...............................................................................................................

الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 6..


صيغ الأمر ومعانيه:
واعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقي للصيغة كما عرفت، وأما مجرد استعمالها فقد تستعمل في معانٍ كثيرة، قال الرازي في "المحصول": قال الأصوليون: صيغة افعل مستعملة في خمسة عشر وجهًا:
للإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1 .
وللندب كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 2 ، ويقرب منه التأديب كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: "كل مما يليك" 3؛ فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسمًا مغايرًا
__________
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "33" من سورة النور.
3 أخرجه البخاري من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه في الأطعمة باب التسمية على الطعام "5376". ومسلم في الأشربة باب آداب الطعام والشراب "2022". والترمذي في الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام "1857". وأبو داود في الأطعمة باب الأكل باليمين "3777". وابن ماجه في الأطعمة باب الأكل باليمين "3267". والإمام أحمد في مسنده 4/ 26.


للمندوب.
وللإرشاد كقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} 1 {فَاكْتُبُوهُ} 2.
والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله.
وللإباحة مثل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} 3.
وللتهديد مثل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 4، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} 5، ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} 6 وإن كان قد جعلوه قسمًا آخر.
وللامتنان مثل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} 7.
وللإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين} 8.
وللتسخير: {كُونُوا قِرَدَة} 9.
وللتعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 10.
وللإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} 11.
وللتسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} 12.
وللدعاء: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} 13.
وللتمني كقول الشاعر: "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل"14.
__________
1 و2 جزء من الآية "282" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "24" من سورة الحاقة.
4 جزء من الآية "40" من سورة فصلت.
5 جزء من الآية "64" من سورة الإسراء.
6 جزء من الآية "30" من سورة إبراهيم.
7 جزء من الآية "114" من سورة النحل.
8 جزء من الآية "46" من سورة الحجر.
9 جزء من الآية "65" من سورة البقرة.
10 جزء من الآية "23" من سورة البقرة.
11 جزء من الآية "49" من سورة الدخان.
12 جزء من الآية "16" من سورة الطور.
13 جزء من الآية "28" من سورة نوح.
14 قائل هذا البيت امرؤ القيس وهو في معلقته المشهورة:
ألا أيها الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهو من البحر الطويل ا. هـ. شرح المعلقات السبع "39".

(1/254)


وللاحتقار كقوله تعالى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} 1.
وللتكوين: {كُنْ فَيَكُون} 2 انتهى.
فهذه خمسة عشر معنى، ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى، وجعل بعضهم من المعاني الأذن نحو قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات} 3، والخبر نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} 4 ، والتفويض نحو: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض} 5 والمشورة كقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} 6، والاعتبار نحو: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر} والتكذيب نحو: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم} 8، والالتماس كقولك لنظيرك: "افعل". والتلهيف9 نحو: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُم} 10 والتصبير نحو: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 11 فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى.
__________
1 جزء من الآية "80" من سورة يونس، والآية "43" من سورة الشعراء.
2 جزء من الآية "82" من سورة يس.
3 جزء من الآية "51" من سورة المؤمنون.
4 جزء من الآية "82" من سورة التوبة.
5 جزء من الآية "72" من سورة طه.
6 جزء من الآية "102" من سورة الصافات.
7 جزء من الآية "99" من سورة الأنعام.
8 جزء من الآية "111" من سورة البقرة.
9 مأخوذ من اللهف وهو: الأسى والحزن والغيظ. ا. هـ. لسان العرب مادة لهف وكذلك الصحاح.
10 جزء من الآية "119" من سورة آل عمران.
11 جزء من الآية "42" من سورة المعارج.

(1/255)


الفصل الرابع: هل الأمر يفيد تكرار أم لا
...
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا
ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب، من غير إشعار بالوحدة والكثرة، واختاره الحنفية، والآمدي، وابن الحاجب، والجويني، والبيضاوي.
قال السبكي: وأراه رأي أكثر أصحابنا، يعني الشافعية، واختاره أيضًا من المتعزلة أبو الحسين البصري، وأبو الحسن الكرخي قالوا جميعًا: إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من

(1/255)


مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، لا أن الأمر يدل عليها بذاته.
وقال جماعة: إن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظًا، وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أكثر الشافعية، وقال: إنه مقتضى كلام الشافعي، وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم، وأبو عبد الله البصري، وجماعة من قدماء الحنفية، وقال جماعة: إنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان.
وقال الغزالي في "المستصفى": إن مرادهم من التكرار العموم، قال أبو زرعة: يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب لزمان العمر، وهو كذلك عند القائل لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة على شرط أو صفة.
وقيل: إنها للمرة، وتحتمل التكرار وهذا مروي عن الشافعي.
وقيل: بالوقف، واختلف في تفسير معنى هذا الوقف، فقيل: المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق، وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها، وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني.
احتج الأولون بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود، وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها، ولهذا يندفع ما احتج به من قال: إنها للمرة حيث قال: إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها، وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءًا من مدلول الأمر لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت.
واحتج الأولون أيضًا بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل، والمرة والتكرار خارجان عن حقيقته فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما.
واعترض على هذا: بأنه استدلال بمحل النزاع، فإن منهم من يقول: هي الحقيقة المقيدة بالمرة، ومنهم من يقول: هي الحقيقة المقيدة بالتكرار. واحتجوا أيضًا بأن المرة والتكرار من صفات الفعل، كالقلة والكثرة، ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما.

(1/256)


واعترض على هذا بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار، والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما، والمدعى إنما هو للدلالة ظاهرًا لا نصًّا.
"واحتج"* القائلون بالتكرار: أنه تكرر المطلوب في النهي فعم الأزمان فوجب التكرار في الأمر لأنهما طلب.
وأجيب: بأن هذا قياس في اللغة وقد تقرر بطلانه.
وأجيب أيضًا: بالفرق بينهما لأن النهي لطلب الترك ولا يتحقق إلا بالترك، في كل الأوقات والأمر لطلب الإتيان بالفعل وهو يتحقق بوجوده مرة.
واعترض على هذا: بأنه مصادرة على المطلوب؛ لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ المخالف يقول هو للتكرار لا للمرة.
وأجيب عن أصل التكرار: بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به؛ لأنه يستغرق جميع الأوقات ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر، فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به وعن مصالح دينه ودنياه بخلاف النهي فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال، واعترض على هذا بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولًا للصيغة فيجوز أن يكون اللفظ دالا على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته.
واستدل القائلون بالتكرار أيضًا بأن الأمر نهي عن أضداده، وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه، وهو أي النهي يمنع من المنهي عنه دائمًا فيتكرر الأمر في المأمور به إذ لو لم يتكرر واكتفى بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات.
وأجيب: بأن تكرر النهي الذي تضمنه الأمر فرع تكرر الأمر فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر.
واحتج من قال: بأنه يتكرر إذا كان معلقًا على شرط أو صفة، بأنه قد تكرر في نحو قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 1.
وأجيب: بأن الشرط هنا علة، فيتكرر المأمور به بتكررها اتفاقا، ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته، والنزاع إنما هو في دلالة الصيغة مجردة.
__________
* في "أ": احتج.
__________
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.

(1/257)


قال الرازي في "المحصول": إن صيغة "افعل" لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود، فوجب أن لا تدل على التكرار، بيان الأولى: أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 ومنها ما جاء على غير التكرار، كما في الحج وفي حق العباد أيضًا قد لا يفيد التكرار، فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار، ولو ذمه السيد على ترك التكرار للامه العقلاء، ولو كرر العبد الدخول حسن من السيد أن يلومه، ويقول له إني أمرتك بالدخول، وقد دخلت فيكفي ذلك وما "أمرتك"* بتكرار الدخول، وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال: احفظ دابتي فحفظها ثم أطلقها يذم.
إذا ثبت هذا فنقول: الاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين، وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه وإذا ثبت ذلك، وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام, والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار، ولا على المرة الواحدة به على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من "ضرورات"** الإتيان بالمأمور به، فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ثم أطال الكلام استدلالًا للمذهب الأول ودفعًا لحجج المذاهب الآخرة "بما"*** قد تقدم حاصل معناه.
وإذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به.
هذا إذا كان الأمر مجردًا عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط.
أما إذا كان معلقًا بشيء من هذه فإن كان معلقًا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر، وليس التكرار مستفادًا ههنا من الأمر وإن كان معلقًا على شرط أو صفة، فقد ذهب كثير ممن قال إن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار و"لكن"**** لا من حيث الصيغة، بل من حيث التعليق لها على ذلك
__________
* في "أ": وما أمرناك.
** في "أ": ضروريات.
*** في "أ": مما.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.

(1/258)


الشرط، أو الصفة، إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك "أما لو لم يكن فيها ما يقتضى ذلك"* "فلا تكرار"**، وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده: اشتر اللحم إن دخلت السوق، وقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، وكذا لو قال: أعط الرجل العالم درهمًا أو أعط الرجل الفقير درهمًا.
والحاصل: أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه، فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار؛ لأن ذلك خارج عن محل النزاع وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة، فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإلا فلا.

(1/259)


الفصل الخامس: هل يقتضي الأمر الفور أم لا
اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا؟ فالقائلون "إنه"* يقتضي التكرار يقولون: بأنه يقتضي الفور؛ لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر، وأما من عداهم فيقولون المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيدًا بوقت يفوت الأداء بفواته، أو لا وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به، وهذا هو الصحيح عند الحنفية، وعزي إلى الشافعي وأصحابه، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي.
قال ابن برهان: لم ينقل عن أبي حنيفة والشافعي نص، وإنما فروعهما تدل على ذلك.
قال في "المحصول": والحق أنه موضوع لطلب الفعل، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورًا أو تراخيًا. انتهى.
وقيل: إنه يقتضي الفور، فيحب الإتيان به في أول أوقات الإمكان للفعل المأمور به، وعزي إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية، وقال القاضي: الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال.
__________
* في "أ": بأنه.

(1/259)


وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي قال: فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الاخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي، وقيل بالوقف في الامتثال، أي لا ندري هل يأثم إن بادر أو إن أخر لاحتمال وجوب التراخي.
استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا، وقد تقدم1 دفعه.
واحتج من قال: بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم2 أيضًا، من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة، ولا بحسب الصيغة لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان، وخصوص المطلوب من المادة، ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط، وكونها دالة على الفور، أو التراخي خارج عن مدلوله، وإنما يفهم ذلك بالقرائن فلا بد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دفعًا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر المشترك بين القسمين لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين؛ لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة "له"* فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فورًا ولا بخصوص كونه تراخيًا.
واحتجوا أيضًا بأنه يحسن من السيد أن يقول لعبده: افعل الفعل الفلاني في الحال، أو غدا، ولو كان كونه فورًا داخلًا في لفظ "افعل" لكان الأول تكرارًا والثاني نقضًا وأنه غير جائز.
واحتجوا أيضًا بأن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قولنا: تفعل وبين قولنا افعل إلا أن الأول خبر3 والثاني إنشاء4، لكن قولنا تفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان فكذلك الأمر، وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبرًا والثاني إنشاء.
واحتج القائلون بالفور: بأن كل مخبر بكلام خبري كزيد قائم، ومنشئ كبعت وطالق، يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن حتى يكون موجودًا للبيع والطلاق بما ذكر، فكذا الأمر
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "256".
2 انظر صفحة: "258".
3 وهو كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، نحو: "المطر غزير". ا. هـ. جواهر البلاغة "53".
4 وهو كلام لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا لذاته، نحو: "اغفر" ا. هـ. جواهر البلاغة "75".

(1/260)


والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام، وبينه وبين سائر الإنشاءات التي يقصد بها الحاضر كون كل منها إنشاء.
وأجيب: بأن ذلك قياس في اللغة؛ لأنهم قاسوا الأمر في أفادته الفور على الخبر والإنشاء للجامع المذكور، وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه فإنه في الخبر والإنشاء تعين الزمان الحاضر "للظرفية"* ويمتنع ذلك في الأمر لأن الحاصل لا يطلب.
واحتجوا ثانيًا: بأن النهي يفيد الفور فكذا الأمر، والجامع بينهما كونهما طلبا.
وأجيب: بأنه قياس في اللغة وقد تقدم1 بطلانه.
وأيضًا: الفور في النهي ضروري؛ لأن المطلوب الترك مستمرًا على ما مر، بخلاف الأمر.
وأيضًا: المطلوب بالنهي وهو "الامتثال إنما يحصل بالفور، فالفور يثبت بضرورة"** الامتثال "لا أنه"*** يفيد الفور، فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي.
واحتجوا ثالثًا: بأن الأمر نهي عن الأضداد، والنهي للفور فيلزم أن يكون الأمر للفور.
وأجيب بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا.
واحتجوا رابعًا: بأن الله ذم إبليس على عدم الفور بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2، حيث قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 3 فدل على أنه للفور، وإلا لما استحق الذم لأنه لم يتضيق عليه.
وأجيب عن هذا: بأن ذلك حكاية حال فلعله كان مقرونًا بما يدل على الفور، ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف، فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغًا لدفع الأدلة لم يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك.
وأجيب أيضًا: بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت، وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} 4 فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعين.
__________
* في "أ": للمظروفية.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ" لأنه.
__________
1 انظر صفحة: "260".
2 جزء من الآية "12" من صور الأعراف.
3 جزء من الآية "34" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "72" من صورة ص.

(1/261)


واحتجوا خامسًا بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم} 1 وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 2.
وأجيب: بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق، لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور. واحتجوا سادسًا: بأنه لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو "إلى"* غير بدل، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل.
أما فساد القسم الأول: فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق ليس كذلك.
وأما فساد القسم الثاني: فذلك يمنع من كونه واجبا؛ لأنه يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل.
وأجيب: باختيار الشق الأول، ويقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل. ورد بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان، فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية، وإنما يتم ما ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار، وهو باطل كما تقدم3.
واحتجوا سابعًا: بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين أو إلى آخر أزمنة الإمكان، والأول منتف لأن الكلام في غير المؤقت، والثاني تكليف ما لا يطلق لكونه غير معين عند المكلف، والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق.
وأجيب بالنقض الإجمالي والنقض التفصيلي، أما الاجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق، بأن يقول الشارع افعل ولك التأجير فإنه جائز إجماعًا، وما ذكرتم من الدليل جار فيه، وأما التفصيل، فبأنه إنما يلزم تكليف ما لا يطاق بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان، أما جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "133" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "48" من سورة المائدة.
3 انظر صفحة "255".

(1/262)


واحتج القاضي لما ذهب إليه أنه ثبت في خصال الكفارة1 بأنه لو أتى بإحداها أجزأ، ولو أخل بها عصى، وأن العزم يقوم مقام الفعل فلا يكون عاصيًا إلا بتركهما.
وأجيب: بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه، فهو مقتضى الأمر؛ فوجوب العزم ليس مقتضاه.
واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق، والشك في جواز التأخير فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين.
واعترض عليه: بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من التوقف في كون الأمر للفور وأيضًا وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم، حيث قال: أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور به فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب.
واعتراض عليه أيضا: بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه، بل التأخير جائز حقًّا لما تقدم2 من الأدلة، فالحق قول من قال إنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ، ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل: اسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث إن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به، وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخي كما عرفت.
__________
1 وهي كفارة اليمين، فإن التخيير فيها ثابت بين الإطعام والكسوة المذكور والإعتاق المذكور في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة "89".
2 انظر صفحة: "261".

(1/263)


الفصل السادس: الأمر بالشيء نهي عن ضده
ذهب الجمهور من أهل الأصول، من الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به، كان ذلك الأمر به نهيًا عن الشيء المعين المضاد له سواء كان الضد واحدًا كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون، أو كان الضد متعددًا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيًا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك، وقيل: ليس نهيًا عن الضد ولا يقتضيه عقلًا، واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب، وقيل أنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية،

(1/263)


والمحدثين، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهى عن الضد من عمم فقال: إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي، ففي الأول نهي تحريم، وفي الثاني نهي كراهة، ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي، ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده كما جعل الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه. واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، والنهي عن الشيء ليس أمرًا بضده؛ وذلك لنفيهم الكلام النفسي، ومع اتفاقهم على هذا النفي أي نفي كون كل واحد منهما عينًا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكمًا في الضد أم لا فأبو هاشم ومتابعوه قالوا: لا يوجب شيء منهما حكمًا في الضد بل الضد مسكوت عنه، وأبو الحسين، وعبد الجبار قالا: الأمر يوجب حرمة الضد، وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها، وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها.
وقال الرازي، والقاضي أبو زيد، وشمس الأئمة السرخسي، وصدر الإسلام1 وأتباعهم من المتأخرين: الأمر يقتضي كراهة الضد، ولو كان إيجابًا والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة، ولو كان النهي تحريمًا.
وقال جماعة منهم صدر الإسلام، وشمس الأئمة وغيرهما: إن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي، وفي الضد الوجودي المستلزم للترك لا في الترك، قالوا: وليس النزاع في لفظ الأمر، والنهي بأن يقال للفظ الأمر نهي، وللفظ نهي، وللفظ النهي أمر للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة افعل والنهي موضوع بصيغة لا تفعل، وليس النزاع أيضًا "مفهومهما"* للقطع بأنهما متغايران، بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي "وفي أن"** وطلب الترك الذي هو النهي عين طلب فعل ضده، الذي هو الأمر. "هكذا"***حرروا محل النزاع.
وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط، إذا قيل بأنه ليس نهيًا عن ضده أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد؛ لأنه خالف أمرًا ونهيًا وعصى بهما وهكذا في النهي.
__________
* في "أ": مفهومها.
** في "أ": وطلب الترك.
*** في "أ": وهكذا.
__________
1 هو طاهر الملقب بصدر الإسلام ابن برهان صاحب المحيط والذخيرة محمود بن تاج الدين الصدر السعيد أحمد بن برهان الدين الكبير عبد العزيز بن مازة. ا. هـ. الفوائد البهية "85" تاج التراجم "137".

(1/264)


استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده: بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، لكان إما مثله أو ضده أو خلافه، واللازم باطل بأقسامه، أما الملازمة فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس، أو لا، والمعني بصفات النفس: ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية للإنسان، والحقيقة والوجود بخلاف الحدوث، والتحيز فإن تساويا فيها فهما مثلان كسوادين، أو بياضين وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما، أي يمتنع اجتماعهما في محل، واحد بالنظر إلى ذاتيهما أو لا، فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض، وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة.
وأما انتفاء اللازم بأقسامه، فلأنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل واحد وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء والنهي عن ضده معًا ووقوعه ضروري، ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر، ومع خلافه لأن الخلافين حكمهما كذلك كما يجتمع السواد وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده، وهو الأمر بضده، وذلك محال لأنه يكون الأمر "بالشيء"* حينئذ طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه.
وأجيب: بمنع كون لازم كل خلافين ذلك، أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر، لجواز تلازمهما "على ما هو التحقيق من عدم اشتراط"** جواز الانفكاك في المتغايرين كالجوهر1 مع العرض والعلة مع المعلول فلا يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد للآخر، وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ضد المأمور به: اخترنا كونهما خلافين، ولا يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به كما زعموا كالأمر بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان، ولا يلزم من كونهما خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها مع إباحة الأكل "التي هي"*** ضد النهي عن الأكل.
واستدلوا أيضًا: بأن فعل السكون عين ترك الحركة، وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة، وطلب تركها هي النهي.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز...إلخ وهو خطأ. ولعل الصواب لجواز تلازمهما المبني على ما هو التحقيق من عدم اشتراط جواز...إلخ.
*** في "أ": الذي هو.
__________
1 هو حقيقة الموجود ومقوماته، ويقابله العرض. ا. هـ. الصحاح مادة جهر.
2 وهو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي: محل يقوم به كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به. ا. هـ. التعريفات "192".

(1/265)


وأجيب: بأن النزاع على هذا يرجع لفظيا في تسمية فعل المأمور به تركًا لضده، وفي تسميته طلبه نهيًا، فإن كان ذلك باعتبار اللغة فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك.
ورد بمنع كون النزاع لفظيا، بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس، بأن يكون طلب الفعل عين طلب ترك ضده.
وأجيب ثانيًا: بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد، وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك الحركة فيما كان أحدهما ترك الآخر لا في الأضداد الوجودية، فطلب ترك أحدهما لا يكون طلبًا للمأمور به لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر.
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن "الضد"* ولا نقيضه. بأنه: لو كان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد ومستلزمًا له لزم تعقل الضد، والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال "وهكذا الكلام في النهي"**.
واعترض "على هذا الاستدلال"*** بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو الأضداد الجزئية، وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده، بل المراد الضد العام، وهو ما لا يجامع المأمور به، وتعقله لازم للأمر والنهي؛ إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله، والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص، والضد الخاص ملزوم للضد العام، فلا بد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء، وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء.
ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب1 والسلب2 للمتخاصمين، بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر، والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق فقول المعترض: إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية موافقة معه فيها فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك، نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث إنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن الضد، فزعم أن مراده الأضداد الجزئية، وليس كذلك، بل الضد العام، ولا يصح نفي خطورة بالبال لما تقدم فحينئذ تنعقد المناظرة3 بينهما ويتحقق التوارد
__________
* في "أ": ضده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإثبات، وقضية موجبة أي: مثبتة نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
2 هو النفي، وقضية سالبة، أي: منفية نحو: لا يخذل من قصد الحق.
3 هي النظر بالبصيرة من الجانيين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب. ا. هـ. التعريفات "298".

(1/266)


وأيضًا: هذا الاعتراض متناقض في نفسه، فإن قول المعترض: إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية، يناقض قوله: إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص؛ لأن الإيجاب الجزئي1 نقيض السلب الكلي2 عند اتحاد النسبة.
وأجيب: بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به؛ لأن المطلوب مستقبل، فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل أو عدمه، ولو سلم توقف الأمر بالفعل على "الفعل"* بعدم التلبس به فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد محسوس، فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به، ولا يستلزم شهود الكف "عن الفعل المأمور به العلم بفعل ضد خاص لحصول شهود الكف"** بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به، ولو سلم لزوم تعقل الضد في الجملة فمجرد تعقله ليس ملزومًا؛ لتعلق الطلب بتركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به، فترك المأمور به ضد له، وقد تعقل حيث منع عنه لكنه فرق بين المنع عن الترك وبين طلب الكف عن الترك.
وتوضيحه: أن الآمر بفعل غير مجوز تركه، فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوز ملحوظًا بالتبع لا قصدا، وبهذا الاعتبار يقال منع تركه، ولا يقال طلب الكف عن تركه؛ لأنه يحتاج إلى توجه قصدي.
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه وعما يحصل الترك به، وهو الضد للمأمور به فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده.
واعترض على هذا الدليل: بأنه لو تم لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب، وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف، ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي أو لازم مفهومه لزومًا عقليًّا، واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون
__________
* في "أ": العلم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو كل مفهوم ذهني يتميز بأنه محدود الأبعاد ضمن فرد واحد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "34" وانظر السلم المنورق شرح الدمنهوري "25".
2 هو كل مفهوم ذهني لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن كان لا يصدق في الواقع إلا على فرد واحد فقط، أو لا يوجد منه في الواقع أي فرد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "35". وانظر شرح السلم المنورق "25".

(1/267)


الذم بالترك جزءًا أو لازمًا.
وما قيل: من أنه لو سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده لزم أن لا مباح؛ إذ ترك المأمور به وضده يعم المباحات، والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها والمنهي منه لا يكون مباحا، فغير لازم؛ إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت للأمر، وليس كل ضد مفوتًا ولا كل مقدر من المباحات ضدًّا مفوتا، كخطوة في الصلاة، وابتلاع ريقه، وفتح عينه ونحو ذلك، فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة، وبهذا الاعتبار يطلق "عليها"* الضد للصلاة لكنها لا تفوت الصلاة.
وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده، كما أن الأمر بشيء يتضمن النهي عن ضده دليلًا آخر فقالوا: إن النهي طلب ترك فعل وتركه بفعل أحد أضداده، فوجب أحد أضداده وهو الأمر؛ لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب.
ودفع بأنه يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجبًا كالزنا، فإنه من حيث كونه تركًا للواط لكونه ضدًّا له يكون واجبًا، ويكون اللواط من حيث كونه تركًا للزنا واجبًا.
ودفع أيضًا: بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح؛ لأن كل مباح ترك المحرم وضد له.
فإن قيل: غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها، فيقال: إن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين، بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة.
ودفع أيضًا: بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به.
ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه، وذلك يستلزم جواز ترك المشروط في الواجب، وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه الذي لا يتم إلا به.
واستدل المخصصون لأمر الإيجاب: بأن استلزام الذم للترك المستلزم "للنهي"** إنما هو في أمر الوجوب.
واستدل القائل: بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ولو إيجابًا، والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون: بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل، وأن النهي أمر بالضد المتحد وفي المتعدد بواحد غير معين.
ويجاب عنه: بأن ذكر الكراهة في جانب الأمر، وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": للنفي.

(1/268)


وإذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود "لها"* فاعلم: أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم، فإن اللازم بالمعنى الأعم: هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معًا كافيًا في الجزم باللزوم، بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم، وهكذا النهي عن الشيء فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم.
__________
* في "أ": بها.

(1/269)


الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به
اعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه، الذي أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول، هل يوجب الإجزاء أم لا؟ وقد فسر الإجزاء بتفسيرين:
أحدهما: حصول الامتثال به.
والآخر: سقوط القضاء به، فعلى التفسير الأول "لا شك"* أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال، وذلك متفق عليه، فإنه معنى الامتثال وحقيقته ذلك، وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه: فقال جماعة من أهل الأصول: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء.
وقال القاضي عبد الجبار: لا يستلزم.
استدل القائلون بالاستلزام: بأنه لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبدًا، واللازم منتفٍ فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنه حينئذ يجوز أن يأتي بالمأمور به، ولا يسقط عنه بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء، وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك، وأما انتفاء اللازم فمعلوم قطعًا واتفاقا.
وأيضًا إن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء، والفرض أنه قد جاء بالمأمور به على وجهه، ولم يفت منه شيء، وحصل المطلوب بتمامه، فلو أتى به استدراكًا لكان تحصيلًا للحاصل.
قال في "المحصول": فعل المأمور به يقتضي الإجزاء، خلافًا لأبي هاشم وأتباعه.
لنا وجوه:
الأول: أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة، وإنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/269)


المسألة مرفوضة فيما إذا كان الأمر كذلك، وإنما قلنا يلزم أن يخرج عن العهدة؛ لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولًا للمأتي أو لغيره، والأول باطل؛ لأن الحاصل لا يمكن تحصيله،والثاني باطل؛ لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولًا لغيره ذلك الذي وقع مأتيا به، ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
والثاني: أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا، وثالثًا، أو ينقصى عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم، والأول باطل لما بينا على أن الأمر لا يفيد التكرار، والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيًا في الخروج عن عهدة الأمر.
والثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: افعل فإذا فعلت لا يجزئ عنك، لو قال ذلك أحد لعد مناقضا.
احتج المخالف بوجوه:
الأول: أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر يجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده.
والثاني: أن كثيرًا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه.
والثالث: أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورًا به، فأما أن الإتيان به يكون سببًا لسقوط التكليف فذاك لا يدل عليه بمجرد الأمر.
والجواب عن الأول: أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد، لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول: النهي يدل على "أنه"* منعه من فعله وذلك لا ينافي أن يقول: إنك لو أتيت به لجعلته سببًا لحكم آخر، أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضائه المأمور به مرة واحدة، فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيًا لشيء.
وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها، وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول؛ لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على حد الوجه الذي وقع، بل على وجه آخر وذلك الوجه لم يوجد.
وعن الثالث: إن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيًا بعد ذلك، وذلك هو المراد بالإجزاء.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/270)


الفصل الثامن: هل يجب القضاء بأمر جديد أم بالأمر الأول
اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟ هذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى:
الأمر المقيد، كما إذا قال افعل في هذا الوقت، فلم يفعل حتى مضى، فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت، فقيل لا يقتضي لوجهين:
الأول: أن قول القائل لغيره "افعل" هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر "بفعله بعده"* وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات.
الثاني: أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة تستلزمه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق، وإليه ذهب الجمهور، "جماعة من الحنابلة"** والحنفية والمعتزلة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه الأمر بالأداء في الزمان المعين؛ لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل.
ورد: بأنه داخل لكونه من ضروريات الفعل المعين وقته، وإلا لزم أن يجوز التقديم على ذلك الوقت المعين، واللازم باطل فالملزوم مثله.
الصورة الثانية:
الأمر المطلق، وهو أن يقول: افعل، ولا يقيده بزمان معين، فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد، أو يحتاج إلى دليل فمن لم يقل بالفور يقول إن ذلك الأمر المطلق يقتضي الفعل مطلقًا فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله، ومن قال بالفور قال إنه يقتضي الفعل بعد أول أوقات الإمكان، وبه قال أبو بكر الرازي.
ومن القائلين بالفور من يقول: إنه لا يقتضيه، بل لا بد في ذلك من دليل زائد.
قال في "المحصول": ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره: افعل هل معناه افعل في الزمان الثاني، فإن عصيت ففي الثالث، فإن عصيت ففي الرابع ثم كذلك أبدا، أو معناه في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع، فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه.
والحق: أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان، فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله، وهو أداء وإن طال التراخي لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه، واقتضاؤه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وذهب جماعة وهو الصواب.

(1/271)


الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء، بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثمًا بالتأخير عنه إلى وقت آخر.
وقد استدل للقائلين بأن الأمر المقيد بوقت معين لا يقتضي إيقاع ذلك الفعل في وقت آخر: بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان مقتضيًا للقضاء، واللازم باطل فالملزوم مثله، أما الملازمة فبينة؛ إذ الوجوب أخص من الاقتضاء، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل "صم يوم الخميس" لا يقتضي "صوم"* يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء، ولا يتناوله أصلًا.
واستدل لهم أيضًا بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه، ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير.
وأجيب عن "هذا"** بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين، فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعد قضاء.
ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين.
واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم: الوقت للمأمور به كالأجل للدين، فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين، بل يجب القضاء فيما بعده، فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين.
ويجاب عن هذا: بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى ولم يقضه من هو عليه، وبأن الدين يجوز تقديمه على أجله المعين بالإجماع "بخلاف"*** محل النزاع فإنه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع.
واستدلوا أيضًا بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين، فكان كالأمر بفعله ابتداء.
ويجاب عنه: بأنه لا بد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على أنه يفعل استدراكًا لما فات، أما مع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه "ملتزم"**** ولا يضرنا ولا ينفعهم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": واستدلوا محل النزاع وقوله بخلاف ساقطة منها.
**** في "أ": يلزم.

(1/272)


الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟
اختلفوا هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الثاني، وذهب جماعة إلى الأول.
احتج الأولون: بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء لكان قول القائل لسيد العبد: مر عبدك ببيع ثوبي تعديًا على صاحب العبد بالتصرف في عبده بغير إذنه، ولكان قول صاحب الثوب بعد ذلك للعبد لا تبعه مناقضًا لقوله للسيد مر عبدك ببيع ثوبي لورود الأمر والنهي على فعل واحد.
وقال السبكي: إن لزوم التعدي ممنوع؛ لأن التعدي هو أمر عبد الغير بغير أمر سيده "وهنا أمره بأمر سيده"* فإن أمره للعبد متوقف على أمر سيده وليس بشيء؛ لأن النزاع في أن قوله: مر عبدك إلخ، هل هو أمر للعبد ببيع الثوب أم لا، لا في أن السيد إذا أمر عبده بموجب "مر عبدك" هل يتحقق عند ذلك أمر للعبد من قبل القائل "مر عبدك" " بجعل"** السيد سفيرًا أو وكيلًا "أم لا؟"***.
وأما استدلالهم بما ذكروه من المناقضة، فقد أجيب عنه: بأن المراد هنا منعه من البيع بعد طلبه منه، وهو نسخ لطلبه منه.
واحتج الآخرون بأوامر الله سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يأمرنا، فإنا مأمورون بتلك الأوامر، وكذلك أمر الملك لوزيره بأن يأمر فلانًا بكذا، فإن الملك هو الآمر بذلك المأمور، لا الوزير.
وأجيب: بأنه فهم ذلك في الصورتين من قرينة أن المأمور أولًا هو رسول ومبلغ عن الله وأن الوزير هو مبلغ عن الملك، لا من لفظ الأمر المتعلق بالمأمور "الأول"****، ومحل النزاع هو هذا.
أما لو قال: قل لفلان افعل كذا، فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع، كذا نقل عن السبكي وابن الحاجب.
واختار السعد التسوية بينهما، والأول أولى، قال في "المحصول": فلو قال زيد لعمرو كل
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يجعل.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في هامش "أ" قوله بالمأمور الأول كذا بالأصل وصوابه بالمأمور الثاني تدبر.

(1/273)


ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك، فالأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء في هذه الصورة، ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب عليك فلانًا فهو واجب، وأما لو لم يقل ذلك كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و"مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" 1 فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي. انتهى. وهذا الحديث ثابت في السنن.
ومما يصلح مثالًا لمحل النزاع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض "مره فليراجعها" 2.
وقيل: إنه ليس مما يصلح مثالًا لهذه المسألة لأنه قد صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة، حيث قال: "فليراجعها" بلام الأمر، وإنما يكون مثالًا لو قال: مره بأن يراجعها، والظاهر أنه من باب قل لفلان افعل كذا، وقد تقدم الخلاف فيه3.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 404. وأبو داود في الصلاة باب متى يؤمر الغلام بالصلاة "495". والترمذي في السنن في كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة "299". وقال: حسن صحيح. والدارقطني في سننه في الصلاة بأب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها "1/ 230". وذكره البغوي في المصابيح "400".
2 أخرجه مسلم في الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق "1471". والبخاري بلفظ: "ليراجعها" كتاب التفسير، باب سورة الطلاق "4908" وابن ماجه في الطلاق، باب الحامل كيف تطلق "2023". وأحمد في مسنده "2/ 26". والبيهقي في السنن، كتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة وطلاق البدعة "7/ 325". وأبو داود، في الطلاق، باب في طلاق السنة "2181". والنسائي، كتاب الطلاق، باب ما يفعل إذا طلق تطليقه وهي حائض "3397" "6/ 141". وأبو يعلى في مسنده "5440".
3 انظر صفحة: "273".

(1/274)


الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه
اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية، يقتضي الآمر بها، أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أم هو أمر بفعل مطلق تصدق عليه الماهية ويخبر به عنها صدق الكلي على جزئياته من غير تعيين؟
فذهب الجمهور إلى الثاني.
وقال بعض الشافعية: بالأول.
احتج الأولون: بأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب، وإلا امتنع الامتثال وهو خلاف الإجماع.

(1/274)


ووجه ذلك: أنها لو وجدت في الأعيان لزم تعددها كلية في ضمن الجزئية، فمن حيث إنها موجودة تكون شخصية جزئية، ومن حيث إنها الماهية الكلية تكون كلية وأنه محال، فمن قال لآخر: "بع هذا الثوب" فإن هذا لا يكون أمر ببيعه بالغبن، ولا بالثمن الزائد، ولا بالثمن المساوي؛ لأن هذه الأنواع مشتركة في مسمى البيع، وتمييزه كل واحد منها بخصوص كونه بالغبن أو بالثمن الزائد أو المساوي، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له، فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرًا بما به يمتاز كل واحد من الأنواع عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام، وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون ألبتة أمرًا بشيء من أنواعه، لكن إذا دلت القرينة على إرادة بعض الأنواع حمل اللفظ عليه.
قال في "المحصول": وهذه قاعدة شريفة برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله.
ومما يوضح المقام ويحصل به المرام من هذا الكلام، ما ذكره أهل علم المعقول من أن الماهيات ثلاث:
الأول:
الماهية1 لا بشرط شيء من القيود، ولا بشرط عدمها، وهي التي يسميها أهل المنطق الماهية المطلقة، ويسمونها الكلي الطبيعي، والخلاف في وجودها في الخارج معروف.
والحق: أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه.
والثانية:
الماهية بشرط لا شيء، أي: بشرط خلوها عن القيود، ويسمونها الماهية المجردة ولا خلاف بينهم في أنها لا توجد في الخارج.
والثالثة:
الماهية بشرط شيء من القيود، ولا خلاف في وجودها في الخارج.
وتحقيقه: أن الماهية قد تؤخذ بشرط أن تكون مع بعض العوارض، كالإنسان بقيد الوحدة، فلا يصدق على المتعدد وبالعكس، وكالمقيد بهذا الشخص، فلا يصدق على فرد آخر، وتسمى الماهية المخلوطة، والماهية بشرط شيء، ولا ارتياب في وجودها في الأعيان، وقد تؤخذ بشرط التجرد عن جميع العوارض، وتسمى المجردة، والماهية بشرط لا شيء، ولا خفاء في أنها لا توجد في الأعيان، بل في الأذهان، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجردة، بل مع تجويز أن يقارنها شيء من العوارض، وأن لا يقارنها، وتكون مقولًا على المجموع حال المقارنة، وهي الكلي الطبيعي، والماهية لا بشرط شيء، والحق وجودها في الأعيان، لكن لا من حيث كونها جزءًا من الجزئيات المحققة، على ما هو رأي الأكثرين، بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه، وتكون عينه بحسب الخارج، وإن تغايرا بحسب المفهوم، وبمجموع ما ذكرناه يظهر لك بطلان قول: من قال إن الأمر بالماهية الكلية يقتضي الأمر بها، ولم يأتوا بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة.
__________
1 تطلق غالبًا على الأمر المتعقل، مثل المتعقل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي. ا. هـ. التعريفات "250".

(1/275)


الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين
اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين، هل يكون الثاني للتأكيد، فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة، أو للتأسيس1، فيكون المطلوب الفعل مكررًا، وذلك نحو أن يقول: صل ركعتين، صل ركعتين. فقال الجبائي، وبعض الشافعية: إنه للتأكيد، وذهب الأكثر: إلى أنه للتأسيس. وقال أبو بكر الصيرفي: بالوقف في كونه تأسيسًا أو تأكيدا وبه قال أبو الحسن البصري.
واحتج القائلون بالتأكيد: بأن التكرير قد كثر في التأكيد، فكان الحمل على ما هو أكثر وإلحاق الأقل به أولى، وبأن الأصل البراءة من التكليف المتكرر، فلا يصار إليه مع الاحتمال.
ويجاب بمنع كون التأكيد أكثر في محل النزاع، فإن دلالة كل لفظ على مدلول مستقل هو "الأصل والظاهر"*، الأصل الظاهر وبمنع صحة الاستدلال بأصلية البراءة أو ظهورها، فإن تكرار اللفظ يدل على مدلول كل واحد منهما أصلًا وظاهرًا؛ لأن أصل كل كلام وظاهره الإفادة لا الإعادة.
وأيضًا التأسيس "أكثري"** والتأكيد "أقلي"*** وهذا معلوم عند كل من يفهم لغة العرب.
وإذا تقرر لك رجحان هذا المذهب عرفت منه بطلان ما احتج به القائلون بالوقف: من أنه قد تعارض الترجيح في التأسيس والتأكيد.
أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين، صم يوما، وهكذا إذا كانا من نوع واحد، ولكن قامت القرينة الدلالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم، ونحو صلِ ركعتين صلِ الركعتين، فإن التقيد باليوم، وتعريف الثاني يفيدان أن المراد بالثاني هو الأول، وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد نحو اسقني ماء،
__________
* في "أ": الأصل الظاهر.
** في "أ": أكثر.
*** في "أ": أقل.
__________
1 عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.

(1/276)


اسقني ماء، وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو: صلِ ركعتين وصلِ الركعتين؛ لأن التكرير المفيد للتأكيد لم يعهد إيراده بحرف العطف، وأقل الأحوال أن يكون قليلًا والحمل على الأكثر أولى.
أما لو كان الثاني مع العطف معرفًا فالظاهر التأكيد نحو صلِ ركعتين وصل الركعتين؛ لأن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس.

(1/277)


الفصل الثاني: في النواهي
المبحث الأول: في معنى النهي لغة واصطلاحا
...
الباب الثاني: في النواهي
وفيه مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: في معنى النهي لغة واصطلاحًا
اعلم: أن النهي في اللغة معناه المنع، يقال: نهاه عن كذا أي منعه عنه، ومنه سمي العقل نهيه؛ لأنه ينهي صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه، وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء، فخرج الأمر؛ لأنه طلب فعل غير كف، وخرج الالتماس والدعاء؛ لأنه لا استعلاء فيهما.
وأورد على هذا الحد قول القائل: "كف عن كذا"*.
وأجيب بأنه "ملتزم لكونه"** من جملة أفراد النهي، فلا يرد النقض به، ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات، فقولنا: كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي.
وأوضح صيغ النهي: "لا تفعل كذا" ونظائرها، ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال1، "كمه" فإن معناه لا تفعل، و"صه" فإن معناه لا تتكلم. وقد تقدم2 في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يرد في هذا المقام من الكلام اعتراضًا ودفعا
__________
* في "أ": كف بقيد عن كذا.
** في "أ": يلتزم بكونه.
__________
1 وهو ما كان بمعنى الأمر أو الماضي، مثل: رويدًا زيدًا، أي: أمهله. وهيهات الأمر، أي: بعد ا. هـ. التعريفات "40".
2 انظر صفحة: "243".

(1/278)


المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه
اختلفوا في معنى النهي الحقيقي، فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم، وهو الحق، ويرد فيما عداه مجازًا كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصلوا في مبارك الإبل" 1 فإنه للكراهة. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} 2 فإنه للدعاء، وكما في قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} 3 فإنه للإرشاد، وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره: لا تمتثل أمري؟! فإنه للتهديد، وكما في قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} 4 فإنه للتحقير، وكما في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} 5 فإنه لبيان العاقبة، وكما في قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 6 فإنه للتأييس، وكما في قولك لمن يساويك: "لا تفعل" فإنه للالتماس.
والحاصل: أنه يرد مجازًا لما ورد له الأمر كما تقدم7، ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة، وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال.
قيل: ويخالف الأمر أيضًا في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة، ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة، وتوقف الجويني في نقل الإجماع، ومجرد هذا التوقف لا يثبت له الطعن في نقل الأستاذ.
واحتج القائلون: بأنه حقيقة في التحريم: بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة "عن القرائن"* وذلك دليل الحقيقة.
__________
* في "أ": القرينة.
__________
1 أخرجه الترمذي بنحوه من حديث أبي هريرة، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل "348" وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل وقراح الغنم "768" وفي الزوائد: إسناده صحيح، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه "895". وابن حبان في صحيحه "1384". والبيهقي، كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة في أعطان الإبل "2/ 449". قال الترمذي: وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء وسبرة بن معبد وعبد الله بن مغفل وابن عمر وأنس.
2 جزء من الآية "8" من سورة آل عمران.
3 جزء من الآية "101" من سورة المائدة.
4 جزء من الآية "88" من سورة النجم.
5 جزء من الآية "42" من سورة إبراهيم.
6 جزء من الآية "7" من سورة التحريم.
7 انظر صفحة: "247".

(1/279)


واستدلوا أيضًا باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة "على"* التحريم.
وقيل: إنه حقيقة في الكراهة واستدلوا على ذلك: بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه، وهو لا يقتضي التحريم.
وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم.
وقيل: مشترك بين التحريم والكراهة، فلا يتعين أحدهما إلا بدليل، وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحًا من غير مرجح.
وقالت الحنفية: إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعيًّا، ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنيًّا.
ورد: بأن النزاع إنما هو في طلب الترك، وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعيًّا، وقد يستفاد بظني فيكون ظنيًّا.
__________
* في "أ": عن.

(1/280)


المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد
فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل، بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه، أي لذات الفعل أو لجزئه، وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحًا ذاتيًّا كان النهي مقتضيًا للفساد المرادف للبطلان، سواء كان ذلك الفعل حسيًّا كالزنا وشرب الخمر، أو شرعيًّا كالصلاة والصوم، والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعًا لا لغة.
وقيل: إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعًا.
وقيل: إن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات، وبه قال أبو الحسين البصري، والغزالي، والرازي، وابن الملاحمي1 والرصاص2.
واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعًا: بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات، والأنكحة والبيوع، وغيرها.
وأيضًا لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي، ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة، واللازم باطل؛ لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا، فكان فعله كلا
__________
1 لم نجد ترجمته فيما بين أيدينا من الكتب.
2 هو أحمد بن حسن بن الرصاص، الفقيه، الحنفي، النحوي، المتوفى سنة تسعين وسبعمائة هجرية بدمشق، من آثاره: "شرح الألفية في النحو". ا. هـ. معجم المؤلفين "1/ 191".

(1/280)


فعل، "فامتنع"* النهي عنه لخلوه عن الحكمة. وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى؛ لفوات الزائد من مصلحة الصحة، وهي مصلحة خالصة، وإن كانت راجحة امتنعت الصحة، لخلوه عن المصلحة أيضًا، بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي.
واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة، بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه، وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا.
واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعًا، بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد.
وأجيب: بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه، لا لدلالة اللغة.
واستدلوا ثانيًا: بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم1، والنهي نقيضه، والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيًا للفساد.
وأجيب: بأن الأمر يقتضي الصحة شرعًا، لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع.
واستدال القائلون: بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات: بأن العبادات المنهي عنها لو صحت لكانت مأمورًا بها ندبًا؛ لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان؛ لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال.
وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، وطلاق البدعة، والبيع في وقت النداء، والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة، وحل الذبيحة، وأحكام الطلاق، والملك، وأحكام الوطء، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وأجيب: بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه، بل لأمر خارج، ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي، فلا يرد النقض بها.
وذهب جماعة من الشافعية، والحنفية، والمعتزلة: إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعًا، لا في العبادات ولا في المعاملات، قالوا: لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا، لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعًا واللازم باطل أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم: فلأن
__________
* في "أ": وامتنع.
__________
1 انظر صفحة: "269".

(1/281)


الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهي عنه موجبًا للملك لصح من غير تناقض، لا لغة ولا شرعا.
وأجيب: بمنع الملازمة؛ لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر، ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط.
وذهبت الحنفية إلى: أن ما لا تتوقف معرفته على الشرع كالزنا، وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه، ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه، أو المجاور له، فيكون النهي حينئذ عنه لغيره، فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض، وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد، ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول.
والحق: أن كل نهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه، وفساده المرادف للبطلان، اقتضاء شرعيًّا، ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي.
ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد، وما كان ردًّا أي: مردودًا كان باطلا، وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع، وأنه باطل لا يصح، وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيًا للفساد، وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" 2 فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه، وذلك هو المطلوب، ودع عنك ما "راوغوا3"*به من الرأي.
__________
* في "أ": روغوا.
__________
أخرجه البخاري من حديث عائشة، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود "2697". ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثان الأمور "1718". وأبو داود، كتاب السنة، وباب في لزوم السنة "4606". والبيهقي، كتاب آداب القاضي "10/ 119". وابن حبان في صحيحه "26".
2 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر "1337". والنسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "2618". والترمذي في السنن، كتاب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "2679". وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في السنن، المقدمة "2". والبيهقي في السنن، كتاب الحج، باب وجوب الحج مرة واحدة "4/ 326". وابن حبان في صحيحه "18".
3 راغ الثعلب روغًا وروغانًا: ذهب يمنة ويسرة في سرعة خديعة، فهو لا يستر في جهة، ويستعار هذا المعنى للرجل المخادع. ا. هـ. المصباح المنير مادة روغ.

(1/282)


هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه؛ أما لو كان النهي عنه لوصفه، وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة، فذهب الجمهور: إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه، بل على فساد نفس الوصف.
واحتجوا لذلك: بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر.
وأيضًا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض، ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعًا.
وذهب جماعة: إلى أنه يقتضي فساد الأصل، محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو "لوصفه"* وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع، ويكون دليلًا على خلاف ما يقتضيه الظاهر.
وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه1 وليس ذلك لذاته، ولا لجزئه؛ لأنه صوم، وهو مشروع بل لكونه صومًا في يوم العيد، وهو وصف لذات الصوم.
قال بعض المحققين من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيدًا بصفة نحو "لا تصل كذا" ولا "تبع كذا" وحاصله ما ينهى عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي.
وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، فقيل: لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين، والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان، كما صرح به الشافعي وأتباعه، وجماعة من أهل العلم، فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد، لا فرق بينهما.
وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته، ولجزئه، ولوصف لازم، ولوصف مجاور، ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل، أو في الوصف ولهم في
__________
* في "أ": لصفاته.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى" ، كتاب الصوم، باب صوم النحر "1993" ومسلم، كتاب الصوم، باب تحريم صوم يومي العيدين "1138". مالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر "1/ 300". والبيهقي في السنن، كتاب الصيام، باب الأيام التي نهى عن صومها "4/ 297". وابن حبان في صحيحه "3958". وأحمد في المسند "4/ 511، 529".

(1/283)


ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة.
نعم النهي عن الشيء لذته أو لجزته الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة، والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف، والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفًا بذلك الوصف، وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه؛ لأن النهي عن إيقاعه مقيدًا بهما يستلزم فساده ما داما قيدًا له.

(1/284)


الفصل الثالث: في العموم
المسألة الأولى: في حده
...
الباب الثالث: في العموم
وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
وهو في اللغة شمول أمر لمتعدد، سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، ومنه قولهم: عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم.
وأما حده في الاصطلاح: فقال في "المحصول": هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، كقوله الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له، ولا تدخل عليه النكرات، كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا، ولا يستغرقهم، ولا التثنية، ولا الجميع؛ لأن لفظ رجلان ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق، ولا ألفاظ العدد كقولنا: خمسة؛ لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه. وقولنا: بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك، والذي له حقيقة ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا. انتهى.
وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري فقال: العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له.
ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد، واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد بوضع واحد ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده، وهو معنى الاستغراق.
ودفع بمثل ما ذكره في "المحصول".
وقال أبو علي الطبري1: هو مساواة بعض ما تناوله لبعض.
__________
1 هو الحسن "أو الحسين" بن قاسم، شيخ الشافعية ببغداد، أول من صنف في الخلاف، من آثاره: "المحرر" "الإفصاح" "العدة"، توفي سنة خمسين وثلاثمائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 62"، شذرات الذهب "3/ 3"، الأعلام "2/ 210".

(1/285)


واعترض عليه بلفظ التثنية، فإن أحدهما مساوٍ للآخر وليس بعام.
وقال القفال الشاشي: أقل العموم شيئان، كما أن الخصوص واحد، وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي، وهو الشمول، والشمول حاصل في التثنية، وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عمومًا لا سيما إذا قلنا: أقل الجمع ثلاثة، فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع، فسلب العموم عنها أولى. وقال المازري: العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعدًا، والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع والشمول، الذي لا يتصور في الواحد. ولا يخفى ما يرد عليه.
وقال الغزالي: هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا واعترض عليه: أنه ليس بجامع ولا مانع، أما كونه ليس بجامع، فلخروج لفظ المعدوم، والمستحيل فإنه عام ومدلوله ليس بشيء، وأيضًا الموصولات مع صلاتها مع جملة العام وليست بلفظ واحد، وأما أنه ليس بمانع فلأن كل مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام، وكذلك كل جمع لمعهود وليس بعام.
وقد أجيب عن الأول: بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة، وإن لم يكن شيئًا في الاصطلاح.
وعن الثاني: بأن الموصولات هي التي "ثبت لها العموم""1".
وقال ابن فورك: اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق، وليس كذلك؛ لأن الاستغراق عموم وما دونه عموم وأقل العموم اثنان.
وقال ابن الحاجب: إن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة؛ فقوله: ما دل جنس، وقوله: على مسميات يخرج نحو زيد، وقوله: باعتبار أمر اشتركت فيه يخرج نحو عشرة، فإن العشرة دلت على آحاد لا باعتبار أمر اشتركت فيه لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها، فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة.
وقوله: "مطلقًا" ليخرج المعهود، فانه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين وقوله: "ضربة" أي دفعة واحدة ليخرج نحو "رجل" مما يدل على مفرداته بدلًا لا شمولًا.
ويرد عليه خروج نحو علماء البلد مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه، مع أنه عام قصد به الاستغراق، ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف "لقيد""2" الإطلاق، مع
__________
* في "أ": زيادة وهي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها.
** في "أ": بقيد.

(1/286)


أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه.
وأجيب: بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقًا لا "العلماء"*، وعالم البلد لم يتقيد بقيد وإنما قيد العلماء، "فأورد"** عليه أيضًا أنه قد اعتبر الأفراد في العام، وعلماء البلد مركب.
وأجيب: بأن العام إنما هو المضاف، من حيث إنه مضاف والمضاف إليه خارج.
وأورد عليه الجمع المنكر، كرجال فإنه يدل على مسميات، وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه، وهو مفهوم رجل مطلقًا لعدم العهد وليس بعام عند من يشترط الاستغراق.
وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقًا, مفردًا كان أو جمعًا أن دلالته على الفرد تضمنيه؛ إذ ليس الفرد مدلولًا مطابقيًّا؛ لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به، ولا خارجًا ولا لازمًا، ولا يمكن جعله أي: الفرد مما صدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في اصطلاح العلماء، وليس مما يصدق على إفراده بدلًا، بل شمولًا، ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي.
وأجيب: بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزومًا لغويًّا "لا عقليًّا"*** وأن ذلك مما يكفي في الرسوم؛ وفيه نظر.
وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا1 عن صاحب "المحصول"، لكن مع زيادة قيد "دفعة"، فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة.
__________
* في "أ": العالم.
** في "أ": وورد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "285".

(1/287)


المسألة الثانية: "العموم من عوارض الألفاظ"
ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فإذا قيل: هذا لفظ عام، صدق على سبيل الحقيقة.
وقال القاضي أبو بكر: إن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام، ثم الكلام الحقيقي هو

(1/287)


المعنى القائم بالنفس "وهو الذي يعم ويخص، والصيغ والعبارات دالة عليه، ولا يسمى بالعموم والخصوص إلا تجوزًا، كما أن الأمر والنهي يرجعان إلى المعنى العام بالنفس"* دون الصيغ. انتهى.
واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم، بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في الألفاظ. فقال بعضهم: إنها تتصف به حقيقة كما تتصف به الألفاظ.
وقال بعضهم: إنها تتصف به مجازًا.
وقال بعضهم: إنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازًا.
احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما: بأن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد، فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعانٍ متعددة بحسب الوضع، صح في المعاني باعتبار شمول "معنى"** لمعانٍ متعددة "لأنه"*** لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة، كعموم المطر والخصب "والقحط للبلاد، وكذلك يقال: عم المطر وعم الخصب"**** ونحوهما، وكذلك ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها. ولذلك يقول المنطقيون: العام ما لا يمنع تصوره، وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه.
وأجيب: بأن العام شمول أمر لمتعدد، وشمول المطر والخصب ونحوهما ليس كذلك؛ إذ لموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر، وإنما هو أفراد من المطر والخصب.
وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح، فإنهم "إنما"***** يطلقون ذلك على الكلي لا على العام.
ورد بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد، بل يكفي الشمول، سواء كان هناك أمر واحد أو لم يكن.
ومنشأ الخلاف هذا، هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم، فمن قال معناه شمول أمر لمتعدد "واعتبروا وحدة الأمر وحدة شخصية"****** منع من إطلاقه حقيقة على المعاني، فلا يقال هذا المعنى عام؛ لأن الواحد بالشخص لا شمول له، ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لفظ.
*** في "أ": بحسب.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانها إلا الموجود الذهني شخصيته...إلخ.

(1/288)


الذهني، ووحدته ليست بشخصية، فيكون عنده إطلاق العموم على المعاني مجازًا لا حقيقة كما صرح به الرازي.
ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة.
وقيل: إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام، كما يصح تخصيص اللفظ العام لا في اتصاف المعاني بالعموم، وفيه بعد، فإن نصوص هؤلاء المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم.

(1/289)


المسألة الثالثة: "تصور العموم في الأحكام"
هل يتصور العموم في الأحكام حتى يقال حكم قطع السارق عام؟
أنكره القاضي، وأثبته الجويني وابن القشيري.
وقال المازري: الحق بناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات فإن قلنا بالثاني لم يتصور العموم لما تقدم1 في الأفعال، وإن قلنا يرجع إلى قول فقوله سبحانه: {وَالسَّارِق} 2 يشمل كل سارق فنفس القطع فعل، والأفعال لا عموم لها، قال القاضي أبو عبد الله الصيمري3 الحنفي في كتابه "مسائل الخلاف في أصول الفقه"4: دعوى العموم في الأفعال لا تصح عند أصحابنا، ودليلنا: أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة، والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح العموم إلا في الألفاظ، وأما في الأفعال فلا يصح؛ لأنها تقع على صفة واحدة، فإن عرفت اختص الحكم بها، وإلا صار مجملا، فما عرفت صفته مثل قول الراوي: "جمع بين الصلاتين في السفر"5 فهذا مقصور على السفر، ومن الثاني قوله في
__________
1 انظر صفحة: "287".
2 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
3 هو الحسين بن علي بن محمد، القاضي العلامة، أبو عبد الله، الصيمري، الحنفي، كان من الفقهاء المناظرين، صدوقًا، وافر العقل، توفي سنة ست وثلاثين وأربع مائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 615"، شذرات الذهب "3/ 256"، الأعلام "2/ 245".
4 ذكره الزركلي عند ترجمة الصيمري، باسم: "مسائل الخلاف في أصول الفرق". ا. هـ. الأعلام "2/ 245".
5 أخرجه مسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جمع في سفرة سافرها..." في كتاب صلاة المسافرين باب الجمع بين الصلاتين في السفر "706". والنسائي في المواقيت باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر "586" 1/ 285. وأبو داود في الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين "1206". وابن خزيمة في صحيحه "966". وابن حبان في صحيحه "1591". وابن ماجه في إقامة الصلاة باب الجمع بين الصلاتين في السفر "1070".

(1/289)


السفر "فلا يدري أنه كان طويلًا أو قصيرًا"1 فيجب التوقف فيه، ولا يدعى فيه العموم.
وقال ابن القشيري: أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا "يتصوران"* إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال، أعني في ذواتها، فأما في أسمائها فقد يتحقق، ولهذا لا يتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال شمس الأئمة السرخسي: ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم حقيقة في المعاني والأحكام، كما هو في الأسماء والألفاظ، وهو غلط، فإن المذهب عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة، وإن كان يوصف به مجازا.
قال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"2: الجمهور على أنه لا يوصف بالعموم إلا القول فقط، وذهب قوم من أهل العراق: إلى أنه يصح ادعاؤه في المعاني والأحكام، ومرادهم بذلك: حمل الكلام على عموم الخطاب وإن لم يكن هناك صيغة "تعم"** كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 فإنه لما لم يصح تناول التحريم لها عمها بتحريم جميع التصرفات من الأكل، والبيع واللمس وسائر أنواع الانتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص، وكذلك قوله: "إنما الأعمال بالنيات" 4 عام في الإجزاء والكمال "قال"***: والذي يقوله أكثر الأصوليين والفقهاء: اختصاصه بالقول وإن وصفهم بالجور والعدل بأنه عام مجاز. انتهى.
فعرفت بما ذكرناه وقوع الخلاف في اتصاف الأحكام بالعموم كما وقع الخلاف في اتصاف المعاني به.
__________
* في "أ": يتصور.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لم أعثر على هذه الرواية فيما بين يدي من كتب الحديث.
2 هو "الإفادة في أصول الفقه"، انظر شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
3 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "156".

(1/290)


المسألة الرابعة: "الفرق بين العام والمطلق"
اعلم: أن العام عمومه شمولي، وعموم المطلق بدلي، وبهذا يصح الفرق بينهما، فمن أطلق على المطلق اسم العموم، فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة، فصح إطلاق اسم العموم عليه

(1/290)


"من هذه"* الحيثية.
والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل، أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد، وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد، بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة.
قال في "المحصول": اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة، سلبًا كان ذلك القيد أو إيجابًا فهو المطلق، وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا تتناول ما يدل عليها فهو اسم العدد، وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام، وبهذا ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحدًا وغير معين قيدان زائدان على الماهية. انتهى.
فيجعل في كلامه هذا معنى المطلق عن التقييد، فلا يصدق إلا على الحقيقة من حيث هي هي، وهو غير ما عليه الاصطلاح عند أهل هذا الفن وغيرهم كما عرفت مما قدمنا.
وقد تعرض بعض أهل العلم للفرق بين العموم والعام، فقال: العام هو اللفظ المتناول، والعموم تناول اللفظ لما يصلح له، فالعموم مصدر، والعام، فاعل مشتق من هذا المصدر وهما متغايران؛ لأن المصدر والفعل غير الفاعل. قال الزركشي في "البحر": ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في قولهم: العموم اللفظ المستغرق، فإن قيل: أرادوا بالمصدر اسم الفاعل، قلنا: استعماله فيه مجاز، ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة.
وفرق القرافي بين الأعم والعام، بأن الأعم إنما يستعمل في المعنى والعام في اللفظ، فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى، وإذا قيل هذا عام تبادر الذهن للفظ.
__________
* في "أ": باعبتار.

(1/291)


المسألة الخامسة: "صيغ العموم"
ذهب الجمهور إلى العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء الشرط، والاستفهام والموصولات، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والمضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفردة المحلي باللام، ولفظ كل، وجميع ونحوها، وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكرًا مفصلًا.

(1/291)


قالوا: لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جمع الآحاد على المتكلم، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة؛ لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام.
واحتجوا أيضًا بأن السيد إذا قال لعبده لا تضرب أحدًا، فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدًا عد مخالفًا، والتبادر دليل الحقيقة والنكرة في النفي للعموم حقيقة فللعموم صيغة، وأيضًا لم يزل العلماء يستدلون بمثل {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 2، وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة "بمثل"* عند الصيغ المذكورة على العموم، ومنه ما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن الحمر الأهلية، فقال: "لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} " 3 وما ثابت أيضًا من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة، والعدول إلى التيمم مع شدة البرد. فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} 4 فقرر ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5؛ وكم يعد العاد من مثل هذه المواد.
وما أجيب به عن ذلك: بأنه إنما فهم بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
وقال محمد بن المنتاب6 من المالكية، ومحمد بن شجاع البلخي7 من الحنفية: إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص، وهو أقل الجمع أما
__________
* في "أ": عند.
__________
1 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "2" من سورة النور.
3 الآيتان هما "7-8" من سورة الزلزلة. والحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الشرب والمساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار "1/ 2371". مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "987".النسائي في السنن، كتاب الخيل "3565" "6/ 216". مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "2/ 444". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة "4/ 119". ابن حبان في صحيحه "4672".
4 جزء من الآية "29" من سورة النساء.
5 أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب إذ خاف الجنب البرد أيتيمم "334"، والحاكم في المستدرك في الطهارة "1/ 177". والبيهقي في السنن في الطهارة باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. وعبد الرزاق في المصنف "878". وابن حبان في صحيحه "1315".
6 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
7 الثلجي، ويقال ابن الثلجي، أبو عبد الله البغدادي الحنفي، فقيه، أهل العراق في وقته والمقدم في الفقه والحديث وقراءة القرآن مع ورع وعبادة، توفي سنة ست وستين ومائتين، من آثاره: "المضاربة" "تصحيح الآثار" "الرد على المشبهة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 379"، الجواهر المضية "3/ 173".

(1/292)


اثنان، أو ثلاثة، على الخلاف في أقل الجمع، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة.
قال القاضي في "التقريب"، والإمام في "البرهان": يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها على أقل المراتب. انتهى.
ولا يخفاك أن قولهم موضوع للخصوص مجرد دعوى ليس عليها دليل، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعًا وعرفًا، وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفى عليه هذا.
وقال جماعة من المرجئة1: أن شيئًا من الصيغ لا يقتضي العموم بذاته، ولا مع القرائن، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري.
قال في "البرهان": نقل مصنفوا المقامات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية2 أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية، وهذا النقل على الإطلاق زلل، فإن أحدًا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به، كقول القائل: رأيت القوم واحدًا واحدًا، لم يفتني منهم أحد، وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصًا إلى غير ذلك، وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع. انتهى.
ولا يخفاك: أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله، وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عامًّا شاملًا عناد ومكابرة.
وقال قوم بالوقف، ونقله القاضي في "التقريب" عن أبي الحسن الأشعري ومعظم المحققين وذهب إليه.
واحتجوا بأنهم سبروا اللغة ووضعها، فلم يجدوا في وضع اللغة صيغة دالة على العموم، "سواء وردت مطلقة أو مقيدة"* بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع، بل تبقى على التردد، هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع، كقول القائل: رأيت القوم
__________
* في "أ": زيادة وهي: مقيدة بضروب من التأكد قال في البرهان ومما زال فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها...إلخ.
__________
1 وهم القائلون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم فرق متعددة، وأول من قال بالإرجاء هو: غيلان الدمشقي، والإرجاء: هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا، من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 139".
2 هم أصحاب مذهب الوقف القائل بعدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة: في العموم والخصوص أو الاشتراك. "انظر الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي 2/ 222".

(1/293)


أجمعين أكتعين أبصعين1، فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها. انتهى.
وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال:
الأول:
وهو المشهور من مذهب أئمتهم: القول به على الإطلاق من غير تفصيل.
الثاني:
أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد، دون الأمر والنهي، حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي. قال: وربما ظن مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة.
الثالث:
القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد، والتوقف فيما عدا ذلك وهو قول جمهور المرجئة.
الرابع: الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها.
الخامس:
الوقف في الوعيد دون الوعد، قال القاضي: وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح، والترهات2 دون الحقائق.
السادس:
الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئًا من أدلة السمع وكانت وعدًا أو وعيدًا، فيعلم أن المراد بها للعموم، وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع، وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به، حكاه القاضي في "مختصر التقريب".
السابع:
الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع "منه"* صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه، كذا حكاه المازري.
الثامن:
التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم، دون ما إذا لم يتقيد.
التاسع:
أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها، حكاه المازري عن بعض المتأخرين.
وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق بعدم توازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم، بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه، فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له.
والحاصل: أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه، ظاهر لكل من يفهم فهمًا صحيحًا، ويعقل الحجة، ويعرف مقدارها في نفسها ومقدار ما يخالفها.
__________
* في "أ": عنه.
__________
1 وهي من ألفاظ التوكيد، وقال الحضري في حاشيته: إنه يؤتى بعد أجمع بأكتع ثم بأبصع، وزاد الكوفيون: ثم بأبقع، وكذا بعد أجمعون وأخواته، ولا يجوز تقديم بعضها على بعض. ا. هـ. حاشية الخضري على ابن عقيل "2/ 75".
2 مفردها "الترهة": وهي القول الخالي من نفع. ا. هـ. المعجم الموسيط مادة تره وشطح: الشطح في الفعل أو القول: التباعد والاسترسال. ا. هـ. المعجم الوسيط مادة شطح.

(1/294)


المسألة السادسة: في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم وفيه فروع
الفرع الأول في:
من، وما، وأين، ومتى، للاستفهاز؟
فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط أو لهما على سبيل الاشتراك، أو لا لواحد منهما؛ والكل باطل إلا الأول.
أما أنه لا يجوز أن يقال: إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء؛ لأن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، لكن لا نزاع في حسن ذلك.
وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك، فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة.
مثلًا إذا قال: من عندك؟ فلا بد أن تقول: سألتني عن الرجال أو النساء، فإذا قال: عن الرجال، فلا بد أن تقول: سألتني عن العرب أو العجم، فإذا قال: عن العرب، فلا بد أن تقول: عن ربيعة أو مضر، وهكذا إلى أن تأتي على جميع "التقسيمات"* الممكنة، وذلك لأن اللفظ إما أن يقال إنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص، أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص، والأول باطل؛ لأن أحدًا لم يقل به، والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام؛ لأن الجواب لا بد أن يكون مطابقًا للسؤال، فإذا كان السؤال محتملًا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقًا للسؤال، وذلك غير جائز، فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة.
أما أولًا: فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير
__________
* في "أ": الأقسام.

(1/295)


متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال.
وأما ثانيًا: فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات.
وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص، فمتفق عليه، فبطلت هذه الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول.
الفرع الثاني:
في صيغة من وما في المجازاة فإنها للعموم، ويدل عليه أن قول القائل: من دخل داري فأكرمه؛ لو كان مشتركًا بين العموم والخصوص لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام، لكنه قد حسن ذلك بدون استفهام فدل على عدم الاشتراك كما سبق في الفرع الذي قبل هذا.
وأيضًا لو قال من دخل داري فأكرمه، حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء من هذا الكلام، وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى من الجنس "لا بد أن"* يصح دخوله تحت المستثنى منه، فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر، والأول باطل، وإلا لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك: جاءني فقهاء إلا زيدًا، وبين الاستثناء من الجمع المعرف، كقولك: جاءني الفقهاء إلا زيدًا، والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب، فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب.
الفرع الثالث:
في أن صيغة كل وجميع يفيدان الاستغراق، ويدل على ذلك أنك إذا قلت: جاءني كل عالم في البلد أو جميع علماء البلد، فإنه يناقضه قولك: ما جاءني كل عالم في البلد، وما جاءني جميع علماء البلد، ولذلك يستعمل كل واحد من هذين الكلامين في تكذيب الآخر، والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق؛ لأن النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض، وأيضًا صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة البعض، ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض، لم تكن مقابلة، وأيضًا إذا قال القائل: ضربت كل من في الدار أو ضربت جميع من في الدار سبق إلى الفهم الاستغراق، ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك؛ لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر."وأيضًا إذا"** قال السيد لعبده: اضرب كل من دخل داري، أو جميع من دخل داري، فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم، وله أن يعترض عليه إذا ترك البعض منهم، ومثله لو قال رجل لرجل: أعتق كل عبيدي، أو جميع عبيدي ثم مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له، ولا يحصل
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإذا.

(1/296)


امتثاله بعتق البعض، وأيضًا لا يشك عارف بلغة العرب أن بين قول القائل: جاءني رجال، وجاءني كل الرجال، وجميع الرجال، فرقًا ظاهرًا، وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول، وإلا لم يكن بينهما فرق، ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ كل، وجميع، وما يفيد مفادهما، ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثًا.
قال القاضي عبد الوهاب: ليس بعد كل في كلام العرب كلمة أعم منها، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة، تقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وجاءني القوم كلهم، فيفيد أن المؤكد به عام وهي تشمل العقلاء، وغيرهم والمذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والمجموع فلذلك كانت أقوى صيغ العموم، وتكون في الجميع بلفظ واحد، تقول كل النساء، وكل القوم، وكل رجل، وكل امرأة.
قال سيبويه: معنى قولهم: كل رجل: كل رجال، فأقاموا رجلًا مقام رجال؛ لأن رجلًا شائع في الجنس، والرجال الجنس، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل، ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء، ولا يقال: جاء زيد كله. انتهى.
وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على كل، وبين أن تتقدم هي عليه، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو: كل القوم لم يقم أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد، وإن تقدم النفي عليها مثل: لم يقم كل القوم لم تدل إلا على نفي المجموع، وذلك بصدق بانتفاء القيام عن بعضهم، ويسمى الأول عموم السلب والثاني سلب العموم، من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد، والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم.
قال "القرافي"*: وهذا شيء اختصت به كل من بين سائر صيغ العموم، قال: وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل ذلك لم يكن" لما قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت1. انتهى.
__________
* في "أ": الفراء.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأذان، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس "714". مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له "573". والنسائي في السنن، كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم في ركعتين ناسيًا وتكلم "1225" "3/ 22". الترمذي، كتاب الصلاة باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر "399". مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيًا "1/ 93". أبو داود، كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين "1008"، وابن حبان في الصحيح "2249".

(1/297)


وإذا عرفت هذا في معنى كل فقد تقرر أن لفظ جميع هو بمعنى كل الأفرادي، وهو معنى قولهم: إنها للعموم الإحاطي، وقيل: يفترقان من جهة كون دلالة على كل فرد بطريق النصوصية بخلاف جميع.
وفرقت الحنفية بينهما بأن كل تعم الأشياء على سبيل الانفراد، وجميع تعمها على سبيل الاجتماع، وقد روي أن الزجاج1 حكى هذا الفرق عن المبرد2.
الفرع الرابع:
لفظ أي فإنها من جملة صيغ العموم، إذا كانت شريطة أو استفهامية، كقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى} 3 وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} 4؛ وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين الجويني، وابن الصباغ، وسليم الرازي، والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم، قالوا: وتصلح للعاقل وغيره.
قال القاضي عبد الوهاب في "التخليص"5: إلا أنها تتناول على جهة الانفراد دون الاستغراق، ولهذا إذا قلت: أي الرجلين عندك، لم يجب إلا بذكر واحد. قال ابن السمعاني في "القواطع"6: وأما كلمة أي فقيل: كالنكرة لأنها تصحبها لفظًا ومعنى، تقول: أي رجل فعل هذا وأي دار دخل؟ قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} وهي في المعنى نكرة لأن المراد بها واحد منهم. انتهى.
قال الزركشي في "البحر": وحاصل كلامهم: أنها للاستغراق البدلي لا الشمولي، لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم والشمولي، وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء، ومنهم من لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل قول النحاة: إنها بمعنى بعض إذا أضيفت إلى معرفة، وقول الفقهاء أي وقت دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر
__________
1 هو إبراهيم بن السيري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة كان في فتوته يخرط الزجاج، مال إلى النحو فعلمه المبرد، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، من آثاره: "معاني القرآن" "الاشتقاق" "الأمالي" في الأدب واللغة. ا. هـ. الأعلام "1/ 40"، سير أعلام النبلاء "14/ 360"، معجم المؤلفين "1/ 33"، شذرات الذهب "2/ 259".
2 هو محمد بن يزيد، أبو العباس، إمام النحو، البصري، النحوي، الأخباري، أخذ عن المازني والسجستاني، من آثاره: "الكامل في الأدب"، توفي سنة ست وثمانين ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 576"، شذرات الذهب "2/ 190".
3 جزء من الآية "110" من سورة الإسراء.
4 جزء من الآية "38" من سورة النمل.
5 هو "التخليص في أصول الفقه"، انظر شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
6 واسمه: "القواطع في اصول الفقه"، لأبي المظفر، منصور بن محمد، السمعاني، المتوفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1357".

(1/298)


الطلاق بتكرار الدخول كما في كلما.
والحق: أن عدم التكرار لا ينافي العموم، وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام.
وقال صاحب "اللباب"1 من الحنفية، وأبو زيد في "التقويم": كلمة أي نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة، ألا ترى إلى قوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ولم يقل يأتوني، لو قال لغيره: أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد، فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم بقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه جميعًا عتقوا، لعموم فعل الضرب، وصرح إلكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم فقال: وأما أي فهي اسم مفرد يتناول جزءًا من الجملة المضافة، قال الله سبحانه وتعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فجاء به واحد وقال: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2، وصرح القاضي حسين، والشاشي أنه لا فرق بين الصورتين المذكورتين، وأن العبيد يعتقون جميعًا فيهما وجزم ابن الهمام في "التحرير"3 بأنها في الشرط والاستفهام ككل مع النكرة، وكالبعض مع المعرفة وهو المناسب لما "قرره"* النحاة فيها فإن الفرق بين قول القائل: أي رجل تضرب اضرب، وبين أي "الرجلين"** تضرب اضرب ظاهر لا يخفى.
الفرع الخامس:
النكرة في النفي فإنها تعم وذلك لوجهين:
الأول: أن الأنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد تكذيبه قال: ما أكلت اليوم شيئا، فذكرهم هذا النفي عن تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضًا له فلو كان قوله: ما أكلت اليوم شيئًا لا يقتضي العموم لما تناقضا؛ لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي.
الوجه الثاني: أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا: لا إله إلا الله نفيًا لجميع الآلهة سوى الله سبحانه وتعالى، فتقرر بهذا أن النكرة المنفية بما أو لن أو لم أو ليس أو
__________
* في "أ": جوزه.
** في "أ": الرجل.
__________
1 هو الإمام، جلال الدين مطهر بن الحسن، ويقال المطهر بن الحسن اليزدي، أبو سعد، المتوفى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة هـ، وله شرح على مختصر القدوري "الكتاب" سماه "اللباب"، وهو في مجلدين، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1632". وهو مطبوع.
2 جزء من الآية "7" من سورة الكهف.
3 واسمه "التحرير" في أصول "الفقه" للعلامة كمال الدين الشهير بابن الهمام، المتوفى سنة إحدى وستين وثمانمائة هـ، وهو مجلد، رتب على مقدمة وثلاث مقالات، جمع فيه علمًا جمًّا وله شروح كثيرة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 358".

(1/299)


لا مفيدة للعموم، وسواء دخل حرف النفي على فعل نحو: ما رأيت رجلًا، أو على الاسم نحو: لا رجل في الدار، ونحو ما أحد قائمًا وما قام أحد.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله: ما جاءني أحد، وما جاءني من أحد، وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس، فيما جاءني رجل، وما جاءني من رجل، فرأوا تساوي اللفظين في الأول، وأن من زائدة فيه، وافتراق المعنى في الثاني؛ لأن قوله: ما جاءني رجل يصلح أن يراد به الكل، وأن يراد به رجل واحد، فإذا دخلت من أخلصت النفي للاستغراق.
وقال إمام الحرمين الجويني: هي للعموم ظاهرًا عند تقدير من، فإن دخلت من كانت نصًّا، والمشهور في علم النحو الخلاف بين سيبويه والمبرد، فسيبويه قال: إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول من، والمبرد قال: إنه مستفاد من لفظ من؛ والحق ما قاله سيبويه، وكون من تفيد النصوصية بدخولها، لا ينافي الظهور الكائن قبل دخولها.
قال أبو حيان1: مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد، وما جاءني من رجل؛ من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس، وهذا هو الصحيح. انتهى.
ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول من لما كان نحو قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة} 2 و{لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 3 مقتضيًا للعموم، وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته فلا نطول بذكره.
واعلم: أن حكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي، وما خرج عن ذلك من الصور فهو لنقل العرف له عن الوضع اللغوي.
الفرع السادس:
لفظ معشر ومعاشر وعامة، وكافة وقاطبة، وسائر من صيغ العموم في مثل قوله تعالى:
__________
1 هو محمد بن يوسف بن علي، الغرناطي، الأندلسي، أثير الدين، أبو حيان، من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة هـ في القاهرة، بعد أن كف بصره، من آثاره: "البحر المحيط - طبقات نحاة الأندلس". ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 145" إيضاح المكنون "1/ 24". ذيل تذكرة الحفاظ "23" معجم المؤلفين "12/ 130".
2 جزء من الآية "3" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "48" من سورة البقرة.

(1/300)


{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْس} 1 و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 2 وجاءني القوم عامة، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} و"ارتدت العرب قاطبة"4 وجاءني سائر الناس إن كانت مأخوذة من سور البلد وهو المحيط بها كما قاله الجوهري5، وإن كانت من أسأر بمعنى أبقى فلا تعم.
وقد حكى الأزهري6 الاتفاق على أنها مأخوذة من المعنى الثاني، وغلطوا الجوهري.
وأجيب عن الأزهري بأنه قد وافق الجوهري على ذلك السيرافي في "شرح كتاب سيبويه"7 وأبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب"8 وابن بري وغيرهم والظاهر أنها للعموم
__________
1 جزء من الآية "33" من سورة الرحمن.
2 أخرجه البخاري من حديث عائشة في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3711". ومسلم، كتاب الاجتهاد، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" "1759". وأبو داود، كتاب الخراج والإمارة، باب صفايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "2969". والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة "6/ 300". وأحمد في والإمارة "1/ 9". وابن حبان في صحيحه "4823".
3 جزء من الآية "36" من سورة التوبة.
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان باب كفر المرتدين بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم "32". والبخاري في الزكاة باب وجوب الزكاة "1399"، وأبو داود في الزكاة باب وجوبها "1556". والترمذي في الإيمان باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "2607". والنسائي في الزكاة باب مانع الزكاة "2442" "5/ 14".
5 هو إسماعيل بن حماد، أبو نصر بن حماد التركي، الأتراري، أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وهو أول من حاول الطيران ومات في سبيله، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، من آثاره: "الصحاح". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 80" الأعلام "1/ 313"، شذرات الذهب "3/ 142".
6 هو محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة، الأزهري، أبو منصور، العلامة اللغوي، الشافعي، كان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة، ثبتًا، دينًا، من آثاره: "تهذيب اللغة" "التفسير" "تفسير ألفاظ المزني" "علل القراءات"، توفي سنة سبعين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 315"، هدية العارفين "2/ 49"، شذرات الذهب "3/ 72".
7 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد، العلامة، إمام النحو، صاحب التصانيف، من آثاره: "ألفات القطع والوصل" "الإقناع" "أخبار النحاة".
وله كتاب يسمى: "شرح كتاب سيبويه"، وهو شرح أعجب المعاصرين له، حتى حسده الفارسي لظهور مزاياه على تعليقته التي علقها عليه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 247"، كشف الظنون "2/ 1427"، شذرات الذهب "3/ 65".
8 هو موهوب بن أحمد بن محمد، الإمام العلامة، اللغوي النحوي أبو منصور، إمام الخليفة المقتفى، ولد سنة ست وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المعرب" و"التكملة في لحن العامة"، توفي سنة أربعين وخمسمائة هـ.
وله كتاب: "شرح أدب الكاتب"، طبع بمصر سنة "1350" هـ مصدرًا بمقدمة بليغة وافية لشيخ الأدب مصطفى صادق الرافعي، وأدب الكاتب لأبي محمد عبد الله بن مسلم، المعروف، بابن قتيبة النحوي، المتوفى سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 89" هدية العارفين "2/ 483"، كشف الظنون "1/ 48".
9 هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري، المقدسي، ثم البصري، النحوي، الشافعي، أبو محمد، ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "جواب المسائل العشر" "حواش على الصحاح" توفي سنة اثنتين وثمانيين وخمسمائة هـ.ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 137" الكامل لابن الأثير "9/ 175".

(1/301)


وإن كانت بمعنى الباقي؛ لأن المراد بها شمول ما "دلت"* عليه سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي كما نقول: اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين، وخالف في ذلك القرافي والقاضي عبد الوهاب.
الفرع السابع:
الألف واللام الحرفية لا الاسمية، تفيد العموم إذا دخلت على الجمع، سواء كان سالمًا أو مكسرًا، وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة، وكذا إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب، وقوم ورهط، وكذا إذا دخلت على اسم الجنس
وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة:
الأول: أنه إذا كان هناك معهود حمل على العهد، فإن لم يكن حملت على الاستغراق، واليه ذهب جمهور أهل العلم.
الثاني: أنها تحمل على الاستغراق إلا أن يقوم دليل على العهد.
الثالث: أنها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استغراق، وحكاه صاحب "الميزان"1، عن أبي علي الفارسي وأبي هاشم.
والراجح المذهب الأول. وقال ابن الصباغ هو إجماع الصحابة.
قال في "المحصول" مستدلًّا على هذا المذهب: لنا وجوه.
الأول: أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأئمة من قريش" 2، والأنصار سلموا تلك الحجة، ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأئمة من قريش" ، لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين.
__________
* في "أ": دخلت.
__________
1 صاحب "ميزان الأصول في نتائج العقول" في أصول الفقه، هو الشيخ الإمام علاء الدين، شمس النظر، أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، الحنفي، الأصولي، المتوفى سنة ثلاثة وخمسين وخمسمائة. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1916".
2 أخرجه البيهقي من حديث أنس بن مالك، كتاب قتال أهل البغي، باب الأئمة من قريش "8/ 144". وأحمد في مسنده "3/ 183". والحاكم في المستدرك "4/ 75"، وسكت عنه الذهبي. وأبو يعلى في مسنده "3644". والطبراني في الأوسط "6606".

(1/302)


فال: الوجه الثاني: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق، أما أنه يؤكد فكقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1 وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع.
"الوجه الثالث"*: الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار "بهما"** معرفة كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل معلوم للمخاطب، فأما الصرف إلى ما دون فإنه لا يفيد المعرفة؛ لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولًا.
قال: الوجه الرابع: أنه يصح استثناء أي واحد كان منه "ذلك"***.
وذلك يفيد العموم على ما تقدم. وممن حكى إجماع الصحابة على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في "التحرير"، وحكى أيضًا إجماع أهل اللغة على صحة الاستثناء.
قال الزركشي في "البحر": وظاهر كلام الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه، ونقله ابن القشيري عن المعظم، وصاحب "الميزان" عن أبي بكر السراج النحوي2، فقال: إذا تعارض جهة العهد والجنس يصرف إلى الجنس، وهذا هو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع قالا لأن الجنس يدخل تحته العهد، والعهد لا يدخل تحت الجنس، وروي عن إمام الحرمين الجويني أنه مجمل؛ لأن عمومه ليس من صيغته، بل من قرينة نفي المعهود فتعين الجنس؛ لأنه لا يخرج عنها وهو قول ابن القشيري.
قال إلكيا الهراس3: إنه الصحيح؛ لأن الألف واللام للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية، فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليهما. انتهى.
والكلام في هذا البحث يطول جدًّا فقد تكلم فيه أهل الأصول، وأهل النحو، وأهل البيان، بما هو معروف، وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق وتعيين الراجح من المرجوح، ومن أمعن
__________
* ما قوسين ساقط من "أ". ومكانها: أما أنه بعد التأكيد وهو تكرار.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الآية "30" من سورة الحجر و"73" من سورة ص.
2 هو: محمد بن السري، البغدادي، النحوي، أبو بكر، صاحب المبرد، انتهى إليه علم اللسان، من آثاره: "أصول العربية" "شرح سيبويه" "احتجاج القراء" وغيرها، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 483"، شذرات الذهب "2/ 273".
3 هو إليكا الطبري المتقدم ترجمته في الصفحة "98".

(1/303)
النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على الاستغراق، إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد، وهو ظاهر في تعريف الجنس.
وأما تعريف الجمع مطلقًا واسم الجمع فكذلك أيضًا؛ لأن التعريف يهدم الجمعية ويصيرها للجنس، وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل.
الفرع الثامن:
تعريف الإضافة: وهو من مقتضيات العموم، كالألف واللام، من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع، نحو جاءني ركب المدينة، أو اسم جنس نحو {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1، ومنعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها، وصاعها، وقد صرح الرازي: بأن المفرد المضاف يعم مع اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم.
قال الصفي الهندي في "النهاية"2: وكون المفرد المضاف للعموم وإن لم يكن منصوصًا "لهم"*، لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي العموم.
والحق: أن عموم الإضافة أقوى، ولهذا لو حلف لا يشرب الماء حنث بشرب القليل منه، لعدم تناهي أفراده، ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث إلا بكله. انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس للعموم ما وقع من الخلاف فيمن قال: زوجتي طالق، وله أربع زوجات، فإن من قال: إنها لا تطلق إلا واحدة استدل بأن العرف قد خص هذه الصورة وأمثالها عن الموضوع اللغوي، على أنه قد حكى الروياني في "البحر" عن ابن عباس وأحمد بن حنبل أنها تطلق الأربع جميعًا، بخلاف ما عدا هذه الصورة وأمثالها، فإنه يحمل على العموم، كما لو قال: مالي صدقة، ومن هذا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} 3 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 4.
الفرع التاسع:
الأسماء الموصولة، كالذي، والتي، والذين، واللات، وذو الطائية5،
----------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق