...............................................................................................................

الاثنين، 23 أبريل 2018

3. السيرة أبو الحسن الندوي صح من 411 حتي 598.


ص : 411
كنت عنده لغسلت عن قدميه «1» .. وأذن لعظماء الروم في القصر وأمر أبوابه فغلّقت ، ثمّ اطّلع فقال : يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد أن يثبت ملككم وتبايعوا هذا النبيّ ؟ ففرّوا وبادروا إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت ، فلمّا رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان قال : ردّوهم عليّ ، وقال : إنّي قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه «2».
وهكذا آثر هرقل الملك على الهداية ، ووقعت بينه وبين المسلمين في خلافة أبي بكر وعمر حروب ومعارك ، وكان فيها ذهاب ملكه وسلطانه «3».
من هم الأريسيون ؟
وردت كلمة «الأريسيين» أو «اليريسيين» - على اختلاف الروايات - في الكتاب الذي وجّه إلى «هرقل» وحده ، ولم ترد في كتاب من الكتب التي أرسلت إلى غيره.
واختلف علماء الحديث واللغة في مدلول هذه الكلمة ، فالقول المشهور أنّ «الأريسيين» جمع «أريسي» وهم الخول والخدم والأكّارون «4».
___________
(1) أخرجه البخاري [في كتاب بدء الوحي ] ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، [برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام ، برقم (1773) ، والترمذي في الاستئذان ، باب ما جاء في ختم الكتاب ، برقم (2718) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب كيف يكتب إلى الذمي ، برقم (5136) ، وأحمد في المسند (1/ 263) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(1/350)
(2) [قد سبق تخريجه في التعليق آنفا].
(3) [قد سبق تخريجه في التعليق سابقا].
(4) راجع شرح النووي لصحيح مسلم ، و«مجمع بحار الأنوار» للعلامة محمد طاهر الفتني.

(1/411)


ص : 412
وجاء في «لسان العرب» لابن منظور : «الأرس» : الأصل و«الأريس» : الأكار ، نقله عن ثعلب.
وذكر عن ابن الأعرابيّ : أنه قال أرس يأرس أرسا إذا صار أريسا ، وأرّس يؤرّس تأريسا : إذا صار أكارا.
ونقل عن أبي عبيدة أنّه قال : الأجود عندي أن يقال أنّ «الأريس» كبيرهم الذي يمتثل أمره ، ويطيعونه إذا طلب منهم الطاعة «1».
وهنا يتساءل القارىء الفطن إذا كان المراد من «الأريسيين» الفلّاحين ، كان «كسرى أبرويز» إمبراطور إيران أحقّ بأن يحذر من وقوع إثمهم ومسؤوليتهم عليه ، وبأن ترد هذه الكلمة في الكتاب الذي كتب إليه ، فإنّ طبقة الفلاحين كانت أعظم وأوسع وأكثر تميزا في المملكة السّاسانية الإيرانية منها في المملكة البيزنطيّة الرومانية ، وكان أكثر اعتماد إيران في دخلها ومواردها على الفلاحة ، وإلى ذلك نبّه الأزهريّ ، كما نقل عنه ابن منظور بقوله : «و كان أهل السواد من هو على دين كسرى أهل فلاحة وإثارة للأرض ، وكان أهل الروم أهل أثاث وصنعة ، فكانوا يقولون للمجوس «أريسيين» نسبوهم إلى «الأريس» وهو الأكار ، وكانت العرب تسمّيهم «الفلّاحين» «2».
ولذلك نرجّح أنّ المراد بالأريسيين هم أتباع «أريوس» المصريّ) 633 - 082 suirA (وهو مؤسس فرقة مسيحية كان لها دور كبير في تاريخ العقائد المسيحيّة والإصلاح الدينيّ ، وقد شغلت الدولة البيزنطية والكنيسة المسيحية زمنا طويلا.
___________
(1) راجع «لسان العرب» مادة «أرس».
(2) المصدر السابق.

(1/412)


ص : 413
(1/351)
و«أريوس» هو الذي نادى بالتوحيد ، والتمييز بين الخالق والمخلوق والأب والابن - على حدّ تعبير المسيحيين - فأثار نقاشا حول الموضوع ، وكان الشغل الشاغل في المجتمع المسيحيّ لعدّة قرون ، وآراؤه تتلخص في أنّه ليس من شأن الإله الواحد أن يظهر على الأرض ، لذلك هو ملأ السيد المسيح بالقوة والكلام الإلهيّ ، وأنّ من صفات اللّه الأساسية الوحدانية والأبدية وأنّه لم يخلق أحدا من ذاته رأسا ، وأن الابن ليس هو الإله ، بل هو مظهر لحكمة أمر الربّ ، وأنّ ألوهيته إضافية لا مطلقة «1».
ويقول جيمس ماكنون) nonikcaM semaJ (في كتابه «من المسيح إلى قسطنطين» :
«كان «أريوس» يلحّ على أنّ اللّه وحده القديم ، كان الأزليّ الأبديّ ، وليس له شريك ، وهو الذي خلق الابن من العدم ، لذلك ليس الابن هو الأزليّ ، ولم يكن اللّه أبا من الأبد ، فقد كان حين من الدهر لم يكن فيه وجود للابن ، وأنّ الابن يحمل حقيقة خاصة لا يشاركه فيها اللّه وهو خاضع للتطورات ، وليس هو اللّه بالمعنى الصحيح ، إلا أنّه يصلح لأن يكون كاملا ، ولكنّه على كلّ حال مخلوق كامل» «2».
بينما كانت كنيسة إسكندرية في أوائل القرن الرابع المسيحيّ تدين بألوهية المسيح إطلاقا من غير تفريق بين الخالق والمخلوق والأب والابن.
وقد أقصاه رئيس الكنيسة المصريّة البطريق ألكساندر) rednaxelA (في سنة 321 م من كنيسة الإسكندرية ، وغادر «أريوس» المدينة ، ولكن لم ينته النزاع بخروجه ، وحاول الإمبراطور قسطنطين حسم هذا الخلاف ولكنّه أخفق.
___________
(1) راجع للتفصيل «دائرة معارف الديانات والأخلاق» ج 1 ، مقال.
(2)) 6391, nodnoL () enitnatsnoC ot tsirhC morF (

(1/413)


ص : 414
(1/352)
وفي سنة 325 م عقد مجمعا في نيقية اجتمع فيه 2030 أسقفا ، وكان الإمبراطور يميل إلى ألوهية المسيح فحكم ضدّ «أريوس» رغم أن أغلبية الحاضرين كانت تؤيد «أريوس» ، ولم يوافقه إلا 318 أسقفا ، فنفاه إلى إليريا) airyllI (وأحرقت كتاباته ، وكان من وجدت عنده يعاقب.
ولكنّ هذه المحاولات لم تقلّل من أهميّة «أريوس» وإقبال الناس عليه ، وكان آخر أمره أنّ «قسطنطين» لان في موقفه ورفع الحظر على عقيدته ، وبعد موت منافسه الأكبر ألكساندر ونفي خليفته) suisanahtA (عاد «أريوس» إلى الإسكندرية ، وكاد «قسطنطين» يولّيه رئاسة الكنيسة المصرية ، ويدين بعقيدته ، ولكن باغتته المنية قبل ذلك «1».
وقد جاء في كتاب «الصّراع بين الدين والعلم» ل «درابر» أنّ ثلاثة عشر مجمعا مسيحيا حكمت ضدّ «أريوس» في القرن الرابع المسيحيّ ، وخمسة عشر مجمعا حكمت في تأييده ، وسبعة عشر مجمعا أدلت برأي قريب من رأي «أريوس» ، وهكذا عقدت خمسة وأربعون مجمعا للتقرير في هذه القضية.
والحقّ أنّ العالم المسيحيّ لم يكن له عهد بعقيدة التثليث السائدة الآن قبل القرن الرابع ، وقد جاء في دائرة المعارف الكاثوليكيّة الجديدة : «أنّه لم يرفع الستار عن تطوّر عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلاديّ .. وكلّ من يتحدّث عن عقيدة التثليث المطلقة ، إنّما ينتقل من فجر التاريخ المسيحيّ إلى ربع القرن الرابع الأخير ، فإنّ القول بأنّ الإله الواحد له ثلاثة مظاهر لم يتغلغل في أحشاء العالم المسيحيّ في حياته وفكره إلّا في هذه الفترة الزمنيّة» «2».
___________
(1) دائرة معارف الديانات والأخلاق : مقال) msinairA (.
(2) aidepolcycnE cilohtac wen ehT مقال «التثليث المقدس» ، ج 14 ، ص 295.

(1/414)


ص : 415
(1/353)
ودامت عقيدة «أريوس» ودعوته تصارعان الدعوة المكشوفة إلى تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصّمد وكانت الحرب سجالا ، وقد دان بهذه العقيدة عدد كبير من النصارى في الولايات الشرقيّة من المملكة البيزنطيّة إلى أن عقد تيوسودس الكبير) taerG ehT sudosoehT (مجمعا مسيحيا في القسطنطينيّة ، قضى بألوهية المسيح وابنيّته ، وقضى هذا الإعلان على العقيدة التي دعا إليها «أريوس» واختفت. ولكنّها عاشت بعد ذلك ، ودانت بها طائفة من النصارى ، اشتهرت ب «الفرقة الأريسية» أو «الأريسيين».
إذا من المرجّح المعقول أنّ النّبي صلى اللّه عليه وسلم إنّما عنى هذه الفرقة بقوله : «فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين» فإنّها هي القائمة بالتوحيد النسبيّ في العالم المسيحيّ الذي تتزعمه الدولة البيزنطيّة العظمى ، التي كان على رأسها القيصر «هرقل» «1».
ومن الغريب أنّ بعض كبار علماء الإسلام في العصر الأول قد ذهبوا إلى هذا ، فجاء في «مشكل الآثار» للإمام أبي جعفر الطّحاويّ مؤلّف «شرح معاني الآثار» المشهور (ت 321 ه) ما نصّه :
«و قد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أنّ في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريسية توحّد اللّه ، وتعترف بعبودية المسيح له عزّ وجلّ ، ولا تقول شيئا ممّا يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوّته ، فإنّها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك ، وإذا كان ذلك كذلك ،
___________
(1/354)
(1) اطلعت بعد صدور الطبعة الثالثة للكتاب على بحث قيم لصديقنا الفاضل الدكتور محمد معروف الدّواليبي في الأريسيين يؤيد ما قلناه أن النّبي صلى اللّه عليه وسلم إنما عنى بقوله : «فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين» أتباع أريوس) suirA (الفرقة المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته ، وقد جاء هذا البحث القيم في رسالته «نظرات إسلامية» بعنوان : «أريسيون من جديد» ص 68 - 83.

(1/415)


ص : 416
جاز أن يقال لهذه الفرقة «الأريسيون» في الرفع و«الأريسيين» في النصب والجرّ ، كما ذهب إليه أصحاب الحديث «1».
وقريبا من ذلك قال الإمام محيي الدين يحيى النّوويّ شارح «صحيح مسلم» (ت 676 ه) فقال : «الثاني أنّهم اليهود والنصارى وهم أتباع عبد اللّه «2» بن أريس ، (الذي تنسب إليه الأروسية) من النصارى ، وله مقالة في كتب المقالات ، ويقال لهم «الأروسيون» «3».
رسائل إلى أمراء العرب :
ومن أمراء العرب كتب إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين «4» ، وإلى جيفر بن الجلندى «5» وعبد بن الجلندى الأزديين صاحبي عمان ، وإلى
___________
(1) مشكل الآثار : ج 3 ، ص 399.
(2) هذا تسامح من النووي ، فإنه كان قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون ، ولم يكن اسمه اسما إسلاميا عربيا.
(3) شرح صحيح مسلم : للنووي ، ج 2 ، ص 98.
(1/355)
(4) «البحرين» هي التي تسمّى الآن الأحساء ، وكان جل سكّانها من بني عبد القيس ، وبكر بن وائل ، وتميم ، أما الوالي عليها في أيام كتابة هذه الرسائل فكان المنذر بن ساوى ، وهو من بني تميم. وليرجع في الاطلاع على نصوص الكتب التي وجّهت إلى الملوك وأمراء العرب ورؤساء القبائل ومعرفة من أرسلت معهم هذه الكتب وأخبار من أرسلت إليهم ، وتراجم من حملها ، كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» صلى اللّه عليه وسلم تأليف الإمام محمد بن طولون الدمشقي (880 - 953 ه) مؤسسة الرسالة ، بيروت [و طبع كذلك بتحقيق الأستاذ محمود الأرناؤوط في دار ابن كثير بدمشق ].
(5) جيفر بن جلندى وعبد بن جلندى ، كانا حاكمين على عمان في هذا الوقت ، وكان جيفر هو الملك منهما ، وكان أسن من أخيه ، (راجع نهاية الأرب 18 - 67 وما بعد). وكلمة الجلندى على ما يظهر من روايات الإخباريين ليست أسماء لشخص ، وإنما هي لقب ، وقد تعني «قليلا» أو «كاهنا» في لهجات أهل عمان (ج 4 ، ص 201) «تاريخ العرب قبل الإسلام».

(1/416)


ص : 417
كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى

(1/417)


ص : 418
هوذة بن عليّ «1» صاحب اليمامة «2» ، وإلى حارث بن شمر الغسّانيّ.
وأسلم المنذر بن ساوى وجيفر وعبد ابنا الجلندى ، وأمّا هوذة بن عليّ صاحب اليمامة فطلب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل له بعض الأمر فأبى ، ومات هوذة على أثر ذلك «3».
غزوة بني لحيان وغزوة ذي قرد :
وكان بين صلح الحديبية (سنة ست من الهجرة) وبين غزوة خيبر غزوة بني لحيان ، وغزوة ذي قرد «4» ، خرج فيهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستعمل ابن أمّ مكتوم على المدينة.
وكان سبب الأولى طلب بأصحاب الرجيع خبيب بن عديّ وأصحابه.
(1/356)
وسبب الثانية إغارة المشركين على لقاح لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغابة ، وقتل رجل من بني غفار ، واحتمال امرأته مع اللّقاح «5» «6».
___________
(1) (هوذة بن علي الحنفي) كان ملكا على اليمامة ، وكان على دين النصرانية ، وإليه أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سليط بن عمرو ، وحدود اليمامة يومئذ من الشرق إلى البحرين ، ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز ، ومن مواضع اليمامة (منفوحة) كان يسكنها الأعشى ، ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول بنو حنيفة ، ومنهم كان مسيلمة بن حبيب المعروف بالكذّاب لا دعائه النبوة.
(2) تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 84 - 85.
(3) زاد المعاد : ج 2 ، ص 58.
(4) على ما جاء في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع [في كتاب الجهاد ، باب غزوة ذي قرد وغيرها ، برقم (1807) ، وأحمد في المسند (4/ 52 - 54)] ، وقد رجّحه ابن حجر في فتح الباري ، أما أصحاب السير فهم متفقون على أنّ غزوة ذي قرد كانت قبل صلح الحديبية.
(5) [اللقاح : وقد تكرّر ذكر في الأحاديث مفردا ومجموعا : وهي الإبل الحوامل ذوات الألبان ].
(6) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2 ، ص 279 - 289.

(1/418)


ص : 419
غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة
جائزة من اللّه :
إنّ اللّه سبحانه وتعالى بشّر أصحاب بيعة الرّضوان - في الحديبية - الذين أطاعوا اللّه ورسوله ، وآثروا حكم اللّه وأمره على ما تهواه أنفسهم ، وترشد إليه عقولهم ، بالفتح القريب والمغانم الكثيرة ، فقال :
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح : 18 - 19].
(1/357)
وكانت مقدّمة هذه الفتوح والمغانم ، غزوة خيبر ، وكانت «خيبر» مستعمرة يهودية تتضمن قلاعا حصينة «1» ، وقاعدة حربية لليهود ، وكانت آخر معقل من معاقلهم في جزيرة العرب ، وكانوا يتربّصون بالمسلمين الدوائر ، ولا ينسون ما حلّ بإخوانهم ، ولا يأمنون أن يحلّ بهم ، وكانوا يتامرون مع
___________
(1) وكان من أشهر هذه الحصون ، ناعم ، قموص ، حصن الشق ، حصن نطاة ، حصن السلالم ، حصن الوطيح ، حصن الكتيبة ، ويذكر اليعقوبي أنه كان في خيبر عشرون ألف مقاتل نقلا عن كتاب «الصحابة والتابعون من أهل الكتاب» (ج 2 ، ص 56 للأستاذ مجيب اللّه الندوي ، طبع دار المصنفين - الهند).

(1/419)


ص : 420
خريطة غزوة خيبر محرم 7 هجرية

(1/420)


ص : 421
غطفان لغزو المدينة «1» ، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يستريح منهم ويأمن من جهتهم ، وكانت في الشمال الشرقيّ للمدينة على بعد سبعين ميلا منه.
جيش مؤمن تحت قيادة نبيّ :
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجّة وبعض المحرم ، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى «خيبر».
وكان عامر بن الأكوع يرتجز في مسيره إليها ، فيقول : [من الرجز] :
واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
إنّا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا «2»
وأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بجيشه وكانوا ألفا وأربعمئة ، وكان معهم مئتا فرس ، ولم يأذن لمن تخلّف عن الحديبية ، وخرجت عشرون امرأة من نساء الصحابة ، لمداواة المرضى وخدمة الجرحى ، والإسعاف بالماء والطعام أثناء القتال.
وأقبل الجيش حتّى نزل ب «الرّجيع» «3» بين اليهود وغطفان ، ليحول
___________
(1/358)
(1) يقول الأستاذ الإنجليزي الشهير ttaW yremogtnoM. WL في كتابه) namsetatS dna tehporP dammahoM ( (محمد النبي والسياسي) : «كان يهود خيبر وخاصة رؤساء قبيلة بني النضير التي أجلاها الرسول من المدينة يضمرون الحقد لمحمد ، وهم الذين نجحوا في حمل قبائل العرب المجاورة على حمل السلاح على المسلمين والزحف عليهم ، بما بذلوه من أموال ، وكان ذلك هو السبب الرئيسي في توجّه محمد إلى خيبر بجيوشه».
(2) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 344 - 345 [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، برقم (3959) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب غزوة خيبر ، برقم (1802) من حديث سلمة بن الأكوع باختلاف يسير في ألفاظه وأبياته ].
(3) [الرّجيع : هو ماء لهذيل ].

(1/421)


ص : 422
بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر ، فقد كانوا لهم مظاهرين ، فامتنعوا عن ذلك ، وأقاموا في أموالهم وأهليهم ، وخلّوا بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين خيبر «1».
ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأزواد ، فلم يؤت إلا بالسّويق ، فأمر به ، فثرّي «2» ، فأكل المسلمون «3» ، ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أشرف على خيبر ، وسأل الخير ، واستعاذ من شرّها وشرّ أهلها ، وكان إذا غزا قوما لم يغزهم حتّى يصبح ، فإن سمع أذانا أمسك ، فبات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى إذا أصبح لم يسمع أذانا ، فركب وركب القوم ، واستقبلوا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم «4» وبمكاتلهم «5» ، فلمّا رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والجيش ، قالوا :
محمد والخميس «6» معه ، فأدبروا هربا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اللّه أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «7».
___________
(1/359)
(1) وكانت غطفان مجموعا قبليا متخما مسرفا في البداوة ، ينزل شرقي جبل السراة ، جنوبي خيبر ، وتمتد منازله حتى هضبة نجد ، وكان هؤلاء يهددون هذه الطرق ويجبون من قوافلها أتاوات كبيرة ، وكانت غطفان من القبائل التي سارت لغزو المدينة في غزوة الخندق. «بحث الدكتور حسين مؤنس محاولة وضع أطلس للسيرة النبوية الشريفة والعصر النبوي».
(2) ثرّي : بلّ.
(3) [أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب من مضمض من السّويق .. ، برقم (209) ، وعبد الرزاق في المصنّف ، برقم (691) من حديث سويد بن النعمان رضي اللّه عنه ].
(4) المساحي : جمع مسحاة ، وهي المجرفة من الحديد.
(5) مكاتل : جمع مكتل ، وهي قفة كبيرة.
(6) الخميس : الجيش.
(7) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 329 - 330 [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، برقم (4197) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل المدينة ، ودعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فيها بالبركة .. ، برقم (1365) ، والترمذي في أبواب السير ، باب في البيات والغارات ، برقم (1550) ، وأحمد في المسند (3/ 102) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].

(1/422)


ص : 423
قائد منصور :
ونازل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حصون خيبر ، وبدأ يفتتحها حصنا حصنا ، وكان أول حصن افتتح حصن ناعم ، ومنها - حصن القموص - وقد استعصى حصن القموص على المسلمين ، وكان عليّ بن أبي طالب رمدا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليأخذنّ الرّاية غدا رجل يحبّه اللّه ورسوله ، يفتح عليه ، وتطاول له كبار الصحابة - رضي اللّه عنهم - وكلّ منهم يرجو أن يكون صاحب ذلك ، ودعا عليّا ، وهو يشتكي عينيه ، فأتى فبصق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرىء ، حتّى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية «1» ، فقال عليّ - رضي اللّه عنه - : أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا.
(1/360)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه تعالى فيه ، فو اللّه لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم» «2» «3».
بين أسد الإسلام وبطل اليهود :
وأتى عليّ - رضي اللّه عنه - حصن القموص ، فخرج «مرحب» وهو
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، برقم (4197) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، برقم (2406) ، وأحمد في المسند (5/ 333) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي اللّه عنه ].
(2) [حمر النّعم : الإبل البيض أو الحمراء التي تعني الغنى والعزة والجاه ].
(3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، برقم (4197) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، برقم (2406) ، وأبو داود في كتاب العلم ، باب فضل نشر العلم ، برقم (3661) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 378) برقم (6932) وغيرهم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي اللّه عنه ].

(1/423)


ص : 424
الفارس المشهور ، يرتجز فاختلفا ضربتين ، فبدره عليّ بضربة ، ففلق مغفره ورأسه ، ووقع في الأضراس ، وكان الفتح «1».
وكانت لمحمد بن مسلمة مواقف بطولية في هذه المعركة ، وأبلى فيها بلاء حسنا ، وقتل بعض كبار الفرسان والأبطال من اليهود.
عمل قليلا وأجر كثيرا :
(1/361)
وجاء عبد أسود حبشيّ من أهل خيبر ، كان في غنم لسيّده ، فلمّا رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح ، سألهم : ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنّه نبيّ ، فوقع في نفسه ذكر النبيّ ، فأقبل بغنمه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : ماذا تقول ؟ وما تدعو إليه ؟ قال : أدعو إلى الإسلام ، وأن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه ، وألا تعبد إلا اللّه ، قال العبد : فما لي إن شهدت وآمنت باللّه عزّ وجلّ ، قال : «لك الجنّة إن متّ على ذلك».
فأسلم ثمّ قال : يا نبيّ اللّه! إنّ هذه الغنم عندي أمانة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أخرجها من عندك وارمها ب «الحصباء» «2» فإنّ اللّه سيؤدّي عنك أمانتك ، ففعل ، فرجعت الغنم إلى سيّدها ، فعلم اليهوديّ أنّ غلامه قد أسلم ، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الناس ، فوعظهم ، وحضّهم على الجهاد ، فلمّا التقى المسلمون واليهود قتل - فيمن قتل - العبد الأسود ، واحتمله
___________
(1) اختلفت الروايات في تعيين هذا الحصن الذي فتحه علي ، والذي يرجح أنه كان حصن القموص ؛ لأن هذا الحصن كان مركز مرحب الفارس اليهودي المشهور ، وقد جاء في سيرة ابن هشام أن الذي قتل «مرحب» هو محمد بن مسلمة (ق 2 ، ص 333 - 334) والمشهور أن الذي قتله هو علي بن أبي طالب (الطبري ص 1579) وقد جاء ذلك مصرحا في رواية مسلم ، وجاءت فيه الأبيات التي ارتجز بها علي ، والذي يرويه مسلم بسنده أولى بالاعتماد والترجيح (راجع صحيح مسلم [رقم (1807)] كتاب الجهاد والسير).
(2) [الحصباء : هو الحصى الصغيرة].

(1/424)


ص : 425
(1/362)
المسلمون إلى معسكرهم ، فأدخل في الفسطاط «1» فزعموا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اطّلع في الفسطاط ، ثمّ أقبل على أصحابه ، وقال : «لقد أكرم اللّه هذا العبد ، وساقه إلى خير ، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ، ولم يصلّ للّه سجدة قطّ» «2».
ما على هذا اتبعتك :
وجاء رجل من الأعراب إلى النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فامن به واتبعه ، فقال : أهاجر معك ، فأوصى به بعض أصحابه ، فلمّا كانت غزوة خيبر ، غنم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا فقسّمه له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلمّا جاء دفعوه إليه ، فقال : ما هذا ؟
قالوا : قسمه لك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذه ، فجاء به إلى النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول اللّه ؟ قال : «قسم قسمته لك» قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم ، فأموت فأدخل الجنّة ، فقال : «إن تصدق اللّه يصدقك».
ثمّ نهضوا إلى قتال العدوّ ، فأتي به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مقتول ، فقال : «أهو هو ؟» قالوا : نعم ، قال : «صدق اللّه فصدقه» فكفّنه النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم في جبّته ثم قدّمه ، فصلّى عليه ، وكان من دعائه له : «اللهمّ هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك ، قتل شهيدا وأنا عليه شهيد «3»».
___________
(1) [الفسطاط : هو ضرب من الأبنية في السّفر دون السّرادق ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 393.
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 394 [و أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 688) برقم (6527) من حديث شدّاد بن الهاد بسند صحيح ، والنّسائي في السنن الكبرى (1/ 634) برقم (2080) ، والبيهقي في السنن (4/ 15) برقم (6608).

(1/425)


ص : 426
شرط البقاء في خيبر :
(1/363)
وافتتحت الحصون ، حصن بعد حصن ، بعد قتال وحصار ، دام أياما ، حتّى سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلح ، وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجليهم منها ، فقالوا : يا محمّد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ، ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ، ولم يكن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها ، فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كلّ زرع وثمر ، ما بدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقرّهم «1» وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعث إليهم عبد اللّه بن رواحة ، فيخرص عليهم ، ويجعل ذلك نصفين ، فيخيّرهم أن يأخذوا أيهما شاؤوا ، فيقولون : بهذا قامت السموات والأرض «2».
روح التسامح الديني :
وكان من بين المغانم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعدّدة من التوراة ، فلمّا جاء اليهود يطلبونها أمر النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم بتسليمها لهم «3» ، ويقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على هذه القصّة :
«و يدلّ هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية مما جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ، ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرّض بسوء لصحفهم المقدّسة ، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرّومان حين تغلّبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب. م إذ حرقوا الكتب المقدّسة
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، 394 - 395 وراجع للتفصيل سنن أبي داود ، باب المساقاة.
(2) فتوح البلدان : للبلاذري ، ص 34 [انظر الأحاديث المفصلة في هذا الباب فيما أخرجه أبو داود في كتاب الخراج ، باب ما جاء في حكم أرض خيبر ، برقم (3006) ، وابن حبان في الصحيح برقم (1697) وغيرها من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما].
(3) تاريخ الخميس : ج 2 ، ص 60.

(1/426)


ص : 427
(1/364)
وداسوها بأرجلهم ، وما فعله المتعصّبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضا صحف التوراة ، وهذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممّن ذكرناهم وبين رسول الإسلام» «1».
قدوم جعفر بن أبي طالب :
وفي هذه الغزوة قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابن عمّه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، ففرح به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرحا عظيما ، وتلقّاه بالبشر ، وقبّل جبهته ، وقال : «و اللّه ما أدري بأيّهما أفرح : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» «2».
محاولة أثيمة لليهود :
وفي هذه الغزوة سمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية ، امرأة سلّام بن مشكم ، شاة مشوية قد سمّتها ، وسألت : أيّ اللّحم أحبّ إليه ؟ فقالوا : الذراع ، فأكثرت السمّ في الذراع ، فلمّا انتهش من ذراعها ، أخبره الذراع بأنّه مسموم ، فلفظ الأكلة.
وجمع اليهود ، ثمّ قال : «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟
قالوا : نعم.
قال : «أجعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟
قالوا : نعم.
قال : «فما حملكم على ذلك» ؟
___________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب : ص 170.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 397 [و أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 211) عن الشعبي مرسلا ، وعن جابر موصولا].

(1/427)


ص : 428
قالوا : أردنا إن كنت كاذبا نسترح منك ، وإن كنت نبيا لم يضرّك.
وجيء بالمرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت : أردت قتلك.
فقال : «ما كان اللّه ليسلّطك عليّ».
قالوا : ألا نقتلها ؟
قال : «لا» ولم يتعرّض لها ، ولم يعاقبها.
ولم يقتلها صلى اللّه عليه وسلم أولا ، فلمّا مات بشر بن البراء بن معرور قتلها «1».
أثر غزوة خيبر :
(1/365)
وكان لغزوة خيبر وانتصار المسلمين فيها انتصارا رائعا وقع كبير في قلوب القبائل العربية التي لم تسلم بعد ، فقد كانت تعرف قوة اليهود الحربية في خيبر ، وما كانوا يتمتّعون به من غنى ورفاهية ، وثروة زراعية غذائية ، ووفور السلاح والكراع ، وقوّة الحصون والآطام ، واستعصائها على الزاحفين المهاجمين ، ووجود القادة المحنّكين ، والأبطال المدرّبين كمرحب ، والحارث أبي زينب ، وكان له أثر في مجرى الحوادث.
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على غزوة خيبر وأثرها في تاريخ الإسلام :
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 398 ، وأخرجه البخاري مختصرا عن أبي هريرة ، [في كتاب الطب ] في باب «الشاة التي سمت النبي بخيبر» [برقم (5777) ، وأبو داود في كتاب الديانات ، باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات .. ، برقم (4509) ، وأحمد في المسند (2/ 451) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الهبة .. ، باب قبول الهدية من المشركين برقم (2617) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب السم ، برقم (2190) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].

(1/428)


ص : 429
«و ممّا لا شكّ فيه أنّ غزوة خيبر كانت ذات شأن عظيم في تاريخ الفتوح الإسلاميّة ، إذ كانت قبائل الحجاز تراقب نتيجتها باهتمام وتنظم شؤونها على حسب ما كان يتراءى لها من نتيجة صليل السّيوف بين الأنصار واليهود ، وقد كان أعداء الرسول الكثيرون في بادية العرب وحاضرتها يعلّقون آمالا كبيرة على تلك الغزوة» «1».
(1/366)
والأمر في غزوة خيبر (كما لاحظه الدكتور حسين مؤنس) لم يكن يقتصر على القضاء على مركز المقاومة اليهوديّ ، بل يتخطّى ذلك إلى ما لا يقلّ أهمية عن ذلك ، وهو القضاء على مقاومة أكبر القبائل العربية الضاربة فيما بين الحجاز ونجد في الشمال وسط الجزيرة وهي غطفان ، ولم يكن من ذلك مفرّ قبل أن يتّجه النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم بقواته كلّها نحو مكّة للفراغ من أمرها «2».
فتوح ومغانم :
وبعد ما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمر خيبر ، انصرف إلى فدك «3» ، وبعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك ، فقبل ذلك منهم ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسّمه حيث يرى من مصالحه ومصالح المسلمين «4».
ثمّ جاء إلى وادي القرى «5» ، وهي مجموعة قرى بين «خيبر»
___________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب : ص 162.
(2) من بحث الدكتور حسين مؤنس قدمه إلى مؤتمر السيرة والسنة النبوية المنعقد في الدوحة في شهر محرم عام 1400 ه.
(3) كانت فدك حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز ، أهلها من اليهود وبها قوم من بني مرة ، وقوم من بني سعد بن بكر. (نهاية الأرب ، 17/ 309).
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 368.
(5) وادي القرى : واد كثرت قراه ، لذلك قيل له وادي القرى ، وأهله عرب ويهود ، وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب ، وبه عيون وآبار.

(1/429)


ص : 430
و«تيماء» «1» وقد استعمرها اليهود قبل الإسلام ، وأصبحت لهم مركزا ، وانضاف إليهم جماعة من العرب ، ودعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الإسلام ، وأخبرهم أنّهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم ، وحقنوا دماءهم ، وحسابهم على اللّه «2».
(1/367)
وكانت في هذه الغزوة مبارزات ، كان الزبير بن العوام - رضي اللّه عنه - بطلها ، وكان الانتصار فيها للمسلمين ، وأعطى اليهود من غد ما بأيديهم ، وغنم المسلمون أموالا ، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا ، وقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى ، وترك الأرض والنخل بيد اليهود ، وعاملهم عليها.
ولمّا بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل خيبر ، وفدك ، ووادي القرى ، صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقاموا بأموالهم ، وانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعا إلى المدينة «3».
تعفّف المهاجرين :
ولمّا وصل المسلمون إلى المدينة ، ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل ، حين صار لهم بخيبر مال ونخيل ، وكانت أمّ سليم - وهي أمّ أنس بن مالك - أعطت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عذاقا فأعطاهن مولاته أم أيمن ، فردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمّ سليم عذاقها «4» ،
___________
(1) معجم البلدان : ج 7.
(2) [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ، في كتاب الأيمان والنذور ، باب هل يدخل في الأيمان والنذور والأرض والغنم .. ، برقم (6707)].
(3) ملخصا من «زاد المعاد» : ج 1 ، ص 405.
(4) [عذاقها : أي نخلاتها ، وواحدتها : عذق ].

(1/430)


ص : 431
خريطة عمرة القضاء 7 هجرية

(1/431)


ص : 432
وأعطى أمّ أيمن مكانهنّ من حائطه مكان كلّ عذق عشرة «1».
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد خيبر سرايا كثيرة ، وأمّر عليها كبار الصحابة ، وكان في بعضها قتال ، ولم يكن في بعضها قتال «2».
عمرة القضاء :
(1/368)
ولمّا كان العام المقبل ، وذلك في سنة سبع ، قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، وخلّت قريش بينه وبين مكّة ، وأقفلوا بيوتهم ، وطلعوا على جبل قعيقعان «3» ، فأقام بها ثلاثا ، واعتمر ، وهو قوله تعالى :
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح : 27].
التنافس في حضانة البنت وتكافؤ المسلمين في الحقوق :
وقد تغيّرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيرا عظيما ، فعادت البنت التي كان يتعيّر بها أشراف العرب ، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل ،
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 406 ، وروى مسلم القصة مفصلة في كتاب الجهاد والسير في باب «رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح» [برقم (1771) من حديث أنس رضي اللّه عنه ] وذكر فيها فتح قريظة والنضير.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 409 - 410.
(3) راجع صحيح البخاري [كتاب المغازي ] باب عمرة القضاء ، [رقم (4256) ، وأبو داود ، كتاب المناسك ، باب في الرمل ، رقم (1885) ، وابن حبان في الصحيح (9/ 199) رقم (3811) وغيرهم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما. وقعيقعان : هو جبل بمكة. قيل : سمّي به ، لأنّ جرهما لمّا تحاربوا كثرت قعقعة السّلاح هناك (النهاية : 4/ 88)].

(1/432)


ص : 433
فرارا من العار ، وزهدا في البنات - حبيبة يتنافس في كفالتها وتربيتها المسلمون.
(1/369)
وكانوا سواسية ، لا يرجح بعضهم على بعض إلا بفضل أو حقّ ، ولمّا أراد النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم الخروج من مكّة ، تبعته ابنة حمزة تنادي : يا عمّ! يا عمّ! فتناولها عليّ ، فأخذ بيدها وقال لفاطمة - عليها السلام - : دونك ابنة عمّك ، فحملتها ، فاختصم فيها عليّ وزيد وجعفر ، فقال عليّ : أنا أخذتها ، وهي بنت عميّ ، وقال جعفر : ابنة عمّي وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى فيها النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم لخالتها ، وقال : «الخالة بمنزلة الأمّ» وقال لعليّ :
«أنت منّي وأنا منك» وقال لجعفر : «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد :
«أنت أخونا ومولانا» «1».
___________
(1) أخرجه البخاري ، في كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء [برقم (2699) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ، وأبو داود في كتاب الطلاق ، باب من أحق بالولد ، برقم (2280) من حديث علي رضي اللّه عنه ].

(1/433)


ص : 434
خريطة غزوة مؤتة جمادى الأولى 8 هجرية

(1/434)


ص : 435
غزوة مؤتة «1» جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة
قاتل سفير المسلمين وعقوبته :
بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحارث بن عمير الأزديّ بكتابه إلى شرحبيل بن عمرو الغسّانيّ ، حاكم «بصرى» التابع لقيصر ملك الروم ، فأوثقه رباطا ، ثمّ قدّمه فضرب عنقه «2» ، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسّفراء ، عند الملوك والأمراء ، مهما اشتدّ الخلاف ، وكرهت الرسالة التي يحملونها ، وكان حادثا لا يجوز التغاضي عنه ، ففيه خطر عظيم على الرّسل والسّفراء ، وإهانة شديدة للمرسل والرسالة ، فكان لا بدّ من تأديب هذا المعتدي والغضب لهذا المعتدى عليه ، حتّى لا تهون حياة السفراء ، ولا تتكرّر هذه المأساة.
أول جيش في أرض الروم :
فلمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر ، أراد أن يبعث بعثا إلى «بصرى» وذلك
(1/370)
___________
(1) قرية تقع الآن على بعد 12 كيلو مترا جنوب الكرك في الأردن ، والمسافة بين المدينة ومؤتة 1100 كيلو مترا تقريبا ، وقد قطعها المسلمون على ظهور الإبل والخيل ، وانقطع عنهم المدد والميرة والخبر بعد ما خرجوا من بلدهم ، وهم يدخلون في لهوات العدو وفي فكيه ، يفعل بهم ما يشاء. (مقتبس من كتاب المؤلّف «من نهر كابل إلى نهر اليرموك») [انظر «رحلات العلّامة أبي الحسن الندوي ، ص (364) طبع دار ابن كثير بدمشق ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 414.

(1/435)


ص : 436
في جمادى الأولى من السّنة الثامنة للهجرة ، فتجهز الناس ، وهم ثلاثة آلاف ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وهو مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وفي الجيش كبار المهاجرين والأنصار ، وقال : «إن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد اللّه بن رواحة» ، فلمّا حضر خروجهم ، ودّع الناس أمراء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسلّموا عليهم «1» ، وكان أمامهم سفر طويل شاقّ ، وعدوّ ذو شوكة ، يتمتّع بحماية أعظم مملكة في ذلك العصر.
ومضى الجيش ، حتّى نزل ب «معان» وبلغ المسلمين أنّ هرقل ب «البلقاء» في مئة ألف من الروم ، وانضمّ إليهم جمع كثير من قبائل العرب : لخم ، وجذام ، وبلقين ، وبهراء ، وبلي ، فأقاموا على «معان» ليلتين ينظرون في أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنخبره بعدد عدوّنا ، فإمّا أن يمدّنا بالرّجال ، وإمّا أن يأمر بأمره فنمضي له «2».
ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة :
وشجّع الناس عبد اللّه بن رواحة ، فقال : يا قوم! واللّه إنّ الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا به اللّه ، فانطلقوا ، فإنّما هي إحدى الحسنيين ، إمّا ظفر وإما شهادة ، فمضى الناس «3».
(1/371)
___________
(1) زاد المعاد : وابن هشام : ج 2 ، ص 273 [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة مؤتة .. ، برقم (4261) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما ، وأحمد في المسند (5/ 391 - 300 - 301) من حديث أبي قتادة رضي اللّه عنه ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 415.
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 415.

(1/436)


ص : 437
قتال المستميتين وصولة الأسود :
فلمّا كانوا بتخوم البلقاء ، لقيتهم الجموع من الروم والعرب ، بقرية من قرى البلقاء ، يقال لها «مشارف» ودنا العدوّ ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها «مؤتة» والتقى الناس ، واقتتلوا «1».
وقاتل زيد بن حارثة - رضي اللّه عنه - براية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى استشهد ، وقد أخذت الرماح منه كلّ مأخذ ، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها ، حتّى إذا أرهقه القتال ، اقتحم عن فرسه فعقرها ، ثم قاتل ، فقطعت يمينه ، فأخذ الراية بيساره ، فقطعت يساره ، فاحتضن الراية بعضديه حتّى قتل ، وله ثلاث وثلاثون سنة «2» ، ووجد المسلمون ما بين صدره ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ، ما بين ضربة بالسّيف ، وطعنة بالرمح كلّها في الأمام «3» ، ومات فتى الفتيان وهو يحنّ إلى الجنّة ، ويتغنّى بنعمائها ، ويستهين بالعدوّ وعدده وعدده ، وبزخارف الدنيا.
فلمّا قتل جعفر ، أخذ عبد اللّه بن رواحة الرّاية وتقدّم بها ، ونزل عن فرسه ، وأتاه ابن عمّ له ، بعظم عليه بعض لحم ، وقال : شدّ بهذا صلبك ، فإنّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذ بيده وأخذ منه بفمه يسيرا ، ثمّ ألقاه من يده ، وأخذ سيفه فتقدّم وقاتل حتى قتل «4».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 377 - 378.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 415 باختصار.
(1/372)
(3) ابن كثير : ج 3 ، ص 474 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 415 ، وجاء في (الجامع الصحيح) «فوجدناه في القتلى ، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين ما بين طعنة ورمية» [انظر كتاب المغازي ، باب غزوة مؤتة ، رقم الحديث (4260)].
(4) زاد المعاد : ج 1 ، ص 415 ، سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 379 [و أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في الدابة تعرقب في الحرب ، برقم (2573) من حديث عبد اللّه بن -

(1/437)


ص : 438
قيادة خالد الحكيمة :
واصطلح النّاس بعده على خالد بن الوليد - رضي اللّه عنه - فأخذ الراية ، ودافع القوم ، وكان شجاعا حكيما ، يعرف سياسة الحرب ، فانحاز بالجيش الإسلاميّ إلى الجنوب ، وانسحب العدوّ نحو الشمال «1» ، وأرخى الليل سدوله ، حتّى انصرف النّاس ، وكلا الفريقين اغتنم السلامة ، ورأى المصلحة في عدم التحرّش ومتابعة القتال.
ومعروف أنّ عملية الانسحاب - كما يقول الفاضل اللواء الركن محمود شيت خطّاب - تعدّ من أصعب العمليات العسكرية لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة ، والهزيمة كارثة تؤدّي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين ، ولا تعدّ خسائر المسلمين الضئيلة في مؤتة شيئا يذكر بجانب الفائدة العسكريّة التي أفادها الاطلاع على خواصّ قوات الروم وتنظيمها وتسليحها وأساليب قتالها مما اتضح أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد «2».
ووزّع خالد عددا غير قليل من رجاله في خطّ مؤخرة جيشه ، أحدثوا حين أصبح الناس ضجّة عظيمة ، أدخلت إلى روع العدوّ أنّ مددا جاء من المدينة ، فتهيّب الروم المسلمين ، وقالوا : إذا كان صنع ثلاثة آلاف بنا ما قد رأيناه ، فكيف بهم إذا جاءهم المدد ، الذي لا يعرف عدده وقوته ؟!! ، فتقاعس الروم عن مهاجمة الجيش الإسلاميّ ، وكفى اللّه المؤمنين القتال «3».
___________
(1/373)
- الزبير ، والهيثمي في المجمع (6/ 159 - 160) عن رجل من الصحابة وحسّنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 511)].
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 415 ، وسيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 379 - 380.
(2) شيت خطّاب ، الرسول القائد ، ص 206 - 207 ، وعن مؤتة انظر كذلك atum, tra, malsI fo aidepolcycnE.
(3) راجع «المغازي» للواقدي.

(1/438)


ص : 439
خبر عيان لا بيان :
وبينما كان المسلمون يخوضون المعركة ، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبر أصحابه في المدينة بما يجري في المعركة ، يقول أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعى زيدا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم الخبر ، فقال : «أخذ الراية زيد ، فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب» وعيناه تذرفان «حتّى أخذ الراية سيف من سيوف اللّه ، حتّى فتح اللّه عليهم» «1».
وفي رواية أنّه قال وهو على المنبر : «و ما يسرّهم أنّهم عندنا».
الطيّار ذو الجناحين :
وقال في جعفر : «إنّ اللّه أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء «2»» ولذلك لقّب ب «جعفر الطيّار» و«ذي الجناحين».
حبّ نبويّ وعاطفة إنسانية :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزوج جعفر : «ائتيني ببني جعفر» ، فلمّا حضروا تشمّمهم ، وذرفت عيناه ، وأخبر بشهادة جعفر ، ولمّا أتاهم النعي ، قال لأهله : «اصنعوا لآل جعفر طعاما ، فقد أتاهم أمر يشغلهم» وعرف في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحزن «3».
___________
(1) رواه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب غزوة مؤتة [برقم (4262) ، وأحمد في المسند (3/ 113) من حديث أنس رضي اللّه عنه.
(2) روى البخاري في صحيحه : كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال : السلام عليك يابن ذي الجناحين ، [أخرجه في كتاب المغازي ، باب غزوة مؤتة ، برقم (3709)] ، وزاد المعاد ، ج 1 ، ص 415.
(1/374)
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 380 - 381 باختصار ، والرواية في سنن الترمذي [في أبواب -

(1/439)


ص : 440
كرّارون لا فرّارون :
ولمّا دنا الجيش من حول المدينة ، تلقّاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، ولقيهم الصبيان يشتدّون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبل مع القوم على دابّة ، فقال :
«خذوا الصبيان واحملوهم ، وأعطوني ابن جعفر» فأتي بعبد اللّه ، فأخذه ، فحمله بين يديه.
وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون : يا فرّار! فررتم في سبيل اللّه ، ويقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ليسوا بالفرّار ، ولكنهم الكرّار إن شاء اللّه تعالى» «1».
بين مؤتة وفتح مكة :
وكان بين غزوة مؤتة وفتح مكة سرية ذات السلاسل ، كانت في جمادى الآخرة ، سنة ثمان ، وهي وراء وادي القرى ، وكانت في بلاد قضاعة ، دوّخها الجيش الإسلاميّ.
وسريّة الخبط ، وكان أميرها أبا عبيدة بن الجرّاح ، وكانت في رجب سنة ثمان ، في ثلاثمئة رجل من المهاجرين والأنصار ، أرسلهم إلى حيّ من جهينة ، مما يلي ساحل البحر ، وأصابهم في الطريق جوع شديد ، حتّى أكلوا الخبط (وهو ورق الشجر) وألقى إليهم البحر حوتا عظيما ، يقال له «العنبر»
___________
- الجنائز ، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت ، برقم (998) ، وأبو داود في كتاب الجنائز ، باب صنعة الطعام لأهل الميت ، برقم (3132) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز ، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت ، برقم (1610) ، وأحمد في المسند (1/ 205) من حديث عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهما].
(1) رواه الإمام أحمد بن حنبل [و أخرجه ابن هشام في السيرة (3/ 478) مرسلا من طريق ابن إسحاق عن عروة ، وسنده ضعيف ].

(1/440)


ص : 441
(1/375)
فأكلوا منه نصف شهر ، وادّهنوا منه ، حتّى صلحت منه أجسامهم ، ولمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «هو رزق أخرجه اللّه لكم» فتناول من لحمه شيئا «1».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 417 ، والرواية في صحيح البخاري ، [في كتاب المغازي ] باب «غزوة سيف البحر» [برقم (4361)] وفي صحيح مسلم [في كتاب الصيد والذبائح ، باب إباحة ميتات البحر ، برقم (1935) ، وأبو داود في كتاب الأطعمة ، باب في دواب البحر ، برقم (3840) ، من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].

(1/441)


ص : 442
خريطة فتح مكة المكرمة رمضان 8 هجرية

(1/442)


ص : 443
فتح مكّة «1» رمضان سنة ثمان من الهجرة
تمهيد لفتح مكة :
ولمّا تمّ أمر اللّه في ترسيخ هذا الدّين ، وتربية المسلمين ، وامتحن اللّه قلوبهم للتّقوى ، وفاضت كأس قريش ظلما وعدوانا ، وجحودا بالحقّ ، وصدّا عن سبيل اللّه ، ومحاربة للإسلام وأهله ، أراد اللّه أن يدخل رسوله والمسلمون مكة فاتحين غالبين ، يطهّروا الكعبة من الرّجس من الأوثان وقول الزّور ، ويعيدوا مكة إلى مكانتها الأولى ، فتكون مثابة للناس وأمنا ، ويجعلون البيت كما كان مباركا وهدى للعالمين.
نقض بني بكر وقريش الحلف :
وقد هيّأ اللّه لذلك أسبابا ، وساعدت عليها قريش ، بل دعت إليها من حيث لا تشعر ، فقد وقع حادث لم يسوّغ ذلك فحسب ، بل أوجبه ، وللّه جنود السّماوات والأرض.
كان قد تقرّر في صلح الحديبيّة أنّ من أحبّ أن يدخل في عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده فعل ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل ، ودخلت
___________
(1) الموافق ليناير سنة 630 م.

(1/443)


ص : 444
(1/376)
بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده «1».
وكان بين بني بكر وبين خزاعة ترة «2» قديمة ، وعداء متوارث ، يرجع تاريخه إلى ما قبل البعثة ، وجاء الإسلام فحجز بينهم ، وتشاغل الناس بشأنه ، فلمّا كانت الهدنة ، ودخلت القبيلتان في معسكرين متحاربين ، أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة ، ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم ، فبيّت نفر من بني بكر لخزاعة وهم على ماء لهم فأصابوا منهم رجالا ، وتناوشوا واقتتلوا.
وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح ، وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلا ، حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلمّا انتهوا إليه قالت بنو بكر لبعض رجالهم : إنّا قد دخلنا الحرم ، إلهك! إلهك! فقال : لا إله اليوم! يا بني بكر ، أصيبوا ثأركم ، فلا تجدون هذه الفرصة بعد ذلك «3».
الاستغاثة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
وخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ ، وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فوقف عليه ، وأنشد أبياتا ، ينشده فيها الحلف الذي كان بينه وبين خزاعة ، وسأله النصر والنجدة ، ويخبره بأنّ قريشا أخلفوه الموعد ، ونقضوا ميثاقه المؤكد ، وأنّهم بيّتوا وهم على ماء لهم وقتلوا ركّعا وسجّدا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «نصرت يا عمرو بن سالم!».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 390.
(2) [ترة : أي ثأر].
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 419 ، وابن هشام : ج 2 ، ص 390.

(1/444)


ص : 445
براءة الذمة وإقامة الحجة :
(1/377)
وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يستوثق منهم الخبر ، ويعذر إلى قريش ، فبعث إليهم رجلا يخيّرهم بين إحدى ثلاث خلال ، بين أن يدفعوا دية قتلى خزاعة ، أو يبرؤوا من حلف من تولّى كبر هذا النقض ، وقاد الحملة على خزاعة ، وهم بنو نفاثة من بني بكر ، أو ينبذ إليهم على سواء ، فأجابه بعض زعمائهم : لكن ننبذ إليهم على سواء ، وبذلك برئت ذمّة قريش ، وقامت عليهم الحجّة «1».
محاولة قريش لتجديد العهد :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للنّاس حين بلغه الخبر : «كأنّكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد المدّة» وهكذا كان ، فرهبت قريش مما صنعت ، وندمت على الجواب القاسي الذي أجاب به بعض سفهائهم ، فبعثوا أبا سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليشد العقد ويزيد المدّة «2».
إيثار النّبيّ على الآباء والأبناء :
وقدم أبو سفيان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ودخل على ابنته «أمّ حبيبة» زوج النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنيّة! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنّي ؟
قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنت مشرك نجس ، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
___________
(1) أخرجه الزرقاني في المواهب (2/ 349) : عن ابن عائذ عن ابن عمر ، والرجل الذي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسمه ضمرة ، والذي أجابه من قريش اسمه قرطة بن عمرو.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 420 ، وابن هشام : ج 2 ، ص 395 - 396.

(1/445)


ص : 446
قال : واللّه لقد أصابك بعدي شرّ «1».
حيرة أبي سفيان وإخفاقه :
(1/378)
وأتى أبو سفيان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلّمه فلم يردّ عليه شيئا ، ثمّ ذهب إلى أبي بكر فكلّمه أن يكلّم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : ما أنا بفاعل ، وراود عمر وعليّا وفاطمة على ذلك ، فلم يجبه أحد إلى ذلك ، وقالوا : إنّ الأمر أجلّ منه ، حتّى احتار في أمره ، وقال لفاطمة : يا بنت محمد! هل لك أن تأمري بنيّك هذا - وأشار إلى الحسن بن عليّ ، وهو غلام يدبّ - أن يجير بين الناس ، فيكون سيّد العرب إلى آخر الدهر ، قالت : واللّه ما بلغ بنيّي هذا أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولمّا رأى عليّ حيرته ، وما فيه من ضيق وكرب ، قال له : ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا ، ولكنّك سيّد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا ؟ قال : واللّه ما أظنّه ، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك ، فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس! إنّي قد أجرت بين الناس ، ثمّ ركب بعيره ، فانطلق «2».
ولمّا سمعت قريش القصّة ، قالوا : جئتنا بما لا يغني عنّا ، ولا يغني عنك شيئا.
التأهب لمكّة وكتاب حاطب بن أبي بلتعة :
وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس بالجهاز ، واستعان على أمره بالكتمان ، ثمّ أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة وأمرهم بالجدّ والتجهّز ، وقال : «اللهم! خذ
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 420 ، وابن هشام : ج 2 ، ص 395 - 396.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 396 - 397.

(1/446)


ص : 447
العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «1».
(1/379)
ولمّا كان المجتمع الإسلاميّ المدنيّ مجتمعا بشريا يعيش في واقع الحياة ، وبين المشاعر الإنسانيّة ، وخواطر النفس ورغباتها ، كان الأفراد فيه يصيبون ويخطئون ، وقد يكونون متأوّلين في تصرّفاتهم وأحكامهم ، وقد يجانبهم الصواب في هذا التأويل ، وذلك من خصائص المجتمعات البشريّة التي تتمتّع بالحريّة والثقة ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين لا يقرّهم على هذا الخطأ ، يلتمس لهم العذر ، ويتسامح معهم ، وكان من أوسع الناس صدرا مع هؤلاء المخطئين ، وأكثرهم معرفة بفضلهم وحسن بلائهم في الجهاد ، وسوابقهم في الإسلام ، وقد حفظ لنا الحديث وكتب السيرة النبويّة وتاريخ الإسلام مثل هذه الحوادث النادرة في الوقوع ، وهو ممّا يدلّ على أمانتها وشهادتها بالحقّ.
ومن هذه الحوادث ما وقع لحاطب بن أبي بلتعة ، وهو ممّن هاجر من مكّة وشهد بدرا ، فقد جاء في الروايات أن النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم لمّا أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة ، وأسرّ الأمر ، فتجهّز الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا ، يخبرهم بمسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم ، ثمّ أعطاه امرأة ، وجعل لها جعلا على أن تبلّغه قريشا ، فجعلته في قرون رأسها «2» ، ثمّ خرجت به ، وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من السّماء بما صنع حاطب ، فبعث عليا والزّبير ، فقال :
انطلقا حتّى تأتيا روضة خاخ «3» ، فإنّ فيها ظعينة معها كتاب إلى قريش.
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 421 ، وابن هشام : ج 2 ، ص 397.
(2) [قرون رأسها : أي ضفائرها].
(3) موضع بين المدينة ومكة ، قال الفتني : بمعجمتين موضع باثني عشر ميلا من المدينة ، وقيل بمهملة وجيم ، وهو تصحيف ، (مجمع بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 120 ، طبع حيدر آباد ، الهند).

(1/447)


ص : 448
(1/380)
فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتّى وجدا المرأة بذلك المكان ، فاستنزلاها وقالا : معك كتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب! ففتّشا رحلها فلم يجدا شيئا ، فقال لها عليّ - رضي اللّه عنه - : أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا كذبنا ، واللّه لتخرجنّ الكتاب ، أو لنجرّدنك ، فلمّا رأت الجدّ منه ، قالت :
أعرض ، فأعرض ، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليهما ، فأتيا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم.
فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاطبا ، فقال : «يا حاطب ما هذا» فقال : لا تعجل عليّ يا رسول اللّه ، واللّه إنّي لمؤمن باللّه ورسوله ، وما ارتددت ، ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرأ ملصقا في قريش ، لست من أنفسهم ، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد ، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه ، فإنّه قد خان اللّه ورسوله ، وقد نافق. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّه شهد بدرا ، وما يدريك يا عمر! لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم»! فذرفت عينا عمر ، وقال : اللّه ورسوله أعلم «1».
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رمضان سنة ثمان من المدينة ومعه عشرة
___________
(1/381)
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 421 - وقد وردت القصة في الصحاح [انظر هذه القصة فيما أوردها البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح ، برقم (4274) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة ... ، برقم (2494) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما ، برقم (2650) و(2651) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، في سورة الممتحنة ، برقم (3305) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ].

(1/448)


ص : 449
آلاف «1» ، ومضى حتّى نزل «مرّ الظهران» ، وعمّى اللّه الأخبار عن قريش ، فهم على وجل وارتقاب.
عفو عمّن ظلم :
ولقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الطريق ابن عمّه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فأعرض عنه ، لما كان يلقاه منه من شدّة الأذى والهجو ، فشكا ذلك إلى عليّ ، فقال له : ائت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف : 91] ، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا ، ففعل ذلك فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف : 92] ، وحسن إسلامه بعد ذلك ، وما رفع رأسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منذ أسلم حياء منه «2».
أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجيش ، فأوقدوا النيران ، وخرج أبو سفيان بن حرب يتجسّس الأخبار ، وهو يقول : «ما رأيت كاللّيلة نيرانا قطّ ولا عسكرا» ، وكان العبّاس بن عبد المطلب ، قد خرج من مكّة قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا ولحق بالعسكر ، فعرف صوت أبي سفيان ، وقال : هذا
___________
(1/382)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح في رمضان ، برقم (4276) ، ومسلم في كتاب الصيام ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية .. ، برقم (1113) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 421 [انظر قصة إسلام أبي سفيان فيما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 43 - 44) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما وصحّحه ، ووافقه الذهبي ].

(1/449)


ص : 450
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النّاس ، واصباح قريش! فأركبه في عجز بغلته ، وخشي عليه أن يدركه أحد المسلمين فيقتله ، وأتى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلمّا رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «و يحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلا اللّه ؟».
قال : بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره لقد أغنى عنّي شيئا بعد.
قال : «و يحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه ؟».
قال : بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا هذه واللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا.
قال العباس : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه ، قبل أن تضرب عنقك ، فأسلم وشهد شهادة الحقّ «1».
عفو عامّ وأمن بسيط :
ووسّع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الأمن والعفو ، حتّى أصبح أهل مكّة لا يهلك منهم إلّا من زهد في السلامة ، وكره الحياة ، فقال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن» «2».
ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جيشه عن أن يستخدموا السلاح عند ما يدخلون مكّة على أيّ إنسان إلّا من اعترضهم وقاومهم ، وأمر بأن يعفّ الجيش عن أموال
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 403 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 422.
(1/383)
(2) المصدر السابق : ج 2 ، ص 403 ، والرواية في البخاري مختصرة ، باب «أين ركّز النّبي صلى اللّه عليه وسلم الراية يوم الفتح» [برقم (4280) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].

(1/450)


ص : 451
أهل مكّة وممتلكاتهم وأن يكفّوا أيديهم عنها «1».
أبو سفيان أمام موكب الفتح :
وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يجلس أبا سفيان حيث تمرّ به كتائب الإيمان.
وتحرّكت كتائب الفتح كأنّها بحر يموج ، وكانت القبائل تمرّ على راياتها ، كلّما مرّت قبيلة سأل عباسا عنها وعن اسم القبائل ، فيقول : ما لي ولبني فلان ؟ حتّى مرّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم في كتيبة خضراء ، فيها المهاجرون والأنصار ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال : سبحان اللّه! يا عباس من هؤلاء ؟
قال : هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المهاجرين والأنصار ، قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، واللّه يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.
قال : يا أبا سفيان! إنّها النبوّة.
قال : فنعم إذا «2».
وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش! هذا محمد ، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا : قاتلك اللّه ، ما تغني عنا دارك ؟
قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد «3».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 409.
(2) المصدر السابق : ج 2 ، ص 404 [و قد سبق تخريجه آنفا ، وهو جزء من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه نفسه ].
(3) المصدر السابق نفسه : ص 405 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 423 ، وهو جزء من حديث -

(1/451)


ص : 452
دخول خاشع متواضع ، لا دخول فاتح متعال :
(1/384)
ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكّة ، وهو واضع رأسه تواضعا للّه ، حين رأى ما أكرمه اللّه به من الفتح ، حتّى إنّ ذقنه ليكاد يمسّ واسطة الرّحل ، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح «1».
وفي دخوله مكّة فاتحا - وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحيّ والسياسيّ - رفع كلّ شعار من شعائر العدل والمساواة ، والتواضع والخضوع ، فأردف أسامة بن زيد «2» ، وهو ابن مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يردف أحدا من أبناء هاشم وأبناء أشراف قريش ، وهم كثير.
وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان ، سنة ثمان من الهجرة.
أتى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم رجل فكلّمه ، فجعل ترعد فرائصه «3» ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «هوّن عليك فإنّي لست بملك ، وإنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «4» «5».
___________
- ابن عباس رضي اللّه عنهما السابق.
(1) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 3 ، ص 554 ، وجاء في صحيح البخاري رواية عن معاوية بن قرّة [عن عبد اللّه بن مغفّل ] : «رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكّة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح [و قال : «لو لا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع» انظر كتاب المغازي ، باب أين ركز النبي صلى اللّه عليه وسلم الراية يوم الفتح ؟ ، برقم (4281)].
(2) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 3 ، ص 556.
(3) [القديد : اللّحم المملوح المجفّف في الشّمس ].
(4) [الفرائص ، جمع الفريصة ، وهي عصب الرقبة وعروقها ، لأنها هي التي تثور عند الغضب وترجف من الخوف ].
(5) [أخرجه ابن ماجه في الأطعمة ، باب القديد ، برقم (3312) ، والحاكم (2/ 466) و(3/ 48) من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه ].

(1/452)


ص : 453
مرحمة لا ملحمة :
(1/385)
ولمّا مرّ سعد بن عبادة بأبي سفيان في كتيبة الأنصار ، قال له : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة ، اليوم أذلّ اللّه قريشا ، فلما حاذاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كتيبته شكا إليه ذاك أبو سفيان ، قال : يا رسول اللّه! ألم تسمع ما قال سعد ؟ قال : «و ما قال ؟» قال : كذا وكذا.
فاستنكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقالة سعد ، وقال : «بل اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعزّ اللّه قريشا ، ويعظّم اللّه الكعبة» «1».
وأرسل إلى سعد ، فنزع منه اللواء ، ودفعه إلى قيس ابنه ، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه «2».
ولم يزد الرسول الملهم أن أبدل حرفا بحرف ، وأبا بابن ، فعالج نفس أبي سفيان المكلومة - وكان في حاجة إلى تأليف القلب - من غير أن يسيء إلى سعد ، صاحب سوابق في الإسلام.
مناوشات قليلة :
وكانت مناوشات قليلة بين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وبين أصحاب خالد بن الوليد ، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر رجلا ، ثم انهزموا «3» ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عهد
___________
(1) رواه الأموي في المغازي (فتح الباري : ج 8 ، ص 7) وروى البخاري القصة باختلاف بعض الألفاظ ، ومقالة سعد بن عبادة ورد النّبي صلى اللّه عليه وسلم في صحيحه ، والأموي هو يحيى بن سعيد بن أبان ، صدوق ، روى له الستة ، مات سنة 94 ه (راجع ، ج 2 ، ص 613).
(2) زاد المعاد ، ج 1 ، ص 423 [أخرجه البخاري بلفظ آخر في الحديث الطويل ، في كتاب المغازي ، باب : أين ركز النبي صلى اللّه عليه وسلم الراية يوم الفتح ؟ برقم (4280)].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 407 - 408 باختصار.

(1/453)


ص : 454
إلى أمرائه من المسلمين ، حين يدخلون مكّة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم «1».
تطهير الحرم من الأوثان :
(1/386)
ولمّا نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واطمأنّ النّاس ، خرج حتّى جاء البيت ، فطاف به ، وفي يده قوس ، وحول البيت وعليه ثلاثمئة وستون صنما ، فجعل يطعنها بالقوس ، ويقول : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء : 81] وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ : 49] ، والأصنام تتساقط على وجوهها «2».
ورأى في الكعبة الصّور والتماثيل ، فأمر بالصّور وبالتماثيل فكسرت «3».
اليوم يوم برّ ووفاء :
ولمّا قضى طوافه ، دعا (عثمان بن طلحة) ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، ودخل ، وكان قد طلب منه المفتاح يوما قبل أن يهاجر إلى المدينة ، فأغلظ له القول ، ونال منه ، فحلم عنه ، وقال : «يا عثمان! لعلّك ترى هذا المفتاح يوما بيدي ، أضعه حيث شئت».
فقال : لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت.
فقال : «بل عمرت وعزّت يومئذ».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ص 409.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 424 ، وراجع القصة في صحيح البخاري [في كتاب المغازي ] باب أين ركز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الراية يوم الفتح ؟ [برقم (4287) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة ، برقم (1781) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 411 ، وزاد المعاد : ج 2 ، ص 424 [و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف برقم (18751) من حديث جابر رضي اللّه عنه ].

(1/454)


ص : 455
ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعا ، وظنّ أنّ الأمر سيصير إلى ما قال «1».
فلمّا خرج من الكعبة ، قام إليه عليّ بن أبي طالب ، ومفتاح الكعبة في يده صلى اللّه عليه وسلم ، قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اجمع لنا الحجابة مع السّقاية ، صلّى اللّه عليك وسلّم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أين عثمان بن طلحة ؟» فدعي له ، فقال :
(1/387)
«هاك مفتاحك يا عثمان! اليوم يوم برّ ووفاء «2» ، خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» «3».
الإسلام دين توحيد ووحدة :
وفتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باب الكعبة ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع ، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته ، فقال : «لا إله إلّا اللّه
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 425 ، وراجع القصّة في صحيح البخاري [في كتاب الجهاد والسير ، باب الردف على الحمار ، برقم (2988) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره برقم (1329) ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب الصلاة في مكة ، برقم (2023) من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما].
(2) السيرة النبوية : لابن هشام ، ج 2 ، ص 411 - 412 ملخصا.
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 425 ، نقلا عن طبقات ابن سعد [ «خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم» هذه الكلمات الموجزة تتضمّن ثلاثة تنبّؤات : 1 - بقاء نسل أبي طلحة في الدنيا باستمرار. 2 - ارتباط الحفاظ على مفتاح بيت اللّه وخدمته بهم. 3 - تسمية من ينزع منهم المفتاح ظالما. وعن الأول والثاني يعلم العالم كلّه أنّ المفتاح باق في بني شيبة إلى الآن ، ونسلهم لا يزال باقيا. وعن الثالث قال المؤرّخون إنّ (يزيد) سلب المفتاح منهم ، وبعد ذلك مضى أربعة عشر قرنا ولم يجترىء أحد على سلبه منهم حتى لا يلقّب بالظالم ، وهو اللقب الذي ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن يسلبه مفتاح الكعبة من نسل أبي طلحة (رحمة للعالمين : ص 750)].

(1/455)


ص : 456
وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كلّ مأثرة أو مال أو دم ، فهو تحت قدميّ هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» «1».
«يا معشر قريش! إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة ، وتعظّمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب» ، ثمّ تلا هذه الآية :
(1/388)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «2» [الحجرات : 13].
نبيّ المحبّة ورسول الرحمة :
ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «يا معشر قريش! ما ترون أنّي فاعل بكم ؟»
قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم!
قال : «فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء» «3».
وأمر بلالا أن يصعد ، فيؤذن على الكعبة ، ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة اللّه تعلو ، ومكّة ترتجّ بالأذان.
ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دار أمّ هانىء بنت أبي طالب ، فاغتسل ، وصلّى ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا للّه عليه «4».
___________
(1) [أخرجه أبو داود في كتاب الديات ، باب في دية الخطأ شبه العمد ، برقم (4547) ، وابن ماجه ، في أبواب الديات ، باب في دية شبه العمد مغلظة ، برقم (2627) من حديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 424.
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 424.
(4) رواه البخاري [في كتاب المغازي ] في باب منزل النّبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح [برقم (1176) ، -

(1/456)


ص : 457
لا تمييز في تنفيذ حدود اللّه :
وسرقت امرأة من بني مخزوم - اسمها فاطمة - في هذه الغزوة ، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد ، لمكانته عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستشفعونه ، فلمّا كلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلوّن وجهه ، وقال : «أتكلّمني في حدّ من حدود اللّه ؟!».
قال أسامة : استغفر اللّه لي يا رسول اللّه!
(1/389)
فلمّا كان العشيّ ، قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطيبا ، فأثنى على اللّه بما هو أهله ، ثمّ قال : «أمّا بعد ، فإنّما أهلك الناس قبلكم ، أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، والذي نفس محمد بيده ، لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
ثمّ أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتلك المرأة ، فقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك ، وتزوّجت «1».
عفو عن الأعداء الألدّاء :
ولمّا استقرّ الفتح ، وأمّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس كلّهم ، إلا تسعة نفر ، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم من ارتدّ عن دينه ، ومنهم من قتل مسلما غيلة ، ومنهم من كان يشتغل ويتسلّى بهجائه ويذيعه بين الناس ،
___________
- ومسلم في كتاب الحيض ، باب تستر المغتسل بثوب ونحوه ، برقم (336) من حديث أم هانىء رضي اللّه عنها] ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 425.
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب مقام النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح ، برقم (6788) ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره ... ، برقم (1688) ، وأبو داود في كتاب الحدود ، باب في الحد يشفع فيه ، برقم (4373) ، والترمذي في الحدود ، باب ما جاء في كراهية أن يشفع في أبواب الحدود ، برقم (1430) وغيرهم من حديث عائشة رضي اللّه عنها].

(1/457)


ص : 458
وكان منهم عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ، وكان قد ارتدّ.
(1/390)
ومنهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان قد خرج إلى اليمن كارها لدولة الإسلام وخائفا على نفسه ، فاستأمنت له امرأته بعد أن فرّ ، فأمّنه النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن أعدى عدوّ له في الدنيا ، وثب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما عليه رداء ، فرحا به وترحيبا ، وأسلم عكرمة ، فسرّ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرورا عظيما ، وحسن إسلامه ، وكان له مواقف عظيمة في حروب الرّدّة وحروب الشّام.
ومنهم وحشيّ مولى جبير بن مطعم ، وقاتل عمّ الرسول وأسد اللّه ورسوله حمزة بن عبد المطلب - وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أهدر دمه - فأسلم ، وقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إسلامه.
ومنهم هبّار بن الأسود ، وكان قد عرض لزينب بنت الرسول صلى اللّه عليه وسلم حين هاجرت ، فنخس بها حتّى سقطت على صخرة ، وأسقطت جنينها ، ففرّ ، ثمّ أسلم ، وحسن إسلامه ، واستؤمن لسارة ولإحدى القينتين اللتين كانتا تغنّيان بهجائه ، فأمّنهما فأسلمتا «1».
بين هند بنت عتبة وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
واجتمع النّاس بمكة لبيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام ، فجلس لهم على الصّفا ، وأخذ على النّاس السمع والطاعة للّه ولرسوله فيما استطاعوا.
ولمّا فرغ من بيعة الرّجال ، بايع النساء ، وفيهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان متنقبة متنكّرة لما كان من صنيعها بحمزة «2».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 425.
(2) [انظر قصة إسلامها في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور ، باب كيف كانت يمين النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (6641) ، ومسلم في كتاب الأقضية ، باب قضية هند ، -

(1/458)


ص : 459
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهنّ : «بايعنني على ألّا تشركن باللّه شيئا».
فقالت هند : واللّه إنّك لتأخذ علينا ما لا تأخذ من الرجال.
(1/391)
قال : «و لا تسرقن».
فقالت : إنّي كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة «1» ، وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا ؟ فقال أبو سفيان - وكان شاهدا لما تقول - : أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «و إنّك لهند بنت عتبة» ؟
قالت : نعم ، فاعف عمّا سلف ، عفا اللّه عنك.
ثم قال : «و لا تزنين».
فقالت : يا رسول اللّه! وهل تزني الحرّة ؟ «2».
ثم قال : «و لا تقتلن أولادكنّ».
قالت : ربّيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم «3» ، فضحك عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - حتى استغرق.
ثمّ قال : «و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ».
فقالت : واللّه إنّ إتيان البهتان لقبيح ، ولبعض التجاوز أمثل.
ثمّ قال : «و لا يعصينني».
___________
- برقم (1714) ، وأبو داود كتاب البيوع ، باب في الرجل يأخذ حقّه من تحت يده ، برقم (3532) و(3533) من حديث عائشة رضي اللّه عنهما].
(1) [الهنة : أي الحاجة ، ويعبّر بها عن كلّ شيء (والنهاية 5/ 279)].
(2) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 3 ، ص 603.
(3) السيرة الحلبية : ج 3 ، ص 109.

(1/459)


ص : 460
فقالت : في معروف «1».
المحيا محياكم والممات مماتكم :
ولمّا فتح اللّه مكة على رسوله - وهي بلده ووطنه ومولده - تحدّث الأنصار فيما بينهم ، فقالوا : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد فتح اللّه عليه أرضه وبلده ، فهو مقيم بها ، لا يعود إلى المدينة.
وسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأنصار عن حديثهم ، ولا يعرفه غيرهم ، فاستحيوا ثم أقرّوا به ، فقال : «معاذ اللّه! المحيا محياكم والممات مماتكم» «2».
كيف انقلب العدوّ محبا والماجن تقيا :
همّ فضالة بن عمير أن يقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فلمّا دنا منه قال له : «فضالة
قال : نعم يا رسول اللّه!
(1/392)
فقال : «ماذا كنت تحدّث به نفسك ؟».
قال : لا شيء ، كنت أذكر اللّه.
فضحك النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ثمّ قال : «استغفر اللّه» ، ثمّ وضع يده على صدره ، فسكن قلبه ، وكان فضالة يقول : واللّه ما رفع يده عن صدري ، حتّى ما خلق اللّه شيئا أحبّ إليّ منه.
___________
(1) السيرة النبوية لابن كثير : ج 3 ، ص 602 - 603 ، بزيادة يسيرة من غير ابن كثير.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 416 [و أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب فتح مكة ، برقم (1780) ، وأبو داود في كتاب الخراج ، باب ما جاء في خبر مكة ، برقم (3024) ، وأحمد في المسند (2/ 538) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].

(1/460)


ص : 461
قال فضالة : فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدّث إليها ، قالت : هلمّ إلى الحديث ، قال : يأبى اللّه عليك والإسلام «1».
إزالة آثار الجاهليّة وشعائر الوثنيّة :
وبثّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة ، فكسرت كلّها ، منها اللّات والعزّى ، ومناة الثالثة الآخرى ، ونادى مناديه بمكّة :
«من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فلا يدع في بيته صنما إلّا كسره».
وبعث رجالا من أصحابه إلى القبائل ، فهدموا أصنامها «2» ، وقال جابر :
كان بيت في الجاهليّة يقال له «ذو الخلصة» و«الكعبة اليمانية» و«الكعبة الشاميّة» ، فقال لي النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «ألا تريحني من ذي الخلصة» ؟
يقول جابر : فنفرت في مئة وخمسين راكبا من أحمس ، (وكانوا أصحاب خيل) فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده ، فأتيت النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فدعا لنا ولأحمس «3» «4».
وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مكّة خطيبا ، فأعلن حرمة مكّة إلى يوم القيامة :
«لا يحلّ لامرىء يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ، أو يعضد «5» بها
___________
(1/393)
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 417 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 426.
(2) راجع للتفصيل «زاد المعاد» ج 1 ، ص 426.
(3) [الأحمس : وهم قريش ، ومن ولدت قريش ، وكنانة جديلة قيس ، سمّوا أحمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم : أي تشدّدوا (النهاية : 1/ 440)].
(4) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح في كتاب المغازي ، باب غزوة ذي الخلصة [برقم (4355) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ، برقم (2476) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في بعثة البشراء ، برقم (2772) ، وأحمد في المسند (4/ 362) من حديث جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ].
(5) يعضد : يقطع.

(1/461)


ص : 462
شجرة» ، وقال : «لم تحلّ لأحد كان قبلي ، ولا تحلّ لأحد يكون بعدي»»
، ثمّ انصرف راجعا إلى المدينة «2».
أثر فتح مكّة :
وكان لفتح مكّة أثر عميق في نفوس العرب ، فشرح اللّه صدر كثير منهم للإسلام ، وصاروا يدخلون فيه أرسالا.
وكانت عدّة قبائل بينها وبين قريش حلف ، وكانت ممتنعة عن الدخول في الإسلام لمكانة هذا الحلف.
وكانت قبائل ترهب قريشا وتجلّها ، فلما رأتهم استسلموا للإسلام ورغبوا فيه زال الحاجز.
وكانت قبائل تعتبر مكّة لا يفتحها ولا يدخلها ملك جبّار أو من يريد لها سوءا ، ولا يزال فيها من عاصر حادثة الفيل ، وشاهد ما فعل بأبرهة ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنّه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق «3».
فلمّا فتح اللّه لنبيّه مكّة ، وخضعت قريش للإسلام طوعا أو كرها ، أقبل العرب على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك ، وصاروا يدخلون في دين اللّه أفواجا «4» ، وصدق اللّه العظيم : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ
___________
(1/394)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب اللقطة ، باب كيف تعرّف لقطة أهل مكّة ، برقم (2434) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب تحريم مكة .. ، برقم (1353) ، وغيرهما من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) راجع «زاد المعاد» ج 1 ، ص 425 - 426.
(3) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب مقام النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة زمن الفتح ، [برقم (4302) ، من حديث عمرو بن سلمة رضي اللّه عنه ].
(4) مستفاد من كتاب «رحمة للعالمين» لمؤلفه الشهير قاضي محمد سليمان المنصور فوري ، [و قد نقله إلى العربية الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم ، طبع في دار السلام - الرياض ، -

(1/462)


ص : 463
النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النصر : 1 - 2]
أمير شابّ حديث السنّ :
وأمّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يغادر مكّة عتّاب بن أسيد «1» ، يدير أمورها ، ويقيم الموسم والحجّ بالمسلمين ، وهو دون العشرين سنة ، أو فوقها قليلا ، وذلك بمحضر من أهل الأسنان والفضل ، فدلّ على أنّ المناصب على الجدارة والقوة ، وأقرّه أبو بكر في خلافته «2».
___________
- انظر اقتباس المؤلف من هذا الكتاب في ترجمته العربية ، ص 115 - 116 ، وفيه فوائد أخرى أيضا].
(1) ابن هشام : ج 2 ، ص 440.
(2) راجع «الإصابة» و«أسد الغابة».

(1/463)


ص : 464
خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رمضان 8 ه ربيع الآخر 9 هجرية

(1/464)


ص : 465
غزوة حنين «1» شوّال سنة ثمان من الهجرة
محاولة أخرى لإطفاء نور اللّه بالأفواه :
وبعد أن تمّ فتح مكة ، وبدأ النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجا ، أطلق العرب السّهم الأخير في كنانتهم على الإسلام والمسلمين ، فكانت محاولة يائسة لمحاربة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ووقف مدّ الإسلام في جزيرة العرب.
اجتماع هوازن «2» :
(1/395)
وكانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش ، وكان بينها وبين قريش تنافس ، فلم تخضع لما خضعت له قريش ، وأرادت أن يكون لها الفضل والصيت في استئصال شأفة الإسلام ، فيقال : إنّ هوازن استطاعت ما لم تستطعه قريش.
قام مالك بن عوف النّصريّ - سيد هوازن - فنادى بالحرب واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها ، ونصر وجشم كلّها ، وسعد بن بكر ، وتخلّف عن هوازن
___________
(1) [انظر أخبار هذه الغزوة في : «سيرة ابن هشام» (2/ 437 - 500) و«طبقات ابن سعد» (2/ 149 - 158) و«تاريخ الطبري» (3/ 125) و«البداية والنهاية» (4/ 322)].
(2) [واقعة اجتماع هوازن ؛ أخرجها ابن هشام في السيرة ، وأحمد في المسند (3/ 376) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ].

(1/465)


ص : 466
خريطة غزوة حنين شوال 8 هجرية

(1/466)


ص : 467
كعب وكلاب ، وأجمع السير إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحطّ مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، ليثبتوا ويدافعوا عن الأهل والعرض.
وشهد الحرب دريد بن الصّمّة ، وكان شيخا كبير السّنّ ، مجرّبا ، له رأي وحكمة ، ونزلوا ب «أوطاس» «1» ، وللبعير رغاء ، وللحمير نهاق ، وللشاء ثغاء «2» ، وللصغار بكاء ، وقال مالك للناس : «إذا رأيتم المسلمين فاكسروا جفون سيوفكم «3» ، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد» «4».
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه ألفان من أهل مكّة ، ومنهم من هو حديث العهد بالإسلام ، ومنهم من لم يسلم ، وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة فبلغ عددهم إلى ما لم يبلغه في غزوة قبل ذلك ، حتى قال أناس من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلّة ، وأعجبتهم كثرة الناس «5».
واستعار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صفوان بن أميّة أدراعا وسلاحا - وهو مشرك - ومضى على وجهه يريد لقاء هوازن «6».
لا رجعة للوثنيّة :
(1/396)
قد خرج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حنين بعض حديثي العهد بالجاهليّة ، وكانت لبعض القبائل شجرة عظيمة خضراء ، يقال لها : «ذات أنواط»
___________
(1) أوطاس : واد في ديار هوازن عند الطائف كانت فيه وقعة حنين.
(2) [الرّغاء : صوت الإبل ، والنّهاق : صوت الحمار. والثّغاء : صياح الغنم ].
(3) [جفون السّيوف : أي أغمادها].
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 437 - 439.
(5) تفسير الطبري : ج 10 ، ص 62 - 63.
(6) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 440. [و أخرجه أبو داود في كتاب البيوع ، باب في تضمين العارية ، برقم (3562) ، وأحمد في المسند (3/ 401) وغيرهما من حديث صفوان بن أمية رضي اللّه عنه ].

(1/467)


ص : 468
يأتونها كلّ سنة ، فيعلّقون أسلحتهم عليها ، ويذبحون عندها ، ويعكفون عليها يوما.
وبينما هم يسيرون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ وقع بصرهم على الشجرة ، فتحلّبت أفواههم على أعياد الجاهليّة التي هجروها ، ومشاهدها التي طال عهدهم بها ، فقالوا : يا رسول اللّه! اجعل لنا «ذات أنواط» كما لهم «ذات أنواط» ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اللّه أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى : اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف : 138] ، لتركبنّ سنن من كان قبلكم» «1».
في وادي حنين :
واستقبل المسلمون وادي حنين ، وذلك في عاشر شوال ، سنة ثمان ، وهم ينحدرون فيه انحدارا في ظلام الصبح ، وكانت هوازن قد سبقتهم إلى الوادي ، وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه ومضايقه ، فما راع المسلمين إلّا أن رشقوهم بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد ، وكانوا قوما رماة «2».
وانشمر عامة المسلمين راجعين ، لا يلوي منهم أحد على أحد «3» ، وكانت فترة حاسمة ، يوشك أن تدور الدائرة على المسلمين ، فلا تقوم لهم
(1/397)
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 442 [أخرجه الترمذي في أبواب الفتن ، باب ما جاء «لتركبن سنن من كان قبلكم» برقم (2180) ، وأحمد في المسند (5/ 240) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 261) : رواه أحمد والطبراني ، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة وفيه ضعف ، وفي إسناد الطبراني يحيى بن عثمان عن أبي حازم ، ولم أعرفه ، وبقية رجالهم ثقات ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 442 - 443.
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 446.

(1/468)


ص : 469
قائمة بعد ذلك ، وكانت شبيهة بما وقع يوم أحد حين طار في الناس أن النّبي صلى اللّه عليه وسلم قد قتل ، وانحسر عنه المسلمون.
شماتة الأعداء وتزلزل ضعاف الإيمان :
ولمّا رأى من كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جفاة أهل مكّة ، والذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، هذه الهزيمة ، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن ، فقال بعضهم : «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر» ، وقال بعضهم :
«ألا بطل السحر اليوم» «1».
الفتح والسكينة :
ولمّا تمّ ما أراد اللّه من تأديب المسلمين الذين أعجبتهم الكثرة ، وأذاقهم اللّه مرارة الهزيمة بعد حلاوة الفتح ، ليقوّي إيمانهم ، فلا يبطرهم الفتح ، ولا تؤيسهم الهزيمة ، ردّ لهم الكرّة على الأعداء ، وأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقفا في موقفه ، على بغلته الشهباء ، غير وجل ولا هيّاب ، وقد بقي معه نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، والعباس بن عبد المطلب آخذ بحكمة بغلته ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : [من مجزوء الرجز]
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب «2»
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 442 - 444 مختصرا.
(1/398)
(2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] باب قول اللّه تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ برقم (4315)] وفيه أنّ أبا سفيان بن الحارث أخذ بغلته البيضاء. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة حنين ، [برقم (1776) ، والترمذي في أبواب الجهاد ، باب ما جاء في الثبات عند القتال ، برقم (1688) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنهما] ، وراجع للتفصيل «سيرة ابن هشام» (ج : 2/ ص 444 - 445).

(1/469)


ص : 470
ولمّا استقبلته كتائب المشركين ، أخذ قبضة من تراب ، ورمى بها إلى عيون الأعداء إلى البعد ، فملأت أعين القوم.
ولمّا رأى انشغال الناس بأنفسهم ، قال : «يا عباس! اصرخ يا معشر الأنصار! يا معشر أصحاب السمرة!» فأجابوا : لبّيك لبّيك ، وكان رجلا صيّتا ، فيؤمّ الرجل الصوت ويقتحم عن بعيره ، ويأخذ سيفه وترسه ، حتى ينتهي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتّى إذا اجتمع إليه منهم طائفة ، استقبلوا الناس ، فاقتتلوا.
وأشرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ركائبه ، فنظر إلى القوم يجتلدون ، فقال :
«الآن حمي الوطيس» «1» ، ثمّ أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حصيّات فرمى بهنّ وجوه الكفار ، يقول عباس : «فما زلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا» «2».
واجتلد الناس ، فما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم ، حتّى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3» ، وأنزل اللّه ملائكته بالنّصر ، فامتلأ بهم الوادي «4» ، وتمّت هزيمة هوازن ، وذلك قوله تعالى :
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
___________
(1/399)
(1) سيرة ابن هشام : (ج : 2 ، ص 445) : (استعرت الحرب) هذه من الكلم التي لم يسبق النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليها [و الوطيس : هو حجارة مدوّرة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها ، (النهاية : 5/ 204)].
(2) أخرجه مسلم [في كتاب الجهاد ، باب غزوة حنين ، برقم (1775) ، وأحمد في المسند (1/ 207) ، وعبد الرزاق في المصنّف ، برقم (9741) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 445.
(4) المصدر السابق : ج 2 ، ص 449 ، ورواه مسلم مطولا في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة حنين [برقم (1775)].

(1/470)


ص : 471
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة : 25 - 26].
آخر غزوة ضدّ الإسلام والمسلمين :
وبغزوة حنين طفئت جمرة العرب ، فقد استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلّت جمعهم ، فانشرحت صدورهم للدخول في الإسلام.
في أوطاس :
ولمّا تمّت الهزيمة لهوازن ، ذهبت فرقة منهم - فيهم الرئيس مالك بن عوف - فلجؤوا إلى الطائف ، فتحصّنوا بها ، وسارت فرقة فعسكروا ب «أوطاس» ، فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية من أصحابه ، عليهم أبو عامر الأشعريّ ، فقاتلوهم فغلبوهم «1».
وجمعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبايا حنين وأموالها ، فأمر بالسّبايا والأموال إلى «الجعرانة» «2» فحبست بها «3».
وكان السّبي ستّة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألفا ، والغنم أكثر
___________
(1/400)
(1) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 3 ، ص 640 [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة أوطاس ، برقم (4323) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه برقم (2498) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه ].
(2) يخفّف ويثقل ، تقع على الطريق الشمالي الشرقي من مكة إلى الطائف على مسافة أكثر من 20 كيلو مترا وهي خارج الحرم ، وقد أحرم منها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للعمرة ، وعليها كان يلتقي الطريقان من مكة والمدينة إلى الطائف في العهد النبوي (مقتبس من كتاب «الحج ومقامات الحج» للأستاذ محمد الرابع الحسني الندوي).
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 459.

(1/471)


ص : 472
من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضّة ، وكان أكبر مغنم غنمه المسلمون.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نهى أصحابه يوم حنين ، أن يقتلوا وليدا ، أو امرأة ، أو أجيرا ، أو عبدا مستعانا به ، وتأسّف على امرأة قتلت في حنين «1».
___________
(1) سيرة ابن كثير : ج 3 ، ص 638.

(1/472)


ص : 473
غزوة الطّائف شوّال سنة ثمان من الهجرة
فلول ثقيف :
وقدم فلّ «1» ثقيف الطائف ، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتها ، ورموا حصنهم ، وأدخلوا فيه ما يصلح لهم لسنة ، وأعدّوا للحرب عدّتها ، فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك في شوّال سنة ثمان إليهم ، ومضى حتّى نزل قريبا من الطائف ، ولم يقدروا على أن يدخلوه ، فقد أغلقوه دونهم ، ورمت ثقيف المسلمين بالنبل رميا شديدا ، كأنّه رجل «2» جراد ، وكانوا رماة.
حصار الطائف :
(1/401)
فنقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العسكر إلى مكان آخر ، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، وقاتلهم قتالا شديدا ، وتراموا بالنّبل ، واستخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا الحصار المنجنيق لأوّل مرّة ، واشتدّ الحصار ، وقتل رجال من المسلمين بالنبل «3».
___________
(1) [الفلّ : القوم المنهزمون ].
(2) [جماعة عظيمة من الجراد].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 478 - 483 باختصار ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 457 ملخصا.

(1/473)


ص : 474
الرحمة في ميدان الحرب :
ولمّا ضاق الحصار ، وطالت الحرب ، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف وهي مما يعتمدون عليها في معاشهم ، ووقع الناس فيها يقطعون ، فسألوه أن يدعها للّه ، وللرحم ، فقال : «فإنّي أدعها للّه والرحم».
ونادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» ، فخرج منهم بضعة عشر رجلا ، فيهم أبو بكرة ، فأعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ، فشقّ ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة «1».
رفع الحصار :
ولم يؤذن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في فتح الطائف ، فأمر عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه - فأذّن في الناس بالرّحيل ، فضجّ الناس من ذلك ، وقالوا :
نرحل ولم يفتح علينا الطائف ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «فاغدوا على القتال» فغدوا ، فأصابت المسلمين جراحات ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنا قافلون غدا إن شاء اللّه» فسرّوا بذلك ، وأظعنوا ، وجعلوا يرحلون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يضحك «2».
سبايا حنين ومغانمها :
ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «الجعرانة» فيمن معه من النّاس ، واستأنى بهوازن
___________
(1/402)
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 457 ، نقلا عن ابن إسحاق.
(2) والقصة في صحيح البخاري [في كتاب المغازي ] باب «غزوة الطائف» [رقم : 4325] وفي صحيح مسلم [في كتاب الجهاد] ، باب «غزوة الطائف» [رقم (1778) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما].

(1/474)


ص : 475
أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة ، ثمّ بدأ بالأموال فقسّمها ، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول النّاس ، وأجزل لأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية ، وأعطى حكيم بن حزام ، والنّضر بن الحارث ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، وغيرهم من أشراف قريش ، فأكثر وأجزل ، ثمّ أمر بإحضار الغنائم والناس ، ففرضها عليهم «1».
حبّ الأنصار وإيثارهم :
وتقاول شباب من الأنصار في هذا الفرض الذي كان لأشراف قريش ، ولمؤلّفة القلوب النصيب الأكبر فيه ، ولم يكن للأنصار إلا نصيب ضئيل.
فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأنصار ، فجمعوا في حظيرة ، فخطب خطبة عظيمة مسّت قلوبهم ، ففاضت لها عيونهم ، وثار فيهم الحبّ والحنان ، قال فيها :
«ألم آتكم ضلّالا ، فهداكم اللّه بي ، وعالة فأغناكم اللّه بي ، وأعداء فألّف اللّه بين قلوبكم ؟!».
قالوا : اللّه ورسوله أمنّ وأفضل.
ولمّا سكتوا قال : «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟»
قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه! للّه ولرسوله المنّ والفضل.
قال : «أما واللّه لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ، ولصدّقتم : أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فاويناك ، وعائلا فواسيناك».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 448 ، باختصار [و أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام .. ، برقم (1060)].

(1/475)


ص : 476
ثمّ انعطف عليهم بكلمة فيها الثقة ، وفيها العدالة ، وفيها حكمة هذا التفاوت في الفرض والعطاء ، فقال :
(1/403)
«أوجدتم عليّ يا معشر الأنصار في أنفسكم ، في لعاعة «1» من الدّنيا ، تألّفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم».
ثم قال كلمة لم يتمالكوا أمامها ، فانفجر الإيمان والحنان في نفوسهم ، وتدفّق ، قال :
«ألا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب النّاس بالشّاء والبعير ، وترجعون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده ، لمّا تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به ، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك النّاس شعبا وواديا ، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها ، الأنصار شعار ، والناس دثار ، اللّهمّ ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار».
وبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : «رضينا برسول اللّه قسما وحظّا» «2» «3».
___________
(1) لعاعة : بقلة خضراء وناعمة ، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها [و منه «ما بقي في الإناء إلّا لعاعة» والمعنى بقية يسيرة].
(2) أصل الرواية في الصحيحين ، وساقه ابن القيم في «زاد المعاد» أجمع وأشمل الطرق فاعتمدنا عليه ، راجع الجامع الصحيح للبخاري ، [كتاب المغازي ] باب «غزوة الطائف» [رقم الحديث (4330) ، و«صحيح مسلم» كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام .. ، برقم (1061) ، و«مسند الإمام أحمد» (4/ 24) ، من حديث عبد اللّه بن زيد رضي اللّه عنه ، وأخرجه أحمد أيضا (3/ 76) ، وابن هشام في السيرة (2/ 498 - 499) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه ].
(3) [و في الحقّ أنّ هذه الخطبة فريدة في لغات العالم ، وإنها كما قال مولانا الداعية المجدّد أبو الحسن علي الحسني الندوي حين اطّلع على شرحي لهذه الخطبة فقال : إنّي أحسن ستّ -

(1/476)


ص : 477
ردّ السبايا على هوازن :
(1/404)
وقدم وفد هوازن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا ، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسبي والأموال ، فقال : «إنّ معي من ترون ، وإنّ أحبّ الحديث إليّ أصدقه ، فأبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم ؟».
قالوا : ما كنّا نعدل بالأبناء والنساء شيئا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «إذا صلّيت الغداة فقوموا وقولوا : إنا نستشفع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المؤمنين ، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يردّ علينا سبينا» فلمّا صلّى الغداة ، قاموا ، فقالوا ذلك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وسأسأل لكم الناس» فقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وأبى ثلاثة من بني تميم ، وبني فزارة ، وبني سليم ، أن يتنازلوا عن سبيهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين ، وقد كنت استأنيت بهم ، وقد خيّرتهم ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا ، فمن كان عنده منهنّ شيء ، فطابت نفسه بأن يردّه ، فسبيل ذلك ، ومن أحبّ أن يستمسك بحقّه ، فليردّ عليهم ، وله بكلّ فريضة ستّ فرائض ، من أوّل ما يفيء اللّه علينا».
فقال الناس : قد طيّبنا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : «إنا لا نعرف من رضي منكم ممّن لم يرض ، فارجعوا ، حتّى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» ، فردّوا
___________
- لغات عالمية ، لا أعرف فيها مثل هذه الخطبة ، وإنها لمن دلائل نبوّته صلى اللّه عليه وسلم (الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في كتابه «في ظلال الحديث النبوي ..» ص 336)].

(1/477)


ص : 478
عليهم نساءهم وأبناءهم ، ولم يتخلف منهم أحد ، وكسا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السبي قبطيّة قبطيّة» «1» «2».
رقّة وكرم :
(1/405)
وكان المسلمون قد ساقوا فيمن ساقوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشّيماء بنت حليمة السعدية ، أخت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الرّضاعة ، وعنّفوا عليها في السّوق ، وهم لا يدرون ، فقالت للمسلمين : تعلمون واللّه أنّي أخت صاحبكم من الرضاعة ، فلم يصدّقوها حتّى أتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولما انتهت الشّيماء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت : يا رسول اللّه! إنّي أختك من الرّضاعة ، قال : ما علامة ذلك ؟ قالت : عضّة عضضتنيها في ظهري ، وأنا متورّكتك «3» ، وعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العلامة ، وبسط لها رداءه ، وأجلسها عليه ، وخيّرها ، وقال : «إن أحببت الإقامة فعندي محببة ومكرّمة ، وإن أحببت أن أمتّعك وترجعي إلى قومك فعلت» ، فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي «4».
___________
(1) [القبطيّة : الثّوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء ، وكأنّه منسوب إلى القبط ، هم أهل مصر وضمّ القاف من تغيير النّسب ، وهذا في الثياب ، فأمّا في الناس فقبطيّ ، بالكسر (النهاية : 4/ 6)].
(2) زاد المعاد ، ج 1 ، ص 449 ، وروى البخاري القصة [في كتاب المغازي ] ، في باب قوله تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ ... إلخ باختلاف بعض الألفاظ [برقم (4318) و(4319) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في فداء الأسير بالمال ، برقم (2693) ، وأحمد في المسند (4/ 326) من حديث عروة بن الزبير].
(3) يعني : حاملتك على وركي.
(4) السيرة النبوية : لابن كثير : ج 3 ، ص 689.

(1/478)


ص : 479
ومتّعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلمت ، وأعطاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء «1».
عمرة الجعرانة :
(1/406)
ولمّا انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة حنين ، وقسّمت السبايا والمغانم في الجعرانة ، وهي على مرحلة من مكّة وميقات أهل الطائف ، أحرم منها للعمرة ، واعتمر وانصرف راجعا إلى المدينة «2» ، وذلك في شهر ذي القعدة «3» ، سنة ثمان.
طائعون لا كارهون :
ولمّا ارتحل المسلمون من الطائف ، واستقبلوا المدينة ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «قولوا آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربّنا حامدون».
قيل : يا رسول اللّه! ادع اللّه على ثقيف.
قال : «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم».
ولحق عروة بن مسعود الثقفيّ ، وأدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يدخل المدينة ، فأسلم ورجع يدعو قومه إلى الإسلام ، وكان محبّبا إليهم ، صاحب منزلة فيهم ، فلمّا دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه ، رموه بالنّبل ، فقتل شهيدا.
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 449.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 500.
(3) أخرجه البخاري ، [في كتاب المغازي ] باب «غزوة الحديبية» [برقم (4148) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب بيان عدد عمر النبي صلى اللّه عليه وسلم .. ، برقم (1253) ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب العمرة ، برقم (1994) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].

(1/479)


ص : 480
وأقامت ثقيف بعد قتله أشهرا ، ثمّ ائتمروا بينهم ، ورأوا أنّه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا ، فأرسلوا وفدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
لا هوادة مع الوثنية :
وقدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وضرب عليهم قبة في ناحية مسجده ، وأسلموا.
(1/407)
وسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدع لهم «اللّات» لا يهدمها ثلاث سنين ، فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليهم وما برحوا يسألونه سنة سنة ، ويأبى عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى سألوا شهرا واحدا بعد قدومهم ، فأبى عليهم إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة - وهو من قومهم - يهدمانها.
وسألوه أن يعفيهم من الصلاة ، فقال : «لا خير في دين لا صلاة فيه».
ولمّا فرغوا من أمرهم وتوجّهوا إلى بلادهم راجعين ، بعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ، فهدمها المغيرة ، وانتشر الإسلام في ثقيف ، حتى أسلم أهل الطائف عن آخرهم «1».
إسلام كعب بن زهير :
لمّا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الطائف ، جاءه كعب بن زهير - الشاعر بن الشاعر - وكان قد هجا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمّ ضاقت به الأرض ، وضاقت عليه نفسه ، وحثّه أخوه «بجير» على أن يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تائبا مسلما ، وحذّره من سوء العاقبة إن لم يفعل ذلك ، فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتي اشتهرت ب «قصيدة بانت سعاد».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 458 - 459 ملخصا.

(1/480)


ص : 481
فقدم المدينة ، وغدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين صلّى الصبح ، ثمّ جلس إليه ، فوضع يده في يده ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعرفه ، فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنّ كعب بن زهير جاء يستأمنك تائبا مسلما ، فهل أنت قابل منه ؟ فوثب عليه رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول اللّه دعني وعدوّ اللّه أضرب عنقه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «دعه عنك» فقد جاء تائبا نازعا ، وأنشد كعب قصيدته اللامية التي أولها : [من البسيط]
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول
(1/408)
وقال مادحا فيها :
إنّ الرّسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف اللّه مسلول
فخلع عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بردته «1».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 466 - 468. قال القسطلاني في «المواهب» ( : ج 3 ، ص 70) في رواية أبي بكر بن الأنباري أنه لمّا وصل إلى قوله : [من البسيط]
إنّ الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف اللّه مسلول
رمى عليه الصلاة والسلام بردة كانت عليه ، وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف ، فقال : ما كنت لأوثر بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحدا ، فلما مات كعب ، بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم ، قال : وهي البردة التي عند السلاطين.

(1/481)


ص : 482
خريطة غزوة العسرة رجب 9 هجرية

(1/482)


ص : 483
غزوة تبوك «1» رجب سنة تسع من الهجرة
أثر غزوة تبوك النفسيّ وسببها :
كانت غزوة تبوك نظير فتح مكّة في قذف الرّعب في قلوب الأعداء ، ورفع الغشاوة عن عيون كثير من الذين كانوا يعتقدون أنّ الإسلام سراج يلتهب ثمّ ينطفىء ، أو سحابة صيف عن قليل تنقشع ، وكانت هذه الغزوة احتكاكا بأعظم قوّة وأكبر دولة في العصر ، وكانت عظيمة الشوكة ، مرهوبة الجانب في نظر العرب.
وقد قال أبو سفيان حين رأى اهتمام هرقل - الإمبراطور الروميّ - بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكلبيّ ، وحسابه لظهور النبيّ في جزيرة العرب : «لقد أمر «2» أمر ابن أبي كبشة ، إنه يخافه ملك بني الأصفر ، فما
___________
(1/409)
(1) موضع من بلاد العرب بين المدينة المنورة ودمشق على نصف الطريق ، واقع إلى الجنوب الشرقي من أيلة ، وفي معجم البلدان لياقوت عن أبي زيد : «تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر ، ويقال : إن أصحاب الأيكة الذي بعث إليهم شعيب كانوا هناك» انتهى. وتبوك على ست مراحل من بحر القلزم بين جبلي حسمى وشروى ، (ملخصا من دائرة المعارف للبستاني) وهي الآن ثكنة تابعة لإمارة المدينة في المملكة العربية السعودية ، على بعد 760 كيلو مترا تقريبا من المدينة المنورة.
(2) [أمر الأمر : أي اشتدّ].

(1/483)


ص : 484
زلت موقنا أنّه سيظهر ، حتى أدخل اللّه عليّ الإسلام» «1».
وكان العرب لا يحلمون بغزو الروم والزّحف عليهم ، بل كانوا يخافون أن يغزوهم في عقر دارهم ، بل كانوا يرون أنفسهم أصغر من ذلك ، وكان المسلمون في المدينة إذا حزبهم أمر ، أو دهمهم خطر ، ابتدرت أذهانهم إلى هجوم غسان وغزوهم ، وهم تبع لقيصر ملك الروم وعماله.
جاء في قصّة الإيلاء التي وقعت سنة ثمان ، يقول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه - : «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر ، وإذا غاب كنت آتيه بالخبر ، ونحن حينئذ نتخوّف ملكا من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا ، فقد امتلأت صدورنا منه ، فأتى صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب ، وقال : افتح افتح ، فقلت : جاء الغسّانيّ ؟!» «2».
وقد كانت الدولة الروميّة في أوجها ، وقد دحرت جيوشها في قيادة هرقل جيوش إيران وأوغلت في ديارها ، وهزمتها هزيمة منكرة ، ومشى هرقل من حمص إلى «إيلياء» في موكب الملك المنتصر ، والقائد المظفّر شكرا «3» على هذا الانتصار الرائع ، وذلك سنة سبع للهجرة ، يحمل الصليب الذي استردّه من الفرس ، وقد بسطت له البسط ، ووزّعت عليه الرياحين ، فمشى
___________
(1/410)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب كيف كان بدء الوحي ، برقم (7) ، من حديث عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما عن أبي سفيان ].
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة التحريم ، باب : تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ .. ، برقم (4913) ، ومسلم في كتاب الطلاق [باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخيرهنّ ، برقم (1479) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(3) صحيح مسلم (كتاب الجهاد والسير) ، باب «كتاب النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام» [برقم (1773) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن أبي سفيان ].

(1/484)


ص : 485
عليها «1» ، فما مضى على هذا الانتصار الرائع عامان ، حتّى خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة يريد الروم.
وقد مهّد اللّه بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب ، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، وكان ذلك سندا له.
ويقال في سبب هذه الغزوة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتصل به نبأ تهيّؤ الروم لغزو حدود العرب الشمالية ، قال ابن سعد وشيخه الواقديّ : «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلغه من الأنباط أنّ هرقل رزق أصحابه لسنة وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من متنصّرة العرب ، وجاءت مقدّمتهم إلى البلقاء» «2».
(1/411)
وسواء صحّت هذه الرواية أو لم تصحّ ، فقد كانت الغاية في الحقيقة من هذه الغزوة إرهاب الدولة المجاورة ، التي كانت تخاف معرّتها على مركز الإسلام والمسلمين ، وعلى الدعوة الإسلاميّة الزاحفة وقوّتها الناشئة ، ومنعها من أن تطمع في غزو المسلمين في عقر دارهم ، وأن تعتبرهم مالا سائبا أو لقمة سائغة ، فمن كان هذا شأنه لا يتقدّم بجيوشه إلى هذه الإمبراطورية العظيمة ، ويدخل في حدودها متحدّيا متهدّدا ، وتلك هي الحكمة التي ذكرها القرآن في سياق الآيات التي نزلت في غزوة تبوك ، وقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة : 123].
وقد تحقّقت هذه الغاية ، فلم يقابل الروم هذا الزحف بزحف مقابل ، وبتحرّكات عسكرية ، بل كان هنالك نوع انسحاب مقابل هذا التحدّي السافر ، وصاروا يحسبون لهذه القوّة الناشئة حسابا لم يحسبوه من قبل.
___________
(1) فتح الباري : ج 1 ، ص 31.
(2) الزرقاني على المواهب : ج 2 ، ص 63 - 64.

(1/485)


ص : 486
والحكمة الثانية في هذه الغزوة الجريئة ، بل في هذه المغامرة الخطرة ، هي إدخال الرّعب في قلوب القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام في جزيرة العرب ، والقبائل العربيّة المنتصرة الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الرومانية ، والتابعة لها ، وإتاحة الفرصة لها للتفكير في أهميّة الدّين الإسلاميّ جدّيا ، وأنّه ليس من الفقاقيع والنفاخات التي تعلو سطح الماء ثمّ تغيب ، وأنّ له مستقبلا زاهرا ، لعلّ ذلك يفتح لها الطريق في الدخول في الإسلام ، الذي ظهر في أرضهم وبلادهم ، وذلك ما أشار إليه القرآن بقوله في الذين خرجوا في هذه الغزوة :
(1/412)
وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ [التوبة : 120].
وقد كان الروم لا يزالون يذكرون غزوة مؤتة التي لم يقضوا منها حاجة في نفوسهم ولم يشفوها ، وقد أسفرت عن انسحاب كلّ فريق راضيا من الغنيمة بالإياب ، وقد أضعفت رهبة الدولة البيزنطيّة وجيوشها الجرارة في نفوس العرب.
وبالجملة فقد كانت لهذه الغزوة أهميّة كبيرة في السيرة النبوية وتاريخ الدعوة الإسلامية ، وتحقّقت منها غايات كانت بعيدة الأثر في نفوس المسلمين والعرب ، ومجرى الحوادث في تاريخ الإسلام.
زمن الغزوة :
وكانت هذه الغزوة في رجب سنة تسع «1» ، غزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حرّ
___________
(1) إنّه من الصعب تحديد زمن غزوة تبوك ؛ طبق التقويم الشمسي الميلادي ، وتعيين الشهر الإفرنجي الذي كان فيه الخروج من المدينة إلى تبوك ، وقد جعل بعض مؤلفي السيرة شهر -

(1/486)


ص : 487
شديد حين طابت الثّمار والظّلال واستقبل سفرا بعيدا ومفازة «1» وعدوا كثيرا ، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد «2» ، وكان الزمن زمن عسرة الناس وجدب البلاد.
وتعلّل المنافقون بعلل ، وكرهوا الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إشفاقا من العدوّ القويّ القاهر ، وفرارا من الحرّ الشديد ، زهادة في الجهاد ، وشكّا في الحقّ ، في ذلك يقول اللّه تعالى :
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ
___________
(1/413)
- نوفمبر مقابل رجب سنة 9 ه ، منهم العلامة شبلي النّعماني في كتابه الشهير «سيرة النبي» ، ولكنّ الشواهد الداخلية ، والتصريحات التي جاءت في نص الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب الصحاح والسنن ، تحتّم أن تكون هذه الغزوة قد وقعت في زمن الصيف ، لقد جاء في صلب الحديث على لسان كعب بن مالك : «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزاها في حرّ شديد حين طابت الثمار والظلال» فليكن ذلك هو الميزان والحاكم في تحديد زمن هذه الغزوة ، وكل ما لا يتفق معه لا يعول عليه. وفي روآية موسى بن عاقبة عن ابن شهاب : «في قيظ شديد في ليالي الخريف والناس خارفون في نخيلهم ، وأكثر من ذلك قول المنافقين الذي نقله القرآن في سورة آل توبة ، ثم رده عليهم ، فقال : وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة : 81]» [فتح الباري : 8/ 118]. وشهر نوفمبر في المدينة والحجاز ، مبدأ الشتاء ، وتطبيق التقويمين الشمسي والميلادي ، والهلالي الهجري ، من الأمور الصعبة ، وقد كثر فيه الاضطراب لاختلاف أهل السير في مبدأ التقويم الهجري ، هل كان من ربيع الأول أو من المحرم. وقد توصّل الأستاذ إسحاق الرّامفوري بعد استعراض طويل للحوادث والغزوات ، وتطبيق بين التقويمين ، أنّه كان شهر أبريل (نيسان) ولا يبعد عن الصواب ، لأنه مبدأ الصيف في المدينة ، إلا أنه ذكر أنه كان ذلك في سنة 630 م ، والعلامة شبلي النعماني عيّنها بسنة 635 م ، واللّه أعلم.
(1) مفازة : فلاة لا ماء فيها.
(2) مقتبس من حديث كعب بن مالك رضي اللّه عنه الذي رواه الشيخان [انظر تخريجه في صفحة 492].

(1/487)


ص : 488
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة : 81].
تنافس الصحابة في الجهاد والمسير :
(1/414)
وجدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفره ، وأمر الناس بالجهاز ، وحضّ أهل الغنى على النفقة في سبيل اللّه ، فحمل رجال من أهل الغنى ، واحتسبوا ، وجهّز عثمان بن عفّان جيش العسرة ، وأنفق ألف دينار ، ودعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1» ، واستحمل «2» رجال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا أهل حاجة ، فاعتذر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعدم وجود الظهر ، فاشتدّ حزنهم على ذلك ، وأسقط اللّه عنهم الحرج ، يقول اللّه تعالى :
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [التوبة : 92].
وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النيّة ، حين تخلّفوا عن هذه الغزوة من غير شكّ ولا ارتياب.
مسير الجيش إلى تبوك :
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ثلاثين ألفا من الناس من المدينة إلى تبوك ، وكان أكبر جيش خرج به في غزوة ، وضرب عسكره على ثنيّة الوداع ، واستعمل
___________
(1) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب [في عد عثمان تسميته شهيدا ، .. ، برقم (3701) ، وقال : حسن غريب ، وأحمد في المسند (5/ 63) بإسناد حسن من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي اللّه عنه ].
(2) [استحمل ، أي : طلب راحلة تحمله إلى المعركة].

(1/488)


ص : 489
على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاريّ ، وخلف على أهله عليّ بن أبي طالب ، وقال له حين شكا إليه إرجاف المنافقين وقالتهم : «أفلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي» «1».
ونزل ب «الحجر» ديار ثمود ، وأخبرهم بأنّها ديار المعذّبين ، وقال :
(1/415)
«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «2» وقال : «لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضّؤوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا».
وأصبح الناس ولا ماء لهم ، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا ، فأرسل اللّه سبحانه سحابة ، فأمطرت حتّى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء «3».
تخوّف العرب من الرّوم :
وكان رهط من المنافقين يشيرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فيقول بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ واللّه لكأنّا بكم غدا مقرّنين بالحبال «4».
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة تبوك .. ، برقم (4416) ، وأحمد في المسند (1/ 182) من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي اللّه عنه ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ص 403 ، وسيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 522 ، ومعناه في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب قوله «و لقد كذب أصحاب الحجر» ، برقم (4702) ومسلم في الزهد ، باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلّا من يدخل باكيا ، برقم (2980) ، من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 522 [أخرج الطبراني هذه الحادثة في «المعجم الأوسط» ، وقال الهيثمي (6/ 194 - 195) : رواه البزّار والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار ثقات ].
(4) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 524 - 526.

(1/489)


ص : 490
الصلح بين الرسول وأصحاب أيلة :
(1/416)
ولمّا انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك أتاه يوحنّا بن رؤبة صاحب أيلة - وهو أحد الأمراء المقيمين بالحدود - فصالح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل «جرباء» ، و«أذرح» «1» وكتب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاب أمن ، كان فيه كفالة الحدود وتأمين المياه ، والطّرق البرية والبحرية ، والضمان لسلامة الفريقين ، وأكرمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2».
عودة الرسول إلى المدينة :
وهنا بلغ خبر انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود ، فلم ير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محلا لتتبّعهم داخل بلادهم ، وقد تحقّق الغرض.
وكان أكيدر بن عبد الملك الكنديّ النصرانيّ أمير دومة «3» ، وكان ردءا لجيوش الروم ، إذ جاءت من ناحيته ، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه خالد بن الوليد في خمسمئة فارس ، وأسر خالد أكيدر ، وبعث به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية ، وخلّى سبيله «4».
___________
(1) [جرباء وأذرح : هما قريتان بالشّام ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 525 - 526.
(3) دومة الجندل : كانت قرية عامرة ، يقصدها الأعراب للبيع والشراء ، كانت قد خربت على مر الزمن ، فنزل بها «أكيدر» فأعاد إليها رواءها ، وغرس الزيتون بها ، فتوافد إليها الأعراب ، يحميها سور قديم ، وفي داخل السور حصن منيع ، اشتهر بين أعراب الشمال ، بذلك اكتسبت المدينة أهمية استراتيجية ، وكان أكثر سكانها من كلب ، وكان «أكيدر» يلقب نفسه بلقب الملك ، على عادة ذلك الوقت ، وكان أهل دومة على النصرانية في ذلك الحين. (راجع «تاريخ العرب قبل الإسلام»).
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 526.

(1/490)


ص : 491
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ب «تبوك» بضع عشرة ليلة ، ثمّ انصرف قافلا إلى المدينة «1».
(1/417)
في جنازة مسلم مسكين :
ومات عبد اللّه ذو البجادين في «تبوك» ، وكان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ، ويضيّقون عليه ، حتّى تركوه في بجاد «2» ليس عليه غيره ، فهرب منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلمّا كان قريبا منه ، شقّ بجاده باثنين ، فاتّزر بواحد ، واشتمل عليه ، ثمّ أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل له : «ذو البجادين» ، ولمّا مات في تبوك شيّعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر في ظلام الليل ، وفي يد بعضهم مشعل ، يسيرون في ضوئه ، وقد حفروا له ، ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حفرته ، وأبو بكر وعمر يدلّيانه إليه ، وهو يقول : «أدنيا إليّ أخاكما» فدلّياه إليه ، فلمّا هيّأه لشقه ، قال : «اللهم! إنّي أمسيت راضيا عنه ، فارض عنه» ، قال عبد اللّه بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة «3».
ابتلاء كعب بن مالك ونجاحه فيه :
وكان من بين من تخلّف عن هذه الغزوة من غير شكّ ولا ارتياب ، كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة ، وكانوا من السابقين الأولين ، ولهم حسن بلاء في الإسلام ، وكان مرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة ممن شهد بدرا ، ولم يكن التخلف عن الغزوات من خلقهم وعادتهم ،
___________
(1) المصدر السابق : ج 2 ، ص 527.
(2) [البجاد ، وجمعه البجد : هو الكساء الغليظ ، ومنه تسمية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن عبد نهم ذا البجادين ، لأنّه حين أراد المصير إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطعت أمّه بجادا لها قطعتين فارتدى بإحداهما وائتزر بالآخرى (النهاية : 1/ 96)].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 527 - 528.

(1/491)


ص : 492
(1/418)
ولم يكن ذلك إلّا من حكمة إلهيّة ، وتمحيصا لأنفسهم ، وتربية للمسلمين ، وإنّما هو التسويف ، وضعف الإرادة ، والاعتماد الزائد على الوسائل الموجودة وعدم الجدّ والإسراع في الأمر ، وكم جنى ذلك على أناس لم يكونوا أقلّ من إخوانهم إيمانا وحبا للّه ولرسوله ، وذلك ما عبّر عنه ثالث ثلاثتهم كعب بن مالك بقوله :
«فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم ، فأرجع ولم أقض شيئا .. فأقول في نفسي ، أنا قادر عليه ، ولم يزل يتمادى بي ، حتّى اشتدّ الجدّ ، فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهّز بعده بيوم أو يومين ، ثمّ ألحقهم ، فغدوت - بعد أن فصلوا - لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا ، ثمّ غدوت فرجعت فلم أقض شيئا.
فلم يزل بي حتّى أسرعوا ، وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدّر لي ذلك» «1».
وقد امتحن اللّه إيمان هؤلاء الثلاثة ، ومدى حبّهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم ووفائهم للإسلام ، والبقاء عليه في السرّاء والضرّاء ، وإكرام الناس وجفوتهم ، وفي حال إقبال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإعراضه امتحانا قلّ نظيره في تاريخ المجتمعات
___________
(1) أخرجه البخاري ، في كتاب المغازي [باب حديث كعب بن مالك ... ، برقم (4418) ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك ، برقم (2769) ، وأبو داود في كتاب الإيمان والنذور ، باب فيمن نذر أن يتصدّق بماله ، برقم (3321) ، والنّسائي في الطلاق ، باب الحقي بأهلك .. ، برقم (3451) و(3452) ، وعبد الرزاق في المصنّف ، برقم (9744) ، وابن أبي شيبة في المصنّف ، برقم (18853) ، وابن هشام في السيرة (2/ 531) ، وابن جرير في التفسير (11/ 58) ، وابن كثير في السيرة (4/ 42 - 48) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 273 - 279) وغيرهم من حديث كعب بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1/419)

(1/492)


ص : 493
البشريّة التي تقوم على أساس الإيمان والعقيدة والحبّ والعاطفة.
وقد صدقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين كذب الناس ، وشهدوا على أنفسهم ، حين برّأها المنافقون.
يقول كعب بن مالك في حديثه البليغ الطويل :
«جاءه المخلّفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم ، وبايعهم واستغفر لهم ، ووكّل سرائرهم إلى اللّه ، فجئته وسلّمت عليه ، فلمّا سلّمت عليه ، تبسّم تبسّم المغضب ، ثمّ قال : تعال ، فجئت أمشي ، حتّى جلست بين يديه فقال لي : ما خلّفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك.
فقلت : بلى واللّه ؟ إنّي واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا ، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكنّي واللّه لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ، ليوشكنّ اللّه أن يسخطك عليّ ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه ، إنّي لأرجو فيه عفو اللّه ، واللّه ما كان لي من عذر ، لا واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك».
وجاءت الساعة الرهيبة ، فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامهم ، وما كان من المسلمين إلا السّمع والطاعة ، فاجتنبهم الناس وتغيّروا لهم ، حتّى تنكّرت في نفوسهم الأرض ، فما هي التي يعرفونها ، ولبثوا على ذلك خمسين ليلة ، فأمّا مرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة ، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأمّا كعب بن مالك ، فكان أشبّ الثلاثة وأجلدهم ، وكان يخرج فيشهد الصلاة مع المسلمين ، ويطوف في الأسواق ، ولا يكلّمه أحد «1».
___________
(1) مقتبس من حديث كعب بن مالك نصه وهو يصور الحال ويذكر القصة [قد سبق تخريجه قبل -

(1/493)


ص : 494
(1/420)
وكلّ ذلك لم يؤثّر في رابطة الحبّ والولاء ، التي كانت تربطه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يؤثّر كذلك في عطف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه ورأفته به ، بل لم يزده هذا العتاب إلّا رسوخا في المحبة ، ولوعة ، وجوى ، يقول :
«و آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلّم عليه ، وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بردّ السّلام أم لا ؟ ثمّ أصلّي قريبا منه ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليّ ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي».
فتنكّرت له الدّنيا وأعرض عنه من كانت له دالّة عليه ، يقول : «حتّى إذا طال عليّ ذلك من جفوة النّاس ، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ ، فسلّمت عليه ، فو اللّه ما ردّ عليّ السلام ، فقلت : يا أبا قتادة! أنشدك باللّه هل تعلمني أحبّ اللّه ورسوله ؟ فسكت فعدت له ، فنشدته ، فسكت ، فقال : اللّه ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار» «1».
ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل تعدّى إلى أزواج هؤلاء الثلاثة ، فأمروا أن يعتزلوهنّ ، ففعلوا.
وجاءت أدقّ مرحلة من مراحل هذا الامتحان للحبّ والوفاء ، والثبات والاستقامة ، وذلك حين خطب ودّه ملك غسان ، الذي كانت منادمته وحضور مجلسه شرفا يتنافس فيه المتنافسون ، ويتغنّى به شعراء العرب سنين طوالا «2» ، فجاءه - وهو في ضيق النفس ، وجفوة النّاس ، وإعراض
___________
- قليل ].
(1) حديث كعب بن مالك في صحيح البخاري [قد سبق تخريجه قبل قليل في صفحة (492)].
(2) اقرأ قصيدة حسان بن ثابت الأنصاري في مدح آل جفنة ، يقول فيها : [من الكامل ]
للّه درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل
-

(1/494)


ص : 495
(1/421)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه - رسول ملك غسان ، فيدفع إليه كتابا منه يقول فيه : «إنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ، ولا مضيعة فالحق بنا نواسك» ، فتثور في كعب الغيرة ، ويهيج الحنان ، فيقصد تنّورا ، ويرمي هذا الكتاب فيه.
ولمّا تمّ ما أراده اللّه من تمحيص هؤلاء الثلاثة المؤمنين وتخليد ذكرهم في القرآن ، ودرسهم للمسلمين إلى آخر الأبد ، وإقامة برهان على قوة إيمان وحسن إسلام ، وقد ضاقت عليهم أنفسهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، أفرج عنهم ، وأنزل توبتهم من فوق سبع سموات.
ولم يفردهم بالتوبة حتّى يشعروا بغربتهم وبكونهم شامة بين الناس ، بل مهّد لتوبتهم التوبة على سيد الأنبياء والمهاجرين والأنصار الذين لم يتخلّفوا ، تكريما لهم ، وجبرا لخواطرهم ، ورفعا لمكانتهم ، فقال :
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة : 117 - 118].
نظرة على الغزوات :
وبغزوة تبوك التي كانت في رجب سنة تسع للهجرة انتهت الغزوات النبويّة ، التي بلغ عددها سبعا وعشرين غزوة «1» ، والبعوث والسّرايا التي بلغ
___________
-
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل
(1) على تحقيق ابن القيم في «زاد المعاد» ومن رأي اللّواء الركن محمود شيت خطّاب وتحقيقه -
(1/422)

(1/495)


ص : 496
عددها ستين «1» ، ولم يكن في كلّها قتال.
وقد أريق في جميع هذه الغزوات والسّرايا التي بعثها النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم أقلّ دم عرف في تاريخ الحروب والغزوات ، فلم تتجاوز القتلى كلّها 1018 قتيلا من الفريقين ، وكانت حاقنة لدماء لا يعلم عددها إلّا اللّه ، عاصمة لنفوس وأعراض لا يحصيها إحصاء ، باسطة الأمن في أرجاء الجزيرة حتّى استطاعت الظّعينة «2» أن ترتحل من الحيرة «3» حتّى تطوف بالكعبة ، ولا تخاف أحدا إلّا اللّه «4» ، والمرأة من القادسيّة على بعيرها حتّى تزور البيت لا تخاف «5» بعد ما كانت الجزيرة كلّها كفّة حابل ، وشبكة دقيقة من ترات وثارات ، وحروب وغارات ، لا تمشي فيها قوافل الحكومات الكبيرة إلا بخفارة ساهرة ، وبذرقة «6» ماهرة.
وكانت هذه الحروب مؤسّسة على الأصلين القرآنيين الحكيمين :
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة : 191] ، ووَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي
___________
- أنّ عددها يبلغ ثمانيا وعشرين (28) غزوة (بحث تاريخ جيش النّبي صلى اللّه عليه وسلم).
(1) كما حقّقها مؤلف السيرة الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في الجزء الثاني من كتابه : «رحمة للعالمين» ، وهو مبنيّ على استقراء دقيق [انظر هذا التحقيق النفيس في ترجمته العربية بعنوان «نظرة تحليلية على هذه الغزوات والسرايا» ، في صفحة (457 - 470)].
(2) [الظّعينة : هي الراحلة التي يرحل ويظعن عليها ، أي يسار ، وقيل للمرأة ظعينة ، لأنها تظعن مع الزّوج حيثما ظعن ، أو لأنّها تحمل على الرّاحلة إذا ظعنت ، وقيل : الظعينة : المرأة في الهودج ، ثم قيل للهودج بلا امرأت وللمرأة بلا هودج : ظعينة (النهاية : 3/ 157)].
(3) [الحيرة : بلد بالعراق خربت (مقدمة فتح الباري : 1/ 109)].
(1/423)
(4) أخرجه البخاري ، [في كتاب المناقب ] باب «علامات النبوة» برقم (3595) من حديث عدي بن حاتم رضي اللّه عنه ].
(5) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 581.
(6) البذرقة - بالذال المعجمة والمهملة - : الخفارة (القاموس).

(1/496)


ص : 497
الْأَلْبابِ [البقرة : 179] ، موفّرة على النوع الإنسانيّ والمجتمع البشريّ قدرا كبيرا من الوقت والجهد في تغيير الأحوال ودرء الأخطار ، وكانت خاضعة لآداب خلقية وتعليمات رحيمة جعلتها أشبه بعملية التأديب منها بعملية التعذيب.
أمّا بالنسبة إلى نجاح العمليّة وسرعتها فقد استمرّ التوسّع بنسبة 274 ميلا مربعا في ظرف عشر سنوات ، ولم يخسر المسلمون فيها إلا بنسبة شخص واحد في الشّهر ، وكان أقصى خسائر العدوّ في النفوس 150 شخصا ، فلمّا اكتملت السنوات العشر خضع أكثر من مليون ميل مربع للحكم الإسلاميّ «1».
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ودّع جيشا ، قال :
«أوصيكم بتقوى اللّه ، وبمن معكم من المسلمين خيرا ، اغزوا باسم اللّه ، في سبيل اللّه من كفر باللّه ، ولا تغدروا ، ولا تغلّوا ، ولا تقتلوا وليدا
___________
(1/424)
(1) مستفاد من كتاب «حديث دفاع» للواء محمد أكبر خان ، ص 272. [انظروا إلى مدى نجاح الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فقد ضحى بثمانية عشر وألف رجل فقط لتحقيق المصالح الروحية والخلقية والمادية والقومية التي لم تحقّقها أمة ولا دولة حتى اليوم. دعونا من حروب رجال الدنيا ، ولنذكر ما يسمّى بالحروب المقدّسة ، فهذه حروب «مها بهارت» (التي وقعت في الهند في القرن السادس قبل المسيح) لا يقلّ عدد المقتولين فيها عن عشرة ملايين نسمة ، وكذلك أهلكت الهيئات الدينية والمقدّسة في أوربة نفوسا يربو عددها على مئات الآلاف. وقد ذكر المسترجان وديون بورت في كتابه) naruQ dna dammahoM roF ygolopA ( : أنّ عدد من أعدمته - سيذكره العلّامة المؤلّف أيضا - محاكم التفتيش بلغ اثني عشر مليون نسمة كانوا مسيحيين ، قتلوا بأيد مسيحية. ودولة إسبانية وحدها أهلكت ثلاثمئة ألف وأربعين ألفا من المسيحيين ، واثنان وثلاثون ألفا منهم أحرقوا أحياء (رحمة للعالمين ، للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري : ص 469 - 475)].

(1/497)


ص : 498
ولا امرأة ، ولا كبيرا فانيا ، ولا منعزلا بصومعة ، ولا تعقروا نخلا ، ولا تقطعوا شجرا ، ولا تهدموا بناء» «1».
قارن ذلك بقتلى الحربين العالميتين : الأولى (1914 - 1918 م) والثانية (1939 - 1945 م) ، فقد ذكر الكاتب المحقّق في «دائرة المعارف البريطانيّة» في هذا الموضوع ، أنّ عدد المقتولين في الحرب العالمية الأولى بلغ ستة ملايين وأربعمئة ألف نفس (000 ، 400 ، 6) «2» ، وعدد المقتولين في الحرب العالميّة الثانية بين خمسة وثلاثين مليونا وستّين مليون نفس (بين 000 ، 000 ، 35 و000 ، 000 ، 60) «3».
ولم تخدم هاتان الحربان - كما يعلم الجميع - مصلحة إنسانية ، ولم يستفد منها العالم البشريّ في قليل أو كثير.
(1/425)
وقد بلغ عدد ضحايا محاكم التفتيش في أوربة في القرون الوسطى ، والاضطهاد الكنسيّ إلى اثني عشر مليون نفس (000 ، 000 ، 12) «4».
___________
(1) رواه الواقدي عن زيد بن أرقم في غزوة مؤتة.
(2) دائرة المعارف البريطانية : ج 19 ، ص 669.
(3) ص 1013 ، (طبعة 1974 م). [نشرت صحيفة «همدم» الأردوية الصادرة في 17/ من إبريل سنة 1919 م) تعداد قتلى الحرب العالمية المستمرة من سنة 18 - 1914 م حسب مايلي : روسية (170) ألف نسمة ، وألمانية (160) ألف نسمة ، فرنسة (200) ألف نسمة ، وإيطالية (460) ألف نسمة ، والنمسا (800) ألف نسمة ، وبريطانية (800) ألف نسمة ، وتركية (250) ألف نسمة ، وبلجيكا (102) ألف نسمة ، وبلغارية (100) ألف نسمة ، ورومانية (100) ألف نسمة ، وأمريكة (50) ألف نسمة. المجموع الكلي أكثر من سبعة ملايين نسمة. ويشكّ كاتب المقال ويتساءل : هل دخل عدد قتلى مستعمرات الهند وفرنسة في تعداد إنكليز وفرنسا أم لا ؟ ولكنّه يعترف بأنّ عدد الجرحى والأسرى والضائعين لم يدرج في الأعداد المذكورة. (رحمة للعالمين ، ص : 496)].
(4) naruQ dna dammahuM roF ygolopA : tropnevaD nhoJ.

(1/498)


ص : 499
أوّل حجّ في الإسلام :
وفرض الحجّ سنة تسع «1» ، وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر أميرا للحجّ هذه السنة ، ليقيم للمسلمين حجّهم ، والناس من أهل الشّرك على منازلهم من حجّهم «2» وخرج مع أبي بكر من أراد الحجّ من المسلمين في ثلاثمئة رجل من المدينة «3».
ونزلت سورة (براءة) على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا عليّ بن أبي طالب ، فقال له : «اخرج بهذه القصّة من صدر براءة وأذّن في الناس يوم النحر - إذا اجتمعوا بمنى - أنّه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو له إلى مدّته».
(1/426)
فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء ، حتّى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلمّا رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثمّ مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحجّ ، حتّى إذا كان يوم النّحر ، قام عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - فأذّن في الناس بالذي أمره به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «4».
___________
(1) ذهب بعض العلماء إلى أنّ فرض الحج كان في السنة السادسة من الهجرة ، واختاره العلامة الشيخ محمد الخضري في «تاريخ التشريع الإسلامي» ص 52.
(2) ابن هشام : ج 2 ، ص 543.
(3) زاد المعاد : ج 2 ، ص 24.
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 543 - 546 [هذا الحديث مرسل ، وله شواهد كثيرة ، منها ما جاء من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عند الترمذي في أبواب تفسير القرآن ، سورة التوبة ، برقم (3091) ، وقال : حديث حسن غريب ، وعند أحمد في المسند (2/ 99) ، وقد ذكر ابن كثير في التفسير (2/ 332 - 334) كثيرا من هذه الشواهد].

(1/499)


ص : 500
خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رجب 9 ه - صفر 11 ه

(1/500)


ص : 501
عام الوفود سنة تسع من الهجرة
تقاطر الوفود إلى المدينة وأثرها في الحياة :
وبعد أن فتح اللّه مكّة ، وعاد نبيّه من تبوك سالما غانما ، وكان قد كتب قبل ذلك إلى الملوك والأمراء كتبا دعاهم فيها إلى الإسلام ، فلقي من بعضهم الاستجابة الكريمة ، ومن بعضهم ردّا رقيقا رفيقا ، ووقف بعضهم أمامها خاشعا مترددا ، وردّها بعضهم ردّا قبيحا ، وتلقّاها بالإهانة والكبر ، فلقي عقوبة عاجلة أطاحت بملكه ونفسه ، وقد تسامع ذلك العرب كلّهم وتحدّثوا به.
(1/427)
وكان لفتح مكّة - عاصمة الجزيرة الروحيّة والاجتماعية - ودخول رؤساء قريش في الإسلام ، وسقوط أكبر حصن من حصون المقاومة أمام دين اللّه ، أثر عميق في نفوس المترددين والمتربّصين من العرب ، فزال الحاجز بينهم وبين الإسلام ، وطويت المسافة بينهم وبين قبوله.
قال العلّامة محمد طاهر الفتني (ت 986 ه) في السّير من كتابه «مجمع بحار الأنوار» :
«و هذه السّنة «1» سنة الوفود ، فإنّ العرب تربّصوا بالإسلام أمر قريش ،
___________
(1) يعني سنة تسع للهجرة.

(1/501)


ص : 502
خريطة عام الوفود

(1/502)


ص : 503
لأنّهم إمام الناس ، وأهل بيت اللّه ، فلمّا دانوا ، وفتحت مكة ، وأسلمت ثقيف ، عرفوا أنه لا طاقة بهم ، ووفدت الوفود من كلّ وجه يدخلون في دين اللّه أفواجا» «1».
فكان لكلّ ذلك أثره الطبيعيّ في النفس ، ففتح الطريق للدخول في الإسلام ولقاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المدينة ، وتقاطرت وفود هداية واستطلاع إلى مركز الإسلام كأنّها عقد انفرط ، فتساقطت لآلئه في حجر الإسلام.
وكانت تعود إلى مراكزها تحمل روحا جديدة ، وشحنة إيمانية ، وحماسا في الدعوة إلى الإسلام ، وكراهة شديدة للوثنيّة وآثارها ، والجاهليّة وشعائرها.
كان من هذه الوفود وفد بني تميم ، فيه أشراف قومهم المشهورون ، جرت مساجلة بين خطيبهم وشاعرهم ، وبين خطيب المسلمين وشاعرهم ، ظهر فيها فضل الإسلام وتفوّق خطيبه وشاعره ، أقرّ بذلك رؤساؤهم وأسلموا ، وأجازهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحسن جوائزهم «2».
وقدم وفد بني عامر ، وقدم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر ، ورجع إلى قومه داعيا ، فكان أوّل ما تكلّم به أن قال : بئست «اللّات» و«العزّى».
قالوا : مه يا ضمام! اتّق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون.
(1/428)
وقال : ويلكم! إنّهما واللّه لا يضرّان ولا ينفعان ، إنّ اللّه قد بعث رسولا ، ونزّل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده
___________
(1) مجمع بحار الأنوار : ج 5 ، ص 272.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 560 - 568.

(1/503)


ص : 504
لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ، فما أمسى من ذلك اليوم في حيّه رجل ولا امرأة إلا مسلما «1».
وقدم وفد بني حنيفة ، معهم مسيلمة الكذّاب ، وأسلم ، وارتدّ ، وتنبّأ ، وتكذّب لهم ، وكان مثير فتنة الرّدة ، وقتل فيها «2».
وقدم وفد بني طيىء ، وفيهم زيد الخيل - الفارس المشهور - وسمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «زيد الخير» وحسن إسلامه.
وقدم عديّ بن حاتم - ابن الجواد المشهور - وأسلم بعد ما رأى أخلاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتواضعه ، حتّى قال : واللّه ما هذا بأمر ملك.
وقدم وفد من بني زبيد ، وفيهم فارس العرب المشهور عمرو بن معد يكرب ، ووفد كندة فيهم الأشعث بن قيس ، ووفد من الأزد ، ورسول ملوك حمير بكتابهم يخبرون فيه بإسلامهم.
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى إلى اليمن ، للدعوة إلى الإسلام ، وأوصاهما ، وقال : «يسّرا ولا تعسّرا ، وبشّرا ولا تنفّرا» «3».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 574 [أخرجه البخاري في كتاب العلم ، باب ما جاء في العلم ، برقم (63) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب السؤال عن أركان الإسلام ، برقم (12) ، والنسائي في كتاب الصيام ، باب وجوب الصيام ، برقم (2093) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد ، برقم (486) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1/429)
(2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة .. ، برقم (4373) ، ومسلم في كتاب الرؤيا ، باب رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2273) ، والترمذي في أبواب الرؤيا ، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم في الميزان والدلو ، برقم (2292) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(3) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، في كتاب المغازي ، باب : بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمن ، [برقم (4341) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب في الأمر بالتيسير وترك -

(1/504)


ص : 505
وبعث فروة بن عمرو الجذاميّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسولا بإسلامه ، وكان عاملا للروم على العرب في «معان» وما حولها من أرض الشام.
وأسلم بنو الحارث بن كعب ب «نجران» على يد خالد بن الوليد ، وأقام فيهم خالد يعلّمهم الإسلام ، وأقبل خالد ومعه وفد بني الحارث وعادوا إلى بلادهم ، فبعث إليهم عمرو بن حزم ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم.
وقدم وفد همدان «1».
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المغيرة بن شعبة ، فكسر «اللّات!» ، ثمّ علا أعلى سورها وعلا الرجال معه ، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا ، حتّى سوّوها بالأرض ، وأقبل الوفد حتّى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يومه ، وحمده «2».
وقدم وفد عبد القيس ، ورحّب بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمرهم ونهاهم عن الأوعية التي يسرع فيها الإسكار ، سدا للذرائع ، ولأنّهم كانوا يكثرون منها «3».
وقدم وفد الأشعريين وأهل اليمن ، وكانوا يرتجزون : [من مجزوء الرجز]
___________
- التنفير ، برقم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه ].
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 575 - 596.
(2) سيرة ابن كثير : ج 4 ، ص 62 - 63.
(1/430)
(3) زاد المعاد : ج 2 ، ص 28 ، الحديث في الصحيحين عن ابن عباس [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب أداء الخمس من الإيمان ، برقم (53) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة .. ، برقم (13)].

(1/505)


ص : 506
غدا نلقى الأحبّه ... محمدا وحزبه «1»
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أتاكم أهل اليمن ، هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانيّة» «2».
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن ، يدعوهم إلى الإسلام في نفر من المسلمين ، فأقاموا ستة أشهر ، يدعوهم خالد إلى الإسلام ، فلم يجيبوه ، ثمّ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا ، فكتب عليّ - رضي اللّه عنه - إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبره بإسلامهم ، فلمّا قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكتاب خرّ ساجدا ثمّ رفع رأسه ، وقال :
«السّلام على همدان ، السلام على همدان» «3».
وقدم وفد مزينة في أربعمئة رجل.
وقدم وفد نصارى نجران وهم ستون راكبا ، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم ، فيهم أبو حارثة - أسقفهم وحبرهم - وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ، وموّلوه ، وأخدموه ، وبنوا له الكنائس ، ونزلت فيهم آيات كثيرة من القرآن «4».
___________
(1) زاد المعاد : ص 32 [و أخرجه أحمد في المسند (3/ 105) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 351) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن ، [برقم (4388) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب تفاضل أهل الإيمان فيه .. ، برقم (52) ، وأحمد في المسند (2/ 235) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(1/431)
(3) زاد المعاد : ج 2 ، ص 33 [أخرجه البيهقي في السنن (2/ 369) برقم (3747) ، والروياني في المسند (1/ 219) برقم (305) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].
(4) اقرأ للتفصيل «زاد المعاد» ج 2 ، ص 35 - 36.

(1/506)


ص : 507
وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل نجران كتابا ، يدعوهم فيه إلى الإسلام ، فلمّا قرؤوه بعثوا وفدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسألهم وسألوه ، ونزلت في جواب أسئلتهم آيات كثيرة من سورة آل عمران ، وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يباهلهم «1» ، وأبى شرحبيل ذلك وخاف ، فلمّا كان من الغد أتوه ، فكتب لهم كتابا ، وضرب عليهم الخراج «2» ، وبعث معهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرّاح ، وقال : «هذا أمين هذه الأمة» «3».
وقدم وفد تجيب ، وسرّ بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأكرم منزلهم ، وسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشياء ، فكتب لهم بها ، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسّنن فازداد بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغبة ، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم ، وأقاموا أياما ، ولم يطيلوا اللّبث فقيل لهم : وما يعجلكم ؟ قالوا : نرجع إلى من وراءنا ، فنخبرهم برؤيتنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكلامنا إيّاه ، وما ردّ علينا ، وانطلقوا راجعين ، ثمّ وافوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الموسم ب «منى» سنة عشر «4».
وكان من ضمن الوفود وفد بني فزارة ، ووفد بني أسد ، ووفد بهراء ، ووفد عذرة ، وأسلموا ، وبشّرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفتح الشّام ونهاهم عن سؤال الكاهنة ، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها ، وأخبرهم أن ليس عليهم إلّا الأضحية.
___________
(1) [باهل يباهل مباهلة ، من باب المفاعلة : وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة اللّه على الظالم منّا].
(1/432)
(2) زاد المعاد : ص 37.
(3) سيرة ابن كثير ، ج 4 ، ص 100 ، وأخرجه البخاري مختصرا [في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح .. ، برقم (3745) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي عبيدة ... ، برقم (2420) ، وغيرهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه ].
(4) زاد المعاد : ج 2 ، ص 43.

(1/507)


ص : 508
ووفد بلي ، ووفد ذي مرّة ، ووفد خولان ، وسألهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صنم لخولان «1» ، الذي كانوا يعبدونه ، قالوا : أبشر ، بدّلنا اللّه به ما جئت به ، وقد بقيت منّا بقايا من شيخ كبير ، وعجوز كبيرة ، متمسّكون به ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء اللّه «2».
وقدم وفد محارب ، ووفد غسّان ، وغامد ، ووفد النّخع «3».
وكانت الوفود تتعلّم الإسلام ، وتتفقّه في الدّين ، ويشهدون أخلاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعشرة أصحابه ، وقد تضرب لهم خيام في فناء المسجد ، فيسمعون القرآن ، ويرون المسلمين يصلّون ، ويسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمّا يجول في خاطرهم في بساطة وصراحة ، ويجيبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بلاغة وحكمة ، ويستشهد بالقرآن ، فيؤمنون ، ويطمئنّون.
بين وثنيّ جاهل وبين نبيّ معلّم :
وهذا حديث دار بين كنانة بن عبد ياليل وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
كنانة : أفرأيت الزّنى ، فإنّا قوم نعتزب ، ولا بدّ لنا منه ؟
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «هو عليكم حرام ، وإنّ اللّه تعالى يقول : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء : 32]».
كنانة : أفرأيت الرّبا فإنّه أموالنا كلّها ؟
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لكم رؤوس أموالكم ، إنّ اللّه تعالى يقول : يا أَيُّهَا
___________
(1) زاد المعاد : ص 44 - 47.
(2) المصدر السابق : ص 47.
(1/433)
(3) المصدر السابق : ص 47 - 55.

(1/508)


ص : 509
خريطة سرايا تكسير الأصنام

(1/509)


ص : 510
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة : 278]».
كنانة : أفرأيت الخمر فإنها عصير أرضنا لا بدّ لنا منها ؟
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه قد حرّمها : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة : 90]».
كنانة : أفرأيت الرّبّة «1» ، ما نصنع بها ؟
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اهدموها».
كنانة وقومه : لو تعلم الرّبّة أنّك تريد هدمها لقتلت أهلها.
وهنا تدخّل عمر بن الخطاب في الحديث ، فقال : ويحك يا بن عبد يا ليل ، ما أجهلك! إنما الرّبّة حجر.
كنانة وقومه : إنّا لم نأتك يا بن الخطاب ، وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تولّ أنت هدمها ، فأمّا نحن فإنّا لا نهدمها أبدا.
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها» وأذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الرجوع ، وأكرمهم وحيّاهم.
وقالوا : يا رسول اللّه ، أمّر علينا رجلا يؤمّنا من قومنا ، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص ، وكان أصغرهم سنّا ، لما رأى من حرصه على الإسلام ، وكان قد تعلّم سورا من القرآن قبل أن يخرج «2».
وكان عام الوفود عام القضاء على نفوذ الوثنيّة ، وتصفية الوجود الوثنيّ في جزيرة العرب.
___________
(1) [الرّبة : يعني اللّات ، وهي الصّخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطّائف ].
(2) زاد المعاد : ج 2 ، ص 25.

(1/510)


ص : 511
فرض الزكاة والصدقات :
(1/434)
وفي السنة التاسعة للهجرة «1» بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمراءه وعمّاله على الصّدقات إلى كلّ ما دخل فيه الإسلام من البلدان.
___________
(1) المرجّح أنّ فرض الزكاة كان في السنة الخامسة ، قال الحافظ ابن حجر : «و ما يدلّ على أنّ فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث النّبي صلى اللّه عليه وسلم في قصة ضمام بن ثعلبة ، وكان قدوم ضمام سنة خمس ، وأن الذي وقع في التاسعة هو بعث العمال لأخذ الصدقات ، وذلك يستدعي تقدّم فرضية الزكاة قبل ذلك».

(1/511)


ص : 512
خريطة حجة الوداع والطريق الذي سلكه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم

(1/512)


ص : 513
حجّة الوداع سنة عشر من الهجرة
حجة الوداع وأوانها :
ولمّا تمّ ما أراده اللّه من تطهير نفوس الأمّة من شوائب الوثنيّة ، وعادات الجاهليّة ، وإنارتها بنور الإيمان ، وإشعال مجامرها بالحبّ والحنان ، وتمّ ما أراده اللّه ، من تطهير بيته من الرّجس والأوثان ، وتاقت نفوس المسلمين الذين بعد عهدهم عن حجّ البيت ، وطفحت كأس الحبّ والحنان ، حتّى فاضت ودنت ساعة الفراق ، وألجأت الضّرورة إلى وداع الأمة ، آذن اللّه لنبيّه في الحجّ ، ولم يكن قد حجّ النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الإسلام.
قيمتها البلاغية والتربوية :
فخرج من المدينة ليحجّ البيت ، ويلقى المسلمين ، ويعلّمهم دينهم ومناسكهم ، ويؤدّي الشهادة ، ويبلّغ الأمانة ، ويوصي الوصايا الأخيرة ، ويأخذ من المسلمين العهد والميثاق ، ويمحو آثار الجاهليّة ، ويطمسها ويضعها تحت قدميه.
وكانت هذه الحجّة تقوم مقام ألف خطبة وألف درس ، وكانت مدرسة متنقّلة ومسجدا سيّارا ، وثكنة جوالة ، يتعلّم فيها الجاهل وينتبه الغافل ،

(1/513)


ص : 514
(1/435)
وينشط فيها الكسلان ، ويقوى فيها الضعيف ، وكانت سحابة رحمة تغشاهم في الحلّ والتّرحال ، وهي سحابة صحبة النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وحبّه وعطفه ، وتربيته وإشرافه.
تسجيل دقائق حجّة النبيّ :
وقد سجّل الرّواة العادلون من الصحابة كلّ دقيقة من دقائق هذه الرحلة ، وكلّ حادث من حوادثها الصغيرة ، تسجيلا لا يوجد له نظير في رحلات الملوك والعظماء ، والعلماء والنبغاء «1».
سياق حجّته صلى اللّه عليه وسلم إجماليا :
ونحن نلخّص «2» هذه الحجّة التي سمّيت ب «حجّة الوداع» و«حجّة البلاغ» و«حجّة التّمام» ، وكانت كلّ ذلك أو أكثر ، وحجّ معه أكثر من مئة ألف إنسان «3».
كيف حجّ النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ؟
عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الحجّ ، وأعلم الناس أنّه حاجّ ، فتجهّزوا وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر للخروج معه ، وسمع بذلك من حول المدينة ، فقدموا يريدون الحجّ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق
___________
(1) اقرأ كتاب «حجة الوداع وجزء عمرات النّبي صلى اللّه عليه وسلم» للعلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وتقديمه بقلم كاتب هذه السطور (طبع المكتب الإسلامي بيروت).
(2) اعتمدنا في هذا التلخيص على كتاب «زاد المعاد» النفيس للعلامة ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751 ه ، وقد استوعب الموضوع رواية وتاريخا وفقها.
(3) روي عددهم من مئة وأربعة عشر ألفا إلى مئة وثلاثين ألفا.

(1/514)


ص : 515
لا يحصون ، فكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله مدّ البصر.
وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت ، بعد أن صلّى الظهر بها أربعا ، وخطبهم قبل ذلك خطبة علّمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه.
(1/436)
ثم سار وهو يلبّي ، ويقول : «لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك» والناس معه يزيدون وينقصون ، وهو يقرّهم ، ولا ينكر عليهم ، ولزم تلبيته ، ثمّ سار حتّى نزل ب «العرج» «1» وكانت زاملته وزاملة «2» أبي بكر واحدة.
ثم مضى حتّى أتى «الأبواء» «3» فوادي «عسفان» «4» في «سرف» «5» ، ثمّ نهض إلى أن نزل ب «ذي الطّوى» «6» ، فبات بها ليلة الأحد ، لأربع خلون من ذي الحجّة ، وصلّى بها الصبح ، ثمّ اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكّة ، فدخلها نهارا من أعلاها ، ثمّ سار ، حتّى دخل المسجد ، وذلك ضحى ، فلمّا نظر إلى البيت قال : «اللهمّ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة» ويرفع يديه ويكبّر ، ويقول : «اللهمّ أنت السّلام ، ومنك السّلام ، حيّنا ربّنا بالسّلام».
___________
(1) [العرج : قرية جامعة على طريق مكّة من المدينة].
(2) [الزاملة : هي البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع ، من الزمل ، وهو الحمل ].
(3) [الأبواء : جبل بين مكّة والمدينة ، وعنده بلد ينسب إليه ].
(4) [عسفان : قرية جامعة بين مكّة والمدينة].
(5) [سرف : قرية على ستة أميال من مكة من طريق مر ، وقيل سبعة وتسعة واثنا عشر ، وليس بجامع اليوم (معجم ما استعجم)].
(6) [الطّوى : موضع عند باب مكّة يستحبّ لمن دخل مكّة أن يغتسل به (النهاية : 3/ 147)].

(1/515)


ص : 516
ولمّا دخل المسجد عمد إلى البيت ، فلمّا حاذى الحجر الأسود ، استلمه ، ولم يزاحم عليه ، ثمّ أخذ عن يمينه ، وجعل البيت عن يساره ، ورمل في طوافه هذا ثلاثة الأشواط الأول ، وكان يسرع في مشيه ، ويقارب بين خطاه ، واضطبع بردائه ، فجعله على أحد كتفيه ، وأبدى كتفه الآخر ومنكبه ، وكلّما حاذى الحجر الأسود أشار إليه ، واستلمه بمحجنه «1».
(1/437)
فلمّا فرغ من طوافه ، جاء إلى خلف المقام ، فقرأ : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة : 125] فصلّى ركعتين ، فلمّا فرغ من صلاته ، أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ، ثمّ خرج إلى الصّفا من الباب الذي يقابله ، فلمّا قرب منه قرأ : «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة : 158] أبدأ بما بدأ اللّه به» ، ثمّ رقي عليه ، حتّى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد اللّه وكبّره ، وقال : «لا إله إلا اللّه وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده».
وأقام بمكّة أربعة أيام : يوم الأحد ، والإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فلمّا كان يوم الخميس ضحى ، توجّه بمن معه من المسلمين إلى منى ، فنزل بها ، وصلّى بها الظهر والعصر ، وبات بها ، وكان ليلة الجمعة ، فلمّا طلعت الشمس ، سار منها إلى عرفة ، ووجد القبّة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتّى إذا زالت الشمس ، أمر بناقته القصواء ، فرحّلت ، ثمّ سار ، حتّى أتى بطن الوادي من أرض عرفة ، فخطب الناس - وهو على راحلته - خطبة عظيمة قرّر فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها قواعد الشّرك والجاهلية ، وقرّر فيها تحريم المحرّمات التي اتّفقت الملل على تحريمها ، وهي الدماء والأموال والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ، ووضع ربا الجاهلية
___________
(1) [المحجن : عصا معقّفة الرّأس كالصّولجان ].

(1/516)


ص : 517
كلّه ، وأبطله ، وأوصاهم بالنساء خيرا ، وذكر الحقّ الذي لهنّ وعليهنّ ، وأنّ الواجب لهنّ الرزق والكسوة بالمعروف.
(1/438)
وأوصى الأمّة فيها بالاعتصام بكتاب اللّه ، وأخبر أنّهم لن يضلّوا ما داموا معتصمين به ، ثم أخبر أنّهم مسؤولون عنه ، واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت ، فرفع إصبعه إلى السّماء واستشهد اللّه عليهم ثلاث مرّات ، وأمرهم أن يبلّغ شاهدهم غائبهم ، فلمّا أتمّ الخطبة ، أمر بلالا فأذّن ثم أقام الصلاة ، فصلّى الظهر ركعتين ، ثمّ أقام فصلّى العصر ركعتين أيضا ، وكان يوم الجمعة.
فلمّا فرغ من صلاته ركب حتّى أتى الموقف ، فوقف وكان على بعيره ، فأخذ في الدعاء والتضرّع والابتهال إلى غروب الشمس ، وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره ، كاستطعام المسكين ، يقول فيهم : «اللهمّ! إنّك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سرّي وعلانيتي ، لا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير ، والوجل المشفق ، المقرّ المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عيناه ، وذلّ جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهمّ! لا تجعلني بدعائك ربّ شقيّا ، وكن لي رؤوفا رحيما ، يا خير المسؤولين ، ويا خير المعطين» «1».
وهنالك أنزلت عليه : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة : 3] ، فلمّا غربت الشمس ، أفاض من عرفة ،
___________
(1) [أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 174) برقم (11405) ، والصغير (2/ 15) ، برقم (696) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما ، وفي إسناده يحيى بن صالح الأيلي ، روي عنه مناكير].

(1/517)


ص : 518
وأردف أسامة بن زيد خلفه ، وأفاض بالسكينة ، وضمّ إليه زمام ناقته ، حتّى إنّ رأسها ليصيب طرف رحله ، وهو يقول : «أيّها الناس ، عليكم بالسّكينة» «1».
(1/439)
وكان يلبّي في مسيره ذلك ، لا يقطع التلبية حتّى أتى المزدلفة ، وأمر المؤذّن بالأذان فأذّن ، ثمّ أقام ، فصلّى المغرب قبل حطّ الرحال وتبريك الجمال ، فلمّا حطّوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ، ثمّ صلّى العشاء ، ثمّ نام ، حتّى أصبح.
فلمّا طلع الفجر صلّاها في أوّل الوقت ، ثمّ ركب حتّى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرّع ، والتكبير والتهليل والذكر ، حتّى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس.
ثمّ سار من مزدلفة ، مردفا للفضل بن عباس ، وهو يلبّي في مسيره ، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات ، فلمّا أتى بطن محسّر حرّك ناقته ، وأسرع السير ، فإنّ هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب ، حتّى أتى منى ، فأتى جمرة العقبة ، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس ، وقطع التلبية.
ثمّ رجع إلى منى ، فخطب الناس خطبة بليغة ، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه ، وفضله عند اللّه ، وحرمة مكّة على جميع البلاد ، وأمر
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الحج ، باب أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة .. ، برقم (1671) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب استحباب إدامة الحاج التلبية .. ، برقم (1282) ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب الدفعة من عرفة ، برقم (1920) ، والنّسائي في مناسك الحج ، باب فرض الوقوف بعرفة ، برقم (3021) ، وأحمد في المسند (5/ 201) من حديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنه ].

(1/518)


ص : 519
بالسّمع والطّاعة لمن قادهم بكتاب اللّه ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه ، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا ، يضرب بعضهم رقاب بعض ، وأمر بالتبليغ عنه ، وقال في خطبته تلك :
«اعبدوا ربّكم ، وصلّوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنّة ربّكم» ، وودّع الناس حينئذ فقالوا : «حجّة الوداع».
(1/440)
ثمّ انصرف إلى المنحر بمنى ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيّ عمره ، ثمّ أمسك وأمر عليّا أن ينحر ما بقي من المئة.
فلمّا أكمل صلى اللّه عليه وسلم نحره استدعى بالحلّاق ، فحلق رأسه ، وقسم شعره بين من يليه.
ثمّ أفاض إلى مكة راكبا ، وطاف طواف الإفاضة ، وهو طواف الزيارة ، ثمّ أتى زمزم ، فشرب وهو قائم.
ثمّ رجع إلى منى من يومه ذلك ، فبات بها ، فلمّا أصبح انتظر زوال الشمس ، فلمّا زالت مشى من رحله إلى الجمار ، فبدأ بالجمرة الأولى ، ثمّ الوسطى ، ثمّ الجمرة الثالثة ، وهي جمرة العقبة.
وخطب الناس بمنى خطبتين : خطبة يوم النّحر ، وقد تقدّمت ، والخطبة الثانية في ثاني يوم النحر.
وتأخّر حتّى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة ، ثمّ نهض إلى مكّة ، فطاف للوداع ليلا سحرا ، وأمر الناس بالرحيل ، وتوجّه إلى المدينة «1».
___________
(1) ملخّصا من «زاد المعاد» ومقتبسا منه ، ج 1 ، ص 180 - 249 ، بحذف المباحث التي توسّع فيها المؤلف وأفاض ، ومواضع الخلاف بين الفقهاء والمحدّثين.

(1/519)


ص : 520
ولمّا وصل إلى غدير خمّ «1» ، خطب صلى اللّه عليه وسلم وذكر فيها فضل عليّ - رضي اللّه عنه - وقال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ! وال من والاه ، وعاد من عاداه» «2».
فلمّا أتى «ذا الحليفة» بات بها ، فلمّا رأى المدينة ، كبّر ثلاث مرّات ، وقال : «لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، آيبون تائبون ، عابدون ، ساجدون ، لربّنا حامدون ، صدق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» ، ثمّ دخلها نهارا «3».
خطبة النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم في حجّة الوداع :
(1/441)
ونذكر هنا نصّ الخطبة التي خطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم عرفة ، ونصّ الخطبة التي خطبها في أوسط أيام التشريق ، للموعظة البليغة ، والفوائد الكثيرة التي تشتملان عليها هاتان الخطبتان العظيمتان.
فقال في خطبة عرفة :
«إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا.
___________
(1) غدير بين مكة والمدينة ، بينه وبين الجحفة ميلان.
(2) السيرة النبوية : لابن كثير : ج 4 ، ص 415 - 416) : نقلا عن الإمام أحمد والنسائي [أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 118) برقم (4576) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 376) برقم (6931) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/ 130) برقم (8464) ، وأحمد في المسند (4/ 368) وغيرهم من حديث زيد بن أرقم رضي اللّه عنه ]. وسبب ذلك أن بعض الناس كانوا قد اشتكوا عليا وعتبوا عليه ، وتكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا ، وتضييقا وبخلا ، والصواب كان مع عليّ في ذلك.
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 249.

(1/520)


ص : 521
ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع ، ودماء الجاهليّة موضوعة ، وإنّ أوّل دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل.
وربا الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضع من ربانا ربا العبّاس بن عبد المطلب ، فإنّه موضوع كلّه.
فاتّقوا اللّه في النساء ، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه ، ولكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللّه ، وأنتم تسألون عنّي ، فماذا أنتم قائلون ؟».
قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأديت ونصحت.
(1/442)
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السّماء وينكبها إلى الناس : «اللهمّ اشهد» ثلاث مرّات «1».
[نص خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ]
وهذا نصّ الخطبة التي خطبها صلى اللّه عليه وسلم في أوسط أيام التشريق :
«يا أيّها الناس! هل تدرون في أيّ شهر أنتم ؟ وفي أيّ يوم أنتم ؟ وفي أيّ بلد أنتم ؟».
___________
(1) أخرجه مسلم [في كتاب الحج ، باب حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1218)] وأبو داود [في كتاب المناسك ، باب صفة حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1905)] وغيرهما عن جابر رضي اللّه عنه ، [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي. باب حجة الوداع ، برقم (4406) ، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين ، برقم (1679) ، من حديث أبي بكرة رضي اللّه عنه ، وأخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن ، سورة التوبة ، برقم (3087) ، وابن ماجه في أبواب المناسك ، باب الخطبة يوم النحر ، برقم (3055) من حديث عمرو بن الأحوص ].

(1/521)


ص : 522
فقالوا : في يوم حرام ، وبلد حرام ، وشهر حرام.
قال : «فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، وفي بلدكم هذا ، إلى يوم تلقونه».
ثمّ قال : «اسمعوا منّي تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، إنّه لا يحلّ مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه.
ألا! وإنّ كلّ دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدميّ هذه ، إلى يوم القيامة ، وإنّ أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل.
ألا وإنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، وإنّ اللّه عزّ وجلّ قضى أنّ أوّل ربا يوضع ربا العبّاس بن عبد المطّلب ، لكم رؤوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وإنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، ثمّ قرأ :
(1/443)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة : 36].
ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون ، ولكنّه في التحريش بينكم ، واتّقوا اللّه في النساء ، فإنهنّ عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، إنّ لهن عليكم حقا ، ولكم عليهنّ حقا ألّا يوطئن فرشكم أحدا غيركم ، ولا يأذنّ في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم نشوزهنّ ، فعظوهنّ ، واهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهن ضربا غير مبرّح ، ولهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ، وإنّما أخذتموهنّ بأمانة اللّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه

(1/522)


ص : 523
عزّ وجلّ ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها».
وبسط يديه ، وقال : «ألا هل بلّغت ؟! ألا هل بلّغت ؟!».
ثمّ قال : «ليبلّغ الشاهد الغائب ، فإنّه ربّ مبلّغ أسعد من سامع» «1».
___________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند [5/ 73] عن أبي حرة الرقاشي عن عمّه ، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 266) : رواه أحمد ، وأبو حرة الرقاشي وثّقه أبو داود وضعّفه ابن معين ، وفيه عليّ بن زيد وفيه كلام.

(1/523)


ص : 525
الوفاة ربيع الأول السّنة الحادية عشرة للهجرة
كمال مهمّة التبليغ والتشريع ودنوّ ساعة اللقاء :
ولمّا بلغ هذا الدين ذروة الكمال ، ونزل قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة : 3].
(1/444)
وبلّغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرسالة ، وأدّى الأمانة ، وجاهد في اللّه حقّ جهاده ، وربّى أمّة تقلّدت مهامّ النبوّة ومسؤولياتها ، من غير نبوّة ، وكلّفت النهوض بالدعوة ، وصيانة الدين من التحريف ، فقال اللّه تعالى :
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران : 110].
وضمن اللّه لهذا القرآن الذي هو أساس هذا الدين ، ومصدر الإيمان واليقين ، بالبقاء والنّقاء ، فقال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : 9].
وأقرّ اللّه عين نبيّه بدخول الناس في هذا الدّين أفواجا ، وبدت طلائع انتشاره في العالم ، وظهوره على الأديان كلّها.
فقال : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ

(1/525)


ص : 526
اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر : 1 - 3]
مدارسة القرآن ومضاعفة اعتكاف رمضان :
وكان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين «1».
وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ، ولكنّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك العام : «إنّه عارضني العام مرّتين ، ولا أراه إلّا حضر أجلي» «2».
أذن اللّه لنبيّه باللقاء الذي لم يكن أحد أشدّ شوقا له منه ، وقد أحبّ اللّه لقاءه كما هو أحبّ لقاءه.
(1/445)
وقد هيّأ اللّه الصحابة - رضي اللّه عنهم - الذين لم يكن أحد أشدّ حبّا له منهم ، لسماع نبأ وفاته ، واحتمال فراقه الذي لم يكن بدّ منه ، مهما تأخّرت ساعة الفراق ، ففوجئوا بنبأ شهادته في معركة أحد ، ثمّ تحقّق أنّه كان إرجافا من الشيطان ، وأنّ اللّه ممتّعهم بحياة نبيّهم إلى حين ، ولكن لا بدّ من وقوع هذا الحادث ، وقال : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران : 144].
فكان المسلمون - الذين أحسن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تربيتهم ، وربط قلوبهم باللّه تعالى ، وشغلهم بتبليغ رسالة الإسلام إلى أقصى الحدود وأبعد الأمم ،
___________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتكاف ، باب «الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان» [برقم (2044) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(2) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب «علامات النبوة» [رقم الحديث (3624) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل فاطمة رضي اللّه عنها ، رقم الحديث (2450) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].

(1/526)


ص : 527
وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده - على يقين بأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مودّعهم في يوم من الأيام ، ومفارق لهذا العالم الفاني ، وراجع إلى ربّه ، ليجزيه الجزاء الأوفى ، فلمّا نزلت : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فهم منها الصحابة أنّه إيذان بدنوّ ساعة الفراق ، فقد تمّت المهمّة ، وجاء نصر اللّه والفتح «1».
وقد استشعر كبار الصحابة وفاته حين نزلت الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2».
الشوق إلى لقاء اللّه وتوديع الدّنيا :
(1/446)
وقد ظهر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما عاد من حجّة الوداع التي أشار فيها إلى دنوّ أجله «3» ، ما يدلّ على التأهّب للسفر ، واللحوق بالرفيق الأعلى ، فصلّى على قتلى أحد ، كأنّه مودّع أصحابه عن قريب - بعد ثماني سنين - كالمودّع للأحياء والأموات ، ثمّ طلع المنبر ، فقال : «إنّي بين أيديكم فرط «4» ، وأنا عليكم شهيد ، وإنّ موعدكم الحوض ، وإنّي لأنظر إليه من مقامي هذا ، وإنّي
___________
(1) يقول ابن عباس : «هو أجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلمه له» ، وروى الإمام أحمد. [1/ 449] بسند عن ابن عباس ، قال : لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «نعيت إليّ نفسي» [و أخرجه عبد الرزاق في المصنّف (11/ 318) برقم (20646) ، والطبراني في الكبير (10/ 67) برقم (9970) ، وأحمد في المسند (1/ 449) من حديث عبد اللّه بن مسعود]. راجع تفسير ابن كثير.
(2) راجع «السيرة النبوية» لابن كثير : ج 4 ، ص 427.
(3) أخرج مسلم في صحيحه [في كتاب الحج ، باب استحباب رمي جمرة العقبة .. ، برقم (1297)] عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقف عند جمرة العقبة وقال لنا : «خذوا عني مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا».
(4) [فرط : يقال : فرط يفرط ، فهو فارط وفرط ؛ إذا تقدّم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ، ويهيّىء لهم الدّلاء والأرشية].

(1/527)


ص : 528
قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، وإنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1».
شكوى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(1/447)
وقد ابتدأت شكوى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في آخر شهر صفر «2» سنة 11 للهجرة ، وكان مبدأ ذلك أنّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى «بقيع الغرقد» «3» من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثمّ رجع إلى أهله ، فلمّا أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك «4».
قالت عائشة أمّ المؤمنين - رضي اللّه عنها - : رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي ، وأنا أقول : وا رأساه ، فقال :
«بل أنا ، واللّه يا عائشة وا رأساه «5»» واشتدّ به وجعه ، وهو في بيت ميمونة رضي اللّه عنها - فدعا نساءه ، فاستأذنهنّ في أن يمرّض في بيت عائشة ، فأذنّ له ، وخرج يمشي بين رجلين من أهله ، أحدهما الفضل بن عبّاس ، والآخر عليّ بن أبي طالب ، عاصبا رأسه ، تخطّ قدماه ، حتّى دخل بيت عائشة رضي اللّه عنها «6».
___________
(1) حديث متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الشهيد ، برقم (1344) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلى اللّه عليه وسلم وصفاته ، برقم (2296) ، والنسائي في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الشهيد ، برقم (1956) ، وأحمد في المسند (4/ 149) من حديث عقبة بن عامر رضي اللّه عنه ].
(2) على القول الراجح وتتبع الأحاديث ، والمرجح أنه كان يوم الإثنين.
(3) [بقيع الغرقد : مقبرة أهل المدينة ، سمّي لأنه كان فيه غرقد وقطع ، والغرقد : ضرب من شجر العضاه وشجر الشّوك ].
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 642 ، وابن كثير : ج 4 ، ص 443.
(5) المصدر السابق : ج 2 ، ص 633.
(6) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، برقم (4442) ، -

(1/528)


ص : 529
تقول عائشة - رضي اللّه عنها - : وكان يقول في مرضه الذي مات فيه :
«يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت ب «خيبر» فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري «1» من ذلك السّمّ» «2».
(1/448)
آخر البعوث :
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشّام ، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء و«الدّاروم» «3» من أرض فلسطين.
وانتدب كثير من الكبار من المهاجرين والأنصار في جيشه ، كان من أكبرهم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واشتدّ به المرض ، وجيش أسامة مخيّم ب «الجرف» «4» وأنفذ أبو بكر جيش أسامة بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم تحقيقا لرغبته وإكمالا لمراده.
الاهتمام ببعث أسامة :
واستبطأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصبا رأسه ، حتّى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة
___________
- ومسلم في كتاب الصلاة ، باب استخلاف الإمام من يصلّي بالناس .. ، برقم (418) ، وأحمد في المسند (6/ 117)].
(1) أبهر : عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب ، فإذا انقطع مات صاحبه.
(2) أخرجه البخاري معلّقا ، في كتاب المغازي باب «مرض النّبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته» [برقم (4428)] أسنده الحافظ البيهقي عن الحاكم عن الزهري به (راجع ابن كثير ، ج 4 ، ص 449).
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 642.
(4) السيرة النبوية : لابن كثير : ج 4 ، ص 441 [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم أسامة بن زيد .. ، برقم (4468) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل زيد بن حارثة ، وابنه أسامة رضي اللّه عنهما ، برقم (2426) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب مناقب أسامة بن زيد رضي اللّه عنه ، برقم (3814)].

(1/529)


ص : 530
خريطة آخر بعوث النبي صلى اللّه عليه وسلم جيش أسامة بن زيد

(1/530)


ص : 531
(1/449)
أسامة : أمّر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهل له ، ثمّ قال : «أيّها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقا لها» ثمّ نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأسرع الناس في جهازهم ، وثقل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعه ، خرج أسامة بجيشه حتّى نزلوا «الجرف» من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، حتّى تتامّ إليه الناس.
وثقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقام أسامة والناس ينظرون ما اللّه قاض في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1».
وأوصى المسلمين في مرضه أن يجيزوا الوفد بنحو ممّا كان يجيزهم ، وألّا يتركوا في جزيرة العرب دينين ، قال : «أخرجوا منها المشركين» «2».
دعاء للمسلمين وتحذير لهم عن العلو والكبرياء :
وفي يوم من أيام شكواه اجتمع نفر من المسلمين في بيت عائشة ، فرحّب بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحيّاهم ، ودعا لهم بالهدى والنّصر والتوفيق ، وقال :
«أوصيكم بتقوى اللّه وأوصى اللّه بكم ، وأستخلفه عليكم ، إنّي لكم منه نذير مبين ، ألّا تعلوا على اللّه في عباده وبلاده ، فإنّ اللّه قال لي ولكم : تِلْكَ
___________
(1) سيرة ابن هشام : ق 2 ، ص 650 ، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة زيد بن حارثة» [برقم (4250)] وفيه : أن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وايم اللّه لقد كان خليقا للإمارة ، وإن كان من أحب الناس إليّ وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده» [و أخرجه مسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل زيد بن حارثة .. ، برقم (2426) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 535) برقم (7059) ، وأحمد في المسند (2/ 20) ، من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما].
(1/450)
(2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، برقم (4431) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].

(1/531)


ص : 532
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص : 83] ، وقال : أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر : 60]».
زهد في الدّنيا وكراهية لما فضل من المال :
قالت عائشة : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : «يا عائشة ما فعلت بالذّهب ؟» فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة ، فجعل يقلّبها بيده ، ويقول : «ما ظنّ محمّد باللّه عزّ وجلّ ، لو لقيه وهذه عنده ، أنفقيها» «1».
اهتمام بالصلاة وإمامة أبي بكر :
وثقل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعه ، فقال : «أصلّى الناس ؟».
قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول اللّه!
فقال : «ضعوا لي ماء في المخضب» «2» ، ففعلوا ، فاغتسل ثمّ ذهب لينوء «3» ، فأغمي عليه ، ثمّ أفاق ، فقال : «أصلّى الناس ؟» قالوا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول اللّه! والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لصلاة العشاء ، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلّي بالناس ، وكان أبو بكر رجلا رقيقا ، فقال : يا عمر صلّ بالناس ، فقال : أنت أحقّ بذلك منّي ، فصلّى بهم تلك الأيام.
ثم إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجد خفّة ، فخرج بين رجلين ، أحدهما العباس ،
___________
(1) [أخرجه ابن حبان في الصحيح (8/ 8) برقم (3212) ، وأحمد في المسند (6/ 49 و186) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) [المخضب : شبه المركن ، وهي إجّانة تغسل فيها الثياب ].
(3) [لينوء : أي لينهض بجهد].

(1/532)


ص : 533
(1/451)
والآخر عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - لصلاة الظهر ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر فأومأ إليه ألا يتأخّر ، وأمرهما ، فأجلساه إلى جنبه ، فجعل أبو بكر يصلّي قائما ، وهو يأتم بصلاة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، والناس بصلاة أبي بكر ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد «1».
وعن أمّ الفضل بنت الحارث ، قالت : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا ، ثمّ ما صلّى لنا بعدها ، حتّى قبضه اللّه «2».
خطبة الوداع :
وكان فيما تكلّم «3» به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو جالس على المنبر ، عاصبا رأسه : «إنّ عبدا من عباد اللّه ، خيّره اللّه بين الدّنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللّه» ، وفهم أبو بكر معنى هذه الكلمة ، وعرف أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، برقم (687) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب استخلاف الإمام .. ، برقم (418) ، والنسائي في كتاب الإمامة ، باب الائتمام بالإمام يصلّي قاعدا ، برقم (834) وغيرهم من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، برقم (4429) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب القراءة في الصبح ، برقم (462) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب قدر القراءة في المغرب ، برقم (810) من حديث أم الفضل بنت الحارث رضي اللّه عنها].
(1/452)
(3) يدلّ التتبع للأحاديث أنها كانت الخطبة الأخيرة ، وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى أنها كانت يوم الخميس قبل الوفاة بخمسة أيام ، والمرجح أن هذه الصلاة كانت صلاة الظهر ، وكل ما روي من خطب مختلفة في فضل أبي بكر رضي اللّه عنه ، وسد الأبواب النافذة في المسجد إلا خوخة أبي بكر ، وفضل الأنصار والوصية لهم ، قطع من هذه الخطبة ، رواها الصحابة مفردة ، وكانت هذه الصلاة ، الصلاة الأخيرة التي صلاها النّبي صلى اللّه عليه وسلم جماعة وهو إمام ، ولم يحضر صلاة المسلمين في المسجد بعد هذه الصلاة ، وبذلك تجمع الأقوال والروايات المختلفة (مستفاد من «أصح السير» للشيخ عبد الرؤوف الدّانا بوري رحمه اللّه).

(1/533)


ص : 534
نفسه ، فبكى ، وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا.
فقال : «على رسلك يا أبا بكر! إنّه ليس من الناس أحد أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر ، ولو كنت متّخذا من الناس خليلا لا تّخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلّة الإسلام أفضل» «1».
وقال : «سدّوا عنّي كلّ خوخة «2» في المسجد ، غير خوخة أبي بكر» «3».
وصية الأنصار :
وكان أبو بكر والعباس - رضي اللّه عنهما - مرّا بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون ، فقال : ما يبكيكم ؟ قالوا : ذكرنا مجلس النّبي صلى اللّه عليه وسلم منا ، وأخبر النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، فخرج النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد ، فصعد المنبر «4» ولم يصعده بعد ذلك اليوم ، فحمد اللّه ، ثمّ أثنى عليه ، ثمّ قال :
«أوصيكم بالأنصار فإنّهم كرشي وعيبتي «5» ، وقد قضوا الذي عليهم ،
___________
(1/453)
(1) أخرجه البخاري [في كتاب الصلاة] باب : الخوخة والممر في الصلاة ، [برقم (466) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، برقم (2382) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب مناقب أبي بكر رضي اللّه عنه .. ، برقم (3661) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه ].
(2) [الخوخة : باب صغير ، كالنّافذة الكبيرة ، وتكون بين بيتين ينصب عليها باب ].
(3) صحيح البخاري : كتاب الصلاة ، باب الخوخة والممر في الصلاة [قد سبق تخريجه آنفا من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه ].
(4) المرجّح أنّ هذه الخطبة الأخيرة كانت يوم الخميس بعد صلاة الظهر ، لأن راوي الحديث وهو أنس بن مالك قال : «صعد المنبر ، ولم يصعده بعد ذلك اليوم ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهل له».
(5) [قوله صلى اللّه عليه وسلم : «الأنصار كرشي وعيبتي» أراد أنّهم بطانته وموضع سرّه وأمانته ، والذين يعتمد عليهم في أموره ، واستعار الكرش والعيبة لذلك ؛ لأنّ المجترّ يجمع علفه في -

(1/534)


ص : 535
وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم» «1».
آخر نظرة إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة :
وكان أبو بكر يصلّي بالمسلمين ، حتّى إذا كان يوم الإثنين ، وهم صفوف في صلاة الفجر ، كشف النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ستر الحجرة ، ينظر إلى المسلمين ، وهم وقوف أمام ربّهم ، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده ، وكيف نشأت أمّة تحافظ على الصلاة ، وتواظب عليها بحضرة نبيّها وغيبته ، وقد قرّت عينه بهذا المنظر البهيج ، وبهذا النجاح الذي لم يقدّر لنبيّ أو داع قبله ، واطمأنّ إلى أنّ صلة هذه الأمّة بهذا الدين وعبادة اللّه تعالى ، صلة دائمة ، لا تقطعها وفاة نبيّها ، فملىء من السرور ما اللّه به عليم ، واستنار وجهه وهو منير ، يقول الصحابة - رضي اللّه عنهم - :
(1/454)
كشف النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ستر حجرة عائشة ، ينظر إلينا وهو قائم ، كأنّ وجهه ورقة مصحف ، ثمّ تبسّم يضحك ، فهممنا أن نفتتن من الفرح ، وظننّا أنّ النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم خارج إلى الصلاة ، فأشار إلينا أن أتمّوا صلاتكم ، وأرخى الستر وتوفّي من يومه صلى اللّه عليه وسلم «2».
___________
- كرشه ، والرجل يضع ثيابه في عيبته. وقيل أيضا : أراد بالكرش الجماعة ، أي : جماعتي وصحابتي. ويقال : عليه كرش من الناس : أي جماعة (النهاية : 4/ 163 - 164)].
(1) صحيح البخاري (فضائل أصحاب النّبي صلى اللّه عليه وسلم ، باب قول النّبي صلى اللّه عليه وسلم : «اقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم») [برقم (927) و(3628) و(3800) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، [برقم (680) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب استخلاف الإمام ... ، برقم (419) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز ، باب ما جاء في ذكر مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1624)].

(1/535)


ص : 536
تحذير من عبادة القبور واتخاذها مساجد :
كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن قال : «قاتل اللّه اليهود والنّصارى ، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» «1».
تقول عائشة وابن عباس - رضي اللّه عنهما - : لما نزل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طفق يطرح خميصة «2» له على وجهه ، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : «لعنة اللّه على اليهود والنصارى ، اتّخذوا من قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا «3».
الوصية الأخيرة :
كانت عامة وصيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حضرته الوفاة : «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» ، حتّى جعل يغرغر بها صدره ، وما يكاد يفيض بها لسانه «4».
(1/455)
___________
(1) [أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع ، باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة ، برقم (1696) ، والبخاري في كتاب الجنائز ، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، برقم (1330) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن بناء المسجد على القبور ، برقم (530) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(2) [الخميصة : هي ثوب خزّ ، أو صوف معلم. وقيل : لا تسمّى خميصة إلّا أن تكون سوداء معلمة ، وكانت من لباس الناس قديما [ «النهاية» (2/ 80 - 81)].
(3) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، برقم (4443) و(4444) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن بناء المسجد .. ، برقم (531) ، والنّسائي في كتاب المساجد ، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد ، برقم (704) ، وأحمد في المسند (1/ 218) و(6/ 34)].
(4) أخرجه البيهقي (8/ 11) انظر ابن كثير : «السيرة النبوية» (4/ 473) [و أخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب في حق المملوك ، برقم (5156) ، وابن ماجه في أبواب الوصايا ، باب هل أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2698) ، وأحمد في المسند (1/ 78) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ].

(1/536)


ص : 537
يقول عليّ - رضي اللّه عنه - : أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالصّلاة والزّكاة وما ملكت أيمانكم «1».
وتقول عائشة - رضي اللّه عنها - : ذهبت أعوده ، فرفع بصره إلى السماء وقال : «في الرفيق الأعلى ، في الرفيق الأعلى» «2».
ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ، وبيده جريدة رطبة ، فنظر إليها ، فظننت أن له بها حاجة ، قالت : فأخذتها ، فنفضتها ، فدفعتها إليه ، فاستنّ بها أحسن ما كان مستنّا ، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده «3».
(1/456)
وقالت : وبين يديه ركوة «4» أو علبة فيها ماء ، فجعل يدخل يده في الماء ، فيمسح بها وجهه ، ثمّ يقول : «لا إله إلّا اللّه ، إن للموت لسكرات» ، ثمّ نصب أصبعه اليسرى ، وجعل يقول : «في الرفيق الأعلى ، في الرفيق الأعلى» ، حتى قبض ومالت يده في الماء «5».
وقالت : نزل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورأسه على فخذي ، غشي عليه ساعة ، ثمّ
___________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 78) وابن كثير [في «السيرة النبوية»] (4/ 473).
(2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، برقم (4437) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(3) سيرة ابن كثير : ج 4 ، ص 474 - 475 ، والرواية في البخاري [في كتاب المغازي ] باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، [برقم (4438) وأحمد (6/ 48) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(4) [الرّكوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء].
(5) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته ، [برقم (4449) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ، برقم (2192) ، والترمذي في أبواب الدعوات ، باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3496) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز ، باب ما جاء في ذكر مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1620) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].

(1/537)


ص : 538
أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ، وقال : «اللهمّ الرفيق الأعلى» ، وكانت آخر كلمة تكلّم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1».
كيف فارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا :
(1/457)
فارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدّنيا ، وهو يحكم جزيرة العرب ، ويرهبه ملوك الدنيا ، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم ، «و ما ترك عند موته دينارا ولا درهما ، ولا عبدا ولا أمة ، ولا شيئا ، إلّا بغلته البيضاء ، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة» «2».
وتوفّي ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير ، ما وجد ما يفكّ به ، حتّى مات صلى اللّه عليه وسلم «3».
وأعتق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفسا ، وكانت عنده سبعة دنانير أو ستّة ، فأمر عائشة - رضي اللّه عنها - أن تتصدّق بها «4».
تقول عائشة - أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها - : توفّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد ، إلا شطر شعير في رفّ لي ، فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني «5».
___________
(1) [قد سبق تخريجه آنفا].
(2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب مرض النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (4461) من حديث عمرو بن الحارث رضي اللّه عنه ].
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل [ (4/ 49) ، برقم (6246) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (4467) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(4) السيرة الحلبية : ج 3 ، ص 381.
(5) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب الفقر ، برقم (6451) ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب الدنيا سجن للمؤمن ، وجنة للكافر ، برقم (2973)].

(1/538)


ص : 539
وكان ذلك الفراق يوم الإثنين 12 ربيع الأول ، سنة 11 للهجرة بعد الزوال «1» ، وله صلى اللّه عليه وسلم ثلاث وستون «2» ، وكان أشدّ الأيام سوادا ووحشة ومصابا على المسلمين ، ومحنة للإنسانيّة ، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس.
(1/458)
يقول أنس وأبو سعيد الخدريّ - رضي اللّه عنهما - : كان اليوم الذي قدم فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة أضاء منها كلّ شيء ، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلّ شي ء.
وبكت أمّ أيمن ، فقيل لها : ما يبكيك على النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ؟ قالت : إنّي قد علمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيموت ، ولكن إنّما أبكي على الوحي الذي رفع عنّا «3».
كيف تلقّى الصحابة نبأ الوفاة ؟
ونزلت وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الصحابة كالصّاعقة ، لشدة حبّهم له ، وما تعوّدوه من العيش في كنفه ، عيش الأبناء في حجر الآباء ، بل أكثر من ذلك ، قد قال اللّه تعالى :
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة : 128].
وقد كان كلّ واحد منهم يحسب أنّه أكرم عليه وأحبّ لديه من صاحبه ،
___________
(1) وقد جاء في بعض الروايات وقت الضحى أو الضحوة كما جاء في «الاستيعاب» ج 1 ، ص 47.
(2) على أرجح الأقوال [انظر فيما أخرجه البخاري في هذا الباب ، في كتاب المغازي ، باب وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (4466) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(3) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 4 ، ص 554 - 556.

(1/539)


ص : 540
ولم يكد بعضهم يصدّق بنبأ وفاته ، وكان في مقدّمتهم عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه - ، فأنكر على من قال : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخرج إلى المسجد وخطب الناس ، وقال : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يموت حتّى يفني اللّه المنافقين «1».
موقف أبي بكر الحاسم :
(1/459)
وكان أبو بكر - رضي اللّه عنه - وهو الذي هيّأه اللّه لخلافة النبوّة والوقوف موقف العزيمة والحكمة ، رجل الساعة المطلوب والجبل الراسي الذي لا يحول ولا يزول ، فأقبل من منزله حين بلغه الخبر ، حتّى نزل على باب المسجد ، وعمر يكلّم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء ، حتّى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت عائشة وهو مسجّى «2» ، فكشف عن وجهه ، ثمّ أقبل عليه فقبّله ، ثمّ قال : بأبي أنت وأمّي ، أمّا الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبدا ، وردّ البرد على وجهه صلى اللّه عليه وسلم.
ثمّ خرج وعمر يكلّم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر! وأنصت ، فأبى إلّا أن يتكلّم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت ، أقبل على الناس ، فلمّا سمعوا كلامه أقبلوا عليه ، وتركوا عمر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أيّها الناس! إنّه من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه ، فإنّ اللّه حيّ لا يموت ، ثمّ تلا هذه الآية :
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
___________
(1) سيرة ابن كثير : ج 4 ، ص 479 [و أخرجه أحمد في المسند (6/ 219 - 220) ، والترمذي في الشمائل باب في وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (373) ، وأبو يعلى في المسند ، برقم (48) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) مسجّى : أي مغطّى ببرد.

(1/540)


ص : 541
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران : 144].
(1/460)
يقول من شهد هذا الموقف : واللّه كأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت حتّى تلاها أبو بكر يومئذ ، وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنّما هي في أفواههم ، ويقول عمر : واللّه ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت «1» حتّى وقعت إلى الأرض ، ما تحملني رجلاي ، وعرفت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد مات «2».
بيعة أبي بكر بالخلافة :
وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة ، في سقيفة «3» بني ساعدة «4» ، حتّى لا يجد الشيطان سبيلا إلى تفريق كلمتهم ، وتمزيق شملهم ، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم ، وليفارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الدّنيا وكلمة المسلمين واحدة ، وشملهم منتظم ، وعليهم أمير يتولّى أمورهم ، ومنها تجهيز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودفنه.
كيف ودّع المسلمون رسولهم وصلّوا عليه ؟
وهدأ النّاس ، وانجلى عنهم ما كانوا فيه من حيرة وغمرة ، وتشاغلوا بما علّمهم رسولهم من عملهم لمن فارق الدّنيا.
___________
(1) أي : تحيرت ودهشت.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 655 - 656 ، ورواه البخاري مطولا [في كتاب المغازي ] باب «مرض النّبي صلى اللّه عليه وسلم ووفاته» [برقم (4452) و(4453) ، من حديث ابن عباس رضي اللّه عنها].
(3) [السّقيفة : صفّة لها سقف ].
(4) [أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب ما جاء في السّقائف ، برقم (2462)].

(1/541)


ص : 542
ولمّا فرغ من غسله وتكفينه صلى اللّه عليه وسلم وقد تولّى ذلك أهل بيته ، وضع سريره في بيته ، وحدّثهم أبو بكر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : «ما قبض نبيّ إلّا دفن حيث قبض» فرفع فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي توفّي فيه ، وحفر له تحته ، وتولّى ذلك أبو طلحة الأنصاريّ.
(1/461)
ثمّ دخلوا يصلّون عليه أرسالا ، دخل الرجال حتّى إذا فرغوا ، أدخل النّساء ، حتّى إذا فرغ النساء ، أدخل الصّبيان ، ولم يؤمّ الناس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد «1».
وكان ذلك يوم الثلاثاء «2».
وكان يوما حزينا في المدينة ، وأذّن بلال بالفجر ، فلمّا ذكر النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم بكى وانتحب ، فزاد المسلمين حزنا ، وقد اعتادوا أن يسمعوا هذا الأذان ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم.
تقول أمّ سلمة - أمّ المؤمنين - : يا لها من مصيبة ، ما أصبنا بعدها بمصيبة إلّا هانت ، إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى اللّه عليه وسلم «3».
وقد قال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم نفسه : «يا أيّها الناس ، أيّما أحد من الناس (أو من المؤمنين) أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي ، عن المصيبة الّتي تصيبه بغيره ،
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 663 [و أخرجه الترمذي في الشمائل ، باب وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (376) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات ، باب ما جاء في صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مرضه ، برقم (1234) ، والطبراني في الكبير برقم (6367) من حديث سالم بن عبيد].
(2) طبقات ابن سعد : نقلا عن «السيرة النبوية لابن كثير ، ج 4 ، ص 507 رواية عن الأوزاعي ، وابن جريح وأبي جعفر.
(3) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 4 ، ص 538 - 549.

(1/542)


ص : 543
فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي» «1».
وقالت فاطمة - رضي اللّه عنها - حين دفن النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا «2» على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التراب «3» ؟!! ولكن مع تعلّقهم به لم ينح عليه ، فقد نهى عن النّياحة أشدّ النهي.
___________
(1/462)
(1) السيرة النبوية : لابن كثير ، ج 4 ، ص 549 ، نقلا عن ابن ماجه [أخرجه في الجنائز ، باب ما جاء في الصبر على المصيبة ، برقم (1599) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) [يحثو التراب : أي يرمي به عن نفسه ].
(3) أخرجه البخاري ، [في كتاب المغازي ] ، باب مرض النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (4462) ، والترمذي في «الشمائل» باب في وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (379) ، وابن ماجه في الجنائز ، باب ذكر وفاته ودفنه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1629) ، وأحمد في المسند (3/ 141) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].

(1/543)


ص : 545
أزواجه أمّهات المؤمنين وأولاده وأسباطه صلى اللّه عليه وسلم
أ - أزواجه صلى اللّه عليه وسلم :
أولاهنّ خديجة بنت خويلد القرشيّة الأسديّة - رضي اللّه عنها - : تزوّجها قبل النبوّة ولها أربعون سنة ، وهي التي آزرته على النبوّة وجاهدت معه ، وواسته بنفسها ومالها ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، وجميع أولاده صلى اللّه عليه وسلم (غير سيدنا إبراهيم) منها ، وكان دائم الذّكر لها ، والاعتراف بفضلها ، وربّما إذا ذبح الشاة يقطعها أعضاء يبعثها في صدائق خديجة - رضي اللّه عنها - «1».
ثمّ تزوّج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة القرشيّة العامرية.
ثمّ تزوّج بعدها عائشة الصّدّيقة حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهي أفقه نساء الأمة وأعلمهنّ ، وكان الأكابر من أصحاب النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم يرجعون إلى قولها ، ويستفتونها.
___________
(1/463)
(1) متفق عليه ، [أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب تزويج النبي صلى اللّه عليه وسلم خديجة ... ، برقم (3816) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل خديجة رضي اللّه عنها ... ، برقم (2435) من حديث عائشة رضي اللّه عنها]. وممّا جاء في رواية عائشة فيها : «ما غرت على أحد من نساء النّبي صلى اللّه عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها قط».

(1/545)


ص : 546
ثمّ تزوّج حفصة بنت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنهما.
ثمّ تزوّج زينب بنت خزيمة ، وتوفّيت عنده بعد شهرين.
ثمّ تزوّج أمّ سلمة هند بنت أبي أميّة حذيفة بن المغيرة القرشيّة المخزوميّة وهي آخر نسائه موتا.
ثمّ تزوّج زينب بنت جحش وهي ابنة عمّته أميمة.
وتزوّج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقيّة
ثمّ أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب
ثمّ صفية بنت حييّ بن أخطب سيّد بني النّضير ومن ولد هارون بن عمران أخي نبيّ اللّه موسى.
ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وهي آخر من تزوّج بها.
ولا خلاف أنّه صلى اللّه عليه وسلم توفي عن تسع زوجات وهنّ من ذكرنا ، غير خديجة وزينب بنت خزيمة ، فقد توفّيتا في حياته صلى اللّه عليه وسلم وكلّهن ثيبات غير عائشة «1».
وتوفّي عن سرّيّتين :
مارية بنت شمعون القبطية المصرية أهداها إليه صلى اللّه عليه وسلم المقوقس عظيم مصر ، وهي أمّ ولده إبراهيم - عليه السلام - .
وريحانة بنت زيد من بني النضير «2» أسلمت فأعتقها ثم تزوّجها «3».
وحرّم اللّه زواجهنّ بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنّهنّ أمّهات المؤمنين ، وفي
___________
(1) ملخصا من «زاد المعاد» لابن القيم : ج 1 ، ص 26 - 29.
(2) ويقال من بني قريظة.
(3) سيرة ابن كثير : ج 4 ، ص 604 - 605.

(1/546)


ص : 547
(1/464)
ذلك حفظ للصلة الدقيقة الحساسة التي تربط الأمّة بنبيّها صلى اللّه عليه وسلم ، فقال تعالى :
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب : 53].
قال ابن كثير في تفسير الآية :
«أجمع العلماء قاطبة على أنّ من توفّي عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أزواجه أنّه يحرم على غيره تزوّجها من بعده ، لأنهنّ أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين» «1».
وقفة قصيرة عند تعدّد الزوجات :
قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شطرا من عمره في العزوبة ، مدّة خمسة وعشرين عاما ، وهي فترة الشباب التي استوفت أفضل شروطه وصفاته ، وكان مثلا للفتوّة الإنسانيّة العربيّة السليمة ، والصحّة التي كان فيها نصيب للنشأة في البادية ، والبعد عن أدواء المدنية ، والتحلّي بأفضل صفات الفروسيّة والرّجولة ، ولم يجد أشدّ أعدائه له مغمزا في هذه الفترة الحاسمة الدقيقة في حياته قبل النبوّة وبعد النبوّة إلى هذا اليوم ، فكان مثالا للطّهر والعفاف والنزاهة والبراءة والعزوف عن كلّ ما لا يليق به.
فلمّا بلغ خمسا وعشرين سنة تزوّج خديجة بنت خويلد ، وهي أيّم ، قد بلغت من عمرها أربعين سنة ، وقد تزوّجت قبله برجلين ، ولها أولاد ، وبينه وبينها من التفاوت في السنّ 15 سنة على القول المشهور ، ثمّ تزوّج بعدها وقد جاوز الخمسين - سودة بنت زمعة ، وقد توفي زوجها في الحبشة مسلما مهاجرا.
___________
(1) سيرة ابن كثير : ج 4 ، ص 493 ، طبع دار الأندلس.

(1/547)


ص : 548
ولم يتزوّج صلى اللّه عليه وسلم بكرا إلا عائشة بنت أبي بكر.
(1/465)
وما تزوّج زواجا إلا ولهذا الزواج مصلحة راجحة من مصالح الدعوة الإسلاميّة ، أو المروءة ومكارم الأخلاق ، أو جلب منفعة عامّة ، ودرء خطر اجتماعيّ كبير ، فقد كان للأرحام والمصاهرة تأثير كبير في حياة العرب القبليّة ، والاجتماعيّة ، وقيمة ليست في أمّة أخرى ، فكان لهذه المصاهرة أثرها البعيد في تاريخ الدعوة الإسلاميّة ، والمجتمع الإسلاميّ المثاليّ ، وحقن الدماء والتوقي من معرّة القبائل العربيّة.
ولم تكن حياته معهنّ حياة ترف ورفاهية ، وتوسّع في المطاعم والمشارب وخفض العيش - وتلك غاية الزوجات في نظر كثير من الناس - بل كانت حياة زهد وتقشّف ، وإيثار وقناعة ، لا يطيقها أعاظم الرجال وكبار الزهاد في القديم والحديث ، وحسب القارىء المنصف أن يقرأ قوله تعالى :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب : 28 - 29].
وكان من أثر هذه الغاية المتوخّاة ، والنفسيّة السامية ، والتربية العميقة المؤثرة ، أن اخترن كلّهنّ - رضي اللّه عنهنّ وأرضاهنّ من غير استثناء وتلكّؤ - اللّه ورسوله والدار الآخرة ، ويكفي مثالا ، ما أجابت به عائشة - رضي اللّه عنها - فلمّا تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية ، وقال لها : «لا عليك ألا تستعجلي حتّى تستأمري أبويك».
قالت له : أفي هذا أستأمر أبويّ ؟ فإنّي أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة «1» ،
___________
(1) وسيمرّ شيء منها بالقارىء في الفصل السادس «الأخلاق والشمائل» من هذا الكتاب.

(1/548)


ص : 549
(1/466)
قالت : ثمّ فعلت أزواج النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم مثل ما فعلت «1».
ولم يشغل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعدّد الزوجات ، وما يستلزم ذلك نفسيا واقتصاديا واجتماعيا ، عن النهوض بأعباء الدعوة ، والجهاد والتقشّف ، والحياة المثالية ، والقيام بالأمور الجسام ، برهة من الزمان ، بل زاده ذلك نشاطا وقوة ، وكنّ أعوانا له على القيام بما أكرمه اللّه به ، من تبليغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، وتعليم المسلمين دينهم ، ذكورا وإناثا ، وكنّ يرافقنه في الحروب والغزوات ، فيداوين الجرحى ويمرّضن المرضى ، ويشرن بالخير ، ويواسين في الشّدّة ، وبهنّ قام نحو ثلث الدين - ممّا يتعلّق بحياته المنزلية والعشرة وكثير من الأحكام - تعلّمها المسلمون منهنّ ، وحفظوه ونشروه «2».
وناهيك بأمّ المؤمنين عائشة - رضي اللّه عنها - فقد قال إمام علم الرجال والطبقات الحافظ أبو عبد اللّه شمس الدين الذّهبيّ (ت 748 ه) في كتابه المشهور «تذكرة الحفّاظ» :
«كانت أكبر فقهاء الصحابة ، كان فقهاء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرجعون
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. برقم (4785) و(4786) ، ومسلم في كتاب الطلاق ، باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية ، برقم (1475) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/ 260) برقم (5309) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، سورة الأحزاب ، برقم (3204) وغيرهم من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(1/467)
(2) وقد أحسن الكلام في موضوع تعدّد الزوجات وما كان فيه من حكم ومصالح وما يحيط به من أحوال وظروف ، مؤلف السيرة الهندي القاضي محمد سليمان المنصور فوري في كتابه النفيس «رحمة للعالمين» راجع ص 141 - 144 ، والكاتب المصري الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد ، في كتابه «عبقرية محمد» تحت عنوان «تعدّد الأزواج» وعنوان «أسباب تعدّد زوجاته».

(1/549)


ص : 550
إليها ، يروى عن قبيصة بنت ذؤيب ، قالت : كانت عائشة أعلم الناس ، يسألها أكابر الصحابة.
وقال أبو موسى : ما أشكل علينا أصحاب محمّد صلى اللّه عليه وسلم حديث قطّ ، فسألنا عائشة ، إلّا وجدنا عندها منه علما.
وقال حسّان : ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال وحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا النّسب من عائشة رضي اللّه عنها» «1».
وأمّا مكارم الأخلاق ، وعلو الهمّة ، والجود ، والمواساة ، فعن البحر حدّث ولا حرج ، وحسبك ما رواه هشام عن أبيه : أنّ معاوية بعث إلى عائشة مئة ألف ، فو اللّه ما غاب علينا الشهر حتّى فرّقتها ، فقالت مولاة لها : لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحما ، فقالت : ألا ذكّرتني «2» ، وكانت صائمة «3».
وقد نشأت «مشكلة تعدّد الزوجات» في حياة محمّد صلى اللّه عليه وسلم وشغلت عقول كثير من الباحثين الغربيين وأقلام الكتاب المستشرقين ، وكثر التساؤل عنها ، بسبب إخضاعهم الحياة الزوجية في بلاد العرب وفي الشريعة الإسلامية ، وفي العصر الذي ظهر فيه الإسلام ، للقيم والتصوّرات والأعراف الغربيّة ، وتسليط الموازين والمقاييس الغربية (التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ، وإنما هي وليدة
___________
(1/468)
(1) تذكرة الحفاظ : ج 1 ، ص 27 - 28 ، طبعة دار إحياء التراث العربي [و أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان ، باب من ناجى بين يدي الناس .. ، برقم (6285) و(6286) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل فاطمة رضي اللّه عنها ، برقم (2450) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) تذكرة الحفاظ : ج 1 ، ص 28.
(3) زيادة من رواية أمّ ذرّ (المصدر السابق).

(1/550)


ص : 551
حضارة خاصّة ومجتمع خاصّ) على ما تقبله الفطرة السليمة والبيئة العربية ، وتقتضيه المصالح الخلقية والاجتماعية ، ويأذن به اللّه.
وتلك نقطة ضعف في التفكير الغربيّ وفي الكتابات الغربية يجعلون الغرب هو الميزان ، ثمّ يطلقون أحكاما قاسية على كلّ ما جانبه أو اختلف عنه ، فيخلقون مشكلة ثمّ يعالجونها ، وما هي إلا نتيجة كبريائهم ، وتقديسهم الزائد للقيم والمثل الغربية.
وقد كان مؤلّف السيرة الإنجليزي المستر yeldoB. C. V. R منصفا وجريئا في نقد هذا الشعور الغربيّ نحو تعدّد الزوجات في حياة النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، يقول في كتابه «حياة محمّد الرسول» :
«إنّه لا داعي إلى قياس حياة محمد الزوجيّة بالمقاييس الغربيّة ، ولا الحكم عليها من وجهة نظر التقاليد والقوانين التي سنّتها المسيحيّة في الغرب ، فلم يكن أولئك الرجال - العرب - غربيين ولا مسيحيين ، إنّما نشؤوا في بلاد وفي عصر كان يسود عليه نظامهم الخلقيّ الخاصّ ، ورغم كلّ ذلك لا مبرر لفتضيل النظام الخلقيّ الأمريكيّ أو الأروبيّ على النظام الخلقيّ العربيّ ، إنّ الغربيين لا يزالون في حاجة إلى بحث دقيق ، وتمحيص كبير لتفضيل نظامهم الخلقيّ وطريقة حياتهم على غيرها ، فعليهم أن يتجنّبوا الطّعن في ديانات أخرى ومدنيات أخرى» «1».
(1/469)
وليست «شناعة» تعدّد الزوجات (التي تخيّلها الغرب ، وآمن بها أبناؤه في تقليد وحماس ، واعتبروها حقيقة بديهية مسلمة ، وجسّمها كتّابه ومشرّعوه) ، شناعة دائمة على مرّ العصور والأجيال ، قائمة على أسس علمية
___________
(1)
R. V. C. Bodley : The Messenger - The Life Of Mohammad, (London, 1946) pp. 202 - 203.

(1/551)


ص : 552
ثابتة ، أو الفطرة الإنسانية السليمة ، بل هي شناعة خيالية عاطفية ، ناتجة عن دعاية قوية متحمّسة ، تخفّ وقد تزول مع الزمان بتغيّر الاتجاهات والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة «1».
___________
(1) وإلى ذلك أشار الكاتب الغربي العصري) relffoT niwlA (في كتابه الحديث) KcohcS erutuF (الذي أحدث دويا في الأوساط العلمية أخيرا ، اقرأ (على سبيل المثال) ص 227 232 ، (طبع لندن 1975 م).

(1/552)


ص : 553
أحوال أمّهات المؤمنين رضي اللّه عنهنّ التاريخية «1»
___________
(1) من إضافات المحقّق الكتاب.

(1/553)


ص : 554
ب - أولاده وأسباطه صلى اللّه عليه وسلم :
ولدت له خديجة القاسم ، وبه كان يكنّى ، ومات طفلا ، ثمّ زينب ثم رقيّة وأمّ كلثوم وفاطمة ، واختلفوا في عبد اللّه ، والطّيب ، والطاهر ، فعدّهم بعضهم ثلاثة أولاد ، والصحيح عند ابن القيّم أنّ الطيب والطاهر لقبان لعبد اللّه ، وهؤلاء كلّهم من خديجة - رضي اللّه عنها - «1».
أمّا فاطمة فهي أحبّ بناته إليه ، وأخبر بأنّها سيدة نساء أهل الجنّة «2» ، وقال : «فاطمة بضعة منّي ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها» «3» ، وهي أوّل أهل بيته لحوقا به.
(1/470)
وولدت له مارية القبطية إبراهيم ، فتوفّي وقد ملأ المهد ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم حين توفّي : «تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا ، إنّا بك يا إبراهيم! لمحزونون» «4».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 25 - 26.
(2) [أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي اللّه عنها ، في كتاب المناقب ، باب علامات النبوّة ... ، برقم (3623) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 402) برقم (6952) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 145) برقم (8512) و(8513) ، وأخرجه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه في أبواب المناقب ، باب مناقب أبي محمّد الحسن بن علي بن أبي طالب ... ، برقم (3781) ، وفي باب ما جاء في فضل فاطمة رضي اللّه عنها ، برقم (3873) ، وأحمد في المسند (5/ 391)].
(3) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، باب مناقب قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3714) ، وفي باب مناقب فاطمة رضي اللّه عنها ، برقم (3767) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل فاطمة رضي اللّه عنها ، برقم (2449) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب ما جاء في فضل فاطمة رضي اللّه عنها ، برقم (3869) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 97) ، برقم (8370) و(8371) وغيرهم من حديث المسور بن مخرمة].
(4) [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ «إنا بك لمحزونون» برقم.

(1/554)


ص : 555
وكسفت الشمس يوم موته ، فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه عزّ وجلّ ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» «1».
الفرق بين نبيّ مرسل وزعيم سياسيّ :
(1/471)
لو كان مكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة أيّ داع من الدعاة ، أو زعيم من الزعماء ، أو قائد دعوة أو حركة أو جماعة ، لسكت على هذا الكلام - إذ لم يوفّق إلى نفيه - ظنّا منه أنّ ذلك الكلام إنّما هو في صالح دعوته وحركته ، وظنّ أنّه لم يسترع الانتباه إلى هذه الناحية ، بل إنّ الناس بأنفسهم فكّروا في ذلك ، وقالوا : إنّ الشمس إنما انكسفت لوفاة ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذا فهو ليس مكلّفا بنفي هذا التفكير.
___________
- (1303) ، وأبو داود في كتاب الجنائز ، باب في البكاء على الميت ، برقم (3126) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (3/ 63) برقم (12126) ، وعبد الرزاق في المصنّف (3/ 553) برقم (6672) ، وابن حبان في الصحيح (7/ 162) برقم (2902) ، وأحمد في المسند (3/ 194) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1/472)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الكسوف [أخرجه البخاري في كتاب الكسوف ، باب الدعاء في الكسوف ، برقم (1060) ، ومسلم في كتاب الكسوف ، باب ما عرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم في صلاة الكسوف ، برقم (907) ، وأبو داود في كتاب صلاة الاستسقاء ، باب صلاة الكسوف ، برقم (1177) ، والنسائي في السنن الكبرى (1/ 567) برقم (1843) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات ، باب ما جاء في صلاة الكسوف ، برقم (1262) ، وأحمد في المسند (2/ 118) وغيرهم من حديث عائشة ، وابن عباس ، والمغيرة بن شعبة رضي اللّه عنهم جميعا]. يقول المرحوم محمود باشا الفلكي في كتابه «التقويم العربي قبل الإسلام وتاريخ ميلاد الرسول وهجرته صلى اللّه عليه وسلم» ص 18 - 19 «قد قمت بحساب دقيق بيّن لي أن الشمس قد كسفت حقيقة كسوفا كليا تقريبا بالمدينة عند الساعة الثامنة والدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل يوم السابع والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني سنة 632 ميلادية 1 ه)». وذلك يوافق اليوم التاسع والعشرين من شوال سنة عشر للهجرة.

(1/555)


ص : 556
وذلك هو الفرق بعينه بين النبيّ وغيره ، فإنّ الأحداث التي يستغلّها أصحاب التفكير السياسيّ - وإن كانت حوادث طبيعية - يرى الأنبياء الكرام عليهم السلام - استغلالها على حساب الدين حراما ، وأمرا يرادف الكفر ، ولا أدري أنّ أحدا سوى محمّد صلى اللّه عليه وسلم يكون قد صدق في هذا الامتحان من غير الأنبياء ، ومن مؤسّسي الجماعات وزعماء السياسة.
وولدت زينب - وقد تزوّجها أبو العاص بن الرّبيع وهو ابن أخت خديجة - ابنا اسمه عليّ ، وبنتا اسمها أمامة.
(1/473)
وتزوّج رقيّة عثمان بن عفّان ، فولدت له ابنه عبد اللّه ، وماتت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببدر ، وكان عثمان قد أقام عندها يمرّضها ، وتزوّج بعدها بأختها أمّ كلثوم ، ولهذا كان يقال له «ذو النورين» وتوفّيت عنده أيضا في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وتزوّجت فاطمة عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ، ابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فولدت له حسنا ، وبه كان يكنى ، وحسينا ، وفيهما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«هما ريحانتاي من الدّنيا» «1» ، وفيهما قال : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» «2».
___________
(1) مقتبس من هامش «مطلع الأنوار» لابن الربيع ، ص 67 ، [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، باب مناقب الحسن والحسين رضي اللّه عنها ، برقم (3753) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب والحسين بن علي رضي اللّه عنهما ، برقم (3770) ، والطبراني في الكبير (3/ 127) برقم (2884) ، وأبو يعلى في المسند ، (10/ 106) ، برقم (5739) وغيرهم من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما].
(2) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما ، برقم (3768) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 50) برقم (8169) ، -

(1/556)


ص : 557
وقد بارك اللّه في ذريّتهما ، ونفع بها الإسلام والمسلمين ، وكان منهم سادة وقادة ، وأئمة في العلم والدّين والجهاد والزهادة.
وولدت فاطمة لعليّ زينب وأمّ كلثوم ، وتزوّج زينب ابن عمّها عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، أحد أجواد العرب في الإسلام ، وولدت له عليّا وعونا ، وتزوّج أمّ كلثوم بنت عليّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه ، فولدت زيدا ومات عنها «1».
(1/474)
وكلّ أولاده صلى اللّه عليه وسلم توفّي قبله إلّا فاطمة ، فإنّها تأخّرت بعده بستة أشهر «2».
___________
- وأحمد في المسند (3/ 64) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه ، وقد روي هذا الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه أيضا].
(1) مقتبس من «السيرة النبوية» لابن كثير وغيره : ج 4 ، ص 581 - 582.
(2) زاد المعاد : لابن قيم الجوزية ، ج 1 ، ص 26.

(1/557)


ص : 559
الفصل السادس الأخلاق والشّمائل
صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلقا وخلقا
مع النّاس
في منزله ومع أهله وعياله
رقّة الشعور الإنساني ونبل العاطفة
كرمه وحلمه
الحفاظ على أصالة الدين والغيرة على روحه وتعاليمه
تواضعه
شجاعته وحياؤه
رأفة عامّة ورحمة واسعة
أسوة كاملة وقدوة عامّة

(1/559)


ص : 561
الأخلاق والشّمائل
صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلقا وخلقا :
وصفه صلى اللّه عليه وسلم هند ابن أبي هالة (ابن خديجة أم المؤمنين وخال الحسن والحسين رضي اللّه عنهما) وكان رجلا وصّافا ، فقال :
«كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متواصل «1» الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السّكت ، لا يتكلّم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه «2» ، ويتكلّم بجوامع الكلم ، كلامه فصل «3» ، لا فضول ولا تقصير.
ليس بالجافي «4» ، ولا المهين «5» ، يعظّم النعمة وإن دقّت «6» ، لا يذمّ منها شيئا ، غير أنّه لم يكن يذمّ ذوّاقا «7» ولا يمدحه.
___________
(1) أي لا ينفك حزن عن حزن يعقبه.
(2) جمع شدق بالكسر : طرف الفم ، أي إنه يستعمل جميع فمه للتكلّم ، ولا يقتصر على تحريك شفتيه كفعل المتكبّرين.
(3) الفاصل بين الحق والباطل.
(4) الغليظ الطبع السيىء الخلق.
(1/475)
(5) يروى بضم الميم أو بفتحها ، فالضم على الفاعل من «أهان» أي لا يهين من يصحبه ، والفتح على المفعول من المهانة : أي الحقارة ، والابتذال ، فالمعنى لم يكن غليظ الخلق ولا ضعيفه ، بل كان معتدلا بين أنواع المهابة والوقار والجلالة.
(6) صغرت وقلت.
(7) المأكول والمشروب ، أي : كان صلى اللّه عليه وسلم يمدح جميع نعم اللّه ، ولا يشتغل بمذمتها قطّ.

(1/561)


ص : 562
ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها «1» ، فإذا تعدّي الحقّ ، لم يقم لغضبه شيء ، حتّى ينتصر له ، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها.
إذا أشار أشار بكفّه كلّها ، وإذا تعجّب قلبها ، وإذا تحدّث اتّصل بها ، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح «2» ، وإذا فرح غضّ طرفه.
جلّ «3» ضحكه التبسّم ، يفترّ «4» عن مثل حبّ الغمام «5» «6».
ووصفه عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - وهو من أعرف الناس به ، وأكثرهم عشرة له ، وأقدرهم على الوصف والبيان ، فقال :
«لم يكن فاحشا «7» ، متفحّشا «8» ، ولا صخّابا «9» في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح «10» ، ما ضرب بيده شيئا قطّ ، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه ، ولا ضرب خادما ولا امرأة ، وما رأيته منتصرا «11»
___________
(1) أي ولا يغضبه أيضا ما كان له علاقة بالدنيا.
(2) جد في الإعراض وبالغ فيه.
(3) معظمه وأكثره.
(4) من افتر : ضحك ضحكا حسنا حتى بدت أسنانه من غير قهقهة.
(5) بفتحتين : البرد.
(6) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب كيف كان كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (225) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 155) برقم (1425) ، والطبراني في الكبير (22/ 156) برقم (414) من حديث هند بن أبي هالة رضي اللّه عنه ].
(7) أي ذو فحش من القول والفعل ، وإن كان استعماله في القول أكثر منه في الفعل والصفة.
(1/476)
(8) أي ولا المتكلف به ، أي ولم يكن الفحش له خلقيا ولا كسبيا.
(9) أي صياحا.
(10) صفح عنه : أعرض عنه وتركه ، بابه فتح.
(11) منتقما.

(1/562)


ص : 563
من مظلمة ظلمها قطّ ما لم ينتهك من محارم اللّه تعالى شيء ، فإذا انتهك من محارم اللّه ، كان من أشدّهم غضبا ، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وإذا دخل بيته كان بشرا من البشر ، يفلّي «1» ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه.
كان يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه ، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم ، ويكرم كريم كلّ قوم ، ويولّيه عليهم ، ويحذّر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي على أحد منهم بشره «2» ، ولا خلقه.
ويتفقّد «3» أصحابه ، ويسأل الناس عمّا في الناس ، ويحسّن الحسن ويقوّيه ، ويقبّح القبيح ويوهيه «4» ، معتدل الأمر غير مختلف ، ولا يغافل مخافة أن يغافلوا ويملّوا ، لكلّ حال عنده عتاد «5» ولا يقصّر عن الحقّ ، ولا يجاوزه ، الذين يلونه من النّاس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة «6» ومؤازرة «7».
ولا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، يعطي كلّ جلسائه نصيبه ، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو فاوضه «8» في حاجة صابره حتّى يكون هو
___________
(1) فلّى يفلّي فليا رأسه أو ثوبه : نقاهما من القمل.
(2) بالكسر : طلاقة الوجه وبشاشته.
(3) أي يتعرف ويطلب من غاب عنهم.
(4) بتشديد الهاء وتخفيفها من التوهية والإيهاء : يضعفه.
(5) بالفتح هو العدة والتأهب مما يصلح لكل ما يقع ، ج أعتد ، وعتد ، وأعتدة.
(6) المداراة ، وهي إصلاح أحوال الناس بالمال والنفس.
(7) المعاونة.
(8) عامله في حاجة أو خالطه.

(1/563)


ص : 564
المنصرف ، ومن سأله حاجته لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول.
(1/477)
وقد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحقّ سواء ، مجلسه مجلس علم وحياء وصبر وأمانة ، ولا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن «1» فيه الحرم ، ولا تنثى «2» فلتاته «3» ، متعادلين «4» يتفاضلون فيه بالتقوى ، ويوقّرون فيه الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب».
وقال : «كان دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن «5» الجانب ، ليس بفظّ «6» ، ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا عيّاب ، ولا مشاح «7» يتغافل عمّا لا يشتهي ، ولا يؤيس منه ، ولا يجيب فيه «8».
قد ترك نفسه من ثلاث : المراء «9» ، والإكبار ، وما لا يعنيه ، ترك الناس من ثلاث : كان لا يذمّ أحدا ولا يعيبه ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلّم إلا فيما رجا ثوابه ، وإذا تكلّم أطرق «10» جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، فإذا
___________
(1) بضم التاء وسكون الهمزة من الأبن وهو العيب والتهمة ؛ أي لا تقذف ولا تعاب.
(2) بضم التاء وسكون النون وفتح المثلثة أي لا تشاع ولا تذاع.
(3) أي زلاته ومعائبه على تقدير وجود وقوعها ، جمع فلتة وهي ما يصدر من الرجل من سقطة.
(4) متساوين.
(5) أي سريع العطف ، كثير اللطف ، جميل الصفح ، وقليل الخلاف ، وقيل : كناية عن السكون والوقار والخشوع والخضوع.
(6) الغليظ السيىء الخلق ، الخشن الكلام ، ج أفظاظ ، وفي القرآن : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران : 159].
(7) اسم فاعل من المفاعلة من الشح ، وهو البخل ، وقيل أشده.
(8) أي لا يجيب أحدا فيما لا يشتهي بل يسكت عنه عفوا وتكرما.
(9) الجدال.
(10) أمالوا رؤوسهم ، وأقبلوا ببصرهم إلى صدورهم.

(1/564)


ص : 565
(1/478)
سكت تكلّموا ، لا يتنازعون عنده الحديث ومن تكلّم عنده أنصتوا له حتّى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أولهم «1» يضحك ممّا يضحكون ، ويتعجّب مما يتعجّبون ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتّى كان أصحابه يستجلبونهم ، ويقول : إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه «2» ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء «3» ، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز «4» فيقطعه بنهي أو قيام».
أجود الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة «5» ، وألينهم عريكة «6» ، وأكرمهم عشيرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبّه ، يقول ناعته :
لم أر قبله ولا بعده مثله صلى اللّه عليه وسلم» «7».
وقد كسا اللّه نبيّه لباس الجمال ، وألقى عليه محبّة ومهابة منه ، وصفه هند بن أبي هالة ، فقال :
«كان فخما «8» ، مفخّما «9» ، يتلألأ «10» وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر» «11».
___________
(1) أي حديث أفضلهم وكأول تكلمهم ، أي لا عن ملال وسامة.
(2) الإرفاد : الإعطاء والإعانة.
(3) أي مقارب في مدحه ، لا يجاوز عن حد مثله ، ولا مقصر به عما رفعه اللّه إليه من علو مقامه.
(4) أي يتجاوز عن الحد والحق.
(5) اللسان.
(6) الطبيعة ؛ ج عرائك.
(7) ملتقطا من جزء الشمائل للترمذي.
(8) بفتح الفاء وسكون الخاء : أي عظيما في نفسه.
(9) أي المعظم في الصدور والعيون.
(10) أي يستنير.
(11) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب كيف كان كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (7) ، وابن سعد في «الطبقات» (1/ 316) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 286) من حديث هند بن أبي هالة].

(1/565)


ص : 566
ووصفه البراء بن عازب - رضي اللّه عنه - فقال : «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مربوعا «1» ، وقد رأيته في حلّة حمراء ، ما رأيت شيئا قطّ أحسن منه» «2».
(1/479)
ووصفه أبو هريرة - رضي اللّه عنه - فقال : «كان ربعة «3» ، وهو إلى الطول أقرب ، شديد البياض ، أسود شعر اللحية ، حسن الثّغر ، أهدب «4» أشعار العينين ، بعيد ما بين المنكبين (إلى أن قال) : لم أر مثله قبل ولا بعد» «5».
ويقول أنس - رضي اللّه عنه - : «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» «6».
مع اللّه تعالى :
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع ما أكرمه اللّه به من الرسالة والخلّة والاصطفاء وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر أعظم الناس اجتهادا في العبادة ، وحرصا عليها ، وولعا بها.
___________
(1) وسط القامة.
(2) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3551) ، ومسلم في الفضائل ، باب في صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ... ، برقم (2337) ، وأبو داود في كتاب اللباس ، باب في الرخصة في ذلك ، برقم (4072) ، والترمذي في «الشمائل» ، باب صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].
(3) الوسط القامة.
(4) الطويل الأشعار.
(5) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» باب : إذا التفت التفت جميعا ، برقم (1155)].
(6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، [برقم (3561) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب طيب ريحه صلى اللّه عليه وسلم برقم (2330)].

(1/566)


ص : 567
يقول المغيرة بن شعبة : «قام النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم حتّى تورّمت قدماه ، فقيل له :
يا رسول اللّه! تفعل هذا وقد غفر اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟» «1».
وقالت عائشة - رضي اللّه عنها - : «قام النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم باية من القرآن ليلة» «2».
(1/480)
وقال أبو ذرّ : «قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى أصبح باية ، والآية :
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» [المائدة : 118]».
وعن عائشة أيضا : «كان يصوم حتّى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتّى نقول : لا يصوم» «4».
وقال أنس : «كان لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته ، ولا نائما إلا رأيته» «5».
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، تفسير سورة الفتح ، برقم (1130) ، ومسلم في صفات المنافقين ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، برقم (2819) ، والنّسائي في كتاب قيام الليل ، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل ، برقم (1645) ، والترمذي في «الشمائل» باب في عبادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (261) ، وابن ماجه في إقامة الصلوات ، باب ما جاء في طول القيام في الصلوات ، برقم (1419)].
(2) أخرجه الترمذي [في أبواب الصلاة ، باب ما جاء في القراءة بالليل ، برقم (448)].
(3) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (1/ 346) برقم (1083) ، وابن ماجه ، [في إقامة الصلوات ] ، باب ما جاء في القراءة في الليل [برقم (1350)].
(4) [أخرجه مسلم في كتاب الصيام ، باب صيام النبي صلى اللّه عليه وسلم في غير رمضان ، برقم (1156) ، والترمذي في أبواب الصوم ، باب ما جاء في صوم الدهر ، برقم (768) ، وفي «الشمائل» في باب ما جاء في صوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برقم (294)].
(5) أخرجه البخاري في كتاب التهجد ، باب قيام النبي صلى اللّه عليه وسلم ونومه ، برقم (1141) ، والترمذي في الصوم ، باب ما جاء في سرد الصوم ، برقم (769) ، وأحمد (3/ 104 - 114)].

(1/567)


ص : 568
(1/481)
وعن عبد اللّه بن الشّخّير ، قال : «أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلّي ، ولجوفه أزير كأزيز المرجل «1» ، من البكاء» «2».
وكان لا يكاد يتسلّى عن الصلاة ، ويرغب عنها إلى غيرها فيقول :
«و جعلت قرّة عيني في الصلاة» «3».
ويقول الصحابة - رضي اللّه عنهم - : كان إذا حزبه أمر صلّى «4».
وعن أبي الدّرداء - رضي اللّه عنه - : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة ، كان مفزعه إلى المسجد ، حتّى تسكن الريح ، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر ، كان مفزعه إلى الصلاة حتّى ينجلي «5».
وكان يحنّ إلى الصلاة ، ويتحيّنها ، فلا يهدأ له بال ، ولا يقرّ له قرار ، حتى يقبل عليها ، وكان يقول أحيانا لمؤذّنه بلال : «يا بلال! أقم الصلاة ، أرحنا بها» «6».
نظرته صلى اللّه عليه وسلم إلى الحياة وزهده فيها :
أمّا نظرته إلى الدّيا نار والدّرهم ، والمال والمتاع فأكبر مجموعة من
___________
(1) [المرجل : قدر من نحاس ، وأزيره : صوت غليانه ، والمراد به : ما كان يعرض له في الصلاة من الخوف الذي يوجب ذلك الصوت ].
(2) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب في بكاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (319) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب البكاء في الصلاة ، برقم (904) ، والنسائي في «السنن الكبرى» (1/ 195) برقم (544) ، وأحمد (4/ 25)].
(3) أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء ، باب حب النساء ، [برقم (3939)].
(4) أخرجه أبو داود في كتاب التطوع ، باب وقت قيام النبي صلى اللّه عليه وسلم من الليل ، برقم (1319).
(5) أخرجه الطبراني في الكبير [و قال الهيثمي في المجمع (2/ 411) : رواه الطبراني في الكبير من رواية زياد بن صخر عن أبي الدرداء ، ولم أجد من ترجمه ، وبقية رجاله ثقات ].
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب في صلاة العتمة ، [برقم (4985) و(4986)].
(1/482)

(1/568)


ص : 569
الألفاظ ، وقدرة بيانية لا تفي بالغرض ، فإنّ تلاميذ مدرسته الإيمانيّة الربانيّة ، وتلاميذ تلاميذهم من العرب والعجم ، في مشارق الأرض ومغاربها ، نظروا إلى الدينار والدرهم كالخزف والحصى والرمل والتراب ، وروي عنهم من الزهادة في الدّنيا ، والاستهانة بزخارف الحياة ، والغرام بإنفاق المال على غيرهم ، وإيثارهم عليهم ، والقناعة بالكفاف وأقلّ من الكفاف ، ما يحيّر الألباب «1» ، فكيف بالرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلم الذي كان قدوتهم في كلّ خير وفضل ، وإمامهم ومعلّمهم.
ولكنّنا نترك ما رواه الصحابة - رضي اللّه عنهم - في هذا الباب ، وما جرى على لسانهم من الأقوال ينطق بذلك ، فلا كلام أبلغ من الحوادث والأخبار ، ولا أنطق منها.
كان قوله المأثور المشهور ، وبه كان عمله ، وعليه تدور حياته صلى اللّه عليه وسلم :
«اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخرة» «2».
وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول : «ما لي وللدنيا ، وما أنا والدنيا إلّا كراكب استظلّ تحت شجرة ، ثمّ راح وتركها» «3».
ورآه عمر مضطجعا على حصير ، قد أثّر في جنبه ، فهملت عينا عمر ،
___________
(1) وليراجع في ذلك الكتب التي ألفت في هذا الموضوع ، ككتاب الزهد لعبد اللّه بن المبارك ، وكتاب الزهد للبيهقي ، و«صفة الصفوة» لابن الجوزي ، و«حلية الأولياء» لأبي نعيم.
(2) [أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب : مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المدينة ، برقم (3932) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب ابتناء مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب في بناء المساجد ، برقم (453) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1/483)
(3) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده [و أخرجه الترمذي في أبواب الزهد ، باب حديث «ما الدنيا إلا كراكب استظلّ» برقم (4109) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].

(1/569)


ص : 570
فقال : ما لك ؟ فقال : يا رسول اللّه! أنت صفوة اللّه من خلقه ، وكسرى وقيصر فيما هما فيه ؟
فاحمرّ وجهه ، وقال : «أو في شكّ أنت يا بن الخطّاب ؟» ثمّ قال :
«أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا» «1».
وكان لا يحبّ هذا الطّراز من المعيشة لنفسه فقط ، بل كان يحبّه لأهله وعياله ، ويؤثره لهم ، فروي عنه أنّه قال : «اللّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا» «2».
وقال أبو هريرة - رضي اللّه عنه - : «و الذي نفس أبي هريرة بيده ، ما شبع نبيّ اللّه وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدّنيا» «3».
وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : «إن كنّا آل محمد ليمرّ بنا الهلال ما نوقد نارا ، إنّما هما الأسودان : التّمر والماء» «4».
___________
(1) راجع الحديث بطوله في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب الغرفة والعلية المشرفة .. برقم (2468) ، ومسلم في الطلاق ، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن .. ، برقم (1479) ، والترمذي في تفسير القرآن ، في تفسير سورة التحريم ، برقم (3318) ، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب كيف كان عيش النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه .. ، برقم (6460) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب في الكفاف والقناعة ، برقم (1055) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(1/484)
(3) أخرجه مسلم [في كتاب الزهد ، باب : الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر ، برقم (2979) ، والترمذي في أبواب الزهد ، باب ما جاء في معيشة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأهله ، برقم (2358) ، وابن ماجه في أبواب الأطعمة ، باب خبز البر ، برقم (3343) ، وأحمد في المسند (2/ 434)].
(4) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الهبة .. ، باب فضل الهبة (2567) ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب : الدنيا سجن للمؤمن .. ، برقم (2972)].

(1/570)


ص : 571
وقد كانت له درع مرهونة عند يهوديّ ، فما وجد ما يفكّها ، حتّى مات «1».
وإنّه صلى اللّه عليه وسلم حجّ حجّة الوداع ، والمسلمون معه مدّ البصر ، والجزيرة خاضعة له ، على رحل رثّ ، عليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم ، فقال :
«اللّهمّ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» «2».
وقد قال صلى اللّه عليه وسلم لأبي ذرّ - رضي اللّه عنه - : «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار ، إلّا شيء أرصده لدين ، إلّا أن أقول به في عباد اللّه هكذا ، وهكذا ، وهكذا ، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه» «3».
ويقول جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - : «ما سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شيء فقال : لا» «4».
وعن ابن عبّاس - رضي اللّه عنهما - قال : «كان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة» «5».
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب ما قيل في درع النبي صلى اللّه عليه وسلم والقميص في الحرب ، برقم (2916) ، ومسلم في كتاب المساقاة ، باب الرهن وجوازه ، برقم (1603) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» [باب تواضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (332) ، وابن ماجه في أبواب المناسك ، باب الحج على الرحل ، برقم (2890) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].
(1/485)
(3) متفق عليه واللفظ للبخاري ، كتاب الرقاق ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «ما أحبّ أنّ لي أحدا ذهبا» برقم (6445) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدّي الزكاة ، برقم (991) ، وابن ماجه في أبواب الزهد ، باب مجالسة الفقراء ، برقم (4132)].
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب حسن الخلق ، [برقم (6034) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب في سخائه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2311)].
(5) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي ، برقم (6) ، ومسلم في كتاب -

(1/571)


ص : 572
وعن أنس - رضي اللّه عنه - «أنّ رجلا سأله ، فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى بلاده ، وقال : أسلموا ، فإنّ محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة».
وحمل إليه صلى اللّه عليه وسلم تسعون ألف درهم ، فوضعت على حصير ، ثمّ قام إليها يقسّمها ، فما ردّ سائلا حتى فرغ منها».
مع الناس :
وكانت لا تمنعه هذه العبادة والزهد في الدّنيا ، والإقبال على اللّه بقلبه وقالبه ، والاشتغال به ، ومناجاته ، عن دوام البشر ، وطلاقة الوجه ، وتفقّد القلوب ، وملاطفة الناس ، وإيتاء كلّ ذي حقّ حقّه ، وذلك شيء لا يقوى عليه غيره.
وقد كان يقول : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «1».
وقد كان أوسع الناس صدرا ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشيرة ، وكان يمازح أصحابه ، ويخالطهم ويحادثهم ، ويداعب صبيانهم ، ويجلسهم في حجره ، ويجيب دعوة الحرّ والعبد ، والأمة والمسكين ، ويعود المرضى في أقصى المدينة ، ويقبل عذر المعتذر «2» ولم ير مادّا رجليه بين أصحابه حتى لا يضيّق بهما على أحد.
___________
- الفضائل ، باب جوده صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2308) وغيرهما].
(1/486)
(1) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لو تعلمون ما أعلم ..» برقم (6485) ومسلم في كتاب الفضائل ، باب توقيره صلى اللّه عليه وسلم وترك إكثار سؤاله .. ، برقم (2359)]
(2) من كلام أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، رواه أبو نعيم في الحلية.

(1/572)


ص : 573
يقول عبد اللّه بن الحارث - رضي اللّه عنه - : ما رأيت أكثر تبسّما من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1».
وعن جابر بن سمرة - رضي اللّه عنه - قال : «جالست رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر من مئة مرّة ، فكان أصحابه يتناشدون الشعر ، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهليّة ، وهو ساكت وربّما تبسّم معهم».
ويقول الشّريد الثّقفي : «استنشدني نبيّ اللّه شعر أميّة بن أبي الصّلت فأنشدته» «2».
وكان حنونا ودودا ، تجلّت فيه العواطف الإنسانية ، والمشاعر اللطيفة في أسمى مظاهرها وأجملها.
يقول أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - : «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول.
لفاطمة : ادعي لي ابنيّ (يعني الحسن والحسين رضي اللّه عنهما) فيشمّهما ويضمّهما إليه «3» ، ودعا سبطه حسن بن عليّ مرة ، فجاء يشتدّ ، فوقع في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمّ أدخل يده في لحيته ، ثمّ جعل النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم يفتح فاه ، فيدخل فاه في فيه» «4».
وتقول عائشة - رضي اللّه عنها - : «قدم زيد بن حارثة (وهو مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) المدينة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته ، فأتاه ، فقرع الباب ، فقام
___________
(1) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب ما جاء في صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3641) ، وفي «الشمائل» في باب ضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (230)].
(1/487)
(2) [أخرجه مسلم في كتاب الشعر ، باب : في إنشاد الأشعار .. ، برقم (2255) ، وابن ماجه في أبواب الأدب ، باب الشعر ، برقم (3758) من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه ].
(3) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب مناقب الحسن والحسين رضي اللّه عنهما ، [برقم (3772)].
(4) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» في باب الاحتباء ، برقم (1183)].

(1/573)


ص : 574
إليه النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم عريان ، يجرّ ثوبه ، فاعتنقه وقبّله «1».
وعن أسامة بن زيد - رضي اللّه عنه - أنّ ابنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسلت إليه أنّ ابني قد احتضر ، فاشهدنا ، فأرسل يقرأ السّلام ، ويقول : «إنّ للّه ما أخذ وما أعطى ، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى ، فلتصبر ولتحتسب ، فأرسلت إليه تقسم عليه ، فقام وقمنا معه ، فلمّا قعد رفع إليه ، فأقعده في حجره ، ونفس الصبيّ تقعقع «2» ، ففاضت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال سعد : ما هذا يا رسول اللّه ؟! قال : «هذه رحمة يضعها اللّه في قلوب من يشاء من عباده ، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرّحماء» «3».
ولمّا شدّ وثاق العباس في أسرى بدر ، فسمعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يئنّ لم يأخذه النوم ، فبلغ الأنصار ، فأطلقه الأنصار ، ولم تحمله تلك الشفقة على التمييز بينه وبين سائر أسرى بدر ، فلمّا فهم الأنصار رضا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفكّ وثاقه ، سألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه ، فلم يجبهم إلى ذلك «4».
وجاء أعرابيّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : أتقبّلون الصّبيان ؟ فما نقبّلهم ؟
فقال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «أو أملك لك إذا نزع اللّه الرحمة من قلبك ؟» «5».
___________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب الاستئذان ، باب ما جاء في المعانقة ، [برقم (2732)].
(1/488)
(2) [أي تضطرب وتتحرّك. أراد : كلّما صار إلى حال لم يلبث أن ينتقل إلى أخرى تقرّبه من الموت ].
(3) أخرجه البخاري في كتاب المرض ، باب عيادة الصبيان ، برقم (5655) ، وفي كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «يعذّب الميّت ببعض بكاء أهله» ، [برقم (1284) ، وأحمد في المسند (6/ 245)].
(4) فتح الباري : ج 8 ، ص 324 (الطبعة المصرية) [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدرا ، برقم (4018) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب : رحمة الوالد ، [برقم (5998) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب رحمته صلى اللّه عليه وسلم الصبيان والعيال .. ، برقم (2317) ، وابن ماجه في -

(1/574)


ص : 575
وكان عطوفا على الصبيان ، رفيقا بهم.
روي عن أنس - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على صبيان يلعبون ، فسلّم عليهم «1»
يقول أنس بن مالك : كان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ليخالطنا حتّى يقول لأخ لي صغير :
«يا أبا عمير! ما فعل النّغير «2»» «3».
وكان شديد الرّأفة بالمسلمين ، كثير المراعاة لاختلاف أحوالهم ، وما يعتري النفوس من فتور وملل.
يقول ابن مسعود - رضي اللّه عنه - : «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتخوّلنا «4» بالموعظة كراهة السامة علينا «5» ، وكان مع شدّة ولعه بالصلاة يتجوّزها إذا سمع بكاء صبيّ ، فقد روي عنه أنّه قال : «إنّي لأقوم في الصلاة أريد أن
___________
- أبواب الأدب ، باب برّ الوالدين والإحسان إلى البنات ، برقم (3665) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان ، [باب التسليم على الصبيان ، برقم (6247) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب استحباب السلام على الصبيان ، برقم (2168) ، والترمذي في أبواب الاستئذان ، باب ما جاء في التسليم على الصبيان ، برقم (2696)].
(1/489)
(2) [النّغير : هو تصغير النّغر ، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار].
(3) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» في باب المزاح مع الصبي ، برقم (269) ، وأخرجه في الصحيح في كتاب الأدب ، باب الانبساط إلى الناس ، برقم (6129) ، ومسلم في كتاب الآداب ، باب جواز تكنية من لم يولد له .. ، برقم (2150) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في الرجل يتكنى وليس له ولد ، برقم (4969) ، والترمذي في أبواب الصلاة ، باب ما جاء في الصلاة على البسط ، برقم (333)].
(4) [يتخوّلنا : أي يتعهّدنا].
(5) [أخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، باب الموعظة ساعة بعد ساعة ، برقم (6411) ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين ، باب الاقتصاد في الموعظة ، برقم (2821) ، والترمذي في أبواب الأدب ، باب ما جاء في الفصاحة والبيان ، برقم (2855)].

(1/575)


ص : 576
أطوّل فيها ، فأسمع بكاء الصبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه» «1».
وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - أنّ رجلا قال : واللّه يا رسول اللّه! إنّي لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممّا يطيل بنا ، فما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في موعظة أشدّ غضبا منه يومئذ ، ثمّ قال : «إنّ منكم منفّرين ، فأيّكم صلّى بالناس فليتجوّز ، فإنّ فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» «2».
ومن ذلك أنّ أنجشة «3» كان يحدو بالنساء ، وكان حسن الصوت ، والإبل تسرع إذا سمعت الحداء «4» ، فيشقّ ذلك على النساء ، فقال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم :
«يا أنجشة! رويدك سوقك بالقوارير «5»» «6».
وقد برّأه اللّه من الحقد ، ومن أن يضمر لأحد سوءا.
روي عنه أنّه كان يقول : «لا يبلّغني أحد منكم من أصحابي شيئا ، فإنّي
___________
(1/490)
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي ، [برقم (707) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب تخفيف الصلاة. برقم (789) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات ، باب : من أمّ قوما فليخفف ، برقم (984)].
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب : تخفيف الإمام القراءة ، [برقم (702) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام ، برقم (466) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات ، باب : من أمّ قوما فليخفف ، برقم (984)].
(3) [هو غلام أسود كان حاديا ، وكان حسن الصوت بالحداء ، يكنى أبا مارية].
(4) [الحداء : سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء ، ويكون بالرجز غالبا].
(5) [أراد بالقوارير : النساء ، شبّههنّ بها من الزجاج ، لأنه يسرع إليها الكسر ، وهو من المجاز].
(6) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» [في باب المزاح ، برقم (264) وأخرجه في الصحيح في كتاب الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز .. ، برقم (6149) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب رحمة النبي صلى اللّه عليه وسلم للنساء .. ، برقم (2323) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].

(1/576)


ص : 577
أحبّ أن أخرج إليكم ، وأنا سليم الصدر» «1».
وكان لهم أبا رحيما ، وأصبح المسلمون كلّهم له عيالا ، يحنو عليهم حنوّ المرضعات على الفطيم ، لا شأن له بما متّعهم اللّه به من مال ، ووسّع لهم في الرّزق.
أمّا ديونهم ، وما يثقل كواهلهم ، فكان يستقلّ به ، ويقول : «من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك كلّا فإلينا» «2».
وفي رواية أنّه قال : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدّنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات ، وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا ، فليأت مولاه» «3».
اعتدال الفطرة وسلامة الذوق :
(1/491)
وقد خلقه اللّه في أتمّ خلق وخلق ، وإليه المنتهى - عبر القرون والأجيال - في اعتدال الفطرة ، وسلامة الذّوق ، ورقّة الشعور ، والسّداد ، والاقتصاد ، والبعد عن الإفراط والتفريط ، تقول عائشة - رضي اللّه عنها - : «ما خيّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ، فإن كان
___________
(1) كتاب الشفاء : ص 55 ، أخرجه عن طريق أبي داود [و أخرجه في سننه في كتاب الأدب ، باب في رفع الحديث من المجلس ، برقم (4860) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب فضل أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3896) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنهما].
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض ، باب : الصلاة على من ترك دينا ، [برقم (2298) ، وأبو داود في كتاب الفرائض ، باب في ميراث ذوي الأرحام ، برقم (2899) و(2900) ، وابن ماجه في أبواب الصدقات ، باب : من ترك دينا أو ضياعا فعلى اللّه ورسوله ، برقم (2416)].
(3) [قد سبق تخريجه في الحديث السابق ].

(1/577)


ص : 578
إثما ، كان أبعد الناس منه» «1».
وكان أبعد الناس عن التكلّف ، والمغالاة في الزهد ، وحرمان النفس حقوقها.
روي عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «إنّ الدّين يسر ، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه ، فسدّدوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة «2»» «3».
وقال : «مه! عليكم بما تطيقون ، فو اللّه ما يملّ اللّه حتّى تملّوا».
وعن ابن عبّاس - رضي اللّه عنهما - قال : سئل النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم أي الأديان أحبّ إلى اللّه ؟ قال : «الحنيفية السّمحة «4»» «5».
وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - قال : قال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «هلك المتنطّعون» «6».
___________
(1/492)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب : الدين يسر ، برقم (3560) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب مباعدته صلى اللّه عليه وسلم للآثام ، برقم (2327) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في التجاوز في الأمر ، برقم (4785)].
(2) [الدّلجة ، بالضم والفتح : هو سير الليل ].
(3) أخرجه البخاري [في كتاب الإيمان ، باب : الدين يسر برقم (39) ، والنسائي في كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ، برقم (5037)].
(4) [الحنيفية السمحة : هي ملّة إبراهيم عليه السلام ، ومعنى السّمحة : السهلة].
(5) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» باب حسن الخلق ، برقم (287) ، وأحمد في المسند (1/ 236) والحديث حسن لغيره ].
(6) المتنطّعون : المتشدّدون المتعمّقون ، أخرجه مسلم [في كتاب العلم ، باب : هلك المتنطعون ، برقم (2670) ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ، برقم (4608)].

(1/578)


ص : 579
وقال لبعض من بعثهم للدعوة والتعليم : «يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا» «1».
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» «2».
في منزله ومع أهله وعياله :
وكان في منزله بشرا من البشر ، كما تقول عائشة - رضي اللّه عنها - :
«كان يفلّي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه».
وقالت : «كان يرقع الثوب ، ويخصف النّعل».
ونحو هذا قيل لعائشة - رضي اللّه عنها - : ما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصنع في أهله ؟ قالت : «كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة ، خرج إلى الصلاة» «3».
وفي رواية : «كان يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، كما يعمل أحدكم في بيته» «4».
___________
(1/493)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب : ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب .. ، برقم (3038) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب في الأمر بالتيسير وترك التفسير ، برقم (1733) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في كراهة المراء ، برقم (4835) وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه ].
(2) أخرجه الترمذي في أبواب الأدب ، باب : «إنّ اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، [برقم (2819) ، والحديث حسن ].
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب «من كان في حاجة أهله» [برقم (676) و(5362) و(6039)].
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 260) برقم (20492).

(1/579)


ص : 580
وقالت عائشة : «كان ألين الناس ، وأكرم الناس ، وكان ضحّاكا بسّاما» «1».
وعن أنس - رضي اللّه عنه - قال : «ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» «2».
وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي» «3».
وعن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال : «ما عاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طعاما قطّ ، إن اشتهاه أكله ، وإنّ كرهه تركه» «4».
تقديم الأقربين في المخاوف والمغارم وتأخيرهم في الرخاء والمغانم :
وكان شعاره الدائم في أهل بيته وعياله ، وأقرب الناس إليه تقديمهم في المخاوف والمغارم ، وتأخيرهم في الرخاء والمغانم.
طلب عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة - وهم كانوا من أبطال العرب المرموقين - من يبارزهم من قريش ، وممّن فارق دينهم من أهل مكّة ، وهاجر منها ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أعرف الناس بمكانتهم وبغنائهم في
___________
(1) أخرجه ابن عساكر [في تاريخ دمشق (3/ 383)].
(1/494)
(2) أخرجه مسلم [في كتاب الفضائل ، باب رحمته صلى اللّه عليه وسلم للصبيان والعيال .. ، برقم (2316)].
(3) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب فضل أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3895) ، وابن ماجه في أبواب النكاح ، باب حسن معاشرة النساء ، برقم (1977)].
(4) متفق عليه ؛ أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة ، باب : ما عاب النبي صلى اللّه عليه وسلم طعاما ، برقم (3563) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب : لا يعيب الطعام ، برقم (2064) ، وأبو داود كتاب الأطعمة ، باب في كراهية ذمّ الطعام ، برقم (3763) ، والترمذي في أبواب البر والصلة ، باب : ما جاء في ترك العيب للنعمة ، برقم (2031)].

(1/580)


ص : 581
الحرب ، وكان في قريش من ينهض لذلك من الأبطال والفرسان ، فلم يزد أن قال : «قم يا حمزة! قم يا عليّ! قم يا عبيدة!» وهم من أقرب الناس إليه رحما ودما ، وأحبّهم إليه ، ولم يؤثر أحدا عليهم ، ضنّا بحياتهم وإبقاء عليهم ، وكان من صنع اللّه تعالى أن كتب لهم الغلبة والانتصار على منافسيهم ، ورجع حمزة وعليّ سالمين مظفّرين ، وحمل عبيدة جريحا «1».
ولمّا أراد أن يحرّم الرّبا ، ويهدر دم الجاهلية القديمة ، بدأ بعمّه العبّاس بن عبد المطلب ، وابن أخ له من بني هاشم ، ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. فقال في خطبته في حجّة الوداع : «و ربا الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضع من ربانا : ربا العباس بن عبد المطلب ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإنّ أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث» «2».
(1/495)
أمّا في الرّخاء وعند المغانم ، فكان دائما يؤخّرهم ، ويؤثر عليهم غيرهم خلافا للملوك والقادة والزعماء - يقول عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - : إنّ فاطمة - عليها السلام - اشتكت ما تلقى من الرّحى ممّا تطحن ، فبلغها أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتي بسبي ، فأتته تسأله خادما ، فلم توافقه ، فذكرت لعائشة ، فجاء النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فذكرت عائشة له ، فأتانا ، وقد دخلنا مضاجعنا ، فذهبنا لنقوم ، فقال : «على مكانكما» ، حتّى وجدت برد قدميه على صدري ، فقال : «ألا أدلّكما على خير ممّا سألتماني ، إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا اللّه أربعا وثلاثين ، واحمدا ثلاثا وثلاثين ، وسبّحا ثلاثا وثلاثين ، فإنّ ذلك خير لكما ممّا سألتماه» «3».
___________
(1) [انظر تخريجه في غزوة بدر في الفصل الخامس ، ص 309].
(2) [خرّجنا هذا الحديث عن جابر عبد اللّه رضي اللّه عنهما في الفصل الخامس في حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، انظر صفحة (521)].
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب «الدليل على أن الخمس لنوائب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» -

(1/581)


ص : 582
وفي رواية في هذه القصّة أنّه صلى اللّه عليه وسلم قال : «و اللّه لا أعطيكم وأدع أهل الصّفّة تطوى بطونهم من الجوع ، لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكن أبيعهم ، وأنفق عليهم أثمانهم» «1».
رقة الشعور الإنساني ونبل العاطفة :
(1/496)
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أعباء النبوّة والدعوة ، وهمّ الإنسانيّة والأحزان والأثقال التي لا تحملها الجبال الرّاسيات قد تجلّى فيه الشعور الإنسانيّ الرقيق ، والعاطفة الإنسانية النبيلة ، في أجمل مظاهرهما ، فمع صرامته وقوّة عزيمته التي يمتاز بها الأنبياء ، والتي كانت لا تقيم في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة اللّه ، وامتثال أوامره لشيء قيمة أو وزنا ، لم ينس أصحابه الأوفياء الذين لبّوا دعوته ، وبذلوا في سبيل اللّه مهجهم وأرواحهم ، واستشهدوا في معركة أحد إلى آخر يوم من أيام حياته ، فكان يذكرهم ، ويدعو لهم ، ويزورهم ، وسرى هذا الحبّ إلى المكان الذي قامت فيه هذه المعركة ، والجبل الذي شاهدها ، والبلد الذي احتضنه ، فروى عنه الصحابة - رضي اللّه عنهم - أنّه قال : «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2».
وعن أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلع له أحد ،
___________
- [برقم (5361) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ، باب التسبيح أول النهار وعند النوم ، برقم (2727) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في التسبيح عند النوم ، برقم (5062)].
(1) أخرجه أحمد [في المسند (1/ 106) وانظر «فتح الباري» (7/ 23 - 24)].
(2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب : أحد يحبنا ، برقم (3367) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل أحد ، برقم (1392) و(1393) والترمذي في أبواب المناقب ، باب ما جاء في فضل المدينة ، برقم (3922) وغيرهم ].

(1/582)


ص : 583
فقال : «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «1».
وعن أبي حميد قال : «أقبلنا مع النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة ، قال : «هذه طابة ، وهذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2».
وعن عقبة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج يوما ، فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت «3».
(1/497)
وعن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد : «أما واللّه ، لوددت أنّني غودرت مع أصحاب بنحص «4» الجبل» «5».
وقد احتمل شهادة عمّه وأخيه في الرّضاعة ، والذي غضب له ، ودافع عنه بمكّة ، واستشهد في معركة أحد ، ومثّل به تمثيلا لم يمثّل بأحد من القتلى ، فاحتمل كلّ ذلك في صبر أولي العزم من الرّسل ، ولكنّه لمّا دخل المدينة راجعا من أحد ، ومرّ بدار بني عبد الأشهل ، فسمع البكاء ، ونوائح على قتلاهم ، فحرّك ذلك في نفسه الشعور الإنسانيّ النبيل ، فذرفت عيناه ، ثمّ قال : «لكنّ حمزة لا بواكي له» «6».
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب فضل الخدمة في الغزو ، برقم (2889) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل المدينة .. ، برقم (1365) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب ما جاء في فضل المدينة ، برقم (3922) ، وأحمد في المسند (2/ 387) برقم (9013) وغيرهم ].
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب قصة تبوك ، برقم (4422) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل أحد ، برقم (1392)].
(3) [انظر تخريجه في الفصل الرابع في أحاديث وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ص (528) حاشية رقم (1)].
(4) بنحص الجبل : أي سفح الجبل.
(5) تفرّد به أحمد [و أخرجه في المسند (3/ 375)] ، ابن كثير ج 3 ، ص 89.
(6) ابن كثير : ج 3 ، ص 95 [و أخرجه ابن ماجه في أبواب الجنائز ، باب ما جاء في البكاء -

(1/583)


ص : 584
(1/498)
ولكنّ هذا الشعور الإنسانيّ النبيل لم يستطع أن يقهر الشعور بمسؤوليّة النبوّة والدعوة والوقوف عند حدود اللّه ، فقد روى أصحاب السّير أنّه لمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير - رضي اللّه عنهما - إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يحتزمن ، ثمّ يذهبن ، ويبكين على عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففعلن ، ولمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكاءهن على حمزة ، خرج عليهنّ ، وهنّ في باب المسجد يبكين ، فقال : «ارجعن يرحمكنّ اللّه ، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ».
وروي أنّه قال : «ما هذا ؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم ، فاستغفر لهم ، وقال لهم خيرا ، وقال : ما هذا أردت ، وما أحبّ البكاء» ونهى عنه «1».
وأدقّ من هذه المواقف كلّها موقف وقفه مع وحشيّ ، قاتل أسد اللّه وأسد رسوله حمزة - رضي اللّه عنه - فلمّا فتح اللّه للمسلمين مكة ، ضاقت عليه المذاهب ، وفكّر في اللحوق بالشّام واليمن وببعض البلاد ، وأظلمت عليه الدّنيا ، فقيل له : ويحك إنّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يقتل أحدا من النّاس دخل في دينه ، فتشهّد شهادة الحقّ ، وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقبل منه الإسلام ، ولم يفزعه ، وسمع منه قصة قتل حمزة ، فلمّا فرغ من حديثه تحرّك فيه ذلك الشعور الإنسانيّ الرقيق ، من غير أن يزاحم طبيعة منصب النبوّة الرفيع ، فيرفض إسلامه أو يثور فيه الغضب ، فيقتله شفاء للنفس ، ولم يزد أن قال :
«و يحك غيّب عني وجهك ، فلا أرينّك» ، قال وحشيّ : وكنت أتنكّب «2» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لئلّا يراني ، حتّى قبضه اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3».
___________
- على الميت ، برقم (1591) ، وأحمد في المسند (2/ 40) و(2/ 84) من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما] وقال ابن كثير : «و هذا على شرط مسلم».
(1) ابن كثير : ج 3 ، ص 96.
(2) [أتنكّب : أي أتنحّى وأعرض عنه ].
(1/499)
(3) ابن هشام : ج 2 ، ص 72 ، وروى البخاري هذه القصة في كتاب المغازي ، باب قتل -

(1/584)


ص : 585
وفي رواية البخاريّ : فلمّا رآني قال : «أنت وحشيّ ؟».
قلت : نعم.
قال : «أنت قتلت حمزة ؟»
قلت : قد كان من الأمر ما بلغك.
قال : «فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي ؟» «1».
ومن مظاهر هذا الشعور الإنسانيّ الرقيق ، والعاطفة النبيلة أنّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى إلى رسم قبر فجلس ، وأدركته الرقّة ، فبكى ، وقال : «هذا قبر آمنة بنت وهب» ، وذلك حين مضت على وفاتها مدة طويلة «2».
كرمه وحلمه :
وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إمام الخلق أجمعين ، ومعلّمهم في حسن الخلق وكرم النفس ، والتواضع ، لقد قال اللّه تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4] ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» «3».
وعن جابر رضي اللّه عنه أنّ النّبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «إنّ اللّه بعثني لتمام مكارم
___________
- حمزة رضي اللّه عنه [برقم (4072) ، وأحمد في المسند (3/ 501) ، وابن حبان في الصحيح برقم (7013) وغيرهم ].
(1) [انظر تخريج الحديث السابق ].
(2) أخرجه البيهقي عن طريق سفيان الثوري مطولا ، راجع ابن كثير ، ج 1 ، ص 236 [و أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه في المصنّف (3/ 29) برقم (11808) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ].
(3) [حديث ضعيف ؛ أخرجه السيوطي في «الجامع الصغير» برقم (310) ، وعزاه لابن السمعاني في «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي اللّه عنه ، وقال المناوي في «فيض القدير» (1/ 225) : معناه صحيح لكنّه لم يأت من طريق صحيح ، وذكره ابن الجوزيّ في «الواهيات»].

(1/585)


ص : 586
الأخلاق ، وكمال محاسن الأفعال» «1».
وسئلت عائشة - رضي اللّه عنها - عن خلقه ، فقالت : «كان خلقه القرآن» «2».
(1/500)
وكان في العفو والحلم ورحابة الصدر وقوّة الاحتمال ، حيث لا يبلغه ذكاء الأذكياء ، وخيال الشعراء ، ولو لم يرو عن طريق لا يتطرّق إليه شكّ ، ولا ترتقي إليه شبهة ، لما قبلته أذهان النّاس ، ولكن روي بإسناد صحيح متّصل ، ونقل عادل عن عادل ، وتواتر ، واستفاض ذلك ، فكان أثبت من التاريخ الأمين ، ونحن هنا نكتفي بقليل ممّا روي في هذا الباب.
فمن كرمه صلى اللّه عليه وسلم وعفوه عن أشد أعدائه ، وإحسانه إليه أنّه «أتى عبد اللّه بن أبيّ «3» - رأس المنافقين - بعد ما أدخل حفرته ، فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخرج ، فوضعه على ركبتيه ، ونفث فيه من ريقه ، وألبسه قميصه» «4».
وعن أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - قال : «كنت أمشي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ ، غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابيّ ، فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من
___________
(1) أخرجه البغوي في «مصابيح السنة» ، [في كتاب الفضائل والشمائل ، باب فضائل سيد المرسلين صلوات اللّه عليه ، برقم (4490) وأخرجه بإسناده في «شرح السنة» كتاب الفضائل ، باب فضائل سيد الأولين والآخرين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، (13/ 202) ، برقم (3622) و(3623)].
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [في كتاب صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ، برقم (746) ، وأحمد في المسند (6/ 91 - 163 - 216)].
(3) وهلك سنة تسع في ذي القعدة بعد الانصراف من تبوك ، (الزرقاني : ج 3 ، ص 112 - 113).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، [باب هل يخرج الميّت من القبر واللّحد لعلّة ؟ برقم (1350) ملخّصا ، ومسلم في صفات المنافقين ، أول الكتاب ، برقم (2773)].

(1/586)


ص : 587
(2/1)
شدّة جبذته ، ثمّ قال : يا محمّد! مر لي من مال اللّه الذي عندك ، فالتفتّ إليه ، فضحك ، ثمّ أمر له بعطاء» «1».
وجاء زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، وأخذ بمجامع ثوبه ، وأغلظ له ، ثمّ قال : إنّكم بني عبد المطلب مطل ، فانتهره عمر ، وشدّد له في القول ، والنّبيّ صلى اللّه عليه وسلم يبتسم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«أنا وهو كنّا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر! تأمرني بحسن القضاء ، وتأمره بحسن التقاضي» ، ثمّ قال : «لقد بقي من أجله ثلاث» ، وأمر عمر أن يقضيه ماله ، ويزيده عشرين صاعا لما روّعه ، فكان سبب إسلامه «2».
يقول أنس - رضي اللّه عنه - : إنّ ثمانين رجلا من أهل مكّة هبطوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جبل «التنعيم» متسلّحين ، يريدون غرّة النّبيّ «3» ، فأخذهم سلما «4» ، فاستحياهم «5».
وعن جابر - رضي اللّه عنه - قال : غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزوة نجد ، فأدركته القائلة ، وهو في واد كثير العضاه «6» ، فنزل تحت سمرة «7» ، واستظلّ
___________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب : ما كان النّبي صلى اللّه عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم [برقم (5809) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلّفة .. ، برقم (1057)] وأحمد في المسند (3/ 153) باختلاف في اللفظ.
(2) [أخرجه البيهقي مفصّلا ، وابن حبان برقم (2105) ، والحاكم (2/ 37) برقم (2237) ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ].
(3) الغرة : الغافلة.
(4) السلم : الأسر.
(5) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب قول اللّه : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» [برقم (1088)].
(6) [العضاه : هو كلّ شجر عظيم له شوك ، الواحدة عضاهة].
(7) [السمرة : ضرب من شجر الطلح ].

(1/587)


ص : 588
(2/2)
بها ، وعلّق سيفه ، فتفرّق الناس في الشجر يستظلّون ، وبينما نحن كذلك ، إذ دعانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجئنا ، فإذا أعرابيّ قاعد بين يديه ، فقال : «إنّ هذا أتاني وأنا نائم ، فاخترط عليّ سيفي ، فاستيقظت ، وهو في يده قائم على رأسي مخترط صلتا ، قال : من يمنعك منّي ؟ قلت : اللّه! فشامه «1» ، ثم قعد ، فها هو ذا جالس» ، قال : ولم يعاقبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2».
وقد كان حلمه يسع ما لا يسعه حلم الصحابة - وهم أصحاب حلم وأناة - وكان في كلّ ذلك معلّما رفيقا ، ومصلحا رحيما.
من ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي اللّه عنه - قال : بال أعرابيّ في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النّبي صلى اللّه عليه وسلم : «دعوه ، وأريقوا على بوله سجلا من الماء ، أو ذنوبا من ماء ، فإنّما بعثتم ميسّرين ، ولم تبعثوا معسّرين» «3».
وعن معاوية بن الحكم قال : بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك اللّه! فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت :
واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا رأيتهم يصمّتونني لكنّي سكتّ ، فلمّا صلّى النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فبأبي هو وأمّي ، ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فو اللّه ما نهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، فقال : «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ،
___________
(1) أي ردّه إلى غمده ، وقيل : هو بمعنى سله ونظر إليه (مجمع بحار الأنوار ، ج 3).
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب : غزوة بني المصطلق [برقم (2910) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب صلاة الخوف ، برقم (843)].
(2/3)
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء [باب صبّ الماء على البول في المسجد ، برقم (220) ، والترمذي في أبواب الطهارة ، باب ما جاء في البول يصيب الأرض ، برقم (147) ، والنّسائي في كتاب الطهارة ، باب ترك التوقيت في الماء ، برقم (56)].

(1/588)


ص : 589
إنّما هي التسبيح والتكبير ، وقراءة القرآن» «1».
ويقول أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - : «كان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم رحيما ، وكان لا يأتيه أحد إلّا وعده ، وأنجز له ، إن كان عنده ، وأقيمت الصلاة ، وجاء أعرابيّ ، فأخذ ثوبه فقال : إنّما بقي من حاجتي يسيرة ، وأخاف أن أنساها ، فقام معه ، حتّى فرغ من حاجته ، ثمّ أقبل فصلّى».
ومن أمثلة قوّة احتماله ، وسعة صدره ، وعظم صبره ، ما شهد به خادمه أنس بن مالك - رضي اللّه عنه - وقد كان حديث السنّ ، قال : خدمت النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : أفّ ولا لم صنعت ، ولا ألا صنعت! «2».
وروى سواد بن عمر ، قال : أتيت النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأنا متخلّق ، فقال : «ورس ورس ، حطّ حطّ» ، وغشيني بقضيب في يده ببطني ، فأوجعني ، فقلت :
القصاص يا رسول اللّه ، فكشف لي عن بطنه ، فأبيت القصاص «3».
الحفاظ على أصالة الدين والغيرة على روحه وتعاليمه :
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على رفقه ولين كنفه وقوّة احتماله وتغاضيه عن سقطات الناس وزلّاتهم - على حدّ لا يتصوّر فوقه - شديد الحفاظ على أصالة
___________
(1) أخرجه مسلم [في كتاب المساجد] ، باب تحريم الكلام في الصلاة ، [برقم (537) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب تشميت العاطس في الصلاة ، برقم (930) ، والنسائي في كتاب السهو ، باب : الكلام في الصلاة ، برقم (1219)].
(2/4)
(2) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب حسن الخلق والسخاء ، برقم (6038) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب حسن خلقه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2309) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في الحلم وأخلاقه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (4773) ، والترمذي في أبواب البر والصلة ، باب ما جاء في خلق النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2015)].
(3) كتاب الشفاء [الباب الثاني ، الفصل السابع ، وج 1/ ص 444 ، طبع مكتبة الفارابي ، بدمشق ، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف (45/ 50) برقم (17677)].

(1/589)


ص : 590
الدين ، شديد الغيرة على روحه وتعاليمه وعلى عقيدة التوحيد ، شديد الحذر مما يعرّض أمّته لخطر التورّط في الأوهام والمغالاة ، وتقديس الأشخاص ، والعودة إلى الجاهليّة ، لا تأخذه في ذلك هوادة ، ولا تمنعه من الإنكار عليه مصالح قياديّة أو اعتبارات سياسيّة ، وكان في ذلك يختلف عن قادة الجماعات والزعماء السياسيين اختلافا واضحا.
ومن أوضح أمثلته ما وقع عند وفاة ابنه سيّدنا إبراهيم «1» ، فقد كسفت الشمس يوم موته ، فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه - عزّ وجلّ - لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبّروا ، وصلّوا وتصدّقوا» «2».
(2/5)
ولو كان مكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة العاطفيّة أيّ داع من الدعاة أو زعيم من الزعماء ، أو قائد دعوة وحركة وجماعة كان أقلّ مواقفه من هذا التعليق أو التفسير للحادث السكوت ، لأنّه كان في صالح دعوته وحركته ، ولأنّه يضفي على شخصه وأسرته ما يستطيع أن يستعين به في بسط نفوذه على قلوب النّاس وعقولهم ، وتقوية ثقتهم به ، وإعجابهم له ، وذلك شيء يتمناه قادة الشعوب والجماعات ، ومنشئو الدّول والحكومات ، ويعملون له ألف حيلة ، وقد هيّأ اللّه له ذلك من طريق الغيب ، فلا عليه إن سكت.
ولكنّه صلى اللّه عليه وسلم لم يحتمل سماع هذا الكلام ، ولم يسكت عليه لدقيقة ، بل بادر إلى إزالة هذا الوهم الذي يجرّ إلى إفساد العقيدة ، وربط الحوادث الكونيّة ، وسنن اللّه تعالى في خلقه بما يقع لأفراد البشر ، ولو كانوا من الأنبياء
___________
(1) كان ذلك في العام العاشر من الهجرة ، وكان ابن سنة ونصف.
(2) حديث متفق عليه. [انظر تخريجه في الفصل الخامس ، ص 555].

(1/590)


ص : 591
أو أولادهم وأفراد أسرهم من ولادة وموت وصحّة ومرض ، وذلك مدخل قديم ، دخل منه الشّرك وتقديس العباد في الأمم السابقة ، فنفى هذا الأسلوب من التفكير الجاهليّ ، وأوضح الحقيقة ، وشرع لذلك صلاة مخصوصة - هي صلاة الخسوف - لتوثيق الصلة باللّه تعالى وعبادته واقتلاع هذه الجرثومة الجاهليّة من النفوس والعقول.
وكذلك لم يسعه السكوت حين قال رجل : ما شاء اللّه وشئت ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : «أجعلتني للّه ندّا» ، وقال رجل - وهو يخطب - : «من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» ، فقال : «بئس خطيب القوم أنت» «1».
(2/6)
وفي هذه المواقف يتجلّى «الموقف النبويّ» وما يمتاز به الأنبياء عن القادة والزعماء وعظاماء البشر ، من تجرّد عن الأنانيّة ، واستغلال الحوادث وضعف العقول في صالحهم ، والسماح للمدح والإطراء «2» ، ولو تخطّى الحدود ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إمام الأنبياء في ذلك والأسوة الكاملة ، وقد قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنّما أنا عبده ، فقولوا :
عبد اللّه ورسوله» «3».
___________
(1) [أخرجه مسلم في كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة ، برقم (870) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب الرجل يخطب على قومه ، برقم (1099) ، والنسائي في كتاب النكاح ، باب ما يكره من الخطبة ، برقم (3281) من حديث عدي بن حاتم رضي اللّه عنه ].
(2) [الإطراء : مجاوزة الحدّ في المدح والكذب فيه ].
(3) [أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها ، برقم (3445) ، والترمذي في «الشمائل» باب تواضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (328) ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لا تطروني» برقم (2682)].

(1/591)


ص : 592
تواضعه صلى اللّه عليه وسلم :
أمّا تواضعه صلى اللّه عليه وسلم فقد بلغ الغاية فيه ، فلم يكن يحبّ التمييز في شيء ، ولا أن يقوم له النّاس ، وأن يبالغوا في مدحه ، فيطروه ، كما أطرت الأمم السابقة أنبياءها ، أو أن يرفعوه من منزلة العبوديّة والرسالة.
قال أنس : لم يكن شخص أحبّ إلينا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكنّا إذا رأيناه لم نقم له لما نعلم من كراهيته لذلك «1».
وقيل له : يا خير البريّة! فقال : «ذاك إبراهيم - عليه السلام - » «2».
وروي عن عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(2/7)
«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنّما أنا عبد ، فقولوا :
عبد اللّه ورسوله» «3».
وعن عبد اللّه بن أبي أوفى قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يستنكف أن يمشي مع العبد ، ولا مع الأرملة ، حتّى يفرغ لهم من حاجتهم «4».
وعن أنس قال : كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت «5».
___________
(1) [أخرجه الترمذي في أبواب الأدب ، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل ، برقم (2754)] وأحمد في المسند (3/ 132).
(2) [أخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب من فضل إبراهيم الخليل صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2369) ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم السلام ، برقم (4672) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، برقم (3352) ، وأحمد (3/ 178)].
(3) [قد سبق تخريجه قبل قليل ].
(4) أخرجه البيهقي [في «دلائل النبوة» (1/ 329) ، والحاكم في المستدرك (2/ 614) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ].
(5) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب الكبر ، برقم (6072)] أخرجه أحمد في -

(1/592)


ص : 593
ولمّا قدم عليه عديّ بن حاتم الطائيّ ، دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ، فجعلها بينه وبين عديّ ، وجلس على الأرض.
قال عديّ : فعرفت أنّه ليس بملك «1».
وعن أنس - رضي اللّه عنه - قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد «2».
وعن جابر - رضي اللّه عنه - قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتخلّف في المسير فيزجي «3» الضعيف ويدعو له «4».
وعن أنس - رضي اللّه عنه - أنّه كان صلى اللّه عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة «5» السّنخة «6» ، فيجيب «7».
___________
(2/8)
- المسند ، (3/ 198 - 215) ، وجمع الفوائد ، ج 2 ، كتاب المناقب ، باب صفاته وأخلاقه صلى اللّه عليه وسلم.
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 43.
(2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب : تواضع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، [برقم (328) ، وأخرجه في جامعه في أبواب الجنائز ، باب آخر في سنة عيادة المريض وشهود الجنازة ، برقم (1017) ، وابن ماجه في أبواب الزهد ، باب البراءة من الكبر والتواضع ، برقم (4178) ، والحديث ضعيف فيه مسلم الأعور ، قال الدارقطني في علله (2/ 162) : ضعيف ].
(3) [أي يسوقه ليلحقه بالرّفاق ].
(4) ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب». [و أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب لزوم الساقة ، برقم (2639)].
(5) الإهالة : كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به.
(6) السنخة : المتغيرة الريح.
(7) أخرجه الترمذي في الشمائل ، في باب «تواضع النّبي صلى اللّه عليه وسلم» [برقم (328) ، وأخرجه في جامعه في أبواب الجنائز ، باب في سنة عيادة المريض وشهود الجنازة ، برقم (1017) ، وأحمد في المسند (3/ 133 - 208)].

(1/593)


ص : 594
وروي عنه أنّه قال : «إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد» «1».
ويقول عبد اللّه بن عمرو بن العاص : «دخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف ، فجلس على الأرض ، وصارت الوسادة بيني وبينه» «2».
وكان صلى اللّه عليه وسلم يقمّ «3» البيت ، ويعقل البعير ، ويعلف ناضحه «4» ، ويأكل مع الخادم ، ويعجن معها ، ويحمل بضاعته من السوق «5».
شجاعته وحياؤه :
وقد كان يجمع بين الحياء والشجاعة ، وقد اعتبرهما كثير من الناس من الأضداد.
أمّا الحياء فقد روي عن أبي سعيد الخدريّ - رضي اللّه عنه - أنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها ، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه «6» ، وكان
___________
(1) كتاب الشفاء : ص 101.
(2/9)
(2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» [باب من ألقى له وسادة ، برقم (1176) وأخرجه في الصحيح في كتاب الاستئذان ، باب : من ألقي له وسادة ، برقم (6277) ، ومسلم في كتاب الصيام ، باب النهي عن صوم الدهر ... ، برقم (2741)].
(3) يقمّ : أي ينظّف.
(4) [النّاضح : البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء (لسان العرب ، مادة : نضح)].
(5) كتاب الشفاء : [القسم الأول ، الباب الثاني (ج 1/ ص 266)].
(6) [أخرجه البخاري في كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم برقم (3562) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب كثرة حيائه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2320) ، وابن ماجه في أبواب الزهد ، باب الحياء ، برقم (4180) ، والترمذي في «الشمائل» في باب حياء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (356)].

(1/594)


ص : 595
يمنعه الحياء عن أن يواجه أحدا بما يكرهه ، فيكل ذلك إلى غيره.
روى أنس - رضي اللّه عنه - أنّه كان عنده صلى اللّه عليه وسلم رجل له أثر صفرة «1» ، فكان صلى اللّه عليه وسلم لا يكاد يواجه! أحدا بشيء يكرهه ، فلمّا قام ، قال للقوم : «لو قلتم له : يدع هذه الصّفرة» «2».
وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : كان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه ، لم يقل ما بال فلان يقول كذلك ، ولكن يقول : «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا» ينهى عنه ، ولا يسمّي فاعله «3».
أمّا الشّجاعة ، فناهيك بشهادة عليّ فارس الفرسان ، وفتى الفتيان ، قال رضي اللّه عنه - : إنّا كنّا إذا اشتدّ البأس ، واحمرّت الحدق ، اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه ، ولقد رأيتني يوم بدر ، ونحن نلوذ بالنّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدوّ «4».
(2/10)
يقول أنس - رضي اللّه عنه - : كان النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم أحسن الناس ، وأجود الناس ، وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس قبل الصّوت ، فاستقبلهم النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت ، وهو يقول : «لن تراعوا لن تراعوا» ، وهو على فرس لأبي طلحة عري ، ما عليه سرج ، وفي
___________
(1) [الصفرة : بقية صفرة من الزعفران ].
(2) أخرجه الترمذي في الشمائل ، باب «خلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» [برقم (339) ، وأبو داود في كتاب الترجل ، باب في الخلوق للرجال ، برقم (4182) ، والنّسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم (236)].
(3) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب من لم يواجه الناس بالعتاب ، برقم (6101) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب علمه باللّه تعالى وشدّة خشيته ، برقم (2356)].
(4) كتاب الشفاء : (ج 1/ ص 237) ، وأخرجه أحمد في المسند (1/ 86)].

(1/595)


ص : 596
عنقه السيف ، فقال : «لقد وجدته بحرا ، أو إنّه لبحر» «1».
وقد ثبت في معركة أحد ، ويوم حنين ، حين انكشف عنه الشجعان ، وخلا الميدان ، وهو ثابت على بغلته ، كأن لم يكن شيء ، ويقول : [من مجزوء الرجز]
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
رأفة عامة ورحمة واسعة :
وكان مع شجاعته هذه : رقيق القلب ، سريع الدمعة ، يرقّ للضعفاء ، ويرحم الحيوانات والدوابّ ، ويوصي بالرفق بها.
يروي عنه شدّاد بن أوس ، فيقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته» «2».
وروي عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - أنّ رجلا أضجع شاة وهو يحدّ شفرته ، فقال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها» «3» ؟.
(2/11)
وقد أوصى أصحابه بالإحسان في علف الدابّة وسقيها ، وعدم إرهاقها
___________
(1) [قد سبق تخريجه في غزوة حنين في الفصل الرابع ].
(2) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح ، باب الأمر بإحسان الذبح ، [برقم (1955) ، وأبو داود في كتاب الضحايا ، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة ، برقم (2814) ، والنّسائي في كتاب الضحايا ، باب الأمر بإحداد الشفرة ، برقم (4410) ، وابن ماجه في أبواب الذبائح ، باب : إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، برقم (3170)].
(3) [أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 231) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 33) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح ].

(1/596)


ص : 597
وتكليفها ما لا تطيق ، وعدم اتخاذها غرضا.
ونوّه بما في إزالة الكربة عن الحيوانات وإراحتهم من الأجر والثواب والقرب عند اللّه.
روي عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال : «بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها ، ثم خرج ، فإذا كلب يلهث يأكل الثّرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ منّي ، فنزل البئر فملأ خفّه ماء ، ثمّ أمسكه بفيه حتّى رقي ، فسقى الكلب ، فشكر اللّه له ، فغفر له».
قالوا : يا رسول اللّه! وإنّ لنا في البهائم أجرا ؟
فقال : «في كلّ كبد رطبة أجر» «1».
وعن عبد اللّه بن عمر - رضي اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«عذّبت امرأة في هرّة لم تطعمها ، ولم تسقها ، ولم تتركها تأكل من خشاش «2» الأرض» «3».
وعن سهل بن عمرو (وقيل سهل بن الربيع بن عمرو) قال : مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه ، فقال : «اتّقوا اللّه في هذه البهائم
___________
(2/12)
(1) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة ، باب : فضل سقي الماء ، [برقم (2363) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب : فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها ، برقم (2244) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم ، برقم (2550)].
(2) هي هوام الأرض وحشراتها ، ذكره النووي.
(3) [أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب : إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه .. ، برقم (3318) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب تحريم قتل الهرة ، برقم (2242)].

(1/597)
ص : 598

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق