الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 3.

المقصد الثاني: في السنّة
الفصل الأول: في معنى السنّة لغة وشرعا
...
البحث الأول: في معنى السنة لغة وشرعًا
وأما لغة: فهي الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن1 إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنًّا أي: طريقا، وقال الكسائي: معناها الدوام فقولنا: سنة معناه الأمر بالأدامة من قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه.
قال الخطابي2: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد يستعمل في غيرها مقيدة كقوله: "من سن سنة سيئة" وقيل: هي الطريقة المعتادة، سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" 3.
وأما معناها شرعًا: أي: في اصطلاح أهل الشرع فهي: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وتقريره، وتطلق بالمعنى العام على الواجب وغيره في عرف أهل اللغة والحديث، وأما في عرف أهل الفقه فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب، وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم: فلان من أهل السنة.
قال ابن فارس في "فقه اللغة العربية"4: وكره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال: سنة الله وسنة رسوله.
ويجاب عن هذا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال في الحديث الصحيح: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ" 5. ويمكن أن يقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد بالسنة هنا الطريقة.
وقيل في حدها اصطلاحًا هي: ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحًا ليس معه المنع من النقيض.
وقيل هي: ما واظب على فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ترك ما بلا عذر.
وقيل هي: في العبادات النافلة، وفي الأدلة ما صدر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، وهذا هو المقصود بالبحث عنه في هذا العلم.
__________
1 حجر يحدد به. ا. هـ. الصحاح مادة سنن.
2 هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، العلامة، فقيه، محدث. توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة هجرية، وهو من ولد زيد بن الخطاب "أخي عمر"، وكانت ولادته سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، من آثاره: "معالم السنن في شرح سنن أبي داود" "غريب الحديث" "أعلام السنن". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 23" معجم المؤلفين "2/ 61" الأعلام "2/ 273".
3 أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة "1017". وابن ماجه، المقدمة "203". والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو ضلالة "2675" وقال: حسن صحيح. والنسائي كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة "2553" 5/ 75. وابن حبان في صحيحه "3308".
4 واسمه "فقه اللغة" لأبي الحسين، أحمد القزويني المعروف بابن فارس المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، وهو المسمى بالصاحبي؛ لأنه ألفه للصاحب كشف الظنون "2/ 288" ابن عباد. ا. هـ.
5 أخرجه الترمذي من حديث العرباض بن سارية، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة "2676" وقال: حسن صحيح. ابن ماجه في المقدمة "43". وأبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة "4607".
الإمام أحمد في المسند "4/ 126". ابن حبان في صحيحه5.

(1/95)


الفصل الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع
...
البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع
اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" 1 أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وغير ذلك مما لا يأتي عليه الحصر.
وأما ما يروى من طريق ثوبان2 في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحيى بن معين3: إنه موضع وضعته الزنادقة.
وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير. وقال ابن عبد البر4 في كتاب "جامع العلم: قال عبد الرحمن بن مهدي5: الزنادقة والخوارج وضعوا
__________
1 أخرج بنحوه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب، كتاب السنة باب لزوم السنة "4064". والإمام أحمد في المسند "4/ 130". والطبراني في الكبير "20/ 283" "669". والبيهقي في السنن، كتاب الضحايا، باب ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية "9/ 334". وابن حبان في صحيحه "12".
2 هو ثوبان بن جحدر أو بجدد، مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو عبد الرحمن، سبي من أرض الحجاز فاشتراه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه، فلزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه، توفي بحمص سنة أربع وخمسين هجرية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 15"، تهذيب التهذيب "2/ 31".
3 هو الإمام الحافظ الجهبذ، شيخ المحدثين، أبو زكريا البغدادي. ولد سنة ثمان وخمسين ومائة هـ، وكان من المكثرين من كتابة الحديث، حتى قال عنه ابن المديني: ما أعلم أحدًا كتب ما كتب يحيى بن معين، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 71"، تهذيب التهذيب "11/ 280".
4 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الأندلسي، القرطبي، المالكي، أبو عمر الإمام العلامة، حافظ المغرب، شيح الإسلام، ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة هجرية، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة هجرية، من آثاره: "الاستيعاب" "والاستذكار" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 153"، شذرات الذهب "3/ 314"، هدية العارفين "2/ 550"، وكتابه جامع العلم اسمه "جامع بيان العلم وآدابه".
5 هو الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ، أبو سعيد، عبد الرحمن بن مهدي العنبري، البصري اللؤلؤي، ولد سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة هجرية، بعد أن أملى الألوف المؤلفة من الحديث. ا.هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 192"، تهذيب التهذيب "6/ 279"، شذرات الذهب "1/ 355". 


حديث: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف فلم أقله"1.
وقد عارض حديث العرض قوم فقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه، لأنا وجدنا في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 ووجدنا فيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 ووجدنا فيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5 قال الأوزاعي6: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب.
قال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه وتبين المراد منه.
وقال يحيى بن أبي كثير7: السنة قاضية على الكتاب.
والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام.
__________
1 ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة "59" وقال: أخرجه الدارقطني في الأفراد، والعقيلي في الضعفاء، وأبو جعفر البختري في فوائده، والحديث منكر جدا، استنكره العقيلي وقال: إنه ليس له إسناد يصح. وقد سهل ابن حجر عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال وقد جمع طرقه البيهقي في كتاب المدخل.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
3 جزء من الأية 31 من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية 92 من سورة المائدة.
5 جزء من الآية 80 من سورة النساء.
6 هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، أبو عمرو الأوزاعي، كان يسكن محلة الأوزاع وهي: العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق، ولد في بعلبك في حياة الصحابة، توفي سنة سبع وخمسين ومائة. ا.هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 107" تذكرة الحفاظ "1/ 178"، تهذيب التهذيب "6/ 238".
7 هو يحيى بن أبي كثير صالح، الإمام الحافظ، أحد الأعلام، أبو نصر الطائي، اليمامي، كان طلابة للعلم، حجة، أقام بالمدينة عشر سنين في طلب العلم، توفي سنة تسع وعشرين ومائة هـ، ا.هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 27"، تهذيب التهذيب "11/ 268".

(1/97)


الفصل الثالث: في عصمة الأنبياء
...
البحث الثالث: في عصمة الأنبياء
ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر، وقد حكى القاضي أبو بكر إجماع المسلمين على ذلك. وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين، وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما ينفر عنهم، وهي التي يقال لها صغائر الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة، وإنما اختلفوا في الدليل على عصمتهم مما ذكر، هل هو الشرع أو العقل؟
فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية: إن الدليل على ذلك الشرع والعقل؛ لأنها منفرة عن الاتباع، فيستحيل وقوعها منهم عقلًا وشرعًا، ونقله إمام الحرمين في "البرهان"1 عن طبقات الخلق، قال: وإليه مصير جماهير أئمتنا.
وقال ابن فورك: إن ذلك ممتنع من مقتضى المعجزة.
قال القاضي عياض2: وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق ومن تبعه.
وقال القاضي أبو بكر وجماعة من محققي الشافعية والحنفية: إن الدليل على امتناعها السمع فقط، وروي عن القاضي أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: الدليل على امتناعها الإجماع، وروي عنه أنه قال: إنها ممتنعة سمعًا والإجماع دل عليه، قال: ولو رددنا ذلك إلى العقل فليس فيه ما يحيلها، واختار هذا إمام الحرمين، والغزالي، وإلكيا3 وابن برهان4.
__________
1 هو لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني النيسابوري، الشافعي، المعروف بإمام الحرمين، المتوفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هـ، يسمى "البرهان في أصول الفقه" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 242".
2 هو عياض بن موسى، الإمام العلامة، الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة هجرية، وتوفي بمراكش سنة أربع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الشفاء" "شرح صحيح مسلم" وغيرهما. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 212" شذرات الذهب "4/ 138"، هدية العارفين "1/ 805".
3 هو علي بن محمد بن علي الطبرستاني، الشافعي، عماد الدين، شيخ الشافعية ببغداد المعروف بإلكيا الهراسي -وهي كلمة فارسية معناها: الكبير- توفي سنة أربع وخمسائة هجرية، من مؤلفاته كتاب "شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين". ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 8" كشف الظنون "2/ 1056"، هدية العارفين "1/ 694".
4 هو أحمد بن علي بن برهان، أبو الفتح، فقيه بغدادي، ولد سنة تسع وسبعين وأربعمائة هجرية، وتوفي سنة ثماني عشرة وخمسمائة هجرية، من آثاره: "الوجيز" "البسيط" "والوسيط". ا. هـ. الأعلام "1/ 173".

(1/98)


قال الهندي1: هذا الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي، فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلًا.
وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية، لدلالة المعجزة على صدقهم، وأما الكذب غلطًا فمنعه الجمهور وجوزه القاضي أبو بكر.
واستدل الجمهور: بأن المعجزة تدل على امتناعه، واستدل القاضي بأن المعجزة إنما تدل على امتناعه عمدًا لا خطأ، وقول الجمهور أولى. وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب، ولا كانت من الدناءات، فاختلفوا هل تجوز عليهم، وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا؟ فنقل إمام الحرمين وإلكيا عن الأكثرين الجواز عقلًا، وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب، ونقل إمام الحرمين وابن القشيري2 عن الأكثرين -أيضًا- عدم الوقوع.
قال إمام الحرمين: الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع ذلك نفيًا أو إثباتا، والظواهر مشعرة بالوقوع.
ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف، منهم أبو جعفر الطبري3 جماعة من الفقهاء والمحدثين. قالوا ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين، أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم.
ونقل ابن حزم4 في "الملل والنحل"5 عن أبي إسحاق الإسفراييني، وابن فورك، أنهم
__________
1 هو محمد بن عبد الرحيم، أبو عبد الله، صفي الدين، الشافعي، المتكلم على مذهب الأشعري توفي سنة خمس عشرة وسبعمائة هجرية، من آثاره: "الزبدة" "الفائق"، في علم الكلام، و"النهاية"، "الرسالة السيفية" في أصول الفقه، ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 37" كشف الظنون "2/ 1217".
2 هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن، الشيخ الإمام، المفسر العلامة، أبو نصر، اعتنى به أبوه، وأسمعه وأقرأه حتى برع في العربية والنظم والنثر، توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة هجرية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 424"، هدية العارفين "1/ 559"، شذرات الذهب "4/ 45".
3 هو محمد بن جرير، من أهل آمل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين وأربعمائة هـ، توفي سنة عشر وثلاثمائة هجرية، في بغداد، وهو فقيه، مفسر، محدث، أصولي من آثاره: "اختلاف الفقهاء" "تاريخ الأمم والملوك" "تهذيب الآثار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 267"، معجم المؤلفين "9/ 147"، الأعلام "6/ 69".
4 هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، عالم الأندلس في عصره، الإمام الأوحد ذو الفنون والمعارف، توفي مشردًا عن بلده من قبل الدولة، سنة ست وخمسين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المحلى" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 184"، شذرات الذهب "3/ 29"، الأعلام "4/ 254".
5 واسمه: "الفصل بين أهل الأهواء والنحل" قال عنه التاج السبكي: هذا من أشر الكتب، وما برح المحققون من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الازدراء بأهل السنة، وقد أفرط فيه في التعصب على أبي الحسن الأشعري حتى صرح بنسبته إلى البدعة ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1820".

(1/99)


معصومون عن الصغائر والكبائر جميعًا، وقال: إنه الذين ندين الله به. واختاره ابن برهان، وحكاه النووي1 في "زوائد الروضة"2 عن المحققين. قال القاضي حسين3: وهو الصحيح من مذهب أصحابنا يعني الشافعية، وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأول.
قال القاضي عياض: يحمل على ما قبل النبوة، أو على أنهم فعلوه بتأويل.
واختار الرازي العصمة عمدًا وجوزها سهوًا.
واختلفوا في معنى العصمة فقيل: هو أن لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية.
وقيل: هو أن يختص في نفسه أو بدنه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها.
وقيل: إنها القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية.
وقيل: إن الله منعهم منها بألطافه بهم فصرف دواعيهم عنها.
وقيل: إنها "تهيئة"* العبد للموافقة مطلقًا، وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة.
فإن قلت: فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوبًا إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام. فإن الله يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه فَغَوَىْ} 4.
قلت: قد قدمنا5 وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة، فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه. وهكذا يحمل ما وقع من إبراهيم عليه السلام من
__________
* من "أ": بتهيئة.
__________
1 هو يحيى بن شرف، النووي الدمشقي، الشافعي، محيي الدين، أبو زكرياء، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة هـ، في قرية نوى جنوب سورية، وتوفي فيها سنة ست وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح المهذب" "شرح صحيح مسلم" "رياض الصالحين" "الأذكار" وغيرها. ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 202"، الأعلام "8/ 149"، شذرات الذهب "5/ 354".
2 في فروع الشافعية، وهو عبارة عن مختصر لشرح "الوجيز" للرافعي واسمه "روضة الطالبين وعمدة المفتين" فاعتنى به العلماء، فشرحوه، واختصروه ونظموه، ووضعت عليه زيادات، منها: زيادات الإمام السيوطي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 929".
3 هو حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي، العلامة، شيخ الشافعية، بخراسان، تفقه عليه خلق كثير، منهم: إمام الحرمين، ومحيي السنة، توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة. من آثاره: "التعليقة الكبرى" "الفتاوى" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 260" شذرات الذهب "3/ 310"، إيضاح المكنون "2/ 188".
4 جزء من الآية "121" من سورة طه.
5 انظر صفحة: "98".

(1/100)


قوله: {إِنِّي سَقِيم} 1 وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم} 2 وقوله في سارة: "إنها أخته"3 على ما يخرجه عن محض الكذب، لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة، وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه} 4 لا بد من تأويله بما يخرجه عن ظاهره، وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف5، وهكذا يحمل ما ورد عن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: "كان يستغفر الله في كل يوم، وأنه كان يتوب إليه في كل يوم" 6 على أن المراد رجوعه من حالة إلى أرفع منها.
وأما النسيان فلا يمتنع وقوعه من الأنبياء، قيل إجماعا، وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" 7 قال قوم: ولا يقرون عليه بل ينبهون.
قال الآمدي: ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان.
قال الزركشي8 في "البحر": وأما الإمام الرازي في بعض كتبه فادعى الإجماع على الامتناع. وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع، السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص
__________
1 جزء من الآية "89" من سورة الصافات.
2 جزء من الآية "63" من سورة الأنبياء.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} "3358"، مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل إبراهيم عيه السلام "2371". وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في الرجل يقول لامرأته "يا أختي" "2212". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام "3166". وأحمد في مسنده "2/ 403". وابن حبان في صحيحه "5737". وقال الترمذي: حسن صحيح.
4 جزء من الآية "87" من سورة الأنبياء.
5 وذلك من إلقائهم له في الجب، وبيعهم إياه بثمن بخس، كما ورد في سورة يوسف.
6 أخرجه مسلم من حديث الأغر المزني، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه "2702". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار "1515"، والطبراني في الكبير "1/ 301 "883". والإمام أحمد في المسند "4/ 260". والبغوي "1288". وابن حبان في صحيحه "931".
7 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مطولًا في كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان "401". ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة "572". وأبو داود في الصلاة باب: إذا صلى خمسًا "1020". والبيهقي في سننه في الصلاة باب سجود السهو في الزيادة في الصلاة بعد التسليم "2/ 335". وأحمد في مسنده "1/ 379" وابن ماجه في الإقامة باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب "1212".
8 هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله، بدر الدين، فقيه أصولي شافعي، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة هجرية، وتوفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة هجرية، من آثاره: "البحر المحيط" "الإجابة لإيراد ما استدركه عائشة على الصحابة"، "لقطة العجلان" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 335" الأعلام "6/ 60".

(1/101)


الخلاف بالأفعال، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز، وتأول المانعون الأحاديث الواردة في سهوه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنه تعمد ذلك، وهذا التأويل باطل بعد قوله: "أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" ، وقد اشترط جمهور المجوزين للسهو والنسيان اتصال التنبيه بالواقعة.
وقال إمام الحرمين: يجوز التأخير.
وأما قبل الرسالة: فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع من الأنبياء عقلا ذنب كبير ولا صغير.
وقالت الروافض1: يمتنع قبل الرسالة منهم كل ذنب.
وقالت المعتزلة: يمتنع الكبائر دون الصغائر، واستدل المانعون مطلقًا أو مقيدًا بالكبائر بأن وقوع الذنب منهم قبل النبوة منفر عنهم عن* أن يرسلهم الله فيخل بالحكمة من بعثهم. وذلك قبيح عقلًا.
ويجاب عنه: بأنا لا نسلم ذلك، والكلام على هذه المسألة مبسوط في كتب الكلام.
__________
* في "أ": عند.
__________
1 وهم عشرون فرقة منها ثلاث زيدية، وفرقتان من الكيسانية، وخمس عشرة من الإمامية، أما الروافض السبئية فقد أظهروا بدعتهم في زمن سيدنا علي كرم الله وجهه فقالوا لعلي: أنت الإله. فأحرق قومًا منهم، ونفى زعميهم ابن سبأ، ثم افترقت الرافضة بعد ذلك أربعة أصناف زيدية، إمامية، كيسانية، غلاة، وسموا الرافضة لرفضهم الاعتراف أولًا بأبي بكر وعمر ثم لرفضهم بعد ذلك ما اتفق عليه الإجماع ا. هـ. الفصل بين الملل والأهواء والنحل "1/ 189".

(1/102)


الفصل الرابع: في أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
البحث الرابع: في أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعلم أن أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنقسم إلى سبعة أقسام:
الأول:
ما كان من هواجس1 النفس والحركات البشرية، كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع، ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة، ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
القسم الثاني:
ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة2، كالقيام والقعود ونحوهما، فليس فيه تأس، ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
__________
1 جمع هاجس وهو الخاطر يقال: هجس في صدري شيء، يهجس، أي: حدس ا. هـ. الصحاح مادة هجس.
2 الجبلة: الخلقة، والجمع جبلات. ا. هـ. الصحاح مادة جبل.

(1/102)


ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنه مندوب، وكذا حكاه الغزالي في "المنخول"1 وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة.
القسم الثالث:
ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئة مخصصة"* كالأجل والشرب واللبس والنوم، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل. وأما إذا وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه، يرجع فيه إلى الأصل، وهو عدم التشريع، أو إلى الظاهر، وهو التشريع والراجح الثاني. وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوبًا.
القسم الرابع:
ما علم اختصاصه به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره، وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمنع التأسي به أم لا، وقال: ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك، فهذا محل التوقف.
وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي2 في "كتابه" في الأفعال بين المباح والواجب. فقال: ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع، ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى والوتر، وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته.
والحق أنه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنًا ما كان إلا بشرع يخصنا، فإذا قال مثلًا: هذا واجب علي مندوب لكم كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبًا لنا لا
__________
* في "أ": وجه مخصوص.
__________
1 واسمه: "المنخول من تعلقيات الأصول" لأبي حامد الغزالي، وهو من أوائل الكتب التي صنفها، رآه أبو المعالي الجويني فقال: دفنتني وأنا حي فهلا صبرت الآن كتابك غطى على كتابي، وهو مطبوع ا. هـ. المنخول -المقدمة- سير أعلام النبلاء "19/ 335".
2 هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، ثم الدمشقي، أبو شامة، العلامة المجتهد، شهاب الدين، أبو القاسم، وسمي بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر، توفي سنة خمس وستين وستمائة هـ، من آثاره: "الروضتين في أخبار الدولتين النووية والصلاحية" "الضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري". وكتابه اسمه: "المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1616" شذرات الذهب "5/ 318"، الأعلام "3/ 299"، هدية العارفين "1/ 523".

(1/103)


لكونه واجبًا عليه، وإن قال: هذا مباح لي أو حلال "لي"*، ولم يزد على ذلك، لم يكن لنا أن نقول: هو مباح لنا، أو حلال لنا، وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل.
هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا، أما لو ورد ما يدل على ذلك، كما يثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "واصل أيامًا تنكيلًا لمن لم ينته عن الوصال"1 فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه، ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير. وأما لو قال: هذا حرام علي وحدي، ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء، أما لو قال: حرام علي حلال لكم، فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال ورع.
القسم الخامس:
ما أبهمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانتظار الوحي، كعدم تعيين نوع الحج مثلًا. فقيل: يقتدى به في ذلك، وقيل: لا، قال إمام الحرمين في "النهاية"2 وهذا عندي هفوة3 ظاهرة. فإن إبهام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمول على انتظار الوحي قطعًا، فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة.
القسم السادس:
ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبة له، فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا فقيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب. وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب، الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز. وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء، فتعين علينا القضاء بما قضى به.
القسم السابع:
الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانًا كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا كما رأيتموني
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
ولفظه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوصال فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال. واصل بهم يومًا ثم يومًا رأوا الهلال. فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل بهم، حين أبوا أن ينتهوا" .
أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال "1103". والبخاري، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال "1965". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الصوم "1411". وفي المسند الجامع برقم "13449". وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصوم، باب الوصال "7753" أحمد في مسنده "2/ 281". ابن حبان، كتاب الصوم، باب صوم الوصال "3575" والبيهقي في سننه، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال في الصوم "4/ 282".
2 هو "نهاية المطلب في دراية المذهب"، لإمام الحرمين، جمعه بمكة المكرمة وأتمه في نيسابور، قال ابن النجار: إنه مشتمل على أربعين مجلدًا ثم اختصره ولخصه. واختصره ابن أبي عصرون وسماه: "صفوة المذهب من نهاية المطلب". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
3 الهفوة: الزلة، وقد هفا يهفو هفوة. ا. هـ. الصحاح مادة هفا.

(1/104)


أصلي" 1 و"خذوا عني مناسككم" 2 وكالقطع3 من الكوع4 بيانًا لآية السرقة، فلا خلاف أنه دليل في حقنا، وواجب علينا، وإن ورد بيانًا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب، كأفعال الحج وأفعال العمرة، وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداء، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول:
أن أمته مثله في ذلك الفعل، إلا أن يدل دليل على اختصاصه "به"* وهذا هو الحق.
والثاني:
أن أمته مثله في العبادات دون غيرها.
والثالث:
الوقف.
والرابع:
لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل.
وإن لم تعلم صفته في حقه، وظهر فيه قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال:
الأول: أنه للوجوب
وبه قال جماعة من المعتزلة، وابن شريج، وأبو سعيد الأصطخري
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "6008" ومسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة "674". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "589". وأحمد في مسنده "3/ 436". والنسائي، كتاب الأذان، باب اجتزاء المراء بأذان غيره "2/ 9". والبيهقي في سننه "2/ 17". وابن حبان في صحيحه "1658".
2 أخرجه مسلم، من حديث جابر كتاب الحج باب استحباب رمي حجرة العقبة يوم النحر "1297". وأبو داود، كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع "1944". الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الإفاضة من عرفات "886". النسائي، كتاب الحج، باب الأمر بالسكينة في الإفاضة من عرفة "5/ 258". وابن ماجه، كتاب الحج، باب الوقوف بجمع "3023". وأبو يعلى في مسنده "2147".
3 والحديث عن عبد الله بن عمر قال: قطع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سارقًا من المفصل. أخرجه ابن عدي في الكامل تحت ترجمة خالد بن عبد الرحمن المخزومي "3/ 38". وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق رجاء بن حيوه مرسلًا في كتاب الحدود، باب ما قالوا من أين تقطع "6/ 528". وذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية "3/ 270" وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا موقوفًا على سيدنا عمر رضي الله عنه "6/ 528".
4 الكوع والكاع: طرف الزند الذي يلي الإبهام. ا. هـ. الصحاح مادة كوع.
5 هو الحسن بن أحمد بن يزيد، الإصطخري، أبو سعيد، الشافعي الإمام القدوة، العلامة، شيخ الإسلام، فقيه العراق، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة هجرية. من آثاره: "كتاب أدب القضاء". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 250" شذرات الذهب "2/ 312".

(1/105)


وابن خيران1، وابن أبي هريرة2.
واستدلوا على ذلك بالقرآن والإجماع والمعقول:
أما القرآن فبقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 4 وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 5 وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر} 6 وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 7.
وأما الإجماع: فلكون الصحابة كانوا يقتدون بأفعاله. وكانوا يرجعون إلى رواية من يروي لهم شيئًا منها في مسائل كثيرة منها: أنهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة: "فعلته أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"8 فرجعوا إلى ذلك وأجمعوا عليه.
وأما المعقول فلكون الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه.
وأجيب عن الآية الأولى:
بمنع تناول قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول} للأفعال بوجهين:
الأول:
أن قوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} يدل على أنه أراد بقوله: {وَمَا ءآتَيْتُكُم} ما أمركم.
الثاني:
أن الإتيان إنما يأتي في القول.
والجواب عن الآية الثانية:
أن المراد بالمتابعة فعل مثل ما فعله، فلا يلزم وجوب فعل كل ما فعله، ما لم يعلم أن فعله على وجه الوجوب، والمفروض خلافه.
__________
1 هو الحسين بن صالح بن خيران، أبو علي، الإمام شيخ الشافعية، البغدادي، عرض عليه القضاء فلم يتقلده، توفي سنة عشرين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 58""، شذرات الذهب "2/ 287".
2 هو الحسن بن الحسين بن أبي هريرة، أبو علي، البغدادي، القاضي، شيخ الشافعية، انتهت إليه رياسة المذهب، أخذ عنه الطبري والدراقطني، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 430"، شذرات الذهب "2/ 370".
3 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من سورة آل عمران.
5 جزء من الآية "63" من سورة النور.
6 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.
7 جزء من الآية "59" من سورة النساء.
8 ولفظ الحديث عن عائشة "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاغتسلنا" رواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل "108" وقال حسن صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان برقم "608"، أحمد في المسند "6/ 161". المزني في مختصره، باب الماء من الماء "495"، وقال في التلخيص لابن حجر "1/ 134" وصححه ابن حبان وابن القطان.

(1/106)


والجواب عن الآية الثالثة:
أن لفظ الأمر حقيقة في القول بالإجماع، ولا نسلم أنه يطلق على الفعل، على أن الضمير في أمره يجوز أن يكون راجعًا إلى الله سبحانه؛ لأنه أقرب المذكورين.
والجواب عن الآية الرابعة:
أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير في الصورة والصفة، حتى لو فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا على طريق التطوع وفعلناه على طريق الوجوب لم نكن متأسين به فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا دل دليل آخر على وجوبه، فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجردًا عن دليل الوجوب، معتقدين أنه واجب علينا لكان ذلك قادحًا في التأسي.
والجواب عن الآية الخامسة:
أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو المراد على اختلاف المذهبين، فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة:
فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم، بل أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو نحوهما والوجوب في تلك الصورة لمذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من الجنابة.
وأما الجواب عن المعقول:
فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الغرر قطعا، وهاهنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة وإذا احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطًا.
القول الثاني: أنه للندب
وقد حكاه الجويني في "البرهان" عن الشافعي فقال: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، وقال الرازي في "المحصول": إن هذا القول نسب إلى الشافعي، وذكر الزركشي في "البحر"1: أنه حكاه عن القفال2 وأبي حامد المروزي3 واستدلوا بالقرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: {لقَدْ كَانَتْ لَكُم في رسول اللهْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 4، ولو كان التأسي
__________
1 واسمه "البحر المحيط في الأصول" للإمام الزركشي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 226".
2 هو محمد بن علي بن إسماعيل، أبو بكر، الإمام العلامة، الفقيه، الأصولي، اللغوي عالم خراسان الشافعي، القفال، الكبير، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "دلائل النبوة" "محاسن الشريعة". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 283"، شذرات الذهب "3/ 51" هدية العارفين "2/ 48".
3 هو أحمد بن بشر بن عامر، المروزي، أبو حامد، شيخ الشافعية، مفتي البصرة، توفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، من أثاره: "الجامع" في المذهب "شرح مختصر المزني" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 166"، شذرات الذهب "3/ 40"، هدية العارفين "1/ 66".
4 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.

(1/107)


واجبًا لقال عليكم، فلما قال {لَكُمْ} دل على عدم الوجوب ولما "أثبت"* الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك، وإن يكن مباحًا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب؛ لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان.
وأما المعقول: فهو أن فعله إما أن يكون راجحًا على العدم أو مساويًا له أو دونه، والأول متعين؛ لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثًا وهو باطل وإذا تعين أنه راجح على العدم فالراجح على العدم قد يكون واجبًا وقد يكون مندوبًا، والمتيقن هو الندب.
وأجيب عن الآية: بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلو فعله واجبًا أو مباحًا وفعلناه مندوبًا لما حصل التأسي. وأجيب عن الإجماع: بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل، لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وأجيب عن المعقول: بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث؛ لأن العبث هو الخالي عن الغرض، فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثًا "بل"** من حيث حصول النفع به خرج عن العبث، ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعة أفعاله بين، فلا يعد من أقسام العبث.
القول الثالث: أنه للإباحة
قال الرازي في "المحصول": وهو قول مالك1 ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا؛ لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي وكذلك حكاه ابن السمعاني2 والآمدي، وابن الحاجب حملًا على أقل الأحوال. واحتج من قال بالإباحة: بأنه قد ثبت أن فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجوز أن يكون صادرًا على وجه يقتضي الإثم لعصمته، فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحًا أو مندوبًا أو واجبًا. وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل. فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل، فثبت
__________
* في "أ": أتت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك، شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين هجرية، وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة هجرية، ودفن في البقيع. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 48"، تذكرة الحفاظ "1/ 208"، شذرات الذهب "1/ 289".
2 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار، التميمي، السمعاني المروزي، شيخ الشافعية، ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة هـ، وتوفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة هـ، من آثاره: كتاب "الاصطلام" وكتاب "البرهان" و"الأمالي". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 114" شذرات الذهب "3/ 393"، هدية العارفين "2/ 473".

(1/108)


بهذا أنه لا حرج في فعله، كما أنه لا رجحان في فعله، فكان مباحًا وهو المتيقن، فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن. ويجاب عنه: بأن محل النزاع كما عرفت هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة وظهورها ينافي مجرد الإباحة وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به.
القول الرابع:
الوقف، قال الرازي في "المحصول": وهو قول الصيرفي1 وأكثر المعتزلة، وهو المختار انتهى. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي، وحكاه أيضًا عن الدقاق2، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري3. وحكاه في "اللمع" عن الصيرفي وأكثر المتكلمين. وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة، فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها، والمتيقن مما هو فوقها الندب.
وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة، بل كان مجردًا مطلقًا فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال:
الأول: أنه واجب علينا
وقد روي هذا عن ابن سريج، قال الجويني "وهو كذلك في النقل عنه، وهو أجل قدرًا من ذلك ولكن حكاه ابن الصباغ4 عن الاصطخري"* وابن خيران، وابن أبي هريرة، والطبري، وأكثر متأخري الشافعية.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي، أبو بكر، أحد المتكلمين الفقهاء من الشافعية من أهل بغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هجرية، كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي من آثاره: "كتاب الفرائض" البيان في دلائل الإعلام على أصول الأحكام".ا. هـ الأعلام "6/ 224".
2 هو محمد بن محمد بن جعفر الدقائق. أبو بكر، الفقيه، الشافعي، الأصولي، الذي ولي القضاء بكرخ ببغداد، له كتاب في الأصول، على مذهب الإمام الشافعي توفي سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة هـ، ا. هـ تاريخ بغداد "3/ 229".
3 هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، الطبري الشافعي، شيخ الإسلام، القاضي، فقيه، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة خمسين وأربعمئة هـ، من آثاره: "شرح مختصر المزني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 668" شذرات الذهب "3/ 284"، هدية العارفين "1/ 429".
4 هو عبد السيد بن محمد، أبو نصر، البغدادي، الفقيه، المعروف بابن الصباغ، ولد سنة أربعمائة هـ، وتوفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الشامل" "الكامل" "تذكرة العالم والطريق السالم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 464" هدية العارفين "1/ 573"، شذرات الذهب "3/ 355".

(1/109)


وقال سليم الرازي1: أنه ظاهر مذهب الشافعي، واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة.
ويجاب عنهم بما أجيب به عن أولئك بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل، وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان2 والرازي في "المعالم"3، قال القرافي4: وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية، ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق.
القول الثاني: أنه مندوب
قال الزركشي في"البحر": وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير، قال الروياني5: هو قول الأكثرين. وقال ابن القشيري: في كلام الشافعي ما يدل عليه.
قلت: هو الحق؛ لأن فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن لم يظهر فيه قصد القربة فهو لا بد أن يكون لقربة، وأقل ما يتقرب به هو المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة فإن الإباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به. فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو تفريط كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط الحق بين المقصر والغالي.
__________
1 هو سليم بن أيوب بن سليم، الإمام شيخ الإسلام، أبو الفتح، الرازي الشافعي، ولد سنة نيف وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي غريقًا سنة سبع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الإشارة في الفروع" "التقريب في الفروع" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 645"، هدية العارفين "1/ 409".
2 هو أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، أبو الحسين، من كبراء الشافعية، له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة تسع وخسمين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159"، شذرات الذهب وفروعه. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159، شذرات الذهب "3/ 28"، هدية العارفين "1/ 65".
3 واسمه "المعالم في أصول الفقه" للإمام فخر الدين الرازي، وعليه شروح كثيرة، منها شرح لأبي الحسين علي بن الحسين الأرموي، وللإمام فخر الدين الرازي ثلاثة كتب باسم المعالم واحد في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه، والثالث في الكلام. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1726".
4 هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين، نسبته إلى القرافة محلة الإمام الشافعي في مصر، له مصنفات جليلة، منها: "أنوار البروق في أنواء الفروق" "الخصائص" "شرح المحصول" وغيرها كثير، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، ا. هـ. الأعلام "1/ 94"، معجم المؤلفين "1/ 158"، كشف الظنون "1/ 186".
5 هو عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، أبو المحاسن، الطبري الشافعي القاضي العلامة، فخر الإسلام، شيخ الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، وتوفي قتيلًا سنة إحدى وخمسمائة هـ، من آثاره: "بحر المذهب" "حلية المؤمن في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 260"، هدية العارفين "1/ 634"، إيضاح المكنون "2/ 130".

(1/110)


القول الثالث: أنه مباح
نقله الدبوسي في "التقويم"1، عن أبي بكر الرازي، وقال: إنه الصحيح، واختاره الجويني في "البرهان" وهو الراجح عند الحنابلة، ويجاب عنه بما ذكرناه2 قريبا.
القول الرابع: الوقف حتى يقوم دليل
نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية، قال واختاره الدقاق وأبو القاسم، بن كج3 قال الزركشي: وبه قال جمهور أصحابنا، وقال ابن فورك: إنه الصحيح، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية"4، واستدلوا بأنه لما كان محتملًا للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعينًا، ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا5، منع احتمال الخصوصية؛ لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع، ما لم يدل دليل على الاختصاص وحينئذ فلا وجه للتوقف والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له.
__________
1 واسمه "تقويم الأدلة في الأصول" للقاضي الإمام أبي زيد، عبد الله "وقيل: عبيد الله" بن عمر الدبوسي، مجلد واحد، أوله الحمد لله رب العالمين وشرحه فخر الإسلام البزدوي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 467".
2 انظر صفحة: "109".
3 هو يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، أبو القاسم، القاضي العلامة، شيخ الشافعية، توفي سنة خمس وأربع مائة هـ، من آثاره: "التجريد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 184"، هدية العارفين "2/ 550". شذرات الذهب "3/ 177".
4 لم أجد أحدًا ممن ترجم له، ينسب إليه شرح الكفاية، ولكن له شرح على مختصر المزني في فروع الشافعية، وله مصنفات في الأصول والجدل والخلاف أيضًا، ا. هـ. انظر صفحة "110" حيث تقدمت ترجمته هناك.
5 انظر صفحة: "109".

(1/111)


الفصل الخامس: في تعارض الأفعال
...
البحث الخامس: في تعارض الأفعال
اعلم أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال، بحيث يكون البعث منها ناسخًا لبعض أو مخصصًا له، لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبًا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه؛ لأن الفعل لا عموم له، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة، ولا يدل على التكرار، هكذا قال جمهور أهل الأصول على اختلاف طبقاتهم وحكى ابن العربي1 في كتاب "المحصول"2 ثلاثة أقوال:
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر، الإمام العلامة، الحافظ القاضي، الأندلسي الإشبيلي المالكي، ولد سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "العواصم من القواصم" "عارض الأحوذي" "الأصناف" وغيرها، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة هـ، سير أعلام النبلاء "20/ 197"، شذرات الذهب "4/ 141"، كشف الظنون "553"، هدية العارفين "20 90" الأعلام "6/ 230".
2 واسمه "المحصول على علم الأصول". ا. هـ. إيضاح المكنون "2/ 442".

(1/111)


الأول التخيير.
الثاني: تقديم المتأخر، كالأقوال إذا تأخر بعضها.
الثالث: حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج، قال: كما اتفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة، قال مالك والشافعي: إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم، انتهى.
وحكي عن ابن رشد1 أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال، وقال القرطبي2: يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ، وإن جهل فالترجيح وإلا فهما متعارضان كالقولين.
وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض، وقال الغزالي في "المنخول": إذا نقل فعل وحمل على الوجوب ثم نقل فعل يناقضه فقال القاضي3: لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى "لمدة"* الفعل الأول. قال: وذهب ابن مجاهد4 إلى أنه نسخ وتردد في القول الطارئ على الفعل وجزم إلكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل، بأنه يكون ما بعده ناسخًا له، قال: وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده.
والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال، فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها، بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة، وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال، أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من
__________
* في "أ": مدة.
__________
1 هو محمد بن أحمد بن رشد المالكي، أبو الوليد، قاضي الجماعة بقرطبة، توفي سنة عشرين وخمسمائة هـ، وكان من أوعية العلم، وله تصانيف مشهورة. منها: "حجب المواريث" "المقدمات" ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 62"، معجم المؤلفين "8/ 228"، سير أعلام النبلاء "19/ 501"، هدية العارفين "2/ 85".
2 هو محمد بن أحمد بن أبي بكر: الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبوعبد الله، من كبار المفسرين، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "الجامع لأحكام القرآن" "التذكرة بأحوال الموتى والآخرة". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 335"، كشف الظنون "1/ 534"، الأعلام "5/ 322"، معجم المؤلفين "8/ 239".
3 ستأتي ترجمته في الصفحة "119" حيث صرح به هناك.
4 هو محمد بن أحمد بن محمد، أبو عبد الله، الأستاذ، ابن مجاهد، الطائي البصري، توفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، وله من التصانيف الكثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 305"، هدية العارفين "2/ 49".

(1/112)


الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال، وذلك كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين؛ لأن هذا الفعل بمثابة القول قال الجويني: وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما، واعتقاد كونه ناسخًا للأول، قال: وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا، ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف.
وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بيانًا كما ذكرنا فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بيانا، وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري2 عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ على ما ذكرنا.
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "105".
2 هو محمد بن علي بن عمر، أبو عبد الله، الشيخ الإمام العلامة، المازري المالكي، توفي سنة ست وثلاثين وخمس مائة هـ, من آثاره: "المعلم بفوائد شرح مسلم" "إيضاح المحصول" "شرح التلقين". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "20/ 104"، هدية العارفين "2/ 88" ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي "72-73".

(1/113)


الفصل السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل
...
البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل
إذا وقع التعارض بين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وفيه صور.
وبين ذلك: أن ينقسم أولًا إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يعلم تقدم القول على الفعل.
ثانيها: أن يعلم تقدم الفعل على القول.
ثالثهما: أن يجهل التاريخ.
وعلى الأولين: إما أن يتعقب الثاني الأول، بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر، وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام.
وعلى الثلاثة الأول: إما أن يكون القول عامًا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته، أو خاصًا به، أو خاصًا بأمته فتكون الأقسام ثمانية:
ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووجوب تأسي الأمة به، أو لا يدل دليل على واحد منهما أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي، أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار. فإذا ضربت الأقسام الأربعة، وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه، في الثلاثة التي ينقسم إليها القول، من كونه يعم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(1/113)


وأمته، أو يخصه، أو يخص أمته، حصل منها اثنا عشر قسما، نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي، أو عدمهما أو وجود أحدهما دون الآخر، فيحصل ثمانية وأربعون قسمًا، وقد قيل: إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسمًا وما ذكرناه أولى، وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسمًا:
الأول:
أن يكون القول مختصًا به، مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي، وذلك نحو أن يفعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلًا ثم يقول بعد: لا يجوز لي مثل هذا الفعل، فلا تعارض بين القول والفعل؛ لأن القول في هذا الوقت لا تعلق به بالفعل في الماضي، إذ الحكم يختص بما بعده ولا في المستقبل، إذ لا حكم للفعل في المستقبل؛ لأن الغرض عدم التكرار له.
القسم الثاني :
أن يتقدم القول مثل أن يقول: لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ثم يفعله فيه، فيكون الفعل ناسخًا لحكم القول.
القسم الثالث:
أن يكون القول خاصًا به، ويجهل التاريخ فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيه خلاف وقد رجح الوقف.
القسم الرابع:
أن يكون القول مختصًا بالأمة وحينئذ فلا تعارض؛ لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد.
القسم الخامس:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصًا له من عموم القول، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر1 ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر2، ومداومته عليهما3 وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الجمهور، قالوا:
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحر الصلاة قبل غروب الشمس "586"، مسلم، كتاب صلاة المسافر، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها "827". النسائي، كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر "566" "1/ 278". والإمام أحمد "3/ 95". والنسائي في السنن الكبرى "390". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر. وبعد العصر "1249".
2 أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة قالت: لما شغل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الركعتين بعد الظهر صلاهما بعد العصر "6/ 306". وابن حبان في صحيحه برقم "1574". الطبراني في المعجم برقم "584"، "23/ 273" وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الصلاة، باب الساعة التي يكره فيها الصلاة. برقم "3970".
والنسائي "1/ 282" من كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر برقم "578". والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الصلاة دون البعض وأنه يجوز في هذه الساعات كل صلاة لها سبب "2/ 457".
3 أخرج البخاري "عن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة أنها قالت: ما من يوم كان يأتي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا صلى بعد العصر ركعتين"، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها برهم "593"، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها "835"، والنسائي، كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر "573" "1/ 281"، وابن حبان في صحيحه برقم "1570" أحمد في مسنده "6/ 134"، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد العصر "1279".

(1/114)


وسواء تقدم الفعل أو تأخر.
وقال الأستاذ أبو منصور1: إن تقدم الفعل دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه، هذا إذا كان القول شاملًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطريق الظهور، كأن يقول: لا يحل لأحد، أو لا يجوز لمسلم، أو لمؤمن، وأما إذا كان متناولًا له على سبيل التنصيص، كأن يقول: لا يحل لي ولا لكم، فيكون الفعل ناسخًا للقول في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا في حقنا فلا تعارض.
القسم السادس:
أن يدل دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسي فيه ويكون القول خاصًا به وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة، وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ، فإن جهل التاريخ، فقيل: يؤخذ بالقول في حقه، وقيل: بالفعل، وقيل: بالوقف.
القسم السابع:
أن يكون القول خاصًا بالأمة، مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل، فلا تعارض في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما في حق الأمة، فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ، وإن جهل التاريخ، فقيل: يعمل بالفعل وقيل: بالقول وهو الراجح؛ لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل، وأيضًا هذا القول "الخاص"* أخص من الدليل العام الدال على التأسي، والخاص مقدم على العام ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به.
القسم الثامن:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، مع قيام الدليل على التكرار والتأسي، فالمتأخر ناسخ في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك في حقنا، وإن جهل التاريخ، فالراجح تقدم القول لما تقدم.
القسم التاسع:
أن يدل الدليل على التكرار في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون التأسي به، ويكون القول خاصًا بالأمة، وحينئذ فلا تعارض أصلًا لعدم التوارد على محل واحد.
القسم العاشر:
أن يكون خاصًا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قيام الدليل على عدم التأسي به فلا تعارض أيضًا.
القسم الحادي عشر:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، مع عدم قيام الدليل على التأسي به في
__________
* في "أ": الخاص بأمته.
__________
1 هو عبد القاهر بن طاهر، الأستاذ أبو منصور البغدادي، أحد أعلام الشافعية، توفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة هـ، وله مصنفات في النظر والتعليقات، منها: "بلوغ المدى في أصول الهدى" "تأويل متشابه الأخبار" التحصيل في الأصول". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 572"، هدية العارفين "1/ 606"، كشف الظنون "1/ 254".

(1/115)


الفعل، فيكون الفعل مخصصًا له من العموم، ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم وجود دليل يدل على التأسي به، وأما إذا جهل التاريخ، فالخلاف في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تقدم1 في ترجيح القول على الفعل، أو العكس، أو الوقف.
القسم الثاني عشر:
إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار أو يكون القول مخصصًا به فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه، فإن تأخر القول فلا تعارض وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه كما تقدم2.
القسم الثالث عشر:
أن يكون القول خاصًا بالأمة ولا تعارض في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما في حق الأمة فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي.
القسم الرابع عشر:
أن يكون القول عامًا له وللأمة مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار، ففي حق الأمة المتأخر ناسخ. وأما في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن تقدم الفعل فلا تعارض، وإن تقدم القول فالفعل ناسخ.
ومع جهل التاريخ فالراجح القول في حقنا وفي حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوة دلالته وعدم احتماله "ولقيام"* الدليل هاهنا على عدم التكرار.
واعلم أنه لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي، بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولُ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 3 أسوة حسنة، وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث4.
__________
* في "أ": أو لقيام.
__________
1 انظر صفحة: "114".
2 انظر صفحة: "115".
3 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.
4 انظر صحفة: "102".

(1/116)


الفصل السابع: في التقرير
...
البحث السابع: في التقرير
وصورته أن يسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به. أو "يسكت"* عن إنكار فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به، فإن ذلك يدل على الجواز وذلك كأكل العنب بين يديه قال ابن القشيري: وهذا مما لا خلاف فيه وإنما اختلفوا في شيئين أحدهما أنه إذا دل التقرير على انتفاء الحرج فهل يختص بمن قرر أو يعم سائر المكلفين؟ فذهب القاضي إلى الأول؛ لأن التقرير ليس له صيغة تعم ولا يتعدى إلى غيره.
وقيل يعم للإجماع على أن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل وإلى هذا ذهب الجويني، وهو الحق؛ لأنه في حكم خطاب الواحد وسيأتي1 أنه يكون غير المخاطب بذلك الحكم من المكلفين كالمخاطب به ونقل هذا القول المازري عن الجمهور هذا إذا لم يكن التقرير مخصصًا لعموم سابق أما إذا كان مخصصًا لعموم سابق فيكون لمن قرر من واحد أو جماعة وأما إذا كان التقرير في شيء قد سبق تحريمه فيكون ناسخًا لذلك التحريم كما صرح به جماعة من أهل الأصول وهو الحق.
ومما يندرج تحت التقرير إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا، وأضافه إلى عصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان مما لا يخفى مثله عليه. وإن كان مما يخفى مثله عليه فلا ولا بد أن يكون التقرير على القول والفعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قدرته على الإنكار كذا قال جماعة من الأصوليين. وخالفهم جماعة من الفقهاء، فقالوا: إن من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخوف على النفس لإخبار الله سبحانه بعصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} 2 ولا بد أن يكون المقرر منقادًا للشرع، فلا يكون تقرير الكافر على قول أو فعل دالًا على الجواز.
قال الجويني: ويلحق بالكافر المنافق وخالفه المازري، وقال: إنا نجري على المنافق أحكام الإسلام ظاهرًا؛ لأنه من أهل الإسلام في الظاهر. وأجيب عنه: بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين لعلمه أن الموعظة لا تنفعهم.
وإذا وقع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستبشار بفعل أو قول، فهو أقوى في الدلالة على الجواز.
__________
* في "أ": أو سكت.
__________
1 انظر صفحة: "324".
2 جزء من الآية "67" من سورة المائدة.

(1/117)


الفصل الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
البحث الثامن: فيما هَمَّ بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ما هَمَّ به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما روي "أنه"* هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة1. ونحو ذلك فقال الشافعي ومن تابعه: إنه يستحب الإتيان بما هم به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهم من جملة أقسام السنة، وقالوا: يقدم القول، ثم الفعل، ثم التقرير، ثم الهم.
والحق أنه ليس من أقسام السنة؛ لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" 2.
__________
* في "أ": عنه بأنه.
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "3/ 430". وذكره ابن هشام في سيرته "3/ 176".
2 أخرج البخاري من حديث أبي هريرة بنحو من لفظه في كتاب الأذان باب وجوب صلاة الجماعة برقم "644" ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة برقم "651". ومالك في الموطأ بنفس اللفظ المذكور في كتاب صلاة الجماعة باب فضل صلاة الجماعة "1/ 129" والنسائي في كتاب الإمامة باب التشديد في التخلف عن الجماعة برقم "847" وابن ماجه في سننه في كتاب المساجد والجماعات باب التغليظ في التخلف عن الجماعة رقم "791" وأبو داود في كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة برقم "548" وابن حبان في صحيحه برقم "2098". وأحمد في مسنده "2/ 244".

(1/118)


الفصل التاسع: في حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
البحث التاسع: في حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الإشارة والكتابة، كإشارته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصابعه العشر إلى أيام الشهر ثلاث مرات، وقبض في الثالثة واحدة من أصابعه1، وككتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عماله في الصدقات2 ونحوها، ولا خلاف في أن ذلك من جملة السنة ومما تقوم به الحجة.
__________
1 أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص، كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهر تسع وعشرون برقم "1656"، أحمد في المسند "1/ 184، والنسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على إسماعيل في خبر سعد بن مالك رقم "2134" 4/ 138. وأبو يعلى في مسنده "رقم "807".
2 أخرجه ابن حبان في صحيحه: برقم "6558". والبيهقي في سننه، كتاب الزكاة، باب كيف فرض الصدقة "4/ 89" وقال ورويناه عن سالم ونافع موصولًا ومرسلًا. ومن حديث عمرو بن حزم موصولًا، وجميع ذلك يشد بعضه بعضًا. والحاكم في المستدرك في كتاب الزكاة "1/ 394". والنسائي مختصرًا في السنن كتاب القسامة "4868" 8/ 58.

(1/118)


الفصل العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
...
البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشيء، كفعله له في التأسي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم إليه الضب فأمسك عنه، وترك أكله: أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: "إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه" وأذن لهم في أكله1، وهكذا تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة الليل جماعة، خشية أن تكتب على الأمة2.
ويتفرع على هذا البحث إذا حدثت حادثة بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحكم فيها بشيء، هل يجوز لنا أن نحكم في نظائرها؟ "
فقال القاضي أبو يعلى"*3: الصحيح: أنه يجوز خلافًا لبعض المتكلمين في قولهم: تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحكم في حادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظائرها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث خالد بن الوليد، كتاب الذبائح، باب الضب، رقم "5537". ومسلم، كتاب صيد الذبائح، باب إباحة الضب، رقم "1945". وأبو داود كتاب الأطعمة، باب أكل الضب رقم "3794". وابن ماجه في كتاب الصيد، باب الضب "3241". والنسائي، كتاب الصيد، باب الضب "4327". وابن حبان في صحيحه "5263".
2 أخرجه البخاري: من حديث عائشة مطولًا، كتاب التهجد، باب تحريض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاة الليل بلفظ: فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" رقم "1129". ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح برقم "761". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في قيام شهر رمضان "1373". والنسائي، كتاب الصلاة، باب قيام شهر رمضان "1603" "3/ 202"، وابن حبان في صحيحه "2542".
3 هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى، القاضي، شيخ الحنابلة، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة هـ، كان له تصانيف كثيرة، منها: "الإيمان" "الأحكام السلطانية" "العدة" "الكفاية" "عيون المسائل" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 306"، الأعلام "6/ 99"، سير أعلام النبلاء "18/ 89".

(1/119)


الفصل الحادي عشر: في الأخبار وفيه أنواع
النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحا
...
البحث الحادي عشر: في الأخبار وفيه أنواع
النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحًا
أما معناه لغة: فهو مشتق من الخبار، وهي الأرض الرخوة؛ لأن الخبر يثير الفائدة، كما أن

(1/119)


الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه وهو نوع مخصوص من القول، وقسم من الكلام اللساني وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر:
تخبرك العينان ما القلب كاتم1
وقول المعري2:
نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أن الشعوب إلى صدع3
ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي؛ لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول.
وأما معناه اصطلاحًا: فقال الرازي في "المحصول": ذكروا في حده أمور ثلاثة:
الأول: أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب.
والثاني: أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب.
والثالث: ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفيًا أو إثباتًا قال: واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبًا تبعًا لذلك وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل.
قال الرازي: واعلم أن هذه التعريفات دورية أما الأول، فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها فإذًا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور.
وأجيب عن هذا: بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر بل هما ضروريان.
ثم قال: واعترضوا عليه أيضًا في ثلاثة أوجه:
الأول: أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف، ولا يمكن إسقاطها ههنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقًا وكذبًا معا.
__________
1 هو صدر بيت وعجزه: "ولا جن بالبغضاء والنظر الشزار" ونسب البيت في شرح التوحيدي لديوان المتنبي 112، والتبيان1/ 253 لابن الرومي وليس في ديوانه. ونسب العجز في اللسان "خبن" للهذلي وليس في ديوان الهذليين.
2 هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، الشيخ العلامة، شيخ الآداب، أبو العلاء، ولد سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي بالإسكندرية سنة تسع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "رسالة الغفران" "سقط الزند" "لزوم ما لا يلزم" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 23"، هدية العارفين "1/ 77"، معجم البلدان "5/ 156".
3 من البحر الطويل، وهو مطلع قصيدة قالها وهو يودع بغداد "انظر شروح سقط الزند 1332".

(1/120)


الثاني: أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجًا عن هذا التعريف.
الثالث: من قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسيلمة صادقان، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه.
وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وخبر الله تعالى كذلك؛ لأنه صدق.
وعن الثالث: بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران، وإن كانا في اللفظ خبرًا واحدًا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإضافته إلى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب، سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معًا وليس الأمر كذلك فكان كاذبًا لا محالة.
وأما التعريف الثاني: فالاعتراض عليه: أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقًا أو كذبًا فقولنا الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب جارٍ مجرى قولنا الخبر هو الذي يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفًا للخبر بالخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشيء بنفسه والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به.
وأما التعريف الثالث: فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه:
الأول: أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته، فإذا قلنا: السواد موجود فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر.
والثاني: إنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر؛ لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة.
والثالث: أن قولنا نفيًا وإثباتًا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور.
قال الرازي: وإذا بطلت هذه التعريفات، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين:
الأول: أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجودًا ومعدومًا، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفًا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريًّا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا.
الثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي

(1/121)


يحسن فيه، الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورًا بديهيًّا لم يكن الأمر كذلك.
فإن قلت: الخبر نوع من أنواع الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية، فكيف قلت: أن ماهية الخبر متصورة تصورًا بديهيًّا؟
قلت: حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر وليس له الآخر معقول واحد، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه. وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضًا. لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور، انتهى.
ويجاب عنه: بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد، ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور.
وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضروريًّا كيفية لحصوله، وأنه يقبل الاستدلال عليه والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة فإنه يمتنع أن يكون حاصلًا بالضرورة والاستدلال لتنافيهما.
وأجيب أيضًا: بأن المعلوم ضرورة إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتًا، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر، فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية.
وقيل: إن الخبر لا يحد لتعسره وقد تقدم بيانه في تعريف العلم1.
وقيل: الأولى في حد الخبر أن يقال هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية، والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ فلا يرد عليه قم لأن مدلوله الطلب نفسه، وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقًا واقعًا في الخارج. وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية2 والإضافية.
واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري*.
__________
* ف "أ" زيادة وهي: معدوم محال.
__________
1 انظر صفحة "17" وما بعدها.
2 ليعلم: أن المركب نوعان: تام وهو ما يصح السكوت عليه، وغير تام: وهو ما لا يصح السكوت عليه، وهو إما تقييدي، إن كان الثاني قيدًا للأول نحو: حيوان ناطق، وإما غير تقييدي، كالمركب من اسم وأداة نحو: في الدار. ا. هـ. التعريفات "269".

(1/122)


وأجيب بأن المراد: النسبة الخارجية عن المدلول، سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم أو بالخارج عن الذهن، كالقيام، أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع.
والأولى أن يقال في حد الخبر هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته، وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق.
وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي، أم حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي أم العكس كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة أقوال لأن الخبر قسم من أقسامه وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ويسمونه إنشاءً وتنبيهًا ويندرج فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني والعرض والترجي والقسم.

(1/123)


النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب
النوع الثاني: أن الخبر ينقسم إلى صدق وكذب، وخالف في ذلك القرافي، وادعى أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق وليس لنا خبر كذب واحتمال الصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم لا من جهة الواضع ونظيره قولهم الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز، وقد أجمعوا على أن المجاز ليس من الوضع الأول.
ثم استدل على ذلك باتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا: قام زيد، حصول القيام له في الزمن الماضي، ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه، وإنما احتماله له من جهة المتكلم لا من جهة اللغة.
وأجيب عنه: بأنه مصادم للإجماع على أن الخبر موضوع لأعم من ذلك، وما ادعاه من أن معنى قام زيد حصول القيام له في الزمن الماضي باتفاق أهل اللغة والنحو ممنوع فإن مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب.
ويجاب عن هذا الجواب: بأن هذا الاحتمال إن كان من جهة المتكلم، فلا يقدح على القرافي بل هو معترف به، كما تقدم عنه وإن كان من جهة اللغة فذلك مجرد دعوى ويقوي ما قاله القرافي إجماع أهل اللغة قبل ورود الشرع وبعده على مدح الصادق وذم الكاذب ولو كان الخبر موضوعًا لهما لما كان على من تكلم بما هو موضوع من بأس.
ثم اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلى أنه لا واسطة بين الصدق والكذب لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا، والأول الصدق والثاني الكذب وأثبت الجاحظ1 الواسطة بينهما، فقال:
__________
1 هو عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، البصري المعتزلي، صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الحيوان" "البيان والتبيين" "البخلاء" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 527" معجم الأدباء "16/ 74".

(1/123)


الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق والمطابق إما مع اعتقاده أنه مطابق أو لا، وغير المطابق إما مع اعتقاد أنه غير مطابق أو لا والثاني منهما وهو ما ليس مع الاعتقاد ليس بصدق ولا كذب واستدل بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّة} 1.
ووجه الاستدلال بالآية: أنه حصر ذلك في كونه افتراء، أو كلامَ مجنونٍ، فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقًا لأنهم لا يعتقدون كونه صدقًا وقد صرحوا بنفي الكذب عنه لكونه قسيمة وما ذاك إلا "لأن"* المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد.
وأجيب: بأن المراد من الآية أفترى أم لم يفتر، فيكون مجنونًا لأن المجنون لا افتراء له والكذب من غير قصد يكون مجنونًا أو المراد أقصد فيكون مجنونًا أم لم يقصد فلا يكون خبرًا.
والحاصل: أن الافتراء أخص من الكذب، ومقابله قد يكون كذبًا وإن سلم فقد لا يكون خبرًا فيكون هذا حصرًا للكذب في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد.
قال الرازي في "المحصول": والحق أن المسألة لفظية؛ لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر "إما"** أن يكون مطابقًا للمخبر عنه أو لا يكون مطابقًا فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير مطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقًا مع أن المخبر يكون عالمًا بكونه مطابقًا وبالكذب الذي لا يكون مطابقًا مع أن المخبر يكون عالمًا بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية؛ انتهى.
وقال النظام2 ومن تابعه من أهل الأصول والفقهاء: إن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد، والكذب عدم مطابقته للاعتقاد واستدل بالنقل والعقل.
أما النقل: فبقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
__________
* في "أ": أن المجنون.
** في "أ": فإما.
__________
1 جزء من الآية "8" سورة سبأ.
2 إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث، أبو أسحاق، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين هـ، من آثاره: "الطفرة" "الجواهر والأعراض" "الوعيد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 541"، الأعلام "1/ 43".

(1/124)


لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} 1 فإن الله سبحانه حكم "عليهم"* في هذه الآية حكمًا مؤكدًا بأنهم كاذبون في قولهم {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مع مطابقته للواقع فلو كان للمطابقة للواقع أو لعدمها مدخل في الصدق والكذب لما كانوا كاذبين لأن خبرهم هذا مطابق للواقع ولا واسطة بن الصدق والكذب.
وأجيب: بأن التكذيب راجع إلى خبر تضمنه معنى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وهو أن شهادتهم هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لأن ذلك معنى الشهادة سيما بعد تأكيده بـ"إن واللام والجملة الاسمية".
وأجيب أيضًا: بأن التكذيب راجع إلى زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل؛ لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع.
وأجيب أيضًا: بأن التكذيب راجع إلى حلفهم المدلول عليه بقوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَل} 2.
ولا يخفى ما في الأجوبة من مزيد التكلف، ولكنه ألجأ إلى المصير إليها الجمع بين الأدلة. وأما العقل فمن وجهين:
الأول: أن من غلب على ظنه أن زيدًا في الدار "فأخبر عن كونه في الدار"**، ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد أنه كذب في هذا الخبر، بل يقال: أخطأ أو وهم.
الثاني: أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه كذبًا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع.
واحتج الجمهور على ما قالوه من أن صدق الخبر مطابقته "للواقع"*** وكذبه عدمها بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد} 3 فكذبهم الله سبحانه مع كونهم يعتقدون ذلك وبقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينْ} 4، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الآية 1 من سورة "المنافقون".
2 جزء من الآية "8" من سورة "المنافقون".
3 جزء من الآية "73" من سورة "المائدة".
4 جزء من الآية "39" من سورة "النحل".

(1/125)


ويدل لذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع، وقد قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن جماعة من الصحابة قالوا: بطل عمل عامر1 لما رجع سيفه على نفسه فقتله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كذب من قال ذلك بل له أجر مرتين" 2. فكذبهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنهم أخبروا بما كان في اعتقادهم.
وفي البخاري وغيره أن أبا سفيان قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح: إن سعد بن عبادة قال: اليوم تستحل الكعبة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" 3.
واحتجوا بالإجماع على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أنهم يعتقدون صحة تلك الكفريات، وكذلك وقع الإجماع على تكذيب الكافر إذا قال الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده.
والذي يظهر لي: أن الخبر لا يتصف بالصدق إلا إذا جمع بين مطابقة الواقع والاعتقاد، فإن خالفهما أو أحدهما فكذب فيقال في تعريفهما هكذا الصدق ما طابق الواقع والاعتقاد. والكذب ما خالفهما أو أحدهما ولا يلزم على هذا ثبوت واسطة؛ لأن المعتبر هو كلام العقلاء، فلا يرد كلام الساهي والمجنون والنائم وجميع أدلة الأقوال المتقدمة تصلح للاستدلال بها على هذا، ولا يرد عليه شيء مما ورد عليها.
فإن قلت: من جملة ما استدل به الجمهور الإجماع على تصديق الكافر إذا قال: الإسلام حق وهو إنما طابق الواقع لا الاعتقاد، قلت ليس النزاع إلا في مدلول الصدق والكذب لغة لا شرعًا، وهذا الإجماع إنما هو من أهل الشرع لا من أهل اللغة والدليل الذي "مستند"* إجماعهم شرعي لا لغوي، ولكن الكذب المذموم شرعًا هو المخالف للاعتقاد سواء طابق الواقع أو خالفه، وذلك لا يمنع من صدق وصف ما خالف الواقع وطابق الاعتقاد بالكذب "لغة"**.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عامر بن سنان، الصحابي، المشهور، ومقتله كان في غزوة خيبر ا. هـ. الإصابة "2/ 241".
2 أخرجه البخاري، في المغازي، باب غزوة خيبر "4196" ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر "1802" والنسائي، كتاب الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله فارتد عليه سيفه فقتله برقم "3150" "6/ 31" وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يموت بسلاحه بلفظ: "كذبوا مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين" "2538".
3 أخرجه البخاري مطولًا من طريق هشام عن أبيه في كتاب المغازي باب أين ركز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية يوم الفتح رقم "4280". وابن كثير في البداية والنهاية "4/ 333". والبيهقي في الدلائل "5/ 98" وابن عبد البر من رواية ابن عقبة في الدرر "217".

(1/126)


النوع الثالث: في تقسيم الخبر
اعلم أن الخبر لغة من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكن قد يقطع بصدقه وقد يقطع بكذبه لأمور خارجة وقد لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المقطوع بصدقه
وهو إما أن يعلم بالضرورة أو النظر فالمعلوم بالضرورة بنفسه وهو المتواتر أو بموافقة العلم الضروري وهي الأوليات كقولنا: الواحد نصف الاثنين. وأما المعلوم بالنظر فهو ضربان:
الأول: أن يدل الدليل على صدق الخبر نفسه فيكون كل من يخبر به صادقًا كقولنا: العالم حادث.
والضرب الثاني: أن يدل الدليل على صدق المخبر فيكون كل ما يخبر به "صدقًا"* وهو ضروب.
الأول: خبر من دل الدليل على أن الصدق وصف واجب له وهو الله عز وجل.
الثاني: من دلت المعجزة على صدقه وهم الأنبياء صلوات الله عليهم.
الثالث: من صدقه الله سبحانه أو رسوله وهو خبر كل الأمة على القول بأن الإجماع حجة قطعية.
القسم الثاني: المقطوع بكذبه
وهو ضروب:
الأول: المعلوم خلافه إما بالضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.
الثاني: المعلوم خلافه إما بالاستدلال كالإخبار بقدم العالم أو بخلاف ما هو من قطعيات الشريعة.
الثالث: الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله متواترًا إما لكونه من أصول الشريعة وإما لكونه أمر غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة.
الرابع: خبر مدعي الرسالة من غير معجزة.
الخامس: كل خبر استلزم باطلًا ولم يقبل التأويل، ومن ذلك الخبر الآحادي إذا خالف القطعي كالمتواتر.
القسم الثالث: ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه
وذلك كخبر المجهول فإنه لا يترجح صدقه ولا كذبه، وقد يترجح صدقه ولا يقطع بصدقه وذلك كخبر العدل وقد يترجح كذبه ولا يقطع بكذبه، كخبر الفاسق.
__________
* في "أ": متحققًا.

(1/127)


النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
القسم الأول: المتواتر
...
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
إن الخبر باعتبار آخر ينقسم إلى متواتر وآحاد.
القسم الأول: المتواتر
وهو في اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من الوتر.
وفي الاصطلاح: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.
وقيل في تعريفه: هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه.
وقيل: خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم فقولهم من حيث كثرتهم لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة كالعلم بمخبرهم ضرورة أو نظرًا، وكما يخرج من هذا الحد بذلك القيد ما ذكرنا كذلك يخرج من قيد بنفسه في الحد الذي قبله.
وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري؟
فذهب الجمهور إلى أنه ضروري.
وقال الكعبي1 وأبو الحسن البصري: إنه نظري.
وقال الغزالي: إنه قسم ثالث ليس أوليًّا ولا كسبيًّا، بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها "وقالت السمنية2 والبراهمة3: إنه لا يفيد العلم أصلًا"*، وقال المرتضى4 والآمدي بالوقف.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمود، أبو القاسم البلخي، شيخ المعتزلة، العلامة، المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المقالات" "الجدل" "السنة والجماعة"، وذكر صاحب الشذرات: أنه توفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، والصواب على ما ذكره الذهبي: من أنه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 313 "، الكامل في التاريخ "6/ 217".
2 وهم أصحاب سمن، وهم عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر، وبتناسخ الأرواح، وأن الأرض تهوي سفلًا أبدًا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين وبقايا السمنية بالهند والصين. ا. هـ. مفاتيح العلوم للخوارزمي "55".
3 هم الذين ينتسبون إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلًا، وقرر استحالة ذلك من وجوه، والبراهمية هم من أمم الهند، لعض الناس يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ لما ذكرنا. ا. هـ. الملل والنحل "2/ 251".
4 هو علي بن حسين بن موسى، القرشي العلوي، العلامة الشريف المرتضى، أبو القاسم، من ولد موسى الكاظم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة هـ. من آثاره: "الشافي في الإمامة" "الذخيرة في الأصول" "التنزية" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 588"، معجم الأدباء "13/ 143"، هدية العارفين "1/ 688".

(1/128)


والحق قول الجمهور، للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا، ووجود الأشخاص الماضية قبلنا، جزمًا خاليًا عن التردد، جاريًا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات، فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات وذلك سفسطة1 لا يستحق صاحبها المكالمة.
وأيضًا: لو لم يكن ضروريًّا لافتقر إلى توسيط2 المقدمتين3، واللازم4 منتفٍ؛ لأنا نعلم بذلك قطعًا مع انتفاء المقدمتين لحصوله بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب.
واستدل القائل بأنه لا يفيد العلم بقولهم: لا ننكر حصول الظن القوي بوجود ما ذكرتم لكن لا نسلم حصول اليقين وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا وجود المدينة الفلانية أو الشخص الفلاني مما جاء التواتر بوجودهما وعرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين وجدنا الجزم بالثاني أقوى من الجزم بالأول، وحصول التفاوت بينهما يدل على تطرق النقيض إلى المرجوح.
وأيضًا: جزمنا بهذه الأمور المنقولة بالتواتر ليس بأقوى من جزمنا بأن هذا الشخص الذي رأيته اليوم هو الذي رأيته أمس، مع أن هذا الجزم ليس بيقين ولا ضروري؛ لأنه يجوز أن يوجد شخص مساوٍ له في الصورة من كل وجه.
ويجاب عن هذا: بأنه تشكيك في أمر ضروري فلا يستحق صاحبه الجواب، كما أن من أنكر المشاهدات لا يستحق الجواب، فإنا لو جوزنا أن هذا الشخص المرئي اليوم غير الشخص المرئي أمس لكان ذلك مستلزمًا للتشكيك في المشاهدات. و"استدل"* والقائلون بأنه نظري بقولهم: لو كان ضروريًّا لعلم بالضرورة أنه ضروري.
وأجيب: بالمعارضة بأنه لو كان نظريًّا لعمل بالضرورة كونه نظريًّا كغيره من النظريات "وبالحس"**، وذلك أن الضرورية والنظرية صفتان للعمل، ولا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بالحل. وهو تحريف.
__________
1 قياس مركب من الوهميات، والغرض منه: تغليط الخصم، وإسكاته كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، لينتج أن الجوهر عرض. ا. هـ. التعريفات "158".
2 توسيط: التوسيط والواسطة هي المقدمة الغربية التي لا تكون مذكورة في القياس.
3 المقدمتين: تثنية مقدمة: وهي قضية جعلت جزء قياس أو يتوقف عليه صحة دليل القياس.
4 اللازم: هو كون العلم بالتواتر غير ضروي.

(1/129)


الجمهور أيضًا: بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظريًّا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين وكثير من العامة، فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري.
وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال إنه نظري، يندفع أيضًا قول من قال إنه قسم ثالث، وقول من قال بالوقف؛ لأن سبب وقفه ليس إلا تعارض الأدلة عليه، وقد اتضح بما ذكرنا أنه لا تعارض فلا وقف.
واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم، وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية، والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه.
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروي:
ثم اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيدًا للعلم الضروري إلا بشروط، منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين:
فالتي ترجع إلى المخبرين أمور أربعة:
الأول:
أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين، فلو كانوا ظانين لذلك فقط لم يفد القطع، هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقلاني.
وقيل: إنه غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل؛ لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلدًا فيه أو ظانًّا له أو مجازفًا وإن أريد وجوب علم البعض فمسلم، ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس.
الشرط الثاني:
أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع؛ لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه.
قال الأستاذ أبو منصور: فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه، واعتقدوه بالنظر والاستدلال، أو عن شبهة فإن ذلك لا يوجب علمًا ضروريًّا لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية1 بحدوث العالم وتوحيد الصانع، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك؛ لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار انتهى.
__________
1 هم فرقة خالفت ملة الإسلام، وادعت قدم الدهر، وأسندت الحوادث إليه كما حدث القرآن الكريم عنهم فقال: {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، وذهبوا أيضًا إلى ترك العبادات لزعمهم أنها لا تفيد، والدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو عليه فما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع، وسحاب يقشع، وهواء يقمع. نعوذ بالله من ذلك. ا. هـ. الفصل في الملل والأهواء والنحل "1/ 47".

(1/130)


ومن تمام هذا الشرط: أن لا تكون المشاهدة، والسماع على سبيل غلط الحس، كما في أخبار النصارى بصلب المسيح عليه السلام، وأيضًا لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك، لم يوثق بخبرهم ولا يلتفت إليه.
الشرط الثالث:
أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يقيد ذلك بعدد معين، بل ضابطه: حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر، وإلا فلا، وهذا قول الجمهور.
وقال قوم منهم القاضي أبو الطيب الطبري: يجب أن يكونوا أكثر من الأربعة؛ لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما احتاج الحاكم إلى السؤال عن عدالتهم إذا شهدوا عنده.
وقال ابن السمعاني: ذهب أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الجبائي. واستدل بعض أهل هذا القول بأن الخمسة عدد أولي العزم1 من الرسل "وهم"* على الأشهر، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه.
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف، مع عدم تعلقه بمحل النزاع بوجه من الوجوه.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعة، بعدد أهل الكهف، وهو باطل.
وقيل: يشترط عشرة، وبه قال الاصطخري، واستدل على ذلك بأن ما دونها جمع قلة، وهذا استدلال ضعيف أيضًا.
وقيل: يشترط أن يكونوا اثني عشر بعدد النقباء لموسى عليه السلام لأنهم جعلوا كذلك لتحصيل العلم بخبرهم وهذا استدلال ضعيف أيضًا. وقيل: يشترط أن يكونوا عشرين لقوله سبحانه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُون} 2، وهذا مع كونه في غاية الضعف خارج عن محل النزاع، وإن قال المستدل به بأنهم إنما جعلوا كذلك ليفيد خبرهم العلم بإسلامهم، فإن المقام ليس مقام "إخبار"**، خبر ولا استخبار وقد روي هذا القول عن أبي الهذيل3 وغيره من المعتزلة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": خبر.
__________
1 أولو العزم: أصحاب الحزم والصبر واختلف في عددهم فقيل خمسة أنبياء وقيل ثمانية عشر وقيل كل الأنبياء. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي "16/ 220".
2 جزء من الآية "65" من سورة الأنفال.
3 محمد بن الهذيل بن عبيد الله البصري، العلاف، شيخ الكلام، رأس الكلام، رأس الاعتزال، صاحب التصانيف والذكاء البارع، عاش قريبًا من مائة سنة، وخرف وعمي، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الرد على المجوس ورد على الملحدين" و"رد على السوفسطائية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 173" "10/ 542" الأعلام "7/ 171".

(1/131)


وقيل: يشترط أن يكونوا أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة، وهذا مع كونه خارجًا عن محل النزاع باطل الأصل، فضلًا عن الفرع.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، وهذا أيضًا استدلال باطل.
وقيل: يشترط أن يكونوا ثلاثمائة وبضعة عشر، بعدد أهل بدر، وهذا أيضًا استدلال باطل، خارج عن محل النزاع.
وقيل: يشترط أن يكونوا خمس عشرة مائة، "بعدد أهل بيعة الرضون"*، وهذا أيضًا باطل.
وقيل: سبع عشرة مائة؛ لأنه عدد أهل بيعة الرضوان.
وقيل: أربع عشرة مائة؛ لأنه عدد أهل بيعة الرضوان.
وقيل: يشترط أن يكونوا جميع الأمة كالإجماع، حُكي هذا القول عن ضرار بن عمرو2، وهو باطل.
وقال جماعة من الفقهاء: لا بد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد.
ويا لله العجب من جري أقلام العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناه ليعتبر بها المعتبر ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد ويبحث عن الأدلة التي هي من شرع الله الذي شرعه لعباده، فإنه لم يشرع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله.
الشرط الرابع:
وجود العدد المعتبر في كل الطبقات، فيروي ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه، وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير
__________
* في "أ": بعدد بيع أهل الرضوان.
__________
1 جزء من الآية "155" من سورة الأعراف.
2 هو ضرار بن عمرو الغطفاني، شيخ الضرارية، من رءوس المعتزلة، وكان ينكر الجنة والنار أن تكونا خلقتا، وقال عنه ابن حزم: كان ينكر عذاب القبر، فأبيح دمه، وأمر القاضي سعيد بن عبد الرحمن بضرب عنقه، توفي سنة تسعين ومائة هـ، ا.هـ, سير أعلام النبلاء "10/ 215".

(1/132)


عدول، وعلى هذا لا بد أن لا يكونوا كفارًا ولا فساقًا. ولا وجه لهذا الاشتراط، فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك، بل يحصل بخبر الكفار والفساق، والصغار المميزين، والأحرار والعبيد، وذلك هو المعتب.
وقد اشترط أيضًا: اختلاف أنساب أهل التواتر.
واشترط أيضًا: اختلاف أديانهم.
واشترط أيضًا: اختلاف أوطانهم.
واشترط أيضًا: كون المعصوم منهم كما يقول الإمامية1.
ولا وجه لشيء من هذه الشروط.
وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بد أن يكونوا عقلاء؛ إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له.
والثاني: أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر.
والثالث: أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه.
__________
1 هم القائلون بإمامة سيدنا على رضي الله عنه بعد سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصًّا ظاهرًا، وتعيينًا صادقًا، ويستشهدون لذلك بنصوص متعددة، منها: مبايعته لسيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: "من الذي يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي..." وغير ذلك. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 162".

(1/133)


القسم الثاني: الآحاد
وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أصلًا، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، وهذا قول الجمهور.
وقال أحمد بن حنبل1: إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب "الإحكام"2 عن داود الظاهري3، والحسين بن علي الكرابيسي4، والحارث
__________
1 هو شيخ الإسلام، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة أربع وستين ومائة هـ، كان أصبر الناس على الوحدة، وحج حجتين أو ثلاثًا ماشيًا، توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 431".
2 واسمه: "الإحكام لأصول الأحكام" لأبي محمد على بن أحمد الظاهري المعروف بابن حزم، وتقدمت ترجمته في الصفحة "99". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 21".
3 هو داود بن علي بن خلف، الإمام البحر، الحافظ العلامة، عالم الوقت أبو سليمان البغدادي، رئيس أهل الظاهر، ولد سنة مائتين هـ، وتوفي سنة سبعين ومائيتن. من آثاره: "الإيضاح" "الإفصاح" "الأصول" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 97"، شذرات الذهب "2/ 158-159".
4 هو الحسين بن علي بن يزيد، الفقيه الشافعي العلامة، أبو علي، الكرابيسي: نسبة إلى بيع الكرباس وهي: الثياب الغليظة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة في الأصول والفروع ا.هـ سير أعلام النبلاء "12/ 80"، تهذيب التهذيب "2/ 359".

(1/133)


المحاسبي1. قال: وبه نقول.
وحكاه ابن خويزمنداد2 عن مالك بن أنس واختاره، وأطال في تقريره، ونقل الشيخ في "التبصرة"3 عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم كحديث مالك، عن نافع4 عن ابن عمر، وما أشبهه. وحكى صاحب "المصادر"5 عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر.
وقيل في تعريفه: هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر، سواء كثر رواته أو قلوا، وهذا كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد.
وقيل في تعريفه: هو ما يفيد الظن واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار.
ورد بأن الخبر الذي لا يفيد الظن لا يراد دخوله في التعريف إذ لا يثبت به حكم والمراد تعريف ما يثبت به الحكم.
وأجيب عن هذا الرد: بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلًا موضوعًا يثبت به الحكم، مع كونه لا يفيد الظن. ويرد هذا الجواب: بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم، ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه "قد"* وقع التعبد به، وقال
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإمام الحارث بن أسد الغدادي المحاسبي، الزاهد العارف شيخ الصوفية، أبو عبد الله، قيل له المحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، توفي سنة ثلاثة وأربعين ومائتين هـ، له كتب كثيرة في الزهد، وأصول الديانة، والرد على المعتزلة، من آثاره: "رسالة المسترشدين" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 110"، تهذيب التهذيب "1/ 113".
2 هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز المالكي، العراقي، فقيه أصولي، من آثاره: كتاب كبير في "الخلاف" "كتاب في أصول الفقه". توفي سنة تسعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ.معجم المؤلفين "8/ 280".
3 واسمه "التبصرة في أصول الفقه" للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، وعليه شرح لأبي الفتح عثمان بن جني. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 339".
4 هو أبو عبد الله القرشي العدوي العمري، الإمام المفتي، الثبت، عالم المدينة، توفي سنة سبع عشرة ومائة هجرية، خدم عبد الله بن عمر ثلاثين سنة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 95"، تذكرة الحفاظ "1/ 99"، شذرات الذهب "1/ 154".
5 واسمه "المصادر في الأصول"، لمحمود بن علي الحمصي الرازي. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 491".

(1/134)


"القاساني"*1 والرافضة وابن داود2. لا يجب العمل به، وحكاه الماوردي3 عن الأصم4 وابن علية5 وقال: إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في غيره من أدلة الشرع.
وحكى الجويني6 في "شرح الرسالة" عن هشام7 والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه، وهو علم الضرورة، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق، وقال: وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي8 قال بعد حكاية هذا عنه: فإن تاب فالله يرحمه وإلا فهو مسألة التكفير لأنه إجماع فمن أنكره يكفر.
قال ابن السمعاني: واختلفوا، يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد في المانع من القبول فقيل: منع منه العقل، وينسب إلى ابن علية والأصم.
__________
* في "أ": القاشاني.
__________
1 هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، نسبة إلى قاسان، ويعرف عند جل العلماء بالقاشاني، ولكن الصواب أنه القاساني بالسين المهملة، كما قاله ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وهو داوودي المذهب. ا. هـ. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه "3/ 1147" هدية العارفين "2/ 20".
2 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، العلامة البارع، ذو الفنون، أبو بكر، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين هـ، من مؤلفاته: "كتاب "الزهرة" "كتاب في الفرائض" كان أحد من يضرب المثل بذكائه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 109"، شذرات الذهب "2/ 226".
3 هو علي بن محمد الماوردي، والبصري، الشافعي، الإمام العلامة، أقضى القضاة، أبو الحسن، من آثاره: "الحاوي" "النكت" "أدب الدنيا والدين"، توفي سنة خمسين وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 64"، هدية العارفين "1/ 689"، شذرات الذهب "3/ 385".
4 لعله محمد بن يعقوب بن يوسف، الأموي بالولاء، أبو العباس الأصم، محدث من أهل نيسابور، ووفاته بها سنة ست وأربعين وثلاثمائة هـ، حدث ستا وسبعين سنة. ا. هـ. تذكرة الحفاظ "3/ 860" الأعلام "7/ 145".
5 هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الإمام العلامة، الحافظ الثبت، أبو بشر الأسدي، وعُلَيَّة هي أمة، ولد سنة عشر ومائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة هـ، قال زياد بن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابًا قط. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 114"، شذرات الذهب "1/ 333".
6 هو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، أبي المعالي، وهو من علماء التفسير والفقه واللغة، توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة هـ. انظر: تبيين كذب المفتري "ص257"، ومفتاح السعادة "2/ 325" حيث ذكر من مؤلفاته "شرح الرسالة"، والأعلام "4/ 146".
7 لعله هشام بن الحكم الشيباني بالولاء، الكوفي، أبو محمد، متكلم مناظر، توفي حوالي سنة تسعين ومائة هـ. انظر الأعلام "8/ 85" ومراجعه.
8 هو محمد بن عبد الله بن الحسن، ابن اللبان، الفرضي، الشافعي، أبو الحسين توفي سنة اثنتين وأربعمائة هـ، كان إمام الفرضيين في زمانه، له مصنفات كثيرة في الفرائض ليس لأحد مثلها، أخذ عنه أئمة وعلماء ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 217"، هدية العارفين "2/ 59".

(1/135)


وقال "القاساني"* من أهل الظاهر، والشيعة: منع منه الشرع، فقالوا: إنه لا يفيد إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا.
ويجاب عن هذا: بأنه عام مخصص، لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد.
ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته، فالأكثر منهم قالوا يجب بدليل السمع.
وقال أحمد بن حنبل، والقفال، "وابن سريج"**، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، وأبو جعفر الطوسي1 من الإمامية، والصيرفي من الشافعية: إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل، لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء، من جهة الخبر الوارد عن الواحد.
وأما دليل السمع: فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ} 2، وبمثل قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَة} 3، ومن السنة بمثل قصة أهل قباء لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا وبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينكر عليهم4.
وبمثل بعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعماله واحدًا بعد واحد وكذلك بعثه بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام.
ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد وشاع ذلك وذاع، ولم ينكره أحد، ولو أنكره منكر لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح.
قال ابن دقيق العيد5: ومن تتبع أخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابة والتابعين، وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعًا انتهى.
__________
* في "أ": القاشاني.
** في "أ": ابن شريح.
__________
1 هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، شيخ الشيعة، تفقه أولًا للشافعي ثم أخذ الكلام وأصول القوم عن الشيخ المفيد، رأس الإمامية، توفي سنة ستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تهذيب الأحكام" "المفصح في الإمامية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 334" إيضاح المكنون "1/ 223".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.
3 جزء من الآية "122" من سورة التوبة.
4 أخرج بنحوه البخاري، كتاب الصلاة باب ما جاء في القبلة "403". ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة "5026". والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "341" بنحوه وقال: حسن صحيح. والنسائي، كتاب المساجد، باب استبانة الخطأ بعد الاجتهاد "744" 2/ 61. والإمام أحمد في المسند "2/ 105". وابن حبان في صحيحه "1715".
5 هو محمد بن علي بن وهب، قاض من أكابر العلماء بالأصول، مجتهد، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وسبعمائة هـ، من آثاره: "الإمام في شرح الإلمام" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158"، شذرات الذهب "6/ 5"، الأعلام "6/ 283".

(1/136)


وعلى الجملة: فلم يأتِ من خالف في العلم بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة، من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصحة أو تهمة للراوي أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك.
أقسام الآحاد:
واعلم: أن الآحاد تنقسم إلى أقسام:
فمنها: خبر الواحد، وهو هذا الذي تقدم ذكره1.
والقسم الثاني: المستفيض، وهو ما رواه ثلاثة فصاعدًا، وقيل: ما زاد على الثلاثة، وقال أبو إسحاق الشيرازي: أقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، قال السبكي2: والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعًا.
القسم الثالث: المشهور، وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني، أو الثالث، إلى حد ينقله ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، ولا يعتبر الشهرة بعد القرنين.
هكذا "قالت"* قال الحنفية، فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته، وهي الطبقة التي روته في القرن الثاني أو الثالث فقط، فبينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه، لصدقهما على ما رواه الثلاثة فصاعدًا، ولم يتواتر في القرن الأول، ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين، وانفرد المستفيض إذا لم ينته في أحدهما إلى التواتر وانفراد المشهور فيما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر في الثاني والثالث وجعل الجصاص3 المشهور قسمًا من المتواتر ووافقه جماعة من أصحاب الحنفية. وأما جمهورهم فجعلوه قسيمًا للمتواتر لا قسمًا منه كما تقدم.
__________
* في "أ": قال.
__________
1 انظر صفحة: "133".
2 هو عبد الوهاب بن علي، أبو نصر السبكي، قاضي القضاة تاج الدين، ولد في القاهرة، سنة سبع وعشرين وسبعمائة هـ، وتوفي فيها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "طبقات الشافعية الكبرى" "جمع الجوامع". ا. هـ. الأعلام "4/ 184"، هدية العارفين "1/ 639".
3 هو أحمد بن علي الرازي، الإسفراييني، الحافظ الزاهد الثبت، أبو بكر الجصاص، انتهت إليه رياسة الحنفية في بغداد، ولد سنة خمس وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "كتاب في أصول الفقه". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 522"، كشف الظنون "1/ 20-562"، الأعلام "1/ 171".

(1/137)


واعلم: أن الخلاف الذي ذكرناه1 في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم، مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقويه، وأما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا، أو مستفيضًا، فلا يجري فيه الخلاف المذكور ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له.
ومن هذا القسم أحاديث صحيحي "البخاري2 ومسلم3" فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول، ومن لم يعلم بالبعض من ذلك فقد أوله والتأويل فرع القبول والبحث مقرر بأدلته في غير هذا الموضع.
قيل: ومن خبر الواحد المعلوم صدقه أن يخبر به في حضور جماعة هي نصاب التواتر، ولم يقدحوا في روايته مع كونهم ممن يعرف علم الرواية ولا مانع يمنعهم من القدح في ذلك، وفي هذا نظر.
واختلفوا في خبر الواحد المحفوف بالقرائن، فقيل يفيد العلم، وقيل: لا يفيده، وهذا خلاف لفظي لأن القرائن إن كانت قوية بحيث يحصل لكل عاقل عندها العلم كان من المعلوم صدقه "وإلا فلا، وجه لما قاله الأكثرون من أنه لا يحصل العلم به لا بالقرائن ولا بغيرها. ومن المعلوم صدقه"* أيضًا إذا أخبر مخبر بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخبر يتعلق بالأمور الدينية، وسمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "135-136.
2 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو عبد الله البخاري، ولد سنة أربع وتسعين ومائة هـ، وكان يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الجامع الصحيح" "تاريخ البخاري". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 391"، تذكرة الحفاظ "1/ 555"، شذرات الذهب "2/ 134".
وصحيح البخاري: اسمه "الجامع الصحيح" وهو أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها، قال الإمام النووي: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، له شروح كثيرة جدًّا، منها: "شرح لابن حجر العسقلاني". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 541".
3 هو الإمام، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الحافظ الكبير، المجود الحجة، الصادق، أبو الحسين، صاحب الصحيح، ولد سنة أربع ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين هـ، بنيسابور، من آثاره: "المسند الكبير" "المسند الصحيح" "التمييز" وغيرهما من الكتب كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 557" تهذيب التهذيب "10/ 126"، تذكرة الحفاظ "2/ 588".
وصحيح مسلم. اسمه: "الجامع الصحيح" وهو ثاني أصح الكتب في الحديث، قال عنه الحسين بن علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة أيضًا، أهمها: "شرح الإمام النووي". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 555".

(1/138)


ولم ينكر عليه، لا إذا كان الخبر بغير الأمور الدينية.
شروط العمل بخبر الواحد:
العمل بخبر الواحد له شروط:
منها ما هو في المخبِر، وهو الراوي، ومنها ما هو في المخبَر عنه، وهو مدلول الخبر، ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال.
أما الشروط الراجعة إلى الراوي فخمسة:
الأول: التكليف
فلا تقبل رواية الصبي والمجنون، ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي.
واعترض عليه العنبري1. وقال: بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة، كما حكاه القاضي حسين في تعليقه2، قال: ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره.
قال الفوراني3: الأصح قبول روايته، والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب. وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة، وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب.
قال الغزالي في "المنخول": محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه، أما غيره فلا يقبل قطعًا.
وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية، أما لو تحملها صبيًّا وأداها مكلفا، فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس، والحسنين4 ومن كان مماثلًا لهم،
__________
1 لعله إبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي، الإمام القدوة، الرباني الحافظ المجود أبو إسحاق، توفي بعد سنة ثمانين ومائتين هـ، وهو من أئمة الهدى، من آثاره: كتاب "المسند" في مائتين وتسعين جزءًا. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 377"، شذرات الذهب "2/ 205".
2 اسمها "التعليقة الكبرى في الفروع". كشف الظنون "1/ 424". "وانظر هنا 1/ 100 هامش3".
3 هو عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي، العلامة الكبير، الشافعية، أبو القاسم له المصنفات الكبيرة في المذهب، كان سيد فقهاء مرو وتوفي سن إحدى وستين وأربع مائة هـ من آثاره: "أسرار الفقه" "شرح فروع ابن الحداد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 264"، هدية العارفين "1/ 517"، الكامل في التاريخ "8/ 110".
4 وهما الحسن والحسين، ابنا سيدنا علي بن أبي طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، رضي الله عنهم أجمعين.

(1/139)


كمحمود بن الربيع فإنه روى حديثًا: "أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مج في فيه مجة وهو ابن خمس سني"1، واعتمد العلماء روايته.
وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم، ولا أعرف خلافًا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه، أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك؛ لأنه وقت الجنون غير ضابط.
وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء، لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أنَّا نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم.
الشرط الثاني: الإسلام
فلا تقبل رواية الكافر؛ من يهودي أو نصراني، أو غيرهما إجماعًا، قال الرازي في "المحصول": أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم، قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري.
وقال القاضي أبو بكر، والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايتهم.
لنا: أن المقتضى للعمل بها قائم، ولا معارض، فوجب العمل بها.
بيان أن المقتضى قائم: أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها، فيحصل ظن الصدق، فيجب العمل بها، وبيان أنه لا معارض: أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتفٍ ههنا، قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 2 فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق، وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره.
وأما القياس: فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته، فكذا
__________
1 أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من لم يَرَ رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة "839". ومسلم، في المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر "657". وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المساجد في الدور "754". الطبراني في الكبير "18/ 54". وابن حبان في صحيحه "4534".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.

(1/140)


هذا الكافر، والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين، وهذا منصب شريف، والكفر يقتضي الإذلال، وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال: هذا الكافر جاهل لكونه كافرًا لكنه لا يصلح عذرًا.
والجواب عن الأول: أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة.
وعن الثاني: الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل، وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة، ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي.
والحاصل: أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقًا لم تقبل روايته قطعًا، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه، أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة، أو ترهيب عن معصية، فقال الجمهور ومنهم القاضيان: أبو بكر وعبد الجبار، والغزالي والآمدي، لا يقبل، قياسًا على الفاسق، بل هو أولى، وقال أبو الحسين البصري: يقبل، وهو رأي الجويني وأتباعه.
والحق: عدم القبول مطلقًا في الأول، وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني، ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته.
وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال:
الأول:
رد روايته مطلقًا لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية، وبه قال القاضي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
والقول الثاني:
أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي، وابن أبي ليلى1 والثوري2 وأبي يوسف3
__________
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، العلامة الإمام، مفتي الكوفة وقاضيها، ولد سنة نيف وسبعين هـ، كان نظيرًا للإمام أبي حنيفة في الفقه، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 310"، تهذيب التهذيب "9/ 301"، الجرح والتعديل "7/ 322".
2 هو سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، سيد العلماء العاملين في زمانه، ولد سنة سبع وتسعين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائة هـ. من آثاره: "الجامع الكبير والجامع الصغير" كلاهما في الحديث، وله "كتاب في الفرائض". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 229"، الأعلام "3/ 104".
3 هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الكوفي، الإمام المجتهد، المحدث العلامة، قاضي القضاة، صاحب الإمام أبي حنيفة، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وتوفي في خلافة الرشيد ببغداد سن اثنتين وثمانين ومائة هـ، من آثاره: "الخراج" "الآثار" "اختلاف الأمصار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 535"، شذرات الذهب "1/ 298"، الأعلام "8/ 193".

(1/141)


والقول الثالث:
أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل، وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب1 في "المخلص" عن مالك وبه جزم سليم.
قال القاضي عياض: وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل، ويحتمل أنه لا يقبل مطلقًا انتهى.
والحق: أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها، لا في غير ذلك. قال الخطيب2: وهو مذهب أحمد، ونسبه ابن الصلاح3 إلى الأكثرين. قال وهو أعدل المذاهب وأولاها.
وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجًا واستشهادًا، كعمران بن حطان4 وداود بن الحصين5 وغيرهما ونقل أبو حاتم بن حبان6 في كتاب "الثقات" الإجماع على ذلك.
__________
1 هو عبد الوهاب بن علي بن نصر، الثعلبي، البغدادي، أبو محمد، قاضٍ من فقهاء المالكية، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره: "التلقين" "عيون المسائل" "النصرة لمذهب مالك". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 429"، هدية العارفين "2/ 637"، كشف الظنون "1/ 481".
أما كتابه "الملخص" فلعله هو كتاب "التخليص" الذي سيأتي ذكره "ص298".
2 هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر، الإمام الأوحد، العلامة المفتي، الحافط الناقد، ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تاريخ بغداد" "اقتضاء العلم العمل" "التبيين لأسماء المدلسين" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 270"، هدية العارفين "1/ 79"، تذكرة الحفاظ "3/ 1135".
3 هو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان، الموصلي الشافعي، أبو عمرو، الإمام الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، تقي الدين، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة هـ، كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث واللغة، وإذا أطلق الشيخ في علماء الحديث فالمراد هو، من آثاره: "علوم الحديث" المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "23/ 140"، تذكرة الحفاظ "4/ 1430".
4 هو من أعيان العلماء، لكنه من رءوس الخوارج، حدث عن عائشة، وأبي موسى، وابن عباس، توفي سنة أربع وثمانين هـ، وكان سبب انتقاله إلى الخوارج: أن تزوج امرأة ليردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 214"، تهذيب التهذيب "8/ 127"، شذرات الذهب "1/ 95".
5 الفقيه الأموي، أبو سليمان، روى عن أبيه وعكرمة، ونافع وأبي سفيان، توفي سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، وهو ثقة، وقد ترك بعضهم حديثه لو هم منهم. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "6/ 106"، الجرح والتعديل "3/ 408، تهذيب التهذيب "3/ 181".
6 هو محمد بن حبان بن أحمد، التميمي، البستي، الشافعي، صاحب الصحيح، العلامة المحدث أبو حاتم، شيخ خراسان، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين هـ، وهو مؤرخ جغرافي، توفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المسند الصحيح" "الصحابة" "التابعين" وله أيضًا كتاب "الثقات". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 92"، الأعلام "6/ 78"، تذكرة الحافظ "3/ 920".

(1/142)
قال ابن دقيق العيد: جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقًا عليه، وليس كما قال.
وقال ابن القطان في كتاب "الوهم والإيهام"1: الخلاف إنما هو في غير الداعية، أما الداعية، فهو ساقط عند الجميع.
قال أبو الوليد الباجي2: الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه.
الشرط الثالث: العدالة
 -----

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق