) هو عبد الله بن أريقط.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، أحمد 6/ 198.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134
* * *
فانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ (1).
يقول أبو بكر - رضي الله عنه -: فأَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ظِلِّهَا ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إلى الصخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى فَحَلَبَ لِي في قَعْبٍ مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ "، قُلْتُ: بَلَي، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بن مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ في جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ (2)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُتِينَا فَقَالَ: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا"، فَدَعَا عَلَيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ -ساخت- فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ، أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا الله فَنَجَا (3).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, أحمد 6/ 198.
(2) أرض جلْدة: أي أرض صُلبة. (النهاية).
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق