...............................................................................................................

الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 2.....


واللفظ ينقسم إلى قسمين:
صفة: وهي ما دل على ذات مبهمة غير معينة، بتعيين شخصي، ولا جنسي، متصفة بمعين كضارب، فإن معناه: ذات ثبت لها الضرب.
وغير صفة وهو ما لا يدل على ذات مبهمة متصفة بمعين.
ثم اختلفوا، هل بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق، فيكون للمباشر حقيقة اتفاقا، وفي الاستقبال مجازًا اتفاقًا، وفي الماضي الذي قد انقطع خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية:
فقالت الحنفية: مجاز.
وقالت الشافعية: حقيقة، وإليه ذهب ابن سينا6 من الفلاسفة7، وأبو هشام من المعتزلة.
__________
* في "أ": ناك وهو تحريف.
__________
1 جبذت الشيء: مثل جذبته، مقلوب منه. ا. هـ. الصحاح مادة جبذ.
2 نكيت في العدو نكاية: إذا قتلت فيهم وجرحت. ا. هـ. الصحاح مادة نكى.
3 الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان، وثلبه ثلبًا: إذا صرح بالعيب وتنقصه. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة ثلب.
والثلم: الخلل في الحائط وغيره.
4 لغة: القوة، وسميت حروفها شديدة "يعني خص ضغط قظ" لمنعها النفس أن يجري معها لقوتها في مخارجها. ا. هـ. الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية 39.
5 القتل، وإنما قيل للقتل رجم: لأنهم كانوا إذا قتلوا رجلًا رموه بالحجارة حتى يقتلوه، ثم قيل لكل قتل رجم. ا. هـ. لسان العرب مادة رجم.
والرقم: والترقيم: تعجيم الكتاب، ورقم الكتاب يرقمه رقمًا: أعجمه وبينه. ا. هـ. اللسان مادة رقم.
6 هو الحسين بن عبد الله، أبو علي، العلامة الشهير، الفيلسوف، المعروف، بابن سينا الرئيس، ولد سنة سبعين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، بهمذان، من تآليفه: "الأدوية القلبية"، "الإشارات" وغيرها. ا. هـ. هدية العارفين "1/ 308"، سير أعلام النبلاء "17/ 531"، إيضاح المكنون "2/ 555".
7 الفلسفة: مشتقة من كلمة يونانية: وهي: فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمة، فلما عربت قيل: فيلسوف، ثم اشقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة: علم حقائق الاشياء، والعمل بما هو أصلح.
والفلاسفة أنكروا حدوث العلم، وعلمه تعالى بالجزئيات، وحشر الأجساد، فكفروا بذلك. ا. هـ. مفاتيح العلوم "153"، تحفة المريد "68".

(1/54)


احتج القائلون بالاشتراط: بأن الضارب بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب، وإذا صدق عليه ذلك، وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب؛ لأن قولنا ضارب يناقضه -في العرف- قولنا ليس بضارب.
وأجيب: بمنع أن نفيه في الحال يستلزم نفيه مطلقا، فإن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقًا، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، إلا أن يراد النفي المقيد بالحال لا نفي المقيد بالحال.
وأجيب أيضًا بأن اللازم النفي في الجملة، ولا ينافي الثبوت في الجملة، إلا أن يقال: إن الاعتبار بالمنافاة في اللغة لا في العقل.
واحتجوا ثانيًا: بأنه لو صح إطلاق المشتق إطلاقًا حقيقيًّا، باعتبار ما قبله، لصح باعتبار ما بعده، ولا يصح اتفاقًا.
وأجيب: بمنع الملازمة فإنه قد يشترط المشترك بين الماضي والحال، وهو كونه ثبت له الضرب.
واحتج النافون بإجماع أهل اللغة على صحة ضارب أمس والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وأجيب: بأنه مجاز بدليل إجماعهم على صحة ضارب غدًا وهو مجاز اتفاقًا.
ويجاب عنه: بأن مجازيته لعدم تلبسه بالفعل، لا في الحال، ولا في الماضي، فلا يستلزم مجازية ضارب أمس.
والحق: أن إطلاق المشتق على الماضي الذي قد انقطع حقيقة؛ لاتصافه بذلك في الجملة.
وقد ذهب قوم إلى التفصيل فقالوا: إن كان معناه ممكن البقاء اشترط بقاؤه، فإذا مضى وانقطع فمجاز، وإن كان غير ممكن البقاء لم يشترط بقاؤه، فيكون إطلاقه عليه حقيقة.
وذهب آخرون إلى الوقف ولا وجه له، فإن أدلة صحة الإطلاق الحقيقي على ما مضى وانقطع ظاهرة قوية.

(1/55)


المسألة الثانية: في الترادف
هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد، باعتبار معنى واحد.
فيخرج عن هذه الأدلة اللفظين على "شيء"* واحد لا باعتبار واحد بل باعتبار صفتين كالصارم والمهند، أو باعتبار الصفة وصفة الصفة، كالفصيح والناطق.
والفرق بين الأسماء المترادفة والأسماء المؤكدة، أن المترادفة تفيد فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا.
وأما المؤكدة: فإن الاسم الذي وقع به التأكيد يفيد تقوية المؤكد أو "دفع"** توهم التجوز، أو السهو أو عدم الشمول.
وقد ذهب الجمهور إلى إثبات الترادف في اللغة العربية، وهو الحق.
وسببه إما تعدد "الوضع"***، أو توسيع دائرة التعبير، وتكثير وسائله، وهو المسمى عند "أهل البيان"****، بالافتنان، أو تسهيل مجال النظم، والنثر، وأنواع البديع، فإنه قد "يصلح"***** أحد اللفظين المترادفين للقافية، أو الوزن، أو السجعة1 دون الآخر، وقد يحصل التجنيس2، والتقابل3، والمطابقة4، ونحو ذلك: "بهذا"****** دون هذا، وبهذا يندفع ما قاله المانعون لوقوع الترادف، في اللغة من أنه لو وقع لعري عن الفائدة، لكفاية أحدهما، فيكون الثاني من باب
__________
* في "أ": مسمى.
** في "أ": رفع.
*** في "أ": الوضع.
**** في "أ": الشأن.
***** في "أ": يحصل.
****** في "أ": هذا.
__________
1 هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير من النثر، نحو {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} ا. هـ. جواهر البلاغة "404".
2 هو الجناس وهو: تشابه لفظين في النطق، واختلافهما في المعنى، وهو لفظي ومعنوي، نحو: "سميته يحيى ليحيا". ا. هـ. جواهر البلاغة "396".
3 وهو المقابلة: وهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، كقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
4 وهو الطباق: وهو الجمع بين متقابلين في المعنى.
مثاله: قوله تعالى {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} . ا. هـ. جواهر البلاغة "366-367".

العبث، ويندفع أيضًا ما قالوه: من أنه يكون من تحصيل الحاصل، ولم يأتوا بحجة مقبولة في مقابلة ما هو معلوم بالضرورة، من وقوع الترادف في لغة العرب، مثل: الأسد والليث، والحنطة، والقمح، والجلوس والقعود، وهذا كثير جدًّا وإنكاره مباهتة.
وقولهم: إن ما يظن أنه من الترادف، هو من اختلاف الذات والصفة، كالإنسان والبشر، أو الصفات كالخمر لتغطية العقل والعقار لعقره أو لمعاقرته، أو اختلاف الحالة السابقة كالقعود من القيام والجلوس من الاضطجاع، تكلف ظاهر، وتعسف بحت، وهو وإن أمكن تكلف مثله في بعض المواد المترادفة، فإنه لا يمكن في أكثرها، يعلم هذا كل عالم بلغة العرب، فالعجب من نسبة المنع من الوقوع إلى مثل ثعلب1، وابن فارس2 مع توسعهما في هذا العلم.
__________
1 هو أبو العباس، أحمد بن يحيى بن زيد، إمام الكوفيين في اللغة والنحو، المعروف بثعلب، ولد ببغداد سنة مائتين هجرية، وتوفي فيها سنة إحدى وتسعين ومائتين، وهو حجة مشهور بالحفظ، من آثاره: "قواعد الشعر"، و"الفصيح". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "20/ 666"، هدية العارفين "1/ 54".
2 هو أحمد بن فارس زكريا، القزويني، الرازي، المالكي، اللغوي، أبو الحسين توفي في الري سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "مقاييس اللغة" "اختلاف النحاة" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 103"، هدية العارفين "1/ 68"، الأعلام "1/ 193".

المسألة الثالثة: في المشترك
وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر، وضعًا أولا، من حيث هما كذلك.
فخرج بالوضع: ما يدل على الشيء بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز، "وخرج بقيد: أولًا: المنقول"*، وخرج بقيد الحيثية: المتواطئ فإنه يتناول الماهيات المختلفة، لكن لا من حيث هي كذلك، بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد.
وقد اختلف أهل العلم في المشترك: فقال قوم: إنه واجب الوقوع في لغة العرب، وقال آخرون: إنه ممتنع الوقوع وقالت طائفة: إنه جائز الوقوع.
احتج القائلون بالوجوب: بأن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك، ولا ريب في عدم تناهي المعاني؛ لأن الأعداد منها، وهي غير متناهية بلا خلاف.
واحتجوا ثانيًا: بأن الألفاظ العامة -كالموجود، والشيء- ثابتة في لغة العرب، وقد ثبت أن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
وجود كل شيء نفس ماهيته فيكون وجود الشيء مخالفًا لوجود الآخر، مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود بالاشتراك.
وأجيب عن الدليل الأول: بمنع عدم تناهي المعاني، إن أريد بها المختلفة، أو المتضادة، وتسليمه مع منع عدم وفاء الألفاظ بها، إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة، أو المطلقة فإن الوضع للحقيقة المشتركة كاف في التفهيم.
وأيضًا: لو سلم عدم تناهي كل منها، لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعًا.
وأيضًا: لا نسلم تناهي الألفاظ، لكونها متركبة من المتناهي، فإن أسماء العدد غير متناهية، مع تركبها من الألفاظ المتناهية.
وأجيب عن الدليل الثاني: بأنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة، وإن سلمنا ذلك، لا نسلم أن الموجود مشترك لفظي، لم لا يجوز أن يكون مشتركًا معنويًّا؟ وإن سلمنا ذلك، لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في حكم واحد، سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظة العامة؟
واحتج القائلون بالامتناع: بأن المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام، وما كان كذلك يكون منشأ للمفاسد.
وأجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام بسماع اللفظ المشترك، لكن هذا القدر لا يوجب نفيه؛ لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات، لا نفيًا، ولا إثباتا، والأسماء المشتقة لا تدل على تعيين الموصوفات ألبتة، ولم يستلزم ذلك نفيها، وكونها غير ثابتة في اللغة.
واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه: بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم، وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئًا على التفصيل، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال، بحيث يكون ذكر التفصيل سببًا للمفسدة، كما روي عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال لمن سأله عن الهجرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هو؟ فقال: "هو رجل يهدني السبيل"1.
ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقًا بصحة الشيء على التعيين، إلا أنه يكون واثقًا بصحة وجود أحدهما لا محالة، فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب، ولا يُكذَّب، ولا يظهر جهله
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "2/ 490" وذكره الكاندهلوي في "حياة الصحابة" بلفظ: "فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهديني الطريق. يريد الهدى في الدين ويحسب الآخر دليلًا" "1/ 338".

بذلك فإن أي معنى لا يصح فله أن يقول إنه كان مرادي الثاني، وبعد هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية لا ينكر ذلك إلا مكابر كالقرء فإنه مشترك بين الطهر والحيض مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيها لجواز مجازية أحدهما وخفاء موضع الحقيقة ورد بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق بالحقيقة وحصل الاشتراك وهو المطلوب وإلا فلا تساوي، ومثل القرء العين فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء فهو أيضًا واقع في الكتاب والسنة فلا اعتبار بقول من قال إنه غير واقع في الكتاب فقط أو غير واقع فيهما لا في اللغة.

المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال المشترك في أكثر من معنى
اختلف في جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه.
فذهب الشافعي1، والقاضي أبو بكر، وأبو على الجبائي، والقاضي عبد الجبار بن أحمد2، والقاضي جعفر3، والشيخ "الحسن"*4، وبه قال الجمهور، وكثير من أئمة أهل
__________
* في "أ": الشيخ حسن.
__________
1 هو محمد بن إدريس، أبو عبد الله، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة خمسين ومائة هجرية، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ، من آثاره كتاب "الأم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 5"، تذكرة الحفاظ "1/ 361".
2 هو أبو الحسن، الهمداني، الأسداباذي، المعتزلي، القاضي عبد الجبار، صاحب التصانيف، وكان شافعي المذهب، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، من آثاره: "المغني في أبواب التوحيد والعدل" و"دلائل النبوة". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 203"، هدية العارفين "1/ 498"، إيضاح المكنون "1/ 329"، سير أعلام النبلاء "17/ 244".
3 هو جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري، فقيه، زيدي، نشأ بوطنه حصن الظفير، تولى القضاء، توفي بالظفر سنة تسع ومائة وألف هـ، ومن آثاره: "هداية الأكياس إلى عرفان أسرار لب الأساس" مجلد واحد ضخم. ا. هـ. معجم المؤلفين "3/ 141"، الأعلام "2/ 126".
4 هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي، الصنعاني حفيد شارح بلوغ المرام، وأحد شيوخ الشوكاني، المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف. ا. هـ. البدر الطالع "1/ 196".
البيت إلى جوازه.
وذهب أبو هاشم، "وأبو الحسن"*1 البصري، والكرخي2، إلى امتناعه.
ثم اختلفوا: فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد، ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع.
والكلام ينبني على بحث هو: هل يلزم من كون اللفظ لمعنيين، أو معانٍ على البدل، أن يكون موضوعًا لهما أو لها على الجمع، أم لا؟
فقال المانعون: إن المعلوم بالضرورة المغايرة بين المجموع، وبين كل واحد من الأفراد؛ لأن الوضع تخصيص لفظ بمعنى، فكل وضع يوجب أن لا يراد باللفظ إلا هذا "الموضوع"** له، ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ، فاعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر، فاستعماله للمجموع استعمال له في غير ما وضع له وأنه غير جائز.
وإن قلنا: إن ذلك اللفظ وضع للمجموع، فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده، مع إفادة أفراده، فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيدًا إلا لأحد مفهوماته؛ لأن الواضع وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل، وأحدها ذلك المجموع، فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالًا له في كل مفهوماته، وإن قلنا: إنه مستعمل في إفادة المجموع والأفراد على البدل، فهو محال كما قدمنا.
واحتج المجوزون بأمور:
أحدها: أن الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ثم إن الله سبحانه أراد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي} 3 كلا المعنيين، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك.
__________
* في "أ": أبو الحسن وهو تحريف.
** في "أ": الموضع والصواب الموضوع.
__________
1 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسن البصري، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف الكلامية، كان فصيحًا بليغًا، يتوقد ذكاء، توفي ببغداد في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: كتاب "تصفح الأدلة" "المعتمد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 587"، هدية العارفين "2/ 96".
2 هو عبيد الله بن الحسين، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "شرح الجامع الكبير" "المختصر" "شرح الجامع الصغير". ا. هـ. الفوائد جزء من الآية "56" من سورة الاحزاب
وأجيب: بأن هذه الآية ليس فيها استعمال الاسم المشترك في أكثر من معنى واحد؛ لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله، وملائكته في الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا بد من اتحاد معنى الصلاة في الجميع؛ لأنه لو قيل: إن الله يرحم النبي، والملائكة يستغفرون له، يا أيها الذين آمنوا ادعوا له، لكان هذا الكلام في غاية الركاكة، فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة، سواء كان معنى حقيقيًّا، أو معنى مجازيًّا، أما الحقيقي: فهو الدعاء، فالمراد أنه سبحانه يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة، فالذي قال: إن الصلاة من الله الرحمة، قد أراد هذا المعنى، لا أن الصلاة وضعت للرحمة.
وأما المجازي: فكإرادة الخير، ونحو ذلك، مما يليق بهذا المقام، ثم إن اختلف ذلك لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به، ولا يكون هذا من باب الاشتراك، بحسب الوضع.
واحتجوا -أيضًا- بقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية1، فإنه نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم، كالشجر، والدواب، فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد، لا وضع الجبهة على الأرض، وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض، إذ لو كان المراد الانقياد لما قال {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس} 2؛ لأن الانقياد شامل لجميع الناس.
وأجيب: بأنه يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع، وما ذكروا من أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل؛ لأن الكفار لم ينقادوا.
ويمكن أن يراد بالسجود وضع الرأس على الأرض في الجميع، فلا يحكم باستحالته من الجمادات، إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات، وباستحالة الشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة.
إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنى المشترك، أو معانيه، ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة.
وقد قيل: إنه يجوز الجمع مجازًا، لا حقيقة، وبه قال جماعة من المتأخرين,
وقيل: يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد القصد، لا من حيث اللغة، وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي.
وقيل: يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات، فيقال مثلًا: ما رأيت عينًا، ومراده العين
__________
1 جزء من الآية "18" من سورة الحج.
2 جزء من الآية "18" من سورة الحج
 .....
الجارحة، وعين الذهب، وعين الشمس، وعين الماء، ولا يصح أن يقال: عندي عين، وتراد هذه المعاني بهذه اللفظ.
وقيل: بإرادة الجميع في الجمع، فيقال مثلًا: عندي عيون، ويراد تلك المعاني، وكذا المثنى، فحكمه حكم الجمع، فيقال مثلًا: عندي جونان، ويراد أبيض وأسود، ولا يصح إرادة المعنيين، أو المعاني بلفظ المفرد، وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها، وفي المعنيين اللذين يصح الجمع بينهما، لا في المعاني المتناقضة.

(1/62)


المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز وفيها عشر أبحاث
البحث الأول: في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز
...
المسألة الخامسة في الحقيقة والمجاز وفيها عشرة أبحاث:
البحث الأول في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز:
أما الحقيقة: فهي فعيلة من حق الشيء، بمعنى ثبت، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة.
وفعيل في الأصل: قد يكون بمعنى الفاعل، وقد يكون بمعنى المفعول، فعلى التقدير الأول: يكون معنى الحقيقة الثابتة، وعلى الثاني يكون معناها المثبتة.
وأما المجاز: فهو مفعل، من الجواز الذي هو التعدي، كما يقال: جزت "موضع كذا"* أي: جاوزته وتعديته، أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو راجع إلى الأول؛ لأن الذي لا يكون واجبًا ولا ممتنعا، يكون مترددًا بين الوجود والعدم، فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا، "ومن هذا إلى هذا"**.
__________
* في "أ": هذا الموضع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/62)


البحث الثاني في حدهما:
فقيل في حد الحقيقة: إنها اللفظ المستعمل فيما وضع له.
فيشمل هذا الوضع اللغوي، والشرعي، والعرفي، والاصطلاحي.
وزاد جماعة في هذا الجد قيدًا، وهو قولهم: في اصطلاح التخاطب؛ لأنه إذا كان التخاطب

(1/62)


باصطلاح، واستعمل فيه ما وضع له في اصطلاح آخر، لمناسبة بينه وبين ما وضع له في اصطلاح التخاطب، كان مجازًا مع أنه لفظ مستعمل فيما وضع له.
وزاد آخرون في هذا الحد قيدًا، فقالوا: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولًا لإخراج مثل ما ذكر.
وقيل في حد الحقيقة: إنها ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به.
وقيل في حدها: إنها كل كلمة أريد بها عين ما وضعت له في وضع واضع، وضعًا لا يستند فيه إلى غيره.
وأما المجاز: فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة.
وقيل هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولًا، على وجه يصح.
وزيادة قيد: على وجه يصح لإخراج مثل استعمال لفظ الأرض في السماء.
وقيل في حده -أيضًا-: إنه ما كان بضد معنى الحقيقة.

(1/63)


البحث الثالث: الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك:
قد اتفق أهل العلم على ثبوت الحقيقة اللغوية والعرفية.
واختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية، وهي اللفظ الذي استفيد من "الشرع"* وضعه للمعنى، سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو كان أحدهما مجهولًا والآخر معلومًا.
وينبغي أن يعلم قبل ذلك الخلاف والأدلة من الجانبين أن الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع، لا بوضع أهل الشرع كما ظن.
فذهب الجمهور إلى إثباتها، وذلك كالصلاة، والزكاة، والصوم والمصلي والمزكي والصائم وغير ذلك فمحل النزاع الألفاظ المتداولة شرعًا، المستعملة في غير "معانيها اللغوية"**.
__________
* في "أ": الشارع.
** في "أ": ما وضع له في اللغة.

(1/63)


فالجمهور جعلوها حقائق شرعية بوضع الشارع لها.
وأثبت المعتزلة أيضًا مع الشرعية حقائق دينية، فقالوا إن ما استعمله الشارع في معان غير لغوية ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأسماء التي أجريت على الأفعال، وهي الصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك.
والقسم الثاني: الأسماء التي أجريت على الفاعلين كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك.
فجعلوا القسم الأول حقيقة شرعية والقسم الثاني: حقيقة دينية، وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض المتأخرين ورجحه الرازي أنها مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها على ألسنة أهل الشرع.
وثمرة الخلاف: أنها إذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة هل تحمل على المعاني الشرعية أو على اللغوية؟
فالجمهور قالوا بالأول والباقلاني ومن معه قالوا بالثاني.
قالوا أما في كلام المتشرعة فيحمل على الشرعي اتفاقًا لأنها قد صارت حقائق عرفية بينهم وإنما النزاع في كون ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية أو بغلبتها في لسان أهل الشرع فقط ولم يضعها الشارع بل استعملها مجازات لغوية لقرائن فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية.
احتج الجمهور بما هو معلوم شرعًا أن الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان والزكاة لأداء مال مخصوص والصيام لإمساك مخصوص والحج لقصد مخصوص وأن هذه المدلولات هي المتبادرة عند الإطلاق وذلك علامة الحقيقة بعد أن كانت الصلاة في اللغة للدعاء والزكاة للنماء والصيام للإمساك مطلقًا والحج للقصد مطلقًا
وأجيب عن هذا بأنها باقية في معانيها اللغوية والزيادات شروط والشرط خارج عن المشروط.
ورد بأنه يستلزم أن لا يكون مصليًا من لم يكن داعيًا كالأخرس.
وأجيب أيضًا بأنه لا يلزم من سبق المعاني الشرعية عند الإطلاق ثبوت الحقائق الشرعية لجواز صيرورتها بالغلبة حقائق عرفية خاصة لأهل الشرع وإن لم تكن حقائق شرعية بوضع الشارع

(1/64)


ورد بأنه إن أريد بكون اللفظ مجازًا أن الشارع استعمله في معناه لمناسبة للمعنى اللغوي ثم اشتهر فأفاد بغير قرينة فذلك معنى الحقيقة الشرعية فثبت المدعي وإن أريد أن أهل اللغة استعملوه في هذه المعاني وتبعهم الشارع في ذلك فخلاف الظاهر للقطع بأنها معان حادثة ما كان أهل اللغة يعرفونها.
واحتج القاضي ومن معه بأن إفادة هذه ألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربيًّا وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم، أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا.
وأما فساد اللازم فلقوله سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 2.
وأجيب بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية فالملازمة ممنوعة.
وأجيب أيضًا: بأنا لا نسلم أنها ليست بعربية على تسليم أنها مجازات لغوية جعلها الشارع حقائق شرعية لأن المجازات عربية وإن لم "تصرح"* العرب بآحادها فقد جوزوا نوعها وذلك يكفي في نسبة المجازات بأسرها إلى لغة العرب وإلا لزم "أنها"** كلها ليست بعربية واللازم باطل فالملزوم مثله.
ولو سلمنا أن المجازات العربية التي صارت حقائق بوضع الشارع ليست بعربية لم يلزم أن يكون القرآن غير عربي بدخولها فيه لأنها قليلة جدًّا والاعتبار بالأغلب فإن الثور الأسود لا يمنع إطلاق اسم الأسود عليه بوجود شعرات بيض في جلده على أن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه فلا تدل الآية على أنه كله عربي كما يفيده قوله في سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3 والمراد منه تلك السورة.
وأيضًا: الحروف المذكورة في أوائل السور ليست بعربية و"المشكاة"4 لغة حبشية
__________
* في "أ": تصرح.
** في "أ": كونها.
__________
1 جزء من الآية "28" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "4" من سورة إبراهيم عليه السلام.
3 جزء من الآية "2" من سورة يوسف عليه السلام.
4 قال الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة. ا. هـ. الصحاح مادة شكو وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة النور الآية "35".
وقال في اللسان: إنها من كلام العرب، وقيل: إنها حبشية. ا. هـ. اللسان مادة شكا.

(1/65)


والإستبرق"1 و"السجيل"2 فارسيان و"القسطاس"3 من لغة الروم.
وإذا عرفت هذا تقرر لك ثبوت الحقائق الشرعية، وعلمت أن نافيها لم يأت بشيء يصلح للاستدلال كما أوضحناه وهكذا الكلام فيما سمته المعتزلة حقيقة دينية فإنه من جملة الحقائق الشرعية كما قدمنا4 فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه.
__________
1 قال الزجاج، هو الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وهو اسم أعجمي أصله بالفارسية استقره، ونقل من العجمية، إلى العربية. ا. هـ. لسان العرب والمعجم الوسيط مادة استبرق وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الكهف الآية:31".
2 حجارة كالمدر، وفي التنزيل العزيز {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقيل: هو حجر من طين، معرب دخيل، وهو: سنك وكل أي حجارة وطين. ا. هـ. لسان العرب مادة سجل وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الفيل الآية "4".
3 القِسطاس والقُسطاس: أعدل الموازين وأقومها. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة قسطس وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الإسراء الآية "35".
4 انظر صفحة: "63".

(1/66)


البحث الرابع: المجاز في لغة العرب
...
البحث الرابع: المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم
وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم اطلاعه على لغة العرب وينادي بأعلى صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها.
وقد استدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت، فقال: "إنه"* لو كان المجاز واقعًا في لغة العرب لزم الإخلال بالتفاهم إذ قد تخفى القرينة.
وهذا التعليل عليل فإن تجويز خفاء القرينة أخفى من السُّها1.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 كوكب خفي في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم، وفي المثل: أريها السها تريني القمر. ا. هـ. الصحاح مادة سها.

(1/66)


واستدل صاحب المحصول لهذا القائل بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز، فأما أن يفيد مع القرينة أو بدونها والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة لا مجازًا والثاني باطل لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون قرينة. لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا كونها مستقلة بالإفادة بدون قرينة.
وأجاب عنه بأن هذا نزاع في العبارة.
ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز، ولا يقال للفظة مع القرينة حقيقة فيها لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظًا واحدًا دالًّا على المسمى.
وعلى كل حال: فهذا "القول"* لا ينبغي الاشتغال بدفعه ولا التطويل في رده فإن وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم وأوضح من شمس النهار.
قال ابن جني1: أكثر اللغة مجاز.
وقد قيل إن أبا علي الفارسي2 قائل بمثل هذه المقالة التي قالها الإسفراييني وما أظن مثل أبي علي يقول ذلك فإنه إمام اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي.
وكما أن المجاز واقع في لغة العرب فهو أيضًا واقع في الكتاب العزيز عند الجماهير وقوعًا كثيرًا بحيث لا يخفى إلا على من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز.
وقد روي عن الظاهرية3: نفيه في الكتاب العزيز وما هذا بأول مسائلهم التي جمدوا فيها جمودًا يأباه الإنصاف وينكره الفهم ويجحده العقل.
وأما ما استدل به لهم من أن المجاز كذب لأنه ينفي فيصدق نفيه وهو باطل لأن الصادق إنما هو نفي الحقيقة فلا ينافي صدق إثبات المجاز وليس في المقام من الخلاف ما يقتضي ذكر بعض المجازات الواقعة في القرآن والأمر أوضح من ذلك، وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعًا كثيرًا فهو أيضًا واقع في السنة وقوعًا كثيرًا والإنكار لهذا الوقوع مباهتة لا يستحق المجاوبة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عثمان بن جني، أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، صرفي لغوي، توفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هجرية، عن نحو خمس وستين عامًا، من آثاره: "سر الصناعة" "شرح ديوان المتنبي". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 140"، الأعلام "4/ 204".
2 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، الفارسي، الفسوي، أبو علي، إمام النحو، ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين هـ، وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "أبيات الإعراب" "أبيان المعاني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 379"، هدية العارفين "1/ 272".
3 وهي فرقة تنسب إلى مؤسسها داود بن على الظاهري الأصفهاني شيخ أهل الظاهر، وستأتي ترجمته في الصفحة "135"، ويقال لها الداوودية، وهم يأخذون بالظاهر ويرفضون التأويل والرأي. ا. هـ. مفاتيح العلوم "46". وسير أعلام النبلاء "13/ 97".

(1/67)


البحث الخامس: علاقات الحقيقة والمجاز
إنه لا بد من العلاقة في كل مجاز فيما بينه وبين الحقيقة.
والعلاقة هي اتصال للمعنى المستعمل فيه بالموضوع له وذلك الاتصال إما باعتبار الصورة كما في المجاز المرسل أو باعتبار المعنى كما في الاستعارة وعلاقتها المشابهة وهي الاشتراك في معنى مطلقًا لكن يجب أن تكون ظاهرة الثبوت لمحله والانتفاء عن غيره كالأسد للرجل الشجاع لا الأبخر1.
والمراد الاشتراك في الكيف فيندرج تحت مطلق العلاقة المشاكلة الكلامية كإطلاق الإنسان على الصورة المنقوشة ويندرج تحتها أيضًا المطابقة2 والمناسبة3 والتضاد المنزل منزلة التناسب لتهكم نحو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 4 فهذا الاتصال المعنوي.
وأما الاتصال الصوري فهو إما في اللفظ وذلك في المجاز بالزيادة والنقصان وفي المشاكلة البديعية وهي الصحبة الحقيقية أو التقديرية.
وقد تكون العلاقة باعتبار ما مضى وهو الكون عليه كاليتيم للبالغ أو باعتبار المستقبل وهو الأول إليه كالخمر للعصير أو باعتبار الكلية والجزئية كالركوع "في الصلاة"*، واليد فيما وراء الرسغ، والحالية والمحلية، كاليد في القدرة، والسببية والمسببية، والإطلاق والتقييد واللزوم، والمجاورة، والظرفية، والمظروفية، والبدلية، والشرطية، والمشروطية والضدية5.
__________
* في "أ": للصلاة.
__________
1 البخر: نتن الفم، وقد بخر فهو أبخر. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة بخر.
2 وتسمى بالتضاد وبالتطبيق وبالتكافؤ وبالتطابق، وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين يتنافى وجود معناهما معا في شيء واحد في وقت واحد. ا. هـ. جواهر البلاغة "366".
3 هي العلاقة الموجودة بين الحقيقة والمجاز.
4 جزء من الآية "34" من سورة التوبة و"24" الانشقاق.
5 السببية والمسببية: مثل "رعينا الغيث" أي: النبات الذي سببه الغيث. =

(1/68)


ومن العلاقات: إطلاق المصدر على الفاعل، أو المفعول كالعلم في العالم أو المعلوم.
ومنها: تسمية إمكان الشيء باسم وجوده، كما يقال للخمر التي في الدن: إنها مسكرة.
ومنها: إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه.
وقد جعل بعضهم في إطلاق اسم السبب على المسبب أربعة أنواع: القابل، والصورة، والفاعل، والغاية، أي تسمية الشيء باسم قابله نحو سال الوادي، وتسمية الشيء باسم صورته كتسمية القدرية باليد وتسمية الشيء باسم فاعله حقيقة أو ظنًّا كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث وتسمية الشيء باسم غايته كتسمية العنب بالخمر.
وفي إطلاق اسم المسبب على السبب أربعة أنواع على العكس من هذه المذكورة قبل هذا.
"وعند"* بعضهم من العلاقات الحلول في محل واحد، كالحياة في الإيمان والعلم، وكالموت في ضدهما، والحلول في محلين متقاربين، كرضى الله في رضى رسوله، والحلول في حيزين متقاربين، كالبيت في الحرم كما في قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} 1.
وهذه الأنواع راجعة إلى علاقة الحالية والمحلية كما أن الأنواع السابقة مندرجة تحت علاقة السببية والمسببية فما ذكرناه ههنا مجموعة أكثر من ثلاثين علاقة.
وعد بعضهم من العلاقات ما لا تعلق لها بالمقام كحذف المضاف نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 2 يعني أهلها، وحذف المضاف إليه نحو: أنا ابن جلا3.
__________
* في "أ": عند.
__________
= - الإطلاق والتقييد: نحو قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء} .
- اللزوم: نحو "نطقت الحال بكذا" أي: دلت.
- المجاورة: نحو "سال الوادي" أي: الماء المجاور له.
- الظرفية والمظروفية: نحو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والغائظ اسم للمطمئن من الأرض وسمي الحدث به مجازًا لأنه يكون في المطمئن من الأرض عادة.
- البدلية: مثل "فلان أكل الدم" أي: الدية.
- الشرطية: نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم.
- المشروطية: كإطلاق العلم على المعلوم.
- الضدية: نحو قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: أنذرهم.
ا. هـ. نسمات الأسحار "75"، التلويح على التوضيح "1/ 72".
1 جزء من الآية "97" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "82" من سورة يوسف عليه السلام.
3 هذا جزء من صدر بيت وتمامه:
................. وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وهو لسحيم بن وثيل الرياحي، ذكره في المعني برقم "263" وفي شرح شواهد المغني "برقم 289".

(1/69)


أي أنا ابن رجل جلا.
والنكرة في الإثبات إذا جعلت للعموم نحو {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} 1 أي: كل نفس والمعرف باللام إذا أريد به الواحد المنكر نحو {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَاب} 2 أي بابًا من أبوابها والحذف نحو {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} 3 أي كراهة أن تضلوا والزيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 4.
ولو كانت هذه معتبرة لكانت العلاقات نحو أربعين علاقة لا كما قال بعضهم إنها لا تزيد على إحدى عشرة.
وقال آخر لا تزيد على عشرين.
وقال آخر لا تزيد عن خمس وعشرين فتدبر.
واعلم أنه لا يشترط النقل في آحاد المجاز، بل العلاقة كافية، والمعتبر نوعها، ولو كان نقل آحاد المجاز معتبرًا لتوقف أهل العربية في التجوز على النقل ولوقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات وليس كذلك بالاستقراء.
ولذلك لم يدونوا المجازات كالحقائق وأيضًا لو كان نقليًّا لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل.
وإلى عدم اشتراط نقل آحاد المجاز ذهب الجمهور، وهو الحق. ولم يأت من اشترط ذلك بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها. وكل من له علم وفهم يعلم أن أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ونصب القرينة وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فني النظم والنثر ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحح للتجوز ولم يسمع عن واحد منهم خلاف هذا.
__________
1 الآية "14" من سورة التكوير.
2 جزء من الآية "23" من سورة المائدة.
3 جزء من الآية "176" من سورة النساء.
4 جزء من الآية "11" من سورة الشورى.

(1/70)


البحث السادس: في قرائن المجاز
اعلم: أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام، أي: لا تكون معنى في المتكلم وصفة له، ولا تكون من جنس الكلام، أو تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام.

(1/70)


وهذه القرينة التي تكون من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بأن يكون في كلام آخر لفظ يدل على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو غير خارج عن هذا الكلام بل هو عينه أو شيء منه يكون دالًّا على عدم إرادة الحقيقة.
ثم هذا القسم على نوعين:
إما أن يكون بعض الأفراد أولى من بعض في دلالة ذلك اللفظ عليه كما لو قال كل مملوك لي حر فإنه لا يقع على المكاتب مع أنه عبد ما بقي عليه درهم فيكون هذا اللفظ مجازًا من حيث إنه مقصور على بعض الأفراد "أو لا يكون أولى وهو ظاهر"*.
أما القرينة التي تكون لمعنى في المتكلم فكقوله سبحانه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} الآية [64 من سورة الإسراء] فإنه سبحانه لا يأمر بالمعصية.
وأما القرينة الخارجة عن الكلام فكقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن} فإن سياق الكلام وهو قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يخرجه عن أن يكون للتخيير.
"ونحو"**: طلق امرأتي إن كنت رجلًا فإن هذا لا يكون توكيلًا لأن قوله إن كنت رجلًا يخرجه عن ذلك فانحصرت القرينة في هذه الأقسام.
ثم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قد تكون عقلية وقد تكون حسية وقد تكون عادية وقد تكون شرعية فلا تختص قرائن المجاز بنوع من هذه الأنواع دون نوع.
__________
* ما بين قوسين ساقط "من "أ".
** في "أ": ونحو قوله.

(1/71)


البحث السابع: في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة
اعلم: أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالنص أو الاستدلال:
أما "النص"* فمن وجهين:
الأول: أن يقول الواضع: هذا حقيقة وذاك مجاز.
الثاني: أن يذكر الواضع حد كل واحد منهما بأن يقول: هذا مستعمل فيما وضع له، وذاك مستعمل في غير ما وضع له، ويقوم مقام الحد ذكر خاصة كل واحد منهما.
__________
* في "أ": بالنص.

(1/71)


وأما الاستدلال فمن وجوه ثلاثة:
الأول أن يسبق المعنى إلى أفهام أهل اللغة عند سماع اللفظ بدون قرينة فيعلم بذلك أنه حقيقة فيه فإن كان لا يفهم منه المعنى المراد إلا بالقرينة فهو المجاز.
واعترض على هذا بالمشترك المستعمل في معنييه أو معانيه فإنه لا يتبادر أحدهما أو أحدها لولا القرينة المعينة للمراد مع أنه حقيقة.
وأجيب: بأنها "تتبادر"* جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه ويتبادر أحدها لا بعينه عند من منع من حمله على جميع معانيه.
ورد بأن علامة المجاز تصدق حينئذ على المشترك المستعمل في المعين إذ يتبادر غيره وهو علامة المجاز مع أنه حقيقة فيه.
ودفع هذا الرد بأنه إنما يصح ذلك لو تبادر أحدهما لا بعينه على أنه المراد واللفظ موضوع للقدر المشترك مستعمل فيه.
وأما إذا علم أن المراد أحدهما بعينه إذ اللفظ يصلح لهما وهو مستعمل في أحدهما ولا يعلمه فذلك كافٍ في كون المتبادر غير المجاز فلا يلزم كونه للمعين مجازًا.
الثاني: صحة النفي للمعنى المجازي وعدم صحته للمعنى الحقيقي في نفس الأمر، واعترض بأن العلم بعدم صحة النفي موقوف على العلم بكونه حقيقة فإثبات كونه حقيقة به دور ظاهر وكذا العلم بصحة النفي موقوف على العلم بأن ذلك المعنى ليس من المعاني الحقيقية وذلك موقوف على العلم بكونه مجازًا فإثبات كونه مجازًا به دور.
وأجيب بأن سلب بعض المعاني الحقيقية كافٍ فيعلم أنه مجاز فيه وإلا لزم الاشتراك وأيضًا إذا علم معنى اللفظ الحقيقي والمجازي ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم "بصحة"** نفي المعنى الحقيقي أن المراد هو المعنى المجازي وبعدم صحته أن المراد هو المعنى الحقيقي.
الثالث: عدم اطراد المجاز وهو أن لا يجوز استعماله في محل مع وجود سبب الاستعمال المسوغ لاستعماله في محل آخر كالتجوز بالنخلة للإنسان الطويل دون غيره مما فيه طول وليس الاطراد دليل الحقيقية فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع.
واعترض:بأن عدم الاطراد قد يوجد في الحقيقة كالسخي، والفاضل، فإنهما لا يطلقان
__________
* في "أ": يتبادر.
** في "أ": بصحته.

(1/72)


على الله سبحانه مع وجودهما على وجه الكمال فيه، وكذا القارورة لا تطلق على غير الزجاجة، مما يوجد معنى الاستقرار فيه كالدن1. وأجيب عنه: بأن الأمارة عدم الاطراد لا لمانع لغة أو شرعا، ولم يتحقق فيما ذكرتم من الأمثلة فإن الشرع منع من إطلاق السخي، والفاضل على الله سبحانه، واللغة منعت من إطلاق القارورة على غير الزجاجة.
وقد ذكروا غير هذه الوجوه مثل قولهم من العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أنها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه.
ومنها:أن يضعوا اللفظة لمعنى، ثم يتركوا استعماله إلا في بعض معانيه المجازية، ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء، فإنا نعلم كونه من المجاز العرفي مثل:استعمال لفظ الدابة في "الحمار"*.
ومنها: امتناع الاشتقاق، فإنه دليل على كون اللفظ مجازًا.
منها: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم، فيجمع على صيغة مخالفة لصيغة جمعه لمسمى آخر، هو فيه حقيقة.
ومنها: أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقًا بالغير، فإنه إذا استعمل فيما لا يتعلق به شيء كان مجازًا، وذلك كالقدرة إذا أريد بها الصفة كانت متعلقة بالمقدور وإذا أطلقت على النبات الحسن لم يكن لها متعلق فيعلم كونها مجازًا فيه.
ومنها: أن يكون إطلاقه على أحد مسمييه متوقفًا على تعلقه بالآخر نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 2؛ ولا يقال: مكر الله ابتداء.
ومنها: لا يستعمل إلا مقيدًا ولا يستعمل للمعنى المطلق كنار الحرب، وجناح الذل.
__________
* في "أ": الحمال.
__________
1 إناء كهيئة الحب، "الجرة" إلا أنه أطول منه، وأوسع رأسًا، والجمع دنان، ا. هـ. المصباح المنير مادة دنن.
2 جزء من الآية "54" من سورة آل عمران.

(1/73)


البحث الثامن: عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز
في أن اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا بكونه مجازًا لخروجه عن حد كل واحد منهما، إذ الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز؛ لأن اللفظ قد يستعمل في ما وضع له، ولا يستعمل في غيره، وهذا معلوم لكل عالم بلغة العرب.
واختلفوا هل يستلزم المجاز الحقيقة؛ أم لا؟ بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له، ولا يستعمل في ما وضع له أصلا.
فقال جماعة: إن المجاز يستلزم الحقيقة. واستدلوا على ذلك: بأنه لو لم يستلزم لخلا الوضع عن الفائدة، وكان عبثًا وهو محال.
أما الملازمة: فلأن ما لم يستعمل لا يفيد فائدة، وفائدة الوضع: إنما هي إعادة المعاني المركبة، وإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فانتفت فائدته.
وأما بطلان اللازم فظاهر.
وأجيب بمنع انحصار "فائدة"* في إفادة المعاني المركبة، فإن صحة التجوز فائدة.
واستدل القائلون: بعدم الاستلزام -وهم الجمهور- بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لنحو شابت لمة الليل أي: أبيض الغسق، وقامت الحرب على ساق أي اشتدت حقيقة واللازم منتفٍ.
وأجيب عن هذا بجوابين، جدلي وتحقيقي:
أما الجدلي فبأن الإلزام مشترك لأن نفس الوضع لازم للمجاز، فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى متحقق وليس كذلك.
وأما التحقيقي: فباختيار أن لا مجاز في المركب، بل في المفردات، ولها وضع واستعمال، ولا مجاز في التركيب حتى يلزم أن يكون له معنى. ومن اتبع عبد القاهر1 في أن المجاز مفرد ومركب ويسمى عقليًّا، وحقيقة عقلية،
__________
* في "أ": فائدة.
__________
1 هو عبد القاهر بن الرحمن الجرجاني، أبو بكر، شيخ العربية، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، من تصانيفه: "أسرار البلاغة" "دلائل الإعجاز في المعاني والبيان". ا. هـ. هدية العارفين "1/ 606"، سير أعلام النبلاء "18/ 432".

(1/74)


لكونهما في الإسناد، سواء كان طرفاه حقيقتين، نحو: سرتني رؤيتك أو مجازين نحو أحياني اكتحالي بطلعتك أو مختلفين فإن اتبعه في عدم الاستلزام -أيضًا فذاك وإلا فله أن يجيب: بأن مجازات الأطراف لا مدخل لها فيه، ولها حقائق مجاز الإسناد ليس لفظًا، حتى يطلب لعينه حقيقة ووضع بل له معنى حقيقة بغير هذا اللفظ، واجتماع المجازات لا يستلزم اجتماع حقائقها.
ومن قال بإثبات المجاز المركب في الاستعارة التمثيلية1، نحو طارت به العنقاء2، وأراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فلا بد أن يقول بعدم الاستلزام. ومن نفى المجاز المركب أجاب عن المجاز العقلي بأنه من الاستعارة التبعية3 وذلك؛ لأن عرف العرب أن يعتبروا القابل فاعلًا، نحو مات فلان، وطلعت الشمس ولم يلتزموا الإسناد إلى الفاعل الحقيقي كما في أنبت الله، وخلق الله فكذا سرتني رؤيتك؛ لأنها قابلة لإحداث الفرح ونحوها من الصور الإسنادية.
وأشف ما استدلوا به قولهم: إن الرحمن مجاز في الباري سبحانه؛ لأنه معناه ذو الرحمة، ومعناه الحقيقي -وهو رقة القلب- لا وجود له، ولم يستعمل في غيره تعالى.
وأجيب: بأن العرب قد استعملته في المعنى الحقيقي، فقالوا لمسيلمة4: هو رحمان اليمامة.
ورد: بأنهم لم يريدوا بهذا الإطلاق أن مسيلمة رقيق القلب حتى يرد النقض به، ومما يستدل به للنافي أن أفعال المدح والذم هي أفعال ماضية ولا دلالة لها على الزمان الماضي فكانت مجازات لا حقائق لها.
__________
1 هو تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي. نحو: "إني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى"، يضرب لمن يتردد في أمر، فتاوة يحجم، وتارة يقدم.ا. هـ. جواهر البلاغة "333".
2 أصل العنقاء: طائر عظيم، معروف الاسم، مجهول الجسم.ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة عنق.
3 هي الاستعارة التي تجري في اللفظ المشتق أو الفعل. ا. هـ. جواهر البلاغة "312".
4 هو مسيلمة الكذاب ابن ثمامة، الحنفي، الوائلي، متنبئ، من المعمرين، ولد ونشأ باليمامة، وتوفي سنة اثنتي عشرة هجرية، سنة فتح اليمامة على يدي سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 23"، الكامل لابن الأثير "2/ 203"، الأعلام "7/ 226".

(1/75)


البحث التاسع: في اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازًا أو مشتركًا
هل يرجح المجاز على الاشترك أو الاشترك على المجاز؟
فرجح قوم الأول، ورجح آخرون الثاني.
استدل الأولون بأن المجاز أكثر من الاشتراك في لغة العرب، فرجح الأكثر على الأقل، قال ابن جني: أكثر اللغة مجاز وبأن المجاز معمول به مطلقًا، فبلا قرينة حقيقة، ومعها مجاز والمشترك بلا قرينة مهمل، والإعمال أولى من الإهمال، وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علم المعاني والبيان، وبأنه أوجز كما في الاستعارة فهذه فوائد للمجاز، وقد ذكروا غيرها من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام، وذكروا للمشترك مفاسد منها: إخلاله بالفهم عند خفاء القرينة عند من لا يجوز حمله على معنييه أو معانيه، بخلاف المجاز فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة.
ومنها: تأديته إلى مستبعد من نقيض أو ضد كالقرء إذا أطلق مرادًا به الحيض فيفهم منه الطهر أو بالعكس.
ومنها احتياجه إلى قرينتين: إحداهما "معينة"* للمعنى المراد، والأخرى "معينة"* للمعنى الآخر بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة واحدة.
واحتج الآخرون: بأن للاشتراك فوائد لا توجد في المجاز، وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك.
فمن الفوائد: أن المشترك مطرد فلا يضطرب، بخلاف المجاز فقد لا يطرد كما تقدم1.
ومنها: الاشتقاق منه بالمعنيين، فيتسع الكلام نحو أقرأت المرأة بمعنى حاضت وطهرت والمجاز لا يشتق منه، وإن صلح له حال كونه حقيقة.
ومنها: صحة التجوز باعتبار "معنيي"** المشترك فتكثر بذلك الفوائد.
وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في المشترك فمنها: احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي، والشخصي باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة.
__________
* في "أ": تعينه.
** في "أ": معنى.
__________
1 انظر صفحة: "74".

(1/76)


والمشترك يكفي فيه الوضع الشخصي، ولا يحتاج إلى النوعي لعدم احتياجه إلى العلاقة.
ومنها: أن المجاز مخالف للظاهر، فإن الظاهر المعنى الحقيقي، لا المجازي، بخلاف المشترك، فإنه ليس ظاهرًا في بعض، معانيه دون بعض، حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر.
ومنها: أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط عند عدم القرينة، فيحمل على المعنى الحقيقي، بخلاف المشترك، فإن معانيه كلها حقيقية.
وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد التي ذكرها الأولون والآخرون. والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف، والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين.
واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز، فإن الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه:
أحدها: احتمال الاشتراك.
وثانيها: احتمال النقل بالعرف أو الشرع.
وثالثها: احتمال المجاز.
ورابعها: احتمال الإضمار.
وخامسها: احتمال التخصيص.
ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللًا في فهم مراد المتكلم: أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل، كان اللفظ موضوعًا لمعنى واحد، وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له، فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم.
والتعارض بين هذه يقع في عشرة وجوه؛ لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين، ثم بين الإضمار والتخصيص.
فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل، فقيل: إن النقل أولى؛ لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات، والمشترك مشترك في الأوقات كلها.
وقيل: الاشتراك أولى؛ لأنه لا يقتضي "نسخ"*وضع سابق، والنقل يقتضيه.
وأيضًا: لم ينكر وقوع المشترك في لغة العرب أحد من أهل العلم، وأنكر النقل كثير منهم.
__________
*في "أ": فسخ.

(1/77)


وأيضًا قد لا يعرف النقل فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي، فيقع الغلط.
وأيضًا: المشترك أكثر وجودًا من المنقول.
وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على النقل، وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل، وأما التعارض بين المشترك والمجاز: فقد تقدم1 تحقيقه في صدر هذا البحث.
وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار، فقيل: إن الإضمار أولى؛ لأن الإجمال الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور، والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور، فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال الإضمار به.
وقيل: إن الاشتراك أولى؛ لأن الإضمار محتاج إلى ثلاث قرائن، قرينة تدل على أصل الإضمار، وقرينة تدل على موضع الإضمار، وقرينة تدل على نفس المضمر، والمشترك يفتقر إلى قرينتين كما سبق، فكان الإضمار أكثر إخلالًا بالفهم.
وأجيب: بأن الإضمار وإن افتقر إلى تلك القرائن الثلاث، فذلك في صورة واحدة، بخلاف المشترك، فإنه يفتقر إلى القرينتين في صور متعددة، فكان أكثر إخلالًا بالفهم، على أن الإضمار من باب الإيجاز، وهو من محسنات الكلام.
وأما التعارض بين الاشتراك والتخصيص فقيل: التخصيص أولى؛ لأن التخصيص أولى من المجاز، وقد تقدم2 أن المجاز أولى من الاشتراك. وأما التعارض بين النقل والمجاز، فقيل المجاز أولى؛ لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع، وذلك متعذر أو متعسر، والمجاز يحتاج إلى قرينة مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر.
وأيضًا المجاز أكثر من النقل والحمل على الأكثر مقدم، وأيضًا في المجاز ما قدمنا3 من الفوائد وليس شيء من ذلك في المنقول.
وأما التعارض بين النقل والتخصيص، فقيل: التخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز، والمجاز مقدم على النقل.
وأما التعارض بين المجاز والإضمار، فقيل هما سواء، وقيل المجاز أولى؛ لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن كما تقدم.
__________
1 انظر صفحة "76".
2 انظر صفحة: "76".
3 انظر صفحة: "76".

(1/78)


وأما التعارض بين المجاز والتخصيص: فالتخصيص أولى؛ لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص حمل اللفظ على عمومه، فيحصل مراد المتكلم، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة لحمله على الحقيقة، فلا يحصل مراد المتكلم.
وأما التعارض بين الإضمار والتخصيص: فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز، والمجاز هو والإضمار سواء، وهو أولى من الإضمار.

(1/79)


البحث العاشر: في الجمع بين الحقيقة والمجاز
ذهب جمهور أهل العربية، وجميع الحنفية، وجمع من المعتزلة، والمحققون من الشافعية، إلى أنه لا يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي، حال كونهما مقصودين بالحكم، بأن يراد كل واحد منهما.
وأجاز ذلك بعض الشافعية، وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار، وأبي علي الجبائي1 مطلقًا إلا أن لا يمكن الجمع بينهما كافعل أمرًا وتهديدًا فإن الأمر طلب الفعل، والتهديد يقتضي الترك فلا يجتمعان معًا.
وقال الغزالي، وأبو الحسين: إنه يصح استعماله فيهما عقلًا لا لغة، إلا في غير المفرد كالمثنى والمجموع، فيصح استعماله فيهما لغة لتضمنه المتعدد كقولهم: القلم أحد اللسانين2.
ورجح هذا التفصيل ابن الهمام، وهو قوي؛ لأنه قد وجد المقتضى وفقد المانع فلا يمتنع عقلًا إرادة غير المعنى الحقيقي، مع المعنى الحقيقي بالمتعدد. واحتج المانعون مطلقًا: بأن المعنى المجازي يستلزم ما يخالف المعنى الحقيقي، وهو قرينة عدم إرادته، فيستحيل اجتماعهما. وأجيب: بأن ذلك الاستلزام إنما هو عند عدم قصد التعميم، أما معه فلا، واحتجوا ثانيًا: بأنه كما يستحيل في الثوب الواحد أن يكون ملكًا وعارية في وقت واحد، كذلك يستحيل في اللفظ الواحد أن يكون حقيقة ومجازًا. وأجيب بأن الثوب ظرف حقيقي للملك، والعارية، واللفظ ليس بظرف حقيقي للمعنى.
__________
1 هو محمد بن الوهاب بن سلام الجبائي، أبو علي، من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، إليه نسبة الطائفة الجبائية، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمئة هجرية، من آثاره: "تفسير" حافل مطول. ا. هـ. الأعلام "6/ 256"، سير أعلام النبلاء "14/ 183".
2 انظر فواتح الرحموت "1/ 216".

(1/79)


والحق امتناع الجمع بينهما لتبادر المعنى الحقيقي من اللفظ من غير أن يشاركه غيره في التبادر عند الإطلاق، وهذا بمجرده يمنع من إرادة غير الحقيقي بذلك اللفظ المفرد، مع الحقيقي، ولا يقال: إن اللفظ يكون عند قصد الجمع بينهما مجازًا لهما؛ لأن المفروض أن كل واحد منهما متعلق الحكم لا مجموعهما ولا خلاف في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازي، يندرج تحته المعنى الحقيقي، وهو الذي يسمونه عموم المجاز.
واختلفوا هل يجوز استعمال اللفظ في معنييه، أو معانيه المجازية، فذهب المحققون إلى منعه وهو الحق؛ لأن قرينة كل مجاز تنافي إرادة غيره من المجازات.
وإلى هنا انتهى الكلام في المبادئ.

(1/80)


الخلاف في بعض حروف المعاني:
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في المبادئ مباحث في بعض الحروف، التي ربما يحتاج إليها الأصولي، وأنت خبير بأنها مدونة في فن مستقل، مبينة بيانًا تامًا، وذلك كالخلاف في الواو هل هي لمطلق الجمع، أو للترتيب؟
فذهب إلى الأول جمهور النحاة، والأصوليون، والفقهاء.
قال أبو علي الفارسي: أجمع نحاة البصرة، والكوفة، على أنها للجمع المطلق.
وذكر سيبويه1 في سبعة عشر موضعًا من "كتابه"2 أنها للجمع المطلق، "وهو الحق"*.
وقال الفراء3 وثعلب، وأبو عبيد4: إنها للترتيب.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عمرو بن عثمان، أبو بشر الفارسي ثم البصري، إمام النحو، حجة العرب توفي سنة ثمانين ومائة هجرية، من تآليفه: "الكتاب" المشهور بكتاب سيبويه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 351"، معجم الأدباء "16/ 114".
2 أي كتاب سيبويه في النحو، وهو مجلد واحد، ليس في ترتيب، ولا خطبة، ولا خاتمة، وعليه شروح وتعليقات وردود نشأت من اعتناء الأئمة واشتغالهم به وهو مطبوع في خمسة مجلدات بتحقيق عبد السلام هارون. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1426".
3 هو يحيى بن زياد، أو زكريا الديلمي الكوفي، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج سنة سبع ومائتين هـ، من آثاره: "مشكل اللغة" "البهي" "معاني القرآن"، وغيرها كثير، حتى بلغت تآليفه ثلاثة آلاف ورقة. قيل سمي بالفراء؛ لأنه كان يفري الكلام. ا. هـ. معجم الأدباء "20/ 9"، تهذيب التهذيب "11/ 212"، سير أعلام النبلاء "10/ 118".
4 هو أبو عبيد القاسم بن سلام، الإمام الحافظ، اللغوي، المحتهد ذو الفنون، ولد سنة سبع وخمسين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "الأموال" "كتاب الناسخ والمنسوخ". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "1/ 417"، تهذيب "8/ 315"، سير أعلام النبلاء "10/ 490".

(1/80)


وروي هذا عن الشافعي والمؤيد بالله1، وأبي طالب2.
احتج الجمهور بأن الواو قد تستعمل فيما يمتنع الترتيب فيه كقولهم: تقاتل زيد وعمرو، ولو قيل: تقاتل زيد فعمرو، أو تقاتل زيد ثم عمرو، لم يصح، والأصل الحقيقة، فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب.
وأيضًا: لو اقتضت الواو الترتيب لم يصح قولك: رأيت زيدًا وعمرًا بعده، أو رأيت زيدًا وعمرًا قبله؛ لأن قولك: بعده يكون تكرارًا لما تفيده الواو من الترتيب، وقولك: قبله يكون مناقضًا لمعنى الترتيب.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: بأنه امتنع جعل الواو هنا للترتيب لوجود مانع، ولا يستلزم ذلك امتناعه عند عدمه.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة} 3 في سورة البقرة. وقال في سورة الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 4 وقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين} 5، مع أن الركوع مقدم على السجود، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} 6 وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} 7 وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} 8 و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 9 وليست في شيء من هذه المواضع للترتيب وهكذا في غيرها مما يكثر تعداده.
وعلى كل حال: فأهل اللغة العربية لا يفهمون من قول من قال اشتر الطعام والإدام أو اشتر الإدام والطعام والترتيب أصلًا، وأيضًا لو كانت الواو للترتيب لفهم الصحابة رضي الله عنهم
__________
1 هو الحسين بن علي، الحسني، من أئمة الزيدية باليمن، ولد ونشأ بصعدة، وتوفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف هـ، ولاه أبوه بلاد رازح. ا. هـ. الأعلام "2/ 247".
2 هو عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم، نور الدين، الفقيه الحنبلي، نزيل بغداد، ولد سنة أربع وعشرين وستمائة هـ، وحفظ القرآن بالبصرة، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، من آثاره: "الحاوي في الفقه" "الكافي في شرح الخرقي". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 386" الأعلام "9/ 319".
3 جزء من الآية "58" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "161" من سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "43" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "92" من سورة النساء.
7 جزء من الآية "33" من سورة المائدة.
8 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
9 جزء من الآية "2" من سورة النور.

(1/81)


في قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} 1 أن الابتداء يكون من الصفا، من دون أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، ولكنهم سألوه فقال: "ابدأوا بما بدأ الله به" 2.
واحتج القائلون بالترتيب، بما صح أن خطيبًا قال في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى"، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بئس خطيب القوم أنت، قل ومن يعص الله ورسوله" 3.
ولو كان الواو لمطلق الجمع لما افترق الحال بين ما علمه الرسول وبين ما قاله.
وأجيب عن هذا: بأنه إنما أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ لأنه فهم منه اعتقاد التسوية بين الله ورسوله، فأمره بعدم الجمع بينهما في ضمير واحد تعظيمًا لله سبحانه.
والحاصل: أنه لم يأت القائلون بإفادة الواو للترتيب بشيء يصلح للاستدلال به، ويستدعي الجواب عنه.
وكما أن الواو لمطلق الجمع من دون ترتيب ولا معية، فالفاء للتعقيب بإجماع أهل اللغة، وإذا وردت لغير تعقيب فذلك لدليل آخر، مقترن معناه بمعناها.
وكذلك "في" للظرفية إما محققة أو مقدرة.
وكذلك "من" ترد لمعان.
وكذلك "الباء" لها معان مبينة في علم الإعراب، فلا حاجة لنا إلى التطويل بهذه الحروف، التي لا يتعلق بتطويل الكلام فيها كثير فائدة، فإن معرفة ذلك قد عرفت من ذلك العلم.
ولنشرع الآن بعون الله وإمداده وهدايته وتيسيره في المقاصد فنقول:
__________
1 جزء من الآية "158" من سورة البقرة.
2 أخرجه مسلم من حديث جابر مطولًا، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1218". وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1905". وابن ماجه، كتاب المناسك باب حجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3074". وابن خزيمة في صحيحه "2757". والبيهقي في السنن كتاب الحج "5/ 93". وابن حبان في صحيحه "3944".
3 أخرجه مسلم من حديث عدي بن حاتم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة وخطبتها "870". والنسائي، كتاب الجمعة، باب ما يكره في الخطبة "3279" 6/ 90. وأبو داود. كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس "1099". والحاكم في المستدرك، كتاب الجمعة "1/ 289" وقال: حديث صحيح. وابن حبان في صحيحه "2798". وأخرجه الإمام أحمد "4/ 379".

(1/82)


المقصد الأول: في الكتاب العزيز
الفصل الأول: فيما يتعلق بتعريفه
اعلم أن الكتاب لغة: يطلق على كل كتابة ومكتوب، ثم غلب في عرف أهل الشرع على القرآن.
والقرآن في اللغة: مصدر بمعنى القراءة، غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله سبحانه، المقروء بألسنة العباد، وهو في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر، ولذا جعل تفسيرًا له، فهذا تعريف الكتاب باعتبار اللغة، وهو التعريف اللفظي الذي يكون بمرادف أشهر.
وأما حد الكتاب اصطلاحًا: فهو الكلام المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا.
فخرج بقوله: المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف: وسائر الكتب والأحاديث القدسية، والأحاديث النبوية وغيرها، وخرج بقوله: المنقول إلينا نقلًا متواترًا: القراءات الشاذة1.
وقد أورد على هذا الحد أن فيه دورًا؛ لأنه عرف الكتاب بالمكتوب في المصاحف، وذلك؛ لأنه إذا قيل: ما المصحف؟ فلا بد أن يقال: هو الذي كتب فيه القرآن.
وأجيب: بأن المصحف معلوم في العرف، فلا يحتاج إلى تعريفه بقوله الذي كتب فيه القرآن.
وقيل في حده: هو اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر المتواتر. فاللفظ جنس يعم الكتب السماوية وغيرها، والعربي يخرج غير العربي من الكتب السماوية وغيرها، والمنزل يخرج ما ليس بمنزل من العربي، وقوله للتدبر والتذكر: لزيادة التوضيح وليس من ضروريات هذا التعريف. والتدبير: التفهم لما يتبع ظاهره من التأويلات الصحيحة، والمعاني المستنبطة.
والتذكر: الاتعاظ بقصصه وأمثاله.
وقوله: المتواتر يخرج ما ليس بمتواتر كالقراءات الشاذة، والأحاديث القدسية.
__________
1 وهي القراءة المخالفة للعربية أو الرسم وهي مردودة إجماعًا، وهي التي لم تثبت بطريق التواتر، وكل قراءة انفرد بها أحد الأئمة الأربعة أو راو من رواتهم لا تجوز القراءة بها مطلقًا. وهم: ابن محيصن ويحيى اليزيدي -والحسن البصري والأعمش. ا. هـ. القراءات الشاذة 1/ 10-11.

(1/85)


وقيل في حده: هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه، فخرج الكلام الذي لم ينزل، والذي نزل لا للإعجاز كسائر الكتب السماوية والسنة. والمراد بالإعجاز: ارتقاؤه في البلاغة إلى حد خارج عن طوق البشر، ولهذا عجزوا عن معارضته عند تحديهم، والمراد بالسورة: الطائفة منه المترجم أولها وآخرها توقيفًا. واعترض على هذا الحد: بأن الإعجاز ليس لازمًا بينا، وإلا لم يقع فيه ريب، وبأن معرفة السورة تتوقف على معرفة القرآن.
وأجيب: بأن اللزوم بين وقت التعريف لسبق العلم بإعجازه، وبأن السورة اسم للطائفة المترجمة من الكلام المنزل، قرآنًا كان أو غيره، بدليل سورة الإنجيل.
وقال جماعة في حده: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواترًا.
وقال جماعة: هو القرآن المنزل على رسولنا، المكتوب في المصاحف، المنقول تواترًا بلا شبهة.
فالقرآن تعريف لفظي للكتاب، والباقي رسمي ويعترض عليه بمثل ما سبق، ويجاب عن الاعتراض بما مر.
وقيل: هو كلام الله العربي الثابت في اللوم المحفوظ للإنزال.
واعترض عليه: بأن الأحاديث القدسية والقراءات الشاذة بل وجميع الأشياء ثابتة في اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين} 1 وأجيب بمنع كونها أثبتت في اللوح للإنزال. والأولى أن يقال: هو كلام الله المنزل على محمد المتلو المتواتر، وهذا لا يرد عليه ما ورد على الحدود فتدبر.
__________
1 جزء من الآية "59" من سورة الأنعام.

(1/86)


الفصل الثاني: حكم المنقول آحادًا
اختلف في المنقول آحادًا هل هو قرآن أم لا؟ فقيل:" ليس بقرآن؛ لأن القرآن "مما"* تتوفر الدواعي على نقله، لكونه كلام الرب سبحانه، وكونه مشتملًا على الأحكام الشرعية، وكونه معجزًا، وما كان كذلك فلا بد أن يتواتر، فما لم يتواتر "ليس"** بقرآن.
__________
* وقع في "أ": ما.
** في "أ": فليس.

(1/86)


هكذا قرر أهل الأصول "دليل"* التواتر، وقد ادعى تواتر كل واحدة من القراءات السبع، وهي قراءة أبي عمرو1، ونافع2، وعاصم3، وحمزة4 والكسائي5، وابن كثير6، وابن عامر7 دون غيرها، وادعى أيضًا تواتر القراءات العشر، وهي هذه مع قراءة يعقوب8، وأبي جعفر9، وخلف10 وليس على ذلك أثارة من علم، فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو زبان بن العلاء بن عمار، التميمي ثم المازني البصري، شيخ القراء والعربية، ولد سنة سبعين هجرية، وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة هـ، كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وأيامها والشعر، قال فيه الفرزدق.
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها ... حتى رأيت أباعمرو بن عمار
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 407"، تهذيب التهذيب "12/ 178".
2 هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، الليثي، المدني، أحد القراء السبعة، واشتهر في المدينة، وانتهت إليه رياسة القراءة فيها، توفي سنة تسع وستين ومائة هـ، ا. هـ. الأعلام "8/ 5".
3 هو عاصم بن أبي النجود، الإمام المقرئ، أبو بكر الأسدي الكوفي، ما كان في الكوفة أقرأ منه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 256"، تهذيب التهذيب "5/ 38".
4 هو حمزة بن حبيب بن عمارة، الإمام القدوة، شيخ القراء، أبو عمارة التميمي الكوفي، قال ابن فضيل: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 92"، تهذيب التهذيب "3/ 27"، شذرات الذهب "1/ 240".
5 هو علي بن حمزة بن عبد الله، الأسدي الكوفي، الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه، وكان ذا منزلة رفيعة عند الرشيد، وأدب ولده الأمين، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 131"، شذرات الذهب "1/ 321".
6 هو عبد الله بن كثير بن عمرو، مقرئ مكة، الإمام العلم، أحد القراء السبعة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة هـ، وكان عطارًا، وكانت ولادته سنة ثمان وأربعين هجرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 318"، تهذيب التهذيب "65/ 367".
7 هو عبد الله بن عامر بن يزيد، الإمام الكبير، مقرئ الشام، اليحصبي الدمشقي، ولد سنة أحدى وعشرين هجرية، وكانت وفاته سنة ثماني عشرة ومائة هحرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 292"، تهذيب التهذيب "5/ 274".
8 هو يعقوب بن إسحاق بن زيد، مقرئ البصرة، الإمام المجود الحافظ، أبو محمد، أحد القراء العشرة، ولد بعد سنة ثلاثين ومائة، ورجحه بعض الأئمة عل الكسائي، توفي سنة خمس ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 169"، شذرات الذهب "2/ 14".
9 هو يزيد بن القعقاع، احد الأئمة العشرة، روى إسحاق المسيبي: لما غسل أبو جعفر نظروا ما بين نحوه إلى فؤاده كورقة المصحف فما شك من حضره أنه نور القرآن، وكانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائة هـ. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 176"، سير أعلام النبلاء "5/ 287".
10 هو خلف بن هشام بن ثعلب، أبو محمد، الإمام الحافظ الحجة، البغدادي البزار المقرئ ولد سنة خمسين ومائة هـ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 576"، شذرات الذهب "2/ 67"، تهذيب التهذيب "3/ 156".

(1/87)


نقلًا آحاديًا، كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم، وقد نقل جماعة من القراء الإجماع على أن في هذه القرءات ما هو متواتر، وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحدة من السبع، فضلًا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول، وأهل الفن أخبر بفنهم.
والحاصل: أن ما اشتمل عليه المصحف الشريف، واتفق عليه القراء المشهورون فهو قرآن، وما اختلفوا فيه، فإن احتمل رسم المصحف قراءة كل واحد من المختلفين مع مطابقتها للوجه الإعرابي. والمعنى العربي، فهي قرآن كلها. وإن احتمل بعضها دون بعض، فإن صح إسناد ما لم يحتمله، وكانت موافقة للوجه الإعرابي، والمعنى العربي، فهي الشاذة، ولها حكم أخبار الآحاد في الدلالة على مدلولها، وسواء كانت من القراءات السبع أو من غيرها.
وأما ما لم يصح إسناده مما لم يحتمله الرسم فليس بقرآن، ولا منزل منزلة أخبار الآحاد.
أما انتفاء كونه قرآنا فظاهر، وأما انتفاء تنزيله منزلة أخبار الآحاد، فلعدم صحة إسناده، وإن وافق المعنى العربي والوجه الإعرابي فلا اعتبار بمجرد الموافقة، مع عدم صحة الإسناد، وقد صح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف1، وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى أقرأني على سبعة أحرف"2.
والمراد بالأحرف السبعة: لغات العرب، فإنها بلغت إلى سبع لغات، اختلفت في قليل من الألفاظ، واتفقت في غالبها، فما وافق لغة من تلك اللغات، فقد وافق المعنى العربي والإعرابي، وهذه المسألة محتاجة إلى بسط تتضح به حقيقة ما ذكرنا، وقد أفردناها بتصنيف3 مستقل فليرجع إليه.
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في هذا البحث ما وقع من الاختلاف بين القراء في
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "818 ". والبخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض "2419". والترمذي، كتاب القراءات. باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف "2943". وقال حسن صحيح. والنسائي، كتاب الصلاة، باب جامع ما جاء في القرآن "935" "2/ 150". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف "1475" ابن حبان في صحيحه "741".
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف برقم "4991". مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "819". والإمام أحمد في المسند "1/ 263". والطبراني في الأوسط "1813". وعبد الرزاق في المصنف "2370".
3 لم أجد فيما بين يدي من المراجع من صرح باسم هذا التصنيف في مصنفات الشوكاني.

(1/88)


البسملة، وكذلك ما وقع من الاختلاف فيها بين أهل العلم هل هي آية من كل سورة1، أو آية من الفاتحة فقط2، أو آية مستقلة أنزلت للفصل بين كل سورتين3، أو ليست بآية4، ولا هي من القرآن5، وأطالوا البحث في ذلك. وبالغ بعضهم فجعل هذه المسألة من مسائل الاعتقاد وذكرها في مسائل أصول الدين.
الحق أنها آية من كل سورة لوجودها في رسم المصاحف، وذلك هو الركن الأعظم في إثبات القرآنية للقرآن، ثم الإجماع على ثبوتها خطأ في المصحف في أوائل السور، ولم يخالف في ذلك من لم يثبت كونها قرآنا من القراء وغيرهم.
وبهذا الإجماع حصل الركن الثاني وهو النقل، مع كونه نقلًا إجماعيًّا بين جميع الطوائف.
وأما الركن الثالث: وهو موافقها للوجه الإعرابي والمعنى فذلك ظاهر.
إذا تقرر لك هذا علمت أن نفي كونها من القرآن مع تسليم وجودها في الرسم مجرد دعوى غير مقبولة. وكذلك دعوى كونها آية واحدة، أو آية من الفاتحة، مع تسليم وجودها في الرسم في أول كل سورة، فإنها دعوى مجرد عن دليل مقبول تقوم به الحجة.
وأما ما وقع من الخلاف في كونها تقرأ6 في الصلاة أو لا تقرأ7، وعلى القول بكونها تقرأ هل يسر بها مطلقًا8 أو تكون على صفة ما يقرأ من الإسرار في السرية، والجهر في الجهرية9، فلا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع، وقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافًا كثيرًا، وقد بسطنا القول في ذلك في رسالة مستقلة10، وذكرنا في "شرح المنتقى"11 ما إذا رجعت إليه تحتج إلى غيره.
__________
1 وهو مذهب عبد الله بن المبارك.
2 وهو مذهب الإمام الشافعي.
3 وهو مذهب الإمام أبي حنيفة.
4 وهو مذهب الإمام مالك.
5 وهو مذهب الحسن البصري. ا. هـ. القرطبي عند تفسير الفاتحة "بسم الله الرحمن الرحيم".
6 وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
7 وهو مذهب الإمام مالك وفي بعض أقواله أنها تقرأ في النفل.
8 وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
9 وهو قول غير أبي حنيفة وأحمد. ا. هـ. القرطبي عند ذكر أحكام البسملة.
10 واسمها: "الرسالة المكملة في أدلة البسملة" ا. هـ. إيضاح المكنون "1/ 569"، البدر الطالع "2/ 221".
11 واسمه: "نيل الأوطار بشرح المنتقى في الأخبار"، للشوكاني محمد بن علي، وهو في مجلدات، مطبوع في مصر، وهو في إبطال دعوى الإجماع. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 697".

(1/89)


الفصل الثالث: في المحكم والمتشابه من القرآن
اعلم أنه لا اختلاف في وقوع النوعين فيه لقوله سبحانه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، واختلف في تعريفهما: فقيل: المحكم ما له دلالة واضحة، والمتشابة ما له دلالة غير واضحة، فيدخل في المتشابه المجمل والمشترك.
وقيل في المحكم: هو متضح المعنى، وفي المتشابه هو غير المتضح المعنى، وهو كالأول2، ويندرج في المتشابه ما تقدم3.
والفرق بيهما4 أنه جعل في التعريف الأول الاتضاح وعدمه للدلالة، وفي الثاني لنفس المعنى.
وقيل في المحكم هو: ما استقام نظمه للإفادة، والمتشابه ما اختل نظمه لعدم الإفادة، وذلك لاشتماله على ما لا يفيد شيئًا ولا يفهم منه معنى، هكذا قال الآمدي ومن تابعه.
واعترض عليه بأن القول باختلاف نظم القرآن5 مما لا يصدر عن المسلم، فينبغي أن يقال في حده هو: ما استقام نظمه لا للإفادة بل للابتداء.
وقيل المحكم: ما عرف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه.
وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أوجهًا.
وقيل: المحكم الفرائض، والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
وقيل المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ.
وقيل: المحكم هو معقول المعنى، والمتشابه هو غير معقول المعنى، وقيل غير ذلك.
وحكم المحكم هو وجوب العمل به، وأما المتشابه فاختلف فيه على أقوال: الحق عدم جواز العمل به لقوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} 6 والوقف على قوله: {إِلَّا
__________
1 جزء من الآية "7" من سورة آل عمران.
2 أي كالتعريف الأول.
3 من المجمل المشترك.
4 أي بين التعريفين.
5 وذلك عند قوله في التعريف السابق: المتشابه: ما اختل نظمه لعدم الإفادة.
6 جزء من الآية "7" من سورة آل عمران.

(1/90)


اللَّه} متعين ويكون قوله سبحانه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ وخبره: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ولا يصح القول بأن الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون جمله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} حالية، ولا معنى لتقييد علمهم به بهذه الحالة الخاصة، وهي حال كونهم يقولون هذا القول. وقد بسطنا الكلام على هذا في تفسيرنا الذي سميناه "فتح القدير"1 فليرجع إليه، فإن فيه ما يثلج خاطر المطلع عليه إن شاء الله. وليس ما ذكرناه من عدم جواز العمل بالمتشابه لعلة كونه لا معنى له، فإن ذلك غير جائز بل لعلة قصور أفهام البشر عن العلم به والإطلاع على مراد الله منه، كما في الحروف التي في فواتح السور، فإنه لا شك أن لها معنى لم تبلغ أفهامنا إلى معرفته، فهي مما استأثر الله بعلمه، كما أوضحناه في التفسير المذكور، ولم يصب من تمحل لتفسيرها، فإن ذلك من التقول على الله بما لم يقل، ومن تفسير كلام الله سبحانه بمحض الرأي، وقد ورد الوعيد الشديد عليه.
__________
1 ستأتي ترجمته في الصفحة "222".

(1/91)


الفصل الرابع: في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
والمراد به ما كان موضوعًا لمعنى عند غير العرب ثم استعملته العرب في ذلك المعنى.
كإسماعيل، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونحوها، ومثل هذا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف.
والعجب ممن نفاه، وقد حكى ابن الحاجب، وشراح كتابه النفي لوجوده عن الأكثرين، ولم يتمسكوا بشيء سوى تجويز أن يكون ما وجد في القرآن من المعرب مما اتفق فيه اللغتان العربية والعجمية وما أبعد هذا التجويز، ولو كان يقوم بمثله الحجة في مواطن الخلاف لقال من شاء ما شاء بمجرد التجويز، وتطرق المبطلون إلى دفع الأدلة الصحيحة بمجرد الاحتمالات البعيدة، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله، وقد أجمع أهل العربية على أن العجمة علة من العلل المانعة للصرف في كثير من الأسماء الموجودة في القرآن، فلو كان لذلك التجويز البعيد تأثير لما وقع منهم هذا الإجماع.
وقد استدل النافون بأنه لو وجد فيه ما ليس هو بعربي لزم أن لا يكون كله عربيًا وقد قدمنا الجواب عن هذا1.
وبالجملة فلم يأت الأكثرون بشيء يصلح للاستدلال به في محل النزاع، وفي القرآن من اللغات الرومية، والهندية، والفارسية، والسريانية، ما لا يجحده جاحد، ولا يخالف فيه مخالف،
__________
1 انظر صفحة: "65".

(1/91)


حتى قال بعض السلف: إن في القرآن من كل لغة من اللغات، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليبحث كتب التفسير في مثل: المشكاة1 والإستبرق2، والسجيل3، والقسطاس4، والياقوت5، وأباريق6، والتنور7.
__________
1 تقدمت في الصفحة "65".
2 تقدمت في الصفحة "66".
3 تقدمت في الصفحة "66".
4 تقدمت في الصفحة "66".
5 فارسي معرب، الواحدة، ياقوتة، والجمع: يواقيت، وهو حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس، ولونه شفاف مشرب بالحمرة أو الزرقة أو الصفرة، يستعمل للزينة. ا. هـ لسان العرب والمعجم الوسيط مادة ياقوت "يقت" وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الرحمن الآية "58".
6 واحدة إبريق، وهو فارسي معرب، معناه: الإناء أو الكور. ا. هـ. لسان العرب مادة برق وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الواقعة الآية "18".
7 هو فارسي معرب، معناه: وجه الأرض، وكل مفجر ماء تنور. ا. هـ. لسان العرب مادة تنر وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة هود الآية "40".
يتبع إن شاء الله بـــ:
 المقصد الثاني: في السنّة
الفصل الأول: في معنى السنّة لغة وشرعا

--------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق