المسألة
الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز
التخصيص بالتمييز نحو: عندي له رطل ذهبًا، وعندي له عشرون درهمًا، فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس، أو الأنواع، وإذا جاء بعد جمل نحو: عندي له ملء هذا أو عندي له رطل فإنه يعود إلى الجميع، وظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق. (1/3 المسألة التاسعة عشرة: "التخصيص" * بالمفعول له والمفعول معه فإن كل واحد منهما يقيد الفعل بما تضمنه من المعنى، فإن المفعول له معناه التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الفعل، نحو ضربته تأديبًا، فيفيد تخصيص ذلك الفعل بتلك العلة، والمفعول معه معناه تقييد الفعل بتلك المعية نحو ضربته وزيدًا، فيفيد أن ذلك الضرب الواقع على المفعول به مختص بتلك الحالة التي هي المصاحبة بين ضربه وضرب زيد. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". (1/382) المسألة الموفية عشرون: التخصيص بالفعل ... المسألة الموفية عشرين: التخصيص بالعقل فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة، وهذا شروع في المخصصات المنفصلة. وقد حصروها في ثلاثة أقسام: العقل، والحس، والدليل السمعي. قال القرافي: والحصر غير ثابت، فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك: رأيت الناس، فما رأيت أفضل من زيد، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس، وكذا التخصيص بقرائن الأحوال، كقولك لغلامك: ائتني بمن يخدمني، فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك، ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة يجعل التخصيص بالقياس مندرجًا تحت الدليل السمعي. وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل: فذهب الجمهور إلى التخصيص به. وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به. قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل، ولعله لم يعتبر بخلاف من "شذ"*. قال الفخر الرازي في "المحصول": إن التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته كقوله تعالى: __________ * في "أ": شك وهو تحريف. (1/382) {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقًا لنفسه، وبنظره كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2 فإن تخصيص الصبي والمجنون، لعدم الفهم في حقهما، ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل. والأشبه عندي: أنه لا خلاف في المعنى، بل في اللفظ، أما أنه لا خلاف في المعنى، فلأن اللفظ، لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور، والعقل منع من ثبوته في بعض الصور، فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل، فيلزم من ذلك صدق النقيضين وهو محال، أو يرجح النقل على العقل وهو محال؛ لأن العقل أصل للنقل، فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معًا، وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم، وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل. وأما البحث اللفظي: فهو أن العقل هل يسمى مخصصًا أم لا؟ فنقول: إن أردنا بالمخصص: الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته، فالعقل غير مخصص؛ لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم "والعقل"* يكون دليلًا على تحقق تلك الإرادة، فالعقل يكون دليل المخصص، لا نفس المخصص، ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصًا للكتاب، ولا السنة مخصصة للسنة؛ لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ. انتهى. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت، واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل، وليس المراد أن للعقل صلة لصيغة نازلة بمنزلة المتصل بالكلام، ولكن المراد به ما قدمناه أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها. وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع، فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به، وصار الحكم للشرع، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه فيجوز التخصيص به نحو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} فقلنا: المراد ما خلا الصفات، لدلالة العقل على ذلك. انتهى. __________ * في "أ": والنقل. __________ 1 جزء من الآية "16" من سورة الرعد والآية "62" من سورة الزمر. 2 جزء من الآية "97" من سورة آل عمران. (1/383) ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته، فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية، أما الصورة الأولى: فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة. قال القاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، وابن القشيري، والغزالي وإلكيا الطبري، وغيرهم: إن النزاع لفظي؛ إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعًا، لكن الخلاف في تسميته تخصيصًا، فالخصم لا يسميه؛ لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص، وهو الإرادة لا العقل، وكذا قال الأستاذ أبو منصور: إنهم "أجمعوا"* على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم، واختلفوا في تسميته تخصيصًا. وقيل: الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فمن منع من تخصيص العقل، فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ولا يقبح، وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل. وقد أنكر هذا الأصفهاني، وهو حقيق بأن يكون منكرًا فالكلام في تلك المسألة، غير الكلام في هذه المسألة كما سبق تقريره. وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها راجعة إلى اللفظ، لا إلى المعنى، وقد عرفت أن الخلاف لفظي فلا نطيل بذكرها. قال الرازي في "المحصول": فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به، قلنا نعم؛ لأن من سقطت رجلاه عنه سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل. انتهى. وأجاب غيره: بأن النسخ إما بيان مدة الحكم، وإما رفع الحكم على التفسيرين، وكلاهما محجوب عن نظر العقل، بخلاف التخصيص، فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة. وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل على دليل الشرع، بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه المانع قطعي، وهو دليل العقل. __________ * في "أ": احتجوا. (1/384) المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس فإذا ورد الشرع بعموم يشهد الحس باختصاصه ببعض ما اشتمل عليه العموم، كان ذلك مخصصًا للعموم، قالوا: ومنه قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} 1 مع أنها لم تؤت بعض الأشياء، التي من جملتها ما كان في يد سليمان، كذلك قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2 وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 3. قال الزركشي: وفي عد هذا نظر؛ لأنه من العام الذي أريد به الخصوص وهو خصوص، ما أوتيته هذه ودمرته الريح لا من العام المخصوص. قال: ولم يحكوا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل، وينبغي طرده. ونازع العبدري في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل؛ لأن أصل العلوم كلها الحس. ولا يخفاك أن ما ذكره الزركشي في دليل الحس يلزمه مثله في دليل العقل، فيقال له: إن قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 4 وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} 5 من العام الذي أريد به الخصوص، لا من العام المخصوص، وإلا فما الفرق بين شهادة العقل وشهادة الحس. __________ 1 جزء من الآية "23" من سورة النمل. 2 جزء من الآية "25" من سورة الأحقاف. 3 جزء من الآية "57" من سورة القصص. 4 جزء من الآية "62" من سورة الزمر. (1/385) المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالنسبة المطهرة والتخصيص لهما مدخل ... المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب. وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه، وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ، ولا يكون إلا بالسنة، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. ويجاب عنه: بأن كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبينًا لا يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب، وقد وقع ذلك، والوقوع دليل الجواز، فإن قوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 __________ 1 جزء من الآية "44" من سورة النحل. 2 جزء من الآية "228" من سورة البقرة. (1/385) يعم الحوامل وغيرهن فخص أولات الأحمال بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 وخص منه أيضًا المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2 وهكذا قد خصص عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3 بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} 4 ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز. وأيضًا ذلك الدليل الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة، وهو قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 5، وقد جعل ابن الحاجب في "مختصر المنتهى" الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخرًا وإلا فالعام ناسخ، وهذه مسألة أخرى سيأتي6 الكلام فيها، ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب. __________ 1 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق. 2 جزء من الآية "49" من سورة الأحزاب. 3 جزء من الآية "234" من سورة البقرة. 4 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق. 5 جزء من الآية "89" من سورة النحل. 6 انظر صفحة: "388". (1/386) جواز تخصيص السنة بالكتاب: وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، فكذلك يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب، عند جمهور أهل العلم، وعن أحمد بن حنبل روايتان، وعن بعض أصحاب الشافعي المنع. قال ابن برهان: وهو قول بعض المتكلمين. قال مكحول1 ويحيى بن كثير2: السنة تقضي على الكتاب، والكتاب لا يقضي على السنة، ولا وجه للمنع، فإن استدلوا بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} 3 فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب، مع كونه معارضًا بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم. __________ 1 لعله محكول الشامي، أبو عبد الله، وقيل أبو مسلم، الدمشقي، الفقيه، الحافظ، روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن عدة من الصحابة مرسلا، وروى عن طائفة من قدماء التابعين، وحدث عنه الزهري وربيعة الرأي، وعداده من أواسط التابعين، توفي بعد سنة اثنتي عشرة ومائة هـ، سير أعلام النبلاء "5/ 155"، تهذيب التهذيب "10/ 289"، الجرح والتعديل "8/ 407". 2 لعله يحيى بن كثير بن درهم، أبو غسان العنبري، الحافظ، الثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة ست ومائتين هـ، ا.هـ، سير أعلام النبلاء "9/ 538"، تهذيب التهذيب "11/ 226". ملاحظة: اعلم: أن الإمام الشوكاني رحمه الله ذكر هذا القول في كتابه مرتين، ففي المرة الأولى نسبه ليحيى بن أبي كثير، ولعلها الصواب والله اعلم؛ لأنه كان على درجة عالية في الحديث، حتى قدمه بعضهم على الزهري، وفي المرة الثانية نسبة ليحيى بن كثير والله أعلم بالصواب، انظر "97 جـ1". 3 جزء من الآية "44" من سورة النحل. (1/386) جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة: ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعًا، كذا قال الأستاذ أبو منصور، وقال الآمدي: لا أعرف فيه خلافا، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: لا خلاف في ذلك إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين. قال ابن كج: لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجب العلم، كما أن ظاهر الكتاب يوجبه. وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها. (1/387) جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة: ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة، وهو مجمع عليه، إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن داود أنهما يتعارضان، ولا يُبنى أحدهما على الآخر، ولا وجه لذلك. (1/387) جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد: واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد. فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقا، وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقا، وحكاه الغزالي في "المنخول" عن المعتزلة، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء، ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق. وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي، متصلًا كان أو منفصلًا كذا حكاه صاحب "المحصول" وابن الحاجب في مختصر "المنتهى" عنه. وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في "التلخيص"، وحكى غير هؤلاء عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص من غير تقييد لذلك يكون المخصص الأول قطعيا. وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل، سواء كان قطعيًّا أو ظنيًّا، وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلًا لم يجز وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف (1/387) وحكي عنه أنه قال: يجوز التعبد بوروده، ويجوز أن يرد لكنه لم يقع. وحكي عنه أيضًا أنه لم يرد، بل ورد المنع، ولكن الذي اختاره لنفسه هو الوقف، كما حكى ذلك عنه الرازي في "المحصول". واستدل في "المحصول" على ما ذهب إليه الجمهور: بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم. واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة، فإنهم خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} 1 بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" 2، وخصوا التوارث بالمسلمين عملًا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يرث المسلم الكافر" 3. وخصوا قوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 4 بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس5 وغير ذلك كثير. وأيضًا يدل على جواز التخصيص، دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبًا، وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتمًا، ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية. وقد استدل المانعون مطلقًا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح فقال عمر: "كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة"6 يعني قوله: {أَسْكِنُوهُن} 7. __________ 1 جزء من الآية "11" من سورة النساء. 2 تقدم تخريجه بلفظ "نحن معاشر الأنبياء..." في الصفحة "301". 3 أخرجه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "6764". ومسلم في الفرائض في أوله "1614". وأبو داود في الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر؟ "3909". والترمذي في الفرائض: باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر "2107". والنسائي في الكبرى في الفرائض كما في التحفة "1/ 56". وعبد الرزاق في المصنف "9852" والإمام أحمد في مسنده "5/ 208" وابن الجارود في المنتقى "954". 4 جزء من الآية "5" من سورة التوبة. 5 والخبر هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال:" ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . أخرجه مالك في الموطأ "1/ 278" وأخرج البخاري بنحو هذه الرواية في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "3156-3157". والترمذي في السير باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس "1586". 6 أخرجه مسلم في الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها "1480". والبيهقي في سننه كتاب النفقات باب من قال: لها النفقة "7/ 475". والدارقطني في سننه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء "4/ 27" رقم "73". 7 جزء من الآية "6" من سورة الطلاق. (1/388) وأجيب عن ذلك: بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث، لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية، فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال: "كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة". ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ: "قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا قول امرأة لعلها حفظت أو نسيت"1. فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت، ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته. قال ابن السمعاني: إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها. أما ما أجمعوا عليه كقوله: "لا ميراث لقاتل" 2 و"لا وصية لوارث" 3 فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر، لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها. وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، كذلك يجوز "تخصيص العموم المتواتر من السنة بأخبار الآحاد، ويجري فيه الخلاف السابق في تخصيص عموم القرآن السابق كما صرح القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وغيرهما. __________ 1 انظر الحاشية رقم "6" في الصفحة السابقة. 2 أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. في كتاب الديات، باب القاتل لا يرث "2645" بلفظ "القاتل لا يرث". والترمذي في الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل "2109" وقال: حديث لا يصح. والدارقطني "4/ 96" ونقل عن النسائي قوله: إسحاق متروك الحديث. وأخرجه النسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف "9/ 12286". ولكن للحديث روايات أخرى عن عمر وابنه رضي الله عنهما وعن ابن عباس أيضًا يتقوى بها ولذا حسنه السيوطي في فيض القدير "5/ 377" ونقل المناوي في فيض القدير عن ابن عبد البر قوله: إسناده صحيح من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالاتفاق وله شواهد كثيرة. انظر الدارقطني "4/ 95-96" والتلخيص الحبير "3/ 84". 3 أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنه في كتاب الفرائض "4/ 97-98" والبيهقي في سننه في كتاب الوصايا باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين "6/ 263" وساقه الزيلعي في نصب الراية من عدة طرق وروايات فانظرها هناك "4/ 404" وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث "2713". وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث "2870" وقال ابن حجر في التلخيص الحبير "3/ 92". وهو حسن الاسناد. (1/389) وكما يجوز تحصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز"* تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي. وقد سبق1 الكلام في القراءات في مباحث الكتاب. وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من السنة، بما ثبت من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا لم يدل دليل على اختصاصه به، كما يجوز بالقول. وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تقدم البحث في فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي تقريره في مقصد السنة2، بما يغني عن الإعادة. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 انظر صفحة: "86". 2 انظر صفحة: "102". (1/390) التخصيص بموافقة العام وبعطف الخاص على العام ... التخصيص بموافق العام وبعطف الخاص على العام: وأما التخصيص بموافق العام فقد سبق1 الكلام عليه في باب العموم، وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص، وعلى العام الوارد على سبب خاص، فهذه المباحث لها تعلق بالعام وتعلق بالخاص. __________ 1 انظر صفحة: "285". (1/390) المسألة الثانية والعشرون: في التخصيص بالقياس ... المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس ذهب الجمهور إلى جوازه. قال الرازي في "المحصول": وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ومالك، وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا. وحكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى" عن هؤلاء، وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل، وكذا حكى ابن الهمام في "التحرير". وحكى القاضي عبد الجبار عن الحنابلة عن أحمد روايتين. (1/390) وحكاه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي، عن ابن سريج. وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقًا. ونقله الشيخ أبو حامد وسليم الرازي، عن أحمد بن حنبل، وقيل: إن ذلك إنما هو في رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه. ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني، عن طائفة من المتكلمين، وعن الأشعري. وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل ذلك بنص قطعي، كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في "التقريب"1، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ولم يقيدها بكون النص قطعيًّا، وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين. وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل، وإلا فلا، كذا حكاه عنه "صاحب" المحصول وغيره. وذهب الإصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جليًّا وإلا فلا، كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي، وحكاه الشيخ أبو حامد أيضًا عن إسماعيل بن مروان2 من أصحاب الشافعي. وحكاه الأستاذ أبو منصور، عن أبي القاسم الأنماطي3، ومبارك بن أبان4، وأبي علي الطبري. وحكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى"، عن ابن سريج، والصحيح عنه ما تقدم. وذهب الغزالي إلى أنه: إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى، فإن تعادلا فالوقف. واختاره المطرزي5، ورجحه الفخر الرازي، واستحسنه القرافي، والقرطبي. وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعًا عليها جاز التخصيص به، وإلا فلا. __________ 1 تقدم الكلام عنه في الصفحة "159". 2 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر. 3 هو الإمام عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي، الفقيه، الأنماطي، أبو القاسم الأحول، شيخ الشافعية، توفي سنة ثمانٍ وثمانين ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 429"، شذرات الذهب "2/ 198". 4 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر. 5 هو ناصر بن أبي المكارم عبد السيد ين على المطرزي، كان إمامًا في الفقه واللغة العربية، من آثاره: "المعرب" "الإيضاح" "المقامات"، كان له: خليفة الزمخشري، ولد، سنة ست وثلاثين وخمسمائة هـ، توفي سنة عشر وستمائة هـ، ا. هـ. الجواهر المضية "3/ 528"، سير أعلام النبلاء "22/ 28" الفوائد البهية "218". (1/391) وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما. أحدهما: أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من "عام وإلا فلا. والثاني: أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من غير"* ذلك العام وإلا فلا. وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: القياس إن كان جليًّا مثل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 1 جاز التخصيص به الإجماع، وإن كان واضحًا وهو المشتمل على جميع معنى الأصل، كقياس الربا، فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم وإن كان خفيًّا، وهو قياس علته الشبه، فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به، ومنهم من شذ فجوزه. قال الأستاذ أبو منصور، والأستاذ أبو إسحاق: أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي. واختلفوا في الخفي على وجهين، والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضًا، وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني، وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع. واحتج الجمهور: بأن العموم والقياس دليلان متعارضين والقياس خاص فوجب تقديمه. وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم: لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى، وأنه باطل؛ لأن هذا التقديم إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر، فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعًا فلا. وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه زائفة لا طائل تحتها. وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس، فمن منع من العمل به مطلقًا منع من التخصيص به، ومن منع من بعض أنواعه دون بعض منع من التخصيص بذلك البعض، ومن قبله مطلقًا خصص به مطلقًا. والتفاصيل المذكورة هنا من جهة القابلين له مطلقًا، إنما هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلًا لدلالة العموم. والحق الحقيق بالقبول: أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه معمول به لقوة دلالته، وبلوغها إلى حد يوازن النصوص، وكذلك يخصص بما كانت علته منصوصة، أو مجمعًا عليها، أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص، وأما العلة المجمع عليها، فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه، وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس، فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله. وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس، على وجه يتضح به الحق اتضاحًا لا يبقى عنده ريب لمرتاب. __________ * ما بين قوسين ساقط من "1". __________ 1 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء. (1/392) المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم ذهب القائلون بالعمل بالمفهوم إلى جواز التخصيص به. قال الآمدي: لا أعرف خلافًا في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم، وسيأتي1 الكلام على المفاهيم والمعمول به منها، وغير المعمول به، وقد تقدم الكلام على التخصيص بمفهوم اللقب. وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الحنفية، وابن سريج المنع من التخصيص بالمفهوم، وذلك مبني على مذهبهم في عدم العمل بالمفهوم. قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، في "شرح الإلمام": قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم، وفي كلام صفي الدين الهندي أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة، أما مفهوم الموافقة فاتفقوا على التخصيص به. قال الزركشي: والحق أن الخلاف ثابت فيهما. أما مفهوم المخالفة، فكما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، كما في قوله: "في أربعين شاةً شاةٌ" 3 ثم قال: "في سائمة الغنم الزكاة" 4 فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم فيخصص به، عموم الأول، وذكر أبو الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به ومثل بما ذكرنا. __________ 1 صفحة: "36 جـ2". 2 انظر صفحة: "353". 3 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مطولًا برقم "2270" وأبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1572". 4 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم "1454"، والنسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًا والنسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا اخذ المصدق سنًا دون سن "1800" وأبو داود: في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة "1567". وابن خزيمة برقم "2261". (1/393) وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إذا ورد العام مجردًا على صفة ثم أعيدت الصفة متأخرة عنه كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1 مع قوله قبله أو بعده "اقتلوا أهل الأوثان من المشركين" كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق، ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب، وتخصيص ما بعده من العموم. انتهى. وإنما حكى الصفي الهندي الإجماع على التخصيص بمفهوم الموافقة؛ لأنه أقوى من مفهوم المخالفة، ولهذا يسميه بعضهم دلالة النص، وبعضهم يسميه القياس الجلي، وبعضهم يسميه المفهوم الأولى، وبعضهم يسميه فحوى الخطاب، وذلك كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 2 وقد اتفقوا على العمل به، وذلك يستلزم الاتفاق على التخصيص به. والحاصل: أن التخصيص بالمفاهيم فرع العمل بها، وسيأتي3 بيان ما هو الحق فيها إن شاء الله تعالى __________ 1 جزء من الآية "5" من سورة التوية. 2 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء. 3 انظر صفحة: "36 جـ2". (1/394) المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع قال الآمدي: لا أعرف فيه خلافًا، وكذلك حكى الإجماع على جواز التخصيص بالإجماع الأستاذ أبو منصور. قال: ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره، وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع. وقال ابن القشيري: إن من خالف في التخصيص بدليل العقل يخالف هنا. وقال القرافي: الإجماع أقوى من النص الخاص؛ لأن النص يحتمل نسخه، والإجماع لا ينسخ؛ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي. وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} 1. قال: وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة. ومثله ابن حزم بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} 2، واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلسًا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، قال: والجزية بالألف واللام، فعلمنا أنه أراد جزية معلومة. ومثله ابن الحاجب بآية حد القذف، وبالإجماع على التنصيف للعبد. والحق: أن المخصص هو دليل الإجماع، لا نفس الإجماع كما تقدم3. __________ 1 جزء من الآية "9" من سورة الجمعة. 2 جزء من الآية "29" من سورة التوبة. 3 انظر صفحة: "394". (1/394) المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها، وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها. قال الصفي الهندي: وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجب أو حرم شيئًا بلفظ عام، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك العادة حتى يقال: المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه، أو بفعله أو لا تؤثر في ذلك بل هو باق على عمومه متناول لذلك البعض ولغيره. الثاني: أن تكون العادة جارية بفعل معين، كأكل طعام معين مثلا، ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره، كما لو قال: نهيتكم عن أكل الطعام فهل يكون النهي مقتصرًا على ذلك الطعام بخصوصه أم لا، بل يجري على عمومه ولا تؤثر عاداتهم. قال والحق: أنها لا تخصص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عام، والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة له. انتهى. وقد اختلف كلام أهل الأصول؛ وصاحب "المحصول" وأتباعه تكلموا على الحالة الأولى، واختار فيها أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عدم منعه عنها فيخصص بها، والمخصص في الحقيقة هو تقريره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن علم عدم جريانها ولم يخصص بها إلا أن يجمع على فعلها، فيكون تخصيصًا بالإجماع. وأما الآمدي وابن الحاجب فتكلموا على الحالة الثانية. قال الرزكشي: وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى، فتفطن لذلك، فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام الرازي في "المحصول" وكلام الآمدي وابن الحاجب ظنًّا منه أنهما تواردا على محل واحد وليس كذلك، وممن صرح بأنهما حالتان القرافي في "شرح (1/395) التنقيح"، وفرق بأن العادة السابقة على العموم تكون مخصصة، والعادة الطارئة بعد العموم لا يقضي بها على العموم. انتهى. والحق: أن تلك العادة إن كانت مشتهرة في زمن النبوة، بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصصة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يخاطب الناس بما يفهمون، وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم، وإن لم تكن العادة كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها. والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها، ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع، فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش. أما لو قال المخصص بالعادة الطارئة إنه يخصص بها ما حدث بعد أولئك الأقوام المصطلحين عليها من التحاور في الكلام، والتخاطب بالألفاظ، فهذا مما لا بأس به، ولكن لا يخفى أن بحثنا في هذا العلم إنما هو عن المخصصات الشرعية، فالبحث عن المخصصات العرفية لما وقع التخاطب به من العمومات الحادثة من الخلط لهذا الفن بما ليس منه والخبط في البحث بما لا فائدة فيه. (1/396) المسألة السابعة والعشرون: في التخصيص بمذهب الصحابي ذهب الجمهور إلى أنه لا يخصص بذلك. وذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه يجوز التخصيص به، على خلاف في ذلك بينهم، فبعضهم يخصص به مطلقا، وبعضهم يخصص به إن كان هو الراوي للحديث. قال الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، وسليم الرازي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إنه يجوز التخصيص بمذهب الصحابي إذا لم يكن هو الراوي للعموم، وكان ما ذهب إليه منتشرًا ولم يعرف له مخالف في الصحابة؛ لأنه إما إجماع أو حجة مقطوع بها على الخلاف. وأما إذا لم ينتشر، فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعا، وإن لم يعرف له مخالف، فعلى قول الشافعي الجديد ليس بحجة، فلا يخصص به، وعلى قوله القديم هو حجة يقدم على القياس، وهل يخصص به العموم فيه وجهان. وأما إذا كان الصحابي الذي ذهب إلى التخصيص هو الراوي للحديث، فقد اختلف قول (1/396) الشافعي في ذلك، والصحيح عنه وعن أصحابه وعن جمهور أهل العلم، أنه لا يخصص به خلافًا لمن تقدم، والدليل على ذلك أن الحجة إنما هي في العموم، ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به. واستدل القائلون بجواز التخصيص، بأن الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعمل بخلافه إلا لدليل قد ثبت عنده يصلح للتخصيص. وأجيب عنه: بأنه قد يخالف ذلك لدليل في ظنه، وظنه لا يكون حجة على غيره، فقد يظن ما ليس بدليل دليلًا، والتقليد للمجتهد من مجتهد مثله لا يجوز، لا سيما في مسائل الأصول، فالحق عدم التخصيص بمذهب الصحابي، وإن كانوا جماعة ما لم يجمعوا على ذلك فيكون من التخصيص بالإجماع، وقد تقدم1 الكلام عليه __________ 1 انظر صفحة: "394". (1/397) المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق قد تردد قول الشافعي في ذلك، وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به، ومثله بقوله سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 1 وكلام الشافعي في "الرسالة" يقتضيه، فإنه بوب لذلك بابًا فقال: باب الصِّنف الذي قد بين سياقه معناه، وذكر قوله سبحانه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر} 2 قال: فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت} 3. قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، في "شرح الإلمام": نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص، قال: ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضًا، حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم، بناء على القرينة، والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم. قال: ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب، كما اشتبه على كثير من الناس، فإن التخصيص بالسبب غير مختار، فإن السبب وإن كان خاصًّا فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في "قوله تعالى"*: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4 ولا __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران. 2 و3 جزء من الآية "163" من سورة الأعراف. 4 جزء من الآية "38" من سورة المائدة. (1/397) ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين، أما التبيين ففي المجملات، وأما التعيين ففي المحتملات، وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره. انتهى. والحق: أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد، كان المخصص هو ما "اشتمل"* عليه من ذلك، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص. __________ * في "أ": اشتملت. (1/398) المسألة التاسعة والعشرون: في التخصيص بقضايا الأعيان وذلك كإذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبس الحرير للحكة1، وفي جواز التخصيص بذلك قولان للحنابلة. ولا يخفى أنه إذا وقع التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الإذن بالشيء، أو الأمر به، أو النهي عنه فهو من باب التخصيص بالعلة المعلقة على الحكم، ولا يجوز التخصيص بالاستصحاب، قال أبو الخطاب الحنبلي2: إنه لا يجوز التخصيص للعموم بالبقاء على حكم الأصل الذي هو الاستصحاب بلا خلاف. قال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": ذهب بعض ضعفاء المتأخرين إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال، قال: لأنه دليل يلزم المصير إليه ما لم ينقل عنه ناقل، فيجوز التخصيص به كسائر الأدلة. وهذا في غاية التناقض؛ لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم، فكيف يصح تخصيصه به! إذ معناه التمسك بالحكم لعدم دليل ينقل عنه، والعموم دليل ناقل. __________ 1 أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك بلفظ "رخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير من حكة كانت بهما". في كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها "2076". والبخاري في الجهاد، باب الحرير في الحرب "2921" والإمام أحمد في مسنده "3/ 255" وأبو يعلي "3148". والنسائي في الزينة، باب الرخصة في لبس الحرير "8/ 202". وابن حبان في صحيحه "5430". 2 هو محفوظ بن أحمد بن حسن العراقي، شيخ الحنابلة، أبو الخطاب، العلامة الورع، مولده، سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الهداية" "رءوس المسائل" "أصول الفقه"، توفي سنة عشر وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 348"، شذرات الذهب "4/ 27". (1/398) المسألة الموفية للثلاثون: في بناء العام على الخاص ... المسألة الموفية ثلاثين: في بناء العام على الخاص قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز، فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة، قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها، فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم، فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب، فإن تأخر عن وقت العمل بالعام فههنا يكون الخاص ناسخًا لذلك القدر الذي تناوله من أفراد العام. قال الزركشي في "البحر": وفاقًا، ولا يكون تخصيصًا لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعًا. وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به، ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فمن جوزه جعل الخاص بيانًا للعام، وقضى به عليه، ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص، كذا قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وسليم الرازي، قال: ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها، وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان، وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" وابن الصباغ في "العدة". قال الصفي الهندي: من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالمعتزلة، أحال المسألة، ومنهم من جوزهما، فاختلفوا فيه، فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم، أن الخاص مخصص للعام؛ لأنه وإن جاز أن يكون ناسخًا لذلك القدر من العام، لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ، وقد أمكن حمله عليه فتعين. ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام، وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل أو الاعتقاد بمقتضى العام، كان الخاص ناسخًا لذلك القدر الذي تناوله من العام؛ لأنهما دليلان، وبين حكميهما تنافٍ، فيجعل المتأخر ناسخًا للمتقدم "عند"* الإمكان، دفعًا للتناقض، قال: وهو ضعيف. انتهى. فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص، فعند الشافعية: يبنى العام على الخاص؛ لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون، والمتيقن أولى. __________ * في "أ": من. (1/399) وذهب أبو حنيفة، وأكثر أصحابه والقاضي عبد الجبار، إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف. وقال أبو بكر الرازي: إذا تأخر العام كان ناسخًا لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص. انتهى. والحق في هذه الصورة البناء. وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص، لكنه قبل وقت العمل به، فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ؛ إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، كالقاضي عبد الجبار، فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ، فتعين عليه البناء أو التعارض فيما تنافيا فيه. وجعل إلكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنيًّا على تأخير البيان فقال: من لم يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخًا للخاص. "هذه"* الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلومًا، فإن جهل تاريخهما، فعند الشافعي وأصحابه والحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والقاضي عبد الجبار أنه يبنى العام على الخاص. وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ، أو إلى ما يرجح أحدهما، على الآخر من غيرهما، وحكى نحو ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني والدقاق. والحق الذي لا ينبغي العدول عنه: في صورة الجهل البناء، وليس عنه مانع يصلح للتشبث به، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء، وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا، وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام، والأقوى أرجح، وأيضًا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص، وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام. وأيضًا قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ. والحاصل: أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة. وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا، وعلم التاريخ بينهما، فوجب تسليط المتأخر على السابق، كما لو كان المتأخر خاصًّا، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة، فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة. __________ * في "أ": وهذه. (1/400) وأيضًا في البناء جمع، وفي العمل بالعام ترجيح، والجمع مقدم على الترجيح. وأيضًا في العمل بالعام إهمال للخاص، وليس في التخصيص إهمال للعام كما تقدم. وسيأتي1 لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العمل"* إن شاء الله. "تم الجزء الأول بعون الله تعالى وفضله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تبارك وتعالى" __________ * في "أ": العام. __________ 1 انظر "2/ 53". (1/401) فهرس المحتويات: الموضوع الصفحة مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس 5 مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي 7 مقدمة التحقيق 9 مقدة الإمام الشوكاني 15 الفصل الأول: تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده 17 موضوع علم أصول الفقه 23 فائدته وثمرته 24 استمداد علم أصول الفقه 24 الفصل الثاني: في الأحكام 25 البحث الأول: في الحكم 25 البحث الثاني: في الحاكم 28 البحث الثالث: في المحكوم به 31 البحث الرابع: في المحكوم عليه وهو المكلف 36 الفصل الثالث: في المبادئ اللغوية 40 البحث الأول: عن ماهية الكلام 40 البحث الثاني: عن الواضع 41 البحث الثالث: عن الموضوع 45 البحث الرابع: عن الموضوع له 46 البحث الخامس: في الطريق التي يعرف بها الوضع 47 الفصل الرابع: في تقسيم اللفظ إلى مفرد ومركب 52 المسألة الأولى: في الاشتقاق 53 المسألة الثانية: في الترادف 56 المسألة الثالثة: في المشترك 57 المسألة الرابعة: في استعمال المشترك في أكثر من معنى 59 (1/402) الموضوع الصفحة المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز 62 البحث الأول: في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز 62 البحث الثاني: في حدهما 62 البحث الثالث: في الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها 63 البحث الرابع: المجاز في لغة العرب 66 البحث الخامس: في علاقات الحقيقة والمجاز 68 البحث السادس: في قرائن المجاز 70 البحث السابع: في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة 71 البحث الثامن: في عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز 74 البحث التاسع: في اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز، أيهما يرجح 76 البحث العاشر: في الجمع بين الحقيقة والمجاز 79 الخلاف في بعض حروف المعاني 80 المقصد الأول: في الكتاب العزيز الفصل الأول: فيما يتعلق بتعريفه 85 الفصل الثاني: في حكم المنقول آحادًا 86 الفصل الثالث: في المحكم والمتشابه من القرآن 90 الفصل الرابع: في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟ 91 المقصد الثاني: في السنة المطهرة البحث الأول: في معنى السنة لغة وشرعًا 95 البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع 96 البحث الثالث: في عصمة الأنبياء 98 البحث الرابع: في أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 102 البحث الخامس: في تعارض الأفعال 111 البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل 113 البحث السابع: في التقرير 117 البحث الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118 البحث التاسع: في حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118 البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها 119 البحث الحادي عشر: في الأخبار 119 (1/403) الموضوع الصفحة النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحًا 119 النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب 123 النوع الثالث: في تقسيم الخبر 127 النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه 128 القسم الأول: المتواتر 128 شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروري 130 القسم الثاني: الآحاد 133 أقسام الآحاد 137 شروط العمل بخبر الواحد 139 الشروط الراجعة إلى الراوي 139 الشروط الراجعة إلى مدلول الخبر 151 حكم زيادة الثقة 154 الشروط الراجعة إلى لفظ الخبر 155 الحال الأول: أن يرويه الراوي بلفظه 155 الحال الثاني: أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه 155 الحال الثالث: حكم حذف الراوي لبعض الخبر 159 الحال الرابع: حكم زيادة الراوي 161 الحال الخامس: اقتصار الراوي على أحد محتملي الخبر 161 الحال السادس: صرف الخبر إلى غير ظاهره 161 فصل: في ألفاظ الرواية من الصحابي 162 ألفاظ الرواية من غير الصحابي ومراتبها 166 المرتبة الأولى: أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ 166 المرتبة الثانية: القراءة وقول العلماء فيها 166 المرتبة الثالثة: الكتابة المقرونة بالإجازة 168 المرتبة الرابعة: المناولة 169 المرتبة الخامسة: الإجازة 170 فصل: في الحديث الصحيح 172 حكم الحديث المنقطع والمعضل 177 فصل: في طرق ثبوت العدالة 177 فرع: في الخلاف في عدالة المبهم 181 فرع آخر: الخلاف في قبول الجرح والتعديل من دون ذكر السبب 182 فرع ثالث: في تعارض الجرح والتعديل والجمع يبنهما 184 (1/404) الموضوع الصحفة فصل: في عدالة الصحابة 185 فرع: في التعريف بالصحابي 188 فرع آخر: في طرق معرفة الصحابي 189 المقصد الثالث: في الإجماع البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا 193 البحث الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه 194 المقام الأول: منع إمكان الإجماع في نفسه 194 المقام الثاني: في إمكان العلم بالإجماع 195 المقام الثالث: النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به 197 المقام الرابع: في حجية الإجماع 197 البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته 209 البحث الرابع: فيما ينعقد به الإجماع 210 البحث الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع 212 البحث السادس: في اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع 215 البحث السابع: في حكم إجماع الصحابة 217 البحث الثامن: في حكم إجماع أهل المدينة 218 البحث التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع 223 البحث العاشر: في حكم انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم 223 البحث الحادي عشر: في الإجماع السكوتي 223 البحث الثاني عشر: في حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه 227 البحث الثالث عشر: في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف 228 البحث الرابع عشر: فيما إذا اختلف أهل العصر على قولين في مسألة فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ 229 البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول 230 البحث السادس عشر: في إمكان وجود دليل لا معارض له لم يعلمه أهل الإجماع 230 البحث السابع عشر: في حكم قول العوام في الإجماع 231 فرع: في إجماع العوام 233 البحث الثامن عشر: في الاجماع المعتبر 233 البحث التاسع عشر: في مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع 234 البحث الموفي عشرين: في حجية الإجماع المنقول بطريق الآحاد 236 (1/405) الموضوع الصفحة المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ الباب الأول: في مباحث الأمر الفصل الأول: حقيقة لفظ الأمر 241 الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول 243 الفصل الثالث: حقيقة صيغة "أفعل" 247 صيغ الأمر ومعانية 253 الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا؟ 255 الفصل الخامس: هو الأمر يقتضي الفور أو لا؟ 259 الفصل السادس: في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده 263 الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به 269 الفصل الثامن: القضاء. هل يجب بأمر جديد أم بالأمر الأول؟ 271 الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمرًا به أم لا؟ 273 الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه 274 الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين أو المتغايرين 276 الباب الثاني: في النواهي المبحث الأول: في معنى النهي لغة واصطلاحًا 278 المبحث الثاني: في النهي الحقيقي ومعناه 279 المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد 280 الباب الثالث: في العموم المسألة الأولى: في حده 285 المسألة الثانية: في أن العموم من عوارض الألفاظ 287 المسألة الثالثة: في تصور العموم في الأحكام 289 المسألة الرابعة: في الفرق بين العام والمطلق 290 المسألة الخامسة: في صيغ العموم 291 المسألة السادسة: في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم 295 (1/406) الموضوع الصحفة المسألة السابعة: في عموم الجمع المنكر للقلة أو للكثرة 308 المسألة الثامنة: في أقل الجمع 310 المسألة التاسعة: الخلاف في عموم الفعل المثبت 313 المسألة العاشرة: في عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 316 المسألة الحادية عشرة: في الألفاظ الدالة على الجمع 318 المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب 320 المسألة الثالثة عشرة: في دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين 321 المسألة الرابعة عشرة: في الخطاب الشفاهي 322 المسألة الخامسة عشرة: في الخطاب الخاص بالأمة 323 المسألة السادسة عشرة: في الخطاب الخاص بواحد من الأمة 324 المسألة السابعة عشرة: في دخول المخاطب تحت عموم خطابه 326 المسألة الثامنة عشرة: في عموم المقتضى 327 المسألة التاسعة عشرة: في عموم المفهوم 329 المسألة الموفية العشرين: في الاستفصال 330 المسألة الحادية والعشرون: في حذف المتعلق 331 المسألة الثانية والعشرون: في الكلام العام الوارد في جهة المدح أو الذم 331 المسألة الثالثة والعشرون: في حكم العام الوارد على سبب خاص 332 المسألة الرابعة والعشرون: فيما إذا ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم 336 المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم 337 المسألة السادسة والعشرون: في العام المخصوص هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز 338 المسألة السابعة والعشرون: في حجية العام بعد التخصيص 340 المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعد أفراد العام عليه 343 المسألة التاسعة والعشرون: في جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص 345 المسألة الثلاثون: في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص 347 الباب الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص المسألة الأولى: في حده 350 المسألة الثانية: في الفرق بين النسخ والتخصيص 352 المسألة الثالثة: في تخصيص العمومات وجوازه 354 المسألة الرابعة: في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص 355 المسألة الخامسة: في المخصص 358 المسألة السادسة: في حكم الاستثناء من الجنس 359 (1/407) الموضوع الصفحة المسألة السابعة: في إقامة الحجة على من أنكر الاستنثاء 361 المسألة الثامنة: في شروط صحة الاستثناء 363 المسألة التاسعة: في الاستثناء من النفي والخلاف فيه 369 المسألة العاشرة: في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة 371 المسألة الحادية عشرة: في حكم الوصف الوارد بعد المستثنى 374 المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط 375 أقسام الشرط 376 المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة 377 المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية 378 المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل 380 المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال 381 المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظروف والجار والمجرور 381 المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز 381 المسألة التاسعة عشرة: التخصيص بالمفعول به والمفعول معه 382 المسألة الموفية العشرون: التخصيص بالعقل 382 المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس 385 المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما 385 جواز تخصيص السنة بالكتاب 386 جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة 387 جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة 387 جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 387 التخصيص بموافق العام وبعطف الخاص على العام 390 المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس 390 المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم 393 المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع 394 المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة 395 المسألة السابعة والعشرون: في التخصيص بمذهب الصحابي 396 المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق 397 المسألة التاسعة والعشرون: في التخصيص بقضايا الأعيان 398 المسألة الموفية ثلاثين: في بناء العام على الخاص 399 فهرس المحتويات 403 (1/408) المجلد الثاني تابع المقصد الرابع الباب الخامس: في المطلق والمقيد الفصل الأول: في حد المطلق والمقيد ... الباب الخامس: في المطلق والمقيد وفيه مباحث أربعة: الفصل الأول: في حدهما أما المطلق: فقيل في حده: ما دل على شائع في جنسه. ومعنى هذا: أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما "يندرج"* تحت أمر. فيخرج من قيد الدلالة المهملات، ويخرج من قيد الشيوع العارف كلها، لما فيها من التعيين، إما شخصا، نحو: زيد وهذا، أو حقيقة، نحو: الرجل وأسامة، أو حصة، نحو: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1، أو استغراقا نحو: الرجال، وكذا كل عام ولو نكرة، نحو: كل رجل ولا رجل. وقيل في حده: هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي. "قال في "المحصول" في حده: هو ما دل على الماهية من حيث هي هي"** من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده، والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود. وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء، وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس، كأسامة وثعالة، فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي. وأجاب عن ذلك الأصفهاني في "شرحة المحصول": بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء، بل غاير بينهما، فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي، والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة. قال: وإما إلزامه بعلم الجنس فمردود، بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخص الذهني، بخلاف اسم الجنس، وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق، فإنه __________ * في "أ": يدرج. ** ما بين قوسين ساقط من "أ" __________ 1 جزء من الآية 16 من سورة المزمل. (2/5) قال: هو الدال على الماهية بقيد الوحدة. وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب، فإنه قال في حده: هو ما دل على شائع في جنسه. وقيل: المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات. وقال الصفي الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية فقط، والإضافي مختلف، نحو: رجل،ب ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، ورقبة مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنه يدل على واحد شائع، وهما قيدان زائدان على الماهية. وأما المقيد: فهو ما يقابل المطلق، على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق، فيقال فيه: هو ما دل لا على شائع في جنسه، فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها، أو يقال في حده: هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها، أو ما كان له دلالة على شيء من القيود. (2/6) الفصل الثاني: حمل المطلق على المقيد اعلم: أن الخطاب إذا ورد مطلقًا لا "مقيد له"* حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا حمل على تقييده، وإن ورد مطلقًا في موضع، مقيدًا في موضع آخر، فذلك على أقسام: الأول: أن يختلفا في السبب والحكم، فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق، كما حكاه القاضي أبوبكر الباقلاني: وإمام الحرمين الجويني، وإلكيا الهراس، وابن برهان، والآمدي وغيرهم. القسم الثاني: أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر، كما لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة؛ وقال في موضوع آخر: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة. وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب، وابن فورك وإلكيا الطبري وغيرهم. وقال ابن برهان في "الأوسط" اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجمل، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل، ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في "تفسيره"1: أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة، وحكي "الطرطوسي2" الخلاف فيه __________ * في "أ": لا مقيدًا. __________ 1 واسمه: "تأويلات الماتريدي" للشيخ محمد بن محمد الماتريدي أبي منصور، ويعرف أيضًا باسم "تأويلات القرآن" ا. هـ. كشف الظنون 1/ 457. 2 هو نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، قاض، مصنف، من كتبه: "الإرشادات في ضبط المشكلات" و"الإعلام في مصطلح الشهود والحكام" و"أنفع الوسائل" يعرف بالفتاوى الطرطوسية، وغيرها انظر ترجمته ومصادرها في الإعلام "1/ 51". (2/6) عن المالكية، وبعض الحنابلة، وفيه نظر، فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب، وهو من المالكية. ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين، فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق، أي: دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد، وقيل: إنه يكون نسخًا، أي: دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق، والأول أولى. وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدمًا أو متأخرًا، أو جهل السابق، فإنه يتعين الحمل، كما حكاه الزركشي. القسم الثالث: أن يختلفا في السبب دون الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار1،وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل2، فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل، مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، فهذا القسم هو موضع الخلاف. فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية. وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد. وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد، ولا يُدعى وجوب هذا القياس، بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا. قال الرازي في "المحصول": وهو القول المعتدل، قال: واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين، أما الأول -يعني مذهب جمهور الشافعية- فضعيف جدًّا؛ لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا. وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة، وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة، وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا ههنا. والجواب عن الأول: بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء، وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد. وعن الثاني: أنَّا إنما قيدناه بالإجماع. وأما القول الثاني -يعني مذهب الحنفية- فضعيف؛ لأن دليل القياس، وهو أن العمل به دفع __________ 1 وهي الواردة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا...} الآية، المجادلة 3. 2 وهي الواردة في قوله تعالى: {...وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...} الآية، النساء 92. (2/7) للضرر المظنون عام في كل الصور. انتهى. قال إمام الحرمين الجويني -في دفع ما قاله من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد-: إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان، فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة، لبعضها حكم التعلق والاختصاص، ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع. فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد، مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات، والأمر والزجر، والأحكام المتغايرة؛ فقد ادعى أمرا عظيما. انتهى. ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضى حصول التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد. فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل. وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية، وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد، وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص، فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة. قال الزركشي: وهذا أفسد المذاهب؛ لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها، ولا يعدل إلى غيره. وفي المسألة مذهب خامس: وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في "المطلق و"* المقيد، فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد. ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل؛ لأن التغليظ إلزام، وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال. قال الماوردي: وهذا أولى المذاهب. قلت: بل هو أبعدها من الصواب. القسم الرابع: أن يختلفا في الحكم، نحو: اكس يتيما، أطعم يتيما عالما، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه، سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف. "وقد" ** حكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/8) الفصل الثالث: شروط حمل المطلق على المقيد اشترط القائلون بالحمل شروطًا سبعة: الأول: أن يكون المقيد من باب الصفات، مع ثبوت الذوات في الموضعين، فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر، وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، مع الاقتصار على عضوين في التيمم، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء، لما فيه من إثبات حكم لم يذكر، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا. وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والماوردي، والروياني، ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية، ونقل الماوردي أيضًا عن ابن خيران من الشافعية: أن المطلق يحمل على المقيد في الذات، وهو قول باطل. الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد، كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها، فهي شرط في الجميع، وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1، وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه، فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين، فأما إذا كان المطلق دائرًا بين قيدين متضادين نظر، فإن كان السبب مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل، فيحمل على ما كان القياس عليه أولى، أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى. وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" والماوردي، وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه. قال الزركشي: وليس كذلك، فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا، ولم يرجح شيئًا. الشرط الثالث: أن يكون في باب الأوامر والإثبات. أما في جانب النفي والنهي فلا؛ فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي، وهو غير سائغ. وممن ذكر هذا الشرط الآمدي، وابن الحاجب، وقالا: لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما؛ لعدم التعذر، فإذا قال: لا تعتق مكاتبا، لا تعتق مكاتبا كافرا "لم يعتق مكاتبا كافرًا"* ولا مسلمًا؛ إذ لو أ عتق واحدًا منهما لم يعمل بهما. وأما صاحب "المحصول" فسوى __________ * ما بين القوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الآية 12 من سورة النساء. (2/9) بين الأمر والنهي، ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي وابن الحاجب. وأما الأصفهاني فتبع صاحب "المحصول"، وقال: حمل المطلق على المقيد لا يختص بالأمر والنهي، بل يجري في جميع أقسام الكلام. قال الزركشي: وقد يقال: لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي، وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام، وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور، فلا وجه لذكره ههنا. انتهى. والحق: عدم الحمل في النفي والنهي، وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد، وجعله أيضًا شرطًا في بناء العام على الخاص. الشرط الرابع : أن لا يكون في جانب الإباحة. قال ابن دقيق العيد: إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة؛ إذ لا تعارض بينهما، وفي المطلق زيادة. قال الزركشي: وفيه نظر: الشرط الخامس: أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل، فإن أمكن بغير أعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما، ذكره ابن الرفعة1 في "المطلب"2. الشرط السادس: أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قطعًا. الشرط السابع: أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد. __________ 1 هو أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، فقيه شافعي، من فضلاء مصر، معروف بابن الرفعة، ولد سنة خمس وأربعين وستمائة هـ، وتوفي سنة عشر وسبعمائة، من آثاره: "الإيضاح والتبين في معرفة المكيال والميزان" "كفاية النبيه في شرح التنبيه" وغيرها.ا. هـ شذرات الذهب 6/ 22 كشف الظنون 2/ 2008 الأعلام 1/ 222. 2 وهو شرح "للوسيط" في الفروع للغزالي ألفة ابن الرفعة في ستين مجلدا ولم يكمله ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008. (2/10) الفصل الرابع: جريان ما ذكر في تخصيص العام في تقييد المطلق اعلم: أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جارٍ في تقييد المطلق، فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص، فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب. فائدة: قال في "المحصول": إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد مثله في موضعين بقيدين (2/10) متضادين، كيف يكون حكمه؟! مثاله: قضاء رمضان الوارد مطلقًا في قوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1، وصوم التمتع الوارد مقيدًا بالتفريق في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2، وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدًا بالتتابع في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 3. قال: فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظًا ترك المطلق ههنا على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر، ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله ههنا على ما كان القياس عليه أولى. انتهى. وقد نقدم في الشرط الثاني -من المبحث الذي قبل هذا المبحث4- الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين، وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح. __________ 1 جزء من الآية 184من سورة البقرة. 2 جزء من الآية 196من سورة البقرة. 3 جزء من الآية 4 من سورة المجادلة. 4 انظر 2/ 9. (2/11) الباب السادس: في المجمل والمبين الفصل الأول: في حدهما تعريف المجمل ... الباب السادس: في المجمل والمبين وفيه ستة فصول: الفصل الأول: في حدهما تعريف المجمل: فالمجمل في اللغة: المبهم، من أجمل الأمر: إذا أبهم. وقيل: هو المجموع، من أجمل الحساب: إذا جُمِع وجُعِل جملة واحدة. وقيل: هو المتحصل من أجمل الشيء إذا حصله. وفي الاصطلاح: ما له دلالة على أحد معنيين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه، كذا قال الآمدي. وفي "المحصول": هو ما أفاد شيئًا من جملة أشياء، وهو متعين في نفسه، واللفظ لا يعينه. قال: ولا يلزم عليه قولك: اضرب رجلا؛ لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وليس بمتعين في نفسه، فأي رجل ضربته جاز، وليس كذلك اسم القرء؛ لأنه يفيد إما الطهر وحده، وإما الحيض وحده، واللفظ لا يعينه، وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 1 يفيد وجوب فعل معين في نفسه، غير متعين بحسب اللفظ. وقال ابن الحاجب: هو في الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته "وأورد عليه المهمل. وأجيب: بأن المراد بما لم تتضح دلالته: ما كان له دلالة في الأصل ولم تتضح، فلا يرد المهمل"* وقيل: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. __________ * في "أ": ما لم تتضح دلالته، والمراد ما كان له دلالة في الأصل ولم تتضح فلا يرد المهمل. __________ 1 جزء من الآية 43 من سورة البقرة. (2/12) واعترض عليه: بأنه لا يطرد ولا ينعكس. أما عدم اطراده فلأن المهمل كذلك وليس بمجمل، وأيضا المستحيل كذلك؛ لأن المفهوم منه ليس بشيء اتفاقًا، وليس بمجمل لوضوح مفهومه. وأما عدم الانعكاس: فلأنه يجوز أن يفهم من المجمل أحد محامله لا بعينه، كما في المشترك فلا يصدق الحد عليه. وقال القفال الشاشي، وابن فورك: ما لا يستقل بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسيره. والأولى أن يقال: هو ما دل دلالة لا يتعين المراد بها إلا بمعين، سواء كان عدم التعيين بوضع اللغة، أو بعرف الشرع، أو بالاستعمال. (2/13) تعريف المبين: وأما المبين: فهو في اللغة المظهر، من بان إذا ظهر، يقال: بين فلان كذا إذا أظهره، وأوضح معناه. وفي الاصطلاح: هو ما افتقر إلى البيان. والبيان هو مشتق من البين، وهو الفراق؛ لأنه يوضح الشيء ويزل إشكاله، كذا قال ابن فورك، وفخر الدين الرازي في "المحصول". قال أبو بكر الرازي: سمي بيانا لانفصاله عما يلتبس من المعاني. وأما في الاصطلاح: فهو الدال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد. كذا قال في "المحصول". ويطلق ويراد به الدليل على المراد، ويطلق على فعل المبين. ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها، فالصيرفي لاحظ فعل المبين، فقال: البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. وقال القاضي في "مختصر التقريب": وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب الشافعي. واعترضه ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. ولاحظ القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والفخر الرازي، وأكثر المعتزلة الدليل، فقالوا: هو الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب. ولاحظ أبو عبد الله البصري "نفس العلم"* فحده بحد العلم، وحكى أبو الحسين عنه: أنه العلم الحادث؛ __________ * في "أ": نفسه. (2/13) لأن البيان هو ما به يتبين الشيء، والذي يتبين به الشيء هو العلم الحادث، قال: ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين؛ لأن علمه لذاته لا بعلم حادث. قال العبدري بعد حكاية المذاهب: الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور. وقال شمس الأئمة السرخسي الحنفي: اختلف أصحابنا في معنى البيان، فقال أكثرهم: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب، وقال بعضهم: هو ظهور المراد للمخاطب، والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب. قال: وهو اختيار أصحاب الشافعي؛ لأن الرجل يقول: بان هذا المعنى، أي ظهر، والأول أصح، أي الإظهار. انتهى. وقال الأستاذ أبو "إسحاق"* الإسفراييني: قال أصحابنا: إنه الإفهام بأي لفظ كان. وقال أبو بكر الدقاق: إنه العلم الذي يتبين به المعلوم. وقال الشافعي في "الرسالة": إن البيان اسم جامع لأمور مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع. __________ * في "أ": أبو بكر. (2/14) الفصل الثاني: وقوع الإجمال في الكتاب والسنة اعلم: أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة، قال أبو بكر الصيرفي: ولا أعلم أحدًا أبى هذا غير داود الطاهري. وقيل: إنه لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال إمام الحرمين: إن "المختار أن"* ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه؛ لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف؛ فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الماوردي والروياني: يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معاذًا إلى اليمن، وقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله" 1 الحديث. __________ * في "أ": إن مختار. __________ 1 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من حديث ابن عباس 19 واللفظ له. وأخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إلى توحيد الله 7372 وأبو داوود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة 1584. والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة 625. والنسائي، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 5/ 2 وابن ماجه، كتاب الزكاة باب فرض الزكاة "1783" وابن حبان في صحيحه "156"، وأحمد في مسنده "1/ 233". (2/14) "وتعهدهم"* بالتزام الزكاة قبل بيانها، قالا: وإنما جاز الخطاب بالمجمل، وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين: الأول: أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة "وبينها"** لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها. والثاني: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليًّا، وجعل منها خفيًّا، ليتفاضل الناس في "العلم"*** بها، ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا، وجعل منها مجملًا خفيا. قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي: وحكم المجمل: التوقف فيه إلى أن يفسر، ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع. قال الماوردي: إن كان الإجمال من جهة الاشتراك، واقترن به تبينه أخذ به، فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به، فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلا في المجمل، لخفائه وخارجا منه، لإمكان "استنباطه"****. __________ * في "أ": تعبدهم. ** في "أ": بها. *** في "أ": في العمل. **** في "أ": الاستنباط. (2/15) الفصل الثالث: وجوه الإجمال الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب، والأول إما أن يكون بتصريفه، نحو: قال من القول، والقيلولة، ونحو مختار فإنه صالح للفاعل، والمفعول. قال العسكري1: ويفترقان، تقول في الفاعل: مختار لكذا، وفي المفعول: مختار من __________ 1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى، أبو هلال، عالم بالأدب لغوي، شاعر، مفسر، توفي بعد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "الفرق بين المعاني" "الفروق" في اللغة، "الأوائل" "كتاب الصناعتين في النظم والنثر" ا.هـ معجم المؤلفين 3/ 240 كشف الظنون 167 الأعلام 2/ 196 معجم الأدباء 8/ 258. (2/15) كذا، ومنه قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} 1 {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} 2. وإما أن يكون بأصل وضعه، فإما أن تكون معانيه متضادة كالقرء للطهو والحيض، والناهل للعطشان والريان، أو متشابهة غير متضادة، فإما أن يتناول معاني كثيرة، بحسب خصوصياتها، فهو المشترك، وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ. الإجمال كما يكون في الأسماء على ما قدمنا، يكون في الأفعال كـ عسعس بمعنى أقبل، وأدبر، ويكون في الحروف كتردد الواو بين العطف والابتداء. وكما يكون في المفردات يكون في المركبات، نحو قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} 3 لتردده بين الزوج، والولي، ويكون أيضًا في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران، أو أمور يصلح لكل واحد منها، ويكون في الصفة نحو: طبيب ماهر لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقًا، أو للمهارة في الطب. ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة، فإن اللفظ يصير مجملًا بالنسبة إلى تلك المجازات؛ إذ ليس الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر، كذا قال الآمدي؛ والصفي الهندي، وابن الحاجب. وقد يكون في فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعل فعلا يحتمل وجهين احتمالا واحدا. وقد يكون فيما ورد من الأوامر بصيغة الخبر، كقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} 4، وقوله :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِن } 5. فذهب الجمهور إلى أنها تفيد الإيجاب، وقال آخرون: يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها. __________ 1 جزء من الآية 233 من سورة البقرة. 2 جزء من الآية 282 من سورة البقرة. 3 جزء من الآية 237 من سورة البقرة. 4 جزء من الآية 45 من سورة المائدة. 5 جزء من الآية 228 من سورة البقرة. (2/16) الفصل الرابع: فيما لا إجمال فيه وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض، فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه. الأول: في الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2. __________ 1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة. 2 جزء من الآية 23 من سورة النساء. (2/16) فذهب الجمهور: إلى أنه لا إجمال في ذلك. وقال الكرخي، والبصري: إنها مجملة. احتج الجمهور: بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل: هذا طعام حرام، هو تحريم أكله، ومن قول القائل: هذه المرأة حرام هو تحريم وطئها. وتبادر الفهم دليل الحقيقة، فالمفهوم من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} هو تحريم الأكل؛ لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان، وكذا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء. واحتج الكرخي، والبصري: بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة، فكيف إذا كانت موجودة؟ فإذًا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان، وذلك الفعل غير مذكور، وليس بعضها أولى من بعض، فإما أن يضمر الكل، وهو محال؛ لأنه إضمار من غير حاجة، وهو غير جائز، أو يتوقف في الكل، وهو المطلوب. وأيضًا "فإنها"* لو دلت على تحريم فعل معين. لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع، وليس كذلك. وأجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان، لكن قوله: ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع، فإن العرف يقتضى إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه، وهو تحريم الاستمتاع، وتحريم الأكل، فهذا البعض متضح متعين بالعرف. الثاني: لا إجمال في مثل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} 1 وإلى ذلك ذهب الجمهور. وذهب الحنفية إلى أنه مجمل، لتردده بين الكل والبعض، والسنة بينت البعض، وحكاه في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري. ثم اختلف القائلون بأنه لا إجمال، فقالت المالكية: إنه يقتضي مسح الجميع؛ لأن الرأس حقيقة في جميعه، والباء إنما دخلت للإلصاق. وقال الشريف المرتضى فيما حكاه عنه صاحب "المصادر": إنه يقتضي التبعيض. قال: لأن المسح فعل متعدٍ بنفسه، غير محتاج إلى حرف التعدية، بدليل قوله: مسحته __________ * ما بين قوسين ساقط من أ. __________ 1 جزء من الآية 6 من سورة المائدة. (2/17) كله، فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جديدة، فلو لم يفد البعض لبقي اللفظ عاريا عن الفائدة. وقالت طائفة: إنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم، وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض، فيصدق بمسح البعض، ونسبه في "المحصول" إلى الشافعي. قال البيضاوي: وهو الحق. ونقل ابن الحاجب عن الشافعي، وأبي الحسين، وعبد الجبار: ثبوت البعض بالعرف. والذي في "المعتمد" لأبي الحسين عن عبد الجبار: أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع؛ لأنه متعلق بما سمي رأسًا، وهو اسم لجملة الرأس، لا للبعض، ولكن العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس، إما بجميعه، وإما ببعضه "فيحمل"* الاسم عليه. وعبارة الشافعي في كتاب "أحكام القرآن"1: أن من مسح من رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا. قال: فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه كله، وإذا دلت السنة على ذلك، فمعنى الآية: أن من مسح شيئًا من رأسه أجزأه. انتهى. فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن الحاجب. ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية، فمن قال: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، صدق بذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس، فهكذا مسحت رأس زيد، ومسحت برأسه. وعلى كل حال، فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس2، ومسح بعضه3 فكان __________ * في "أ": لصدق الاسم عليه. __________ 1 وهو للإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي وهو أول من صنف فيه ا. هـ كشف الظنون 1/ 20. 2 أخرجه البخاري عن عبد الله بن زيد بلفظ: "فمسح برأسه فأقبل وأدبر"، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبيين برقم 186. ومسلم، كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 235. والترمذي، كتاب الطهارة، باب فيمن يتوضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثا 47. والنسائي، كتاب الطهارة، باب عدد مسح الرأس 1/ 72. وابن أبي شيبة 1/ 8. وأحمد في مسنده 4/ 40. وابن حبان في صحيحه 1077. والبيهقي في السنن 1/ 63. 3 أخرجه مسلم من حديث المغيرة بلفظ: "توضأ فمسح بناصيته"، كتاب الصلاة باب المسح على الخفين ومقدم الرأس 274. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين 150. والنسائي في السنن، كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة مع الناصية 107. وابن حبان في صحيحة 1346. والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب مسح بعض الرأس 1/ 58. والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على العمامة 100. وقال: وفي الباب عن عمرو بن أمية، وسلمان، وثوبان عن أبي أمامة، وقال: حديث المغيرة حسن صحيح. (2/18) ذلك دليلا مستقلا على أنه يجزئ مسح البعض، سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا. الثالث: لا إجمال في مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 عند الجمهور. وقال بعض الحنفية: إنها مجملة؛ إذ اليد العضو من المنكب، والمرفق، والكوع، لاستعمالها فيها، والقطع للإبانة، والشق، لاستعماله فيهما. وأجاب الجمهور: بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة، فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم2، وآية السرقة3، وآية المحاربة4. وأجاب بعضهم: بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب، ولما دونه مجاز، فلا إجمال في الآية، وهذا هو الصواب. وقد جاءت السنة بأن القطع من الكوع5، فكان ذلك مقتضيا للمصير إلى المعنى المجازي في الآية. ويجاب عما ذكر في القطع: بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد المعنيين، وهو ظاهر في القطع، لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة. الرابع: لا إجمال في نحو: "لا صلاة إلا بطهور" 6، "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 7، "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 8، "لا نكاح إلا بولي" 9، "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"10. __________ 1 جزء من الآية 38 من سورة المائدة. 2 جزء من آيتين الأولى في المائدة 6 والثانية في النساء 43. وفيها قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } . 3 جزء من الآية 38 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } . 4 جزء من الآية 33 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } . 5 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105. 6 تقدم في الصفحة 1/ 370. 7 أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ، كتاب الآذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر 756. ومسلم، كتاب الصلاة، باب قراءة الفاتحة في كل ركعة 394. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته 822. والنسائي، كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة 909، 2/ 137. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة خلف الإمام 837. وابن حبان في صحيحه 1782. والحميدي 386. 8 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 193 بلفظ "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل " . 9 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 370. 10 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة 1/ 245. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة باب ما جاء في التشديد في ترك الجماعة من غير عذر 3/ 57. والدارقطني في الصلاة باب الحث لجار المسجد للصلاة فيه 1/ 420، وهو من حديث أبي هريرة. وقال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة 467 رقم 1309 أخرجه الطبراني فيما أملاه من طريق الديلمي عن أبي هريرة. ونقل عن أبي حزم أنه ضعيف. وفي التلخيص الحبير 2/ 31: مشهور بين الناس وهو ضعيف ليس له إسناد ثابت. وأخرجه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة، وفي الباب عن علي. وهو ضعيف. (2/19) وإلى ذلك ذهب الجمهور، قالوا: لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة، ولا صيام صحيح، ولا نكاح صحيح، فلا إجمال. وإن لم يثبت عرف شرعي، فإن ثبت فيه عرف لغوي، وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى، نحو: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، فيتعين ذلك فلا إجمال. وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى، بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة، فلا إجمال، وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة "لوجود"* الذات في الخارج. ويمكن أن يقال: إن المنفي هو الذات الشرعية، والتي وجدت ليست بذات شرعية، فيبقى حمل الكلام على حقيقته، وهي نفي الذات الشرعية، فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى؛ لأنها اقرب المجازين؛ إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال، فإنه لا يستلزم نفي الذات، فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال، وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح، بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل. وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وأبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم، وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي. واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه. الأول: أنه ظاهر في نفي الوجود، وهو لا يمكن؛ لأنه واقع قطعا، فاقتضى ذلك الإجمال. الثاني: أنه ظاهر في نفي الوجود، ونفي الحكم، فصار مجملا. الثالث: أنه متردد بين نفي الجواز، ونفي الوجوب، فصار مجملا، قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال: "إنه"** إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة، ولأنه قد يفضي أيضًا إلى التناقض؛ لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا كان نفي الصحة يقتضي __________ * في "أ": لوجوب. ** ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/20) نفيها، ونفيها يستلزم نفي الذات، وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة، فكان مجملًا من هذه الحيثية، وهذا كله مدفوع بما تقدم. الخامس: لا إجمال في نحو قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 1 مما ينفي فيه صفة، والمراد نفي لازم من لوازمه، وإلى ذلك ذهب الجمهور؛ لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة، ورفع العقوبة، فإن السيد إذا قال لعبده، رفعت عنك الخطأ، كان المفهوم منه، أني لا أؤاخذك به، ولا أعاقبك عليه، فلا إجمال. قال الغزالي: قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان، وهو غير معقول، فالمراد به رفع حكمه، لا على الإطلاق، بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع، وهو رفع الإثم فليس بعام في جميع أحكامه، من الضمان ولزوم القضاء وغيرهما. وقال أبو الحسين، وأبو عبد الله البصري: إنه مجمل؛ لأن ظاهره رفع نفس الخطأ والنسيان، وقد وقعا. وقد حكى شارح "المحصول" في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه مجمل. والثاني: الحمل على رفع العقاب آجلا، والإثم عاجلا، قال: وهو مذهب الغزالي. والثالث: رفع جميع الأحكام الشرعية، واختاره الرازي في "المحصول". وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية، والمالكية، واختار هو الثاني. والحق: ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره. السادس: إذا دار لفظ الشارع بين مدلولين: إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدا، وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما. قال الصفي الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل، بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه. وذهب الأقلون إلى أنه مجمل، وبه قال الغزالي، واختاره ابن الحاجب. واختار الأول الآمدي، لتكثير الفائدة. قال الآمدي، والهندي: محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين، فإنه __________ 1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 327. (2/21) يكون مجملًا أو حقيقة في أحدهما، فالحقيقة مرجحة "قطعًا"* وظاهره جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين؛ لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين، ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازا؛ فما بقى إلا أن يكونا مجازين. قال الزركشي: والحق أن صورة المسالة أعم من ذلك، وهو اللفظ المحتمل لمتساويين، سواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة مرجوحة، والآخر مجازا راجحا عند القائل بتساويهما، ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء. انتهى. والحق: أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملا، ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحا، ولا رافعا للإجمال، فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد، فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثرة التي لا خلاف فيها. السابع: لا إجمال فيما كان له مسمى لغوي، ومسمى شرعي، كالصوم والصلاة عند الجمهور، بل يجب الحمل على المعنى الشرعي؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية، والشرع طارئ على اللغة، وناسخ لها، فالحمل على الناسخ المتأخر أولى. وذهب جماعة إلى أنه مجمل، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحاب الشافعي. وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات، فيحمل على المعنى الشرعي، وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل لتردده. فالأول: كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني صائم" 1 فيستفاد منه صحة نية النهار. والثاني: كالنهي عن صوم أيام التشريق2، فلا يستفاد منه صحة صومها، واختار هذا. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 أخرجه مسلم من حديث عائشة، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال 1154. أبو داود، كتاب الصوم باب الرخصة في ذلك 2455. والترمذي، كتاب الصوم، باب صيام المتطوع بغير تبييت 733. والنسائي، كتاب الصيام، باب النية في الصيام 4/ 195. وابن حبان في صحيحة 3628. وأحمد في مسنده 6/ 207. وابن خزيمة في صحيحة 2143. 2 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث أنس بن مالك قال: "نهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد أيام النحر" 1356، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاش، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 460 وقال: رواه أبو يعلى وهو ضعيف من طرقه كلها. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية 1/ 298 برقم 1022 من طرق عدة، وهو ضعيف، ولكن يشهد له حديث نبيشة الهذلي عند مسلم في الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 1141. وحديث عمرو بن العاص عند الإمام مالك في كتاب الحج، باب ما جاء في صيام أيام منى 137. وعند أبي داود في الصوم باب صيام أيام التشريق 2418. وعند الإمام أحمد في مسنده 4/ 197. (2/22) التفصيل الغزالي وليس بشيء. وثَمَّ مذهب رابع، وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي، والنهي اللغوي، واختاره الآمدي، ولا وجه له أيضًا. والحق: ما ذهب إليه الأولون لما تقدم. وهكذا إذا كان للفظ محمل شرعي، ومحمل لغوي، فإنه يحمل على المحمل الشرعي لما تقدم. وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي، فإنه يحمل على الشرعي لما تقدم أيضًا. وهكذا إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي والمسمى اللغوي، فإنه يقدم العرفي على اللغوي؛ "لأنه المتبادر عند المخاطبين"*. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/23) الفصل الخامس: في مراتب البيان للأحكام وهي خمسة بعضها أوضح من بعض الأول:انظر الصفحة بعده |
وقعة بئر مَعُونَة شهر صفر سنة 4هـ /وتجرأت بنو غَطَفَان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الأولي سنة 4 هـ/سرية أبي سلمة 1/محرم سنة 4هـ/بعث عبد الله بن أُنَيس 5/محرم/سنة 4هـ حتي السبت 25 محرم سنة4هـ/بعث الرَّجِيع شهر صفر 4 للهجرة /واقعة بئر مَعُونة شهر صفر 4 للهجرة غزوة بني النضير ربيع الأول سنة 4 من الهجرة،/غزوة نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادي الأولي سنة 4 هـ(ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة 4 هـ /غزوة ذات الرِّقَاع ربيع2 سنة4هـ/غزوة الخندق فى أواخر السنة الخامسة
...............................................................................................................
الاثنين، 23 أبريل 2018
ارشاد الفحول للشوكاني 9..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق