الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357
* * *
ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ (1)، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عبد الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ وَقَتَلَ رَاعِيَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله وَأَخْبِرْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرحِهِ (2)، قَالَ: ثُمَّ قُمتُ عَلَى أَكَمَةٍ (3)، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ في آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ أَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ (4)
فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ (5) سَهْمًا في رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إلى كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: فَوَاللهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً
(1) أُنديه مع الظهر: قال النووي: ومعناه: أن يورد الماشية الماء فتُسقى قليلاً ثم ترسل إلى المرعى، ثم ترد الماء فترد قليلاً، ثم تُردُّ إلى المرعى. اهـ "شرح مسلم" 6/ 357.
(2) سرحه: أي ماشيته التي يُسرح بها.
(3) الأكمة: هي الكومة من الرمل أصغر من الجبل.
(4) اليوم يوم الرضع: أي يوم اللئام، حيث كان أحدهم إذا أراد سرقة اللبن من الشاة أو الناقة ليشربه لا يحلبه في إناء ثم يشربه لئلا يسمع أصحابها صوت اللبن وهو يُحلب في الإناء، إنما كان يضع فمه في ضرع الناقة أو الشاة فيشرب كالذي يرضع فلا يُسمع له صوت وهذا فعل اللئلام من السَرَقة.
(5) أصك: أضرب.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358
* * *
فَجَلَسْتُ في أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا في تَضَايُقِهِ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ، حَتَّى مَا خَلَقَ الله مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنْ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ فَإِذَا هُم قَدْ أَتَاهُم فُلَانُ بن بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنِي: يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ، قَالَ الْفَزَارِيُّ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى، قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرحَ (1) وَاللهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَئءٍ في أَيْدِينَا، قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ: فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ في الْجَبَلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنْ الْكَلَامِ، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي، قَالُوا: لَا وَمَنْ أَنْتَ، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا سلَمَةُ بن الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ (2)، قَالَ: فَرَجَعُوا فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، قَالَ: فَإذَا أَوَّلُهُمْ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ عَلَى إِثْرِهِ أبو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَلَي إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بن الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ، قَالَ: فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ فَالْتَقَى هُوَ وَعبد الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَعَقَرَ بِعبد الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ وَطَعَنَهُ عبد الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَلَحِقَ أبو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِعبد الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَىَّ حَتَّى مَا أَرَى
(1) البرح: أي شدة.
(2) أظن هنا بمعنى اليقين، أي: أنا أتيقن وأعلم هذا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359
* * *
وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا غُبَارِهِمْ شَيئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ: ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، قَالَ: فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنِي: أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ في ثَنِيَّةٍ (1)، قَالَ: فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ في نُغْضِ كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ (2)، قَالَ: قُلْتُ: نَعَم يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ، قَالَ: وَأَرْدَوْا (3) فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ (4)، فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْت، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيءٍ اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنْ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْقَوْمِ، وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله خَلِّنِي، فَأَنْتَخِبُ مِنْ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبعُ الْقَوْمَ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ (5)، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ في ضَوْءِ النَّارِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا"، قُلْتُ: نَعَمْ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ في أَرْضِ غَطَفَانَ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَفُوا
(1) الثنية: الطريق أعلى الجبل، ويشتدون: أي يُسرعون.
(2) أكوعه بكرة: أي أنت الأكوع الذي كنت في أول هذا النهار.
(3) أردوا: أي تركوا.
(4) السطيحة: إناء من جلودٍ سُطح بعضها على بعض، مَذقة: قيل: لبن ممزوج بماء.
(5) أي: فلا يبقى منهم أحد يخبر من وراءهم فيستمدونهم علينا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360
* * *
جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمْ الْقَوْمٌ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أبو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ"، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ (1) رَاجِعِينَ إلى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَبَينَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا (2)، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ أَلَا مُسَابِقٌ إلى الْمَدِينَةِ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا، قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بِأبي وَأُمِّي ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ، قَالَ: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ: قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ (3) فَعَدَوْتُ، قَالَ: فَرَبَطْتُ (4) عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي (5)، ثُمَّ عَدَوْتُ في إِثْرِهِ فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ، قَالَ: فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَاللهِ، قَالَ: أَنَا أَظُنُّ، فَسَبَقْتُهُ إلى الْمَدِينَةِ (6).
وكانت غزوة ذي قرد قبل الحديبية بثلاث كما ذكر ذلك سلمة - رضي الله عنه - كما سيأتي في غزوة خيبر -إن شاء الله- ورجح ذلك أنها كانت في السنة السابعة قبل خيبر بثلاث (7).
(1) العضباء: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت ناقة نجيبة لا تُسبق.
(2) شدًا: أي جريًا.
(3) طفرت: أي قفزت.
(4) ربطت: أي توقفت عن الجري.
(5) أستبقي نفسي: أي أريحها.
(6) صحيح: سبق تخريجه.
(7) صحيح: أخرجه البخاري، باب: غزوة ذي قرد، كتاب: المغازي، ورجحه ابن حجر في "الفتح" 7/ 526، وابن كثير في "البداية" 4/ 174.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361
* * *
3 - وفي المحرم من هذه السنة: كانت غزوة خيبر.
الشرح:
قَالَ سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في حديثه السابق عن عزوة ذي قَرَد: فَوَاللهِ مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وخيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة، وتبعد عنها بحوالي 165كم (2)، وترتفع عن سطح البحر 850 م، وهي من أعظم حرار العرب بعد حرَّة بني سليم، وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرة مياهها، فاشتهرت بكثرة نخيلها، هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه، لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفًا ومنعة ورجالاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غَطَفَان التي تُعْتَبر خيبر ضمن أراضيها.
ونظرًا لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف، وكان فيها نشاط واسع للصيرفة.
وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة (3) حيث ذهب يهود المدينة الذين أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فأقاموا فيها.
سبب الغزوة:
تقدم أنَّ قبائل اليهود الثلاثة بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة نقضوا
(1) صحيح: سبق تخريجه.
(2) قال الدكتور/ العُمري: هذا بالنسبة للطريق المسفلت، وهو يختلف عن الطريق التي سلكها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر. اهـ "السيرة النبوية الصحيحة" هامش 1/ 318.
(3) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 318.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362
* * *
عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتل بني قريظة وأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، فذهب بعضهم إلى خيبر وأصبحوا يُشكلون خطرًا على المسلمين، وكان لبعضهم يدًا في تأليب قريش وجمعهم الأحزاب لمحاربة المسلمين- كما تقدم ذلك.
فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم -بعدما عاهد قريشًا- أن يعالج الموقف بعدما صارت خيبر مصدر خطر كبير على الإِسلام والمسلمين.
خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر:
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر بقريب من ألف وخمسمائة مقاتل معهم مائتا فرس.
عَنْ مُجَمِّعِ بن جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُ مِائَةِ فَارِسٍ (1)، فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر ليلاً (2)، واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سِباع بن عُرْفُطة (3)، وكان الله تعالى قد وعد المؤمنين مغانم خيبر، في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
(1) روى هذا الحديث أبو داود (3015)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن ضعفه في موضع آخر برقم (2736)، قال أبو داود: وأرى الوهم في حديث مُجَمِّع أنه قال: ثلاث مئة فارس، وكانوا مئتي فارس.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -.
(3) إسناده قوي: أخرجه أحمد 2/ 345، 346، وقال شعيب الأرنؤوط: وإسناده قوي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363
* * *
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} [الفتح: 18 - 20].
فأراد المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الحديبية أن يخرجوا معه إلى خيبر، لما علموا ما بها من مغانم وأموال كثيرة، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} عن الحديبية {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} أي: إلى خيبر، {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} أي: يريدون أن يبدلوا كلام الله لما ووعده بأن المغانم ستكون لمن شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة -كما تقدم في الآيات- {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي: قال بأن المغانم ستكون لأهل الحديبية، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: أن نشرككم في المغانم، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} [الفتح:15] أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فهم لهم (1).
ومضى جيش المسلمين حتى نزل بالرجيع.
عن مَرْوان بن الحكم، والمسوَر بن مخرمة قالا: انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم، فنزل بالرجيع- واد بين خيبر وغطفان- فتخوف أن تُمدَّهم غطفان، فبات حتى أصبح، فغدا إليهم (2).
وَكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيلٍ لَم يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ (3).
(1) انظر: "مختصر تفسير ابن كثير" 3/ 296. الشيخ /أحمد شاكر.
(2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 4/ 196، 197، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق "زاد المعاد": رجاله ثقات.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4197)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، واللفظ للبخاري.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364
* * *
فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح قريبًا من خيبر بغلس (1).
يقول أَنَسُ بن مَالِك - رضي الله عنه -: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أبي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - في زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وانحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نبي الله، وإِنِّي لأرى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -.
يقول أنس: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفئوسهم، ومكاتلهم (2)، ومرورهم (3)، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ (4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنْذَرين" قالها ثلاث مرات (5).
فلما رأى أهل خيبر جيش المسلمين هربوا إلى حصونهم، فتحصنوا بها.
وصدق الله إذ يقول: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14].
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1 - حصن ناعم.
2 - حصن الصعب بن معاذ.
(1) الغلس: اختلاط ظلمة الليل بضوء النهار.
(2) المكاتل: جمع مِكتل- بكسر الميم -وهو القُفة.
(3) المرور: جمع مَرّ -بفتح الميم- وهي المساحي.
(4) الخميس: هو الجيش، وسمي خميسًا, لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب.
(5) متفق عليه: انظر التخريج السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365
* * *
3 - حصن قلعة الزبير.
4 - حصن أُبيٍّ.
5 - حصن نزار.
والحصون الثلاثة الأولى منها تقع في منطقة يقال لها: (النطاة) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشَّق.
أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1 - حصن القَموص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير).
2 - حصن الوَطيح.
3 - حصن السُّلالم.
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها (1).
فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول الحصون افتتح حسن ناعم، وعنده قُتل محمود بن مسلمة، أُلْقيت عليه منه رحى فقتلته (2).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى اللِّوَاءَ أَبا بَكْر الصديق - رضي الله عنه -، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ، فَخَرَجَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ"، فَبِات الصحابة وأنفسهم طَيِّبَةٌ أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا،
(1) "الرحيق المختوم" (318، 319)، وقد ذكر هذه الحصون ابن إسحاق، والواقدي.
انظر: "سيرة ابن هشام"، "الطبقات الكبرى" غزوة خيبر.
(2) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366
* * *
فَلَمَّا أَنْ أَصبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ (1)، فَتَفَلَ في عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ وَفُتِحَ لَهُ (2).
وكَانَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قد تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خَيْبَرَ لمرض عينه، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَلَحِقَ بِهِ (3).
وعن سَهْل بن سَعْد - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُم أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: "أَيْنَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ؟ "، فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ الله يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قَالَ: "فَأَرْسَلُوا إِلَيهِ"، فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيُّ: يَا رَسُولَ الله أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْاِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيهِمْ مِنْ حَقِّ الله فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" (4).
(1) الرمد: مرض العين.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (22889)، الحاكم 3/ 37، الهيثمي في "الزوائد" 6/ 150، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والهيثمي. وذكر الواقدي في مغازيه 2/ 657 أن حصن ناعم فتح بعد عشرة أيام، ولكن هذه الرواية تبين أنه فتح بعد ثلاثة أيام فقط.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4209)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد. من حديث سلمة بن الأكوع، واللفظ للبخاري.
(4) متفق عليه أخرجه البخاري (4210)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2406)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل علي - رضي الله عنه -.
وحُمْر النعم: هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367
* * *
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ:
تَاللهِ لَوْلَا الله مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: أَنَا عَامِرٌ، قَالَ: "غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يَا نَبِي الله لَوْلَا مَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَالَ خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ، وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَت تَلَهَّبُ
قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ في تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ (1)، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ (2).
قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ
(1) يسفل له: أي يضربه من أسفل.
(2) أي: قُتل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368
* * *
عَامِرٍ قَتَلَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"، ثُمَّ أَرْسَلَنِي إلى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ أَوْ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَسَقَ في عَينَيهِ فَبَرَأَ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا الذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ (1)
وهكذا تم فتح حصن ناعم.
وكانت غطفان قد سمعت بمنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فجمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة (2) سمعوا خلفهم في أموالهم حِسّا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهلهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين خيبر (3).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد.
(2) منقلة: أي مرحلة.
(3) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369
* * *
وفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - حصن القموص، حصن بني أبي الحقيق، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سبايا، منهن صفية بنت حُييِّ بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - صفية لنفسه (1).
ثم فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه (2).
ولما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسُّلالم، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحًا (3).
تصالح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر:
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْضُ حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا" (4).
فكان الصلح مع يهود خيبر مشروطًا بإخراجهم إذا شاء المسلمون ذلك.
ولذلك أخرجهم عُمَرُ - رضي الله عنه - في إمارته وقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) "سيرة ابن هشام" 3/ 195.
(2) "سيرة ابن هشام" 3/ 196، والودك: اللحم السمين.
(3) السابق.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (3152)، كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1551)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من التمر والزرع.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370
* * *
كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، ومَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، وإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ (1).
وكان سبب إخراجهم أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عندما ذهب إلى ماله هناك ليلاً، فقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أهل خَيبَرَ عَلَى أمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ الله وَإِنَّ عبد الله بن عُمَرَ خَرَجَ إلى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ (2)، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بني أبي الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - وَعَامَلَنَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ" (3)، فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أبي الْقَاسِمِ (4)، فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (5).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل خيبر على أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيئًا، فَإِنْ
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3007)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": حسن صحيح.
(2) الفدع: هو زوال المفصل. وأخرج البخاري حديثًا معلقًا: أنهم ألقوه من فوق بيت ففدعوا يديه.
(3) القلوص -بفتح القاف-: الناقة الصابرة على السير، وقيل: الشابة، وفي ذلك إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره بالغيبيات قبل وقوعها.
(4) هزيلة: تصغير هزل، وهو ضد الجد.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2730)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371
* * *
فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ كَانَ قُتِلَ قَبْلَ خَيْبَرَ، كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ يَوْمَ بني النَّضِيرِ حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فِيهِ حُلِيُّهُمْ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَعْيَةَ (1): "أَيْنَ مَسْكُ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ؟ "، قَالَ: أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنَّفَقَاتُ، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ، فَقَتَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ابْنَ أبي الْحُقَيقِ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ (2).
تقسيم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر:
لَمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رسوله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى ثلاثة آلاف وستمائة سَهْمًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وهو ما غنمه المسلمون من منطقتي الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا، وَعَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - النِّصْفَ الْآخَرَ، وهو ألف وثمانمائة سهم لِنَوَائِبِهِ وما ينزل من أمور الْمُسْلِمِينَ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا القسم ما حازه المسلمون من حصون: الْوَطِيحَ، وَالْكُتَيْبَةَ، والسُّلالم وتوابعها (3).
قال البيهقي رحمه الله:
وهذا لأن خيبر فُتح شطرها عَنْوة (4)، وشطرها صلحًا، فقسم ما فُتح عنوة
(1) عم حيي بن أخطب.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3006)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أهل خيبر، وحسنه الألباني.
(3) ورد هذا التقسيم في عدة أحاديث- صحيحة، صححها العلامة محمَّد ناصر الدين الألباني، أخرجها أبو داود في سننه، انظر: "سنن أبي داود"، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر.
(4) عَنوة: أي قهرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372
* * *
بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتُح صلحًا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين. اهـ (1).
قال ابن القيم رحمه الله:
فالصواب الذي لا شك فيه: أنها فتحت عَنوة، والإمام مُخيَّر في أرض العنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْم بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأنواع الثلاثة، فقسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر، وترك شطرها، وقد تقدم تقرير كون مكة فتحت عنوة بما لا مدفع له. اهـ (2).
قلت: والأدلة ترجح كلام بن القيم رحمه الله من أنها فتحت عَنوة، وذلك لما رواه أبو داود (3009) عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فأصبناها عَنوة، وصححه الألباني وقد وردت أحاديث تفيد بأن بعضها فُتح عنوة وبعضها فتح صلحًا (3)، وهي ضعيفة، ضعفها الشيخ الألباني رحمه الله، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - للفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل (4) سهمًا واحدًا (5).
وقد أسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين حضروا بعد الفتح، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ولم يقسم لأحد لم يشهد الغزوة غيرهم (6).
(1) "زاد المعاد" 3/ 291.
(2) "زاد المعاد" 3/ 292.
(3) انظر: "سنن أبي داود" (3017).
(4) الراجل: الذي يقاتل على رجله بلا فرس.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4228)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين.
(6) متفق عليه: وسيأتي تخريجه، وذكر ابن إسحاق أنه أسهم لجابر بن عبد الله ولم يشهد الغزوة، وليس له إسناد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373
* * *
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب من سهم ذي القربى، ولم يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من ذلك السهم (1).
عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: فلَمَّا كَاد يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى في بني هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بني نَوْفَلٍ وَبَنِي عبد شَمْسٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بن عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله هَؤُلَاءِ بنو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ الله بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بني الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ في جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيءٌ وَاحِدٌ"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - صلى الله عليه وسلم - (2).
قال ابن كثير رحمه الله:
وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب, لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإِسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحماية له: مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حَميَّةً للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله، وأما بنو عبد شمس
(1) تُقَسَّم غنيمة المسلمين إلى خمسة أخماس: أربعة منها توزع على المقاتلين، وخمس لله ورسوله ويقسم خمسة أسهم، توزع على من ذكرهم الله في هذه الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3140)، كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض، ما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المطلب وبني هاشم من خُمس خيبر، وأبو داود (2980)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، واللفظ له.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374
* * *
وبنو نوفل- وإن كانوا أبناء عمهم- فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول (1).
وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدًا يقال له عميرًا من الغنيمة ولم يُسهم له (2). يقول عُمَيْرٌ مَوْلَى آبي اللَّحْمِ (3): شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، فَأَمَرَ بِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ (5)، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (6) الْمَتَاعِ (7).
ويروي أبو هُرَيْرَةَ قصة له مع أبان بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ فيقول - رضي الله عنه -: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ بن سَعِيدٍ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا، وإِنَّ حُزُمَ (8) خَيْلِهِمْ لِيفٌ، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِم لَنَا يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَا تَقْسِمْ لَهُمْ يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أَبَانُ: أنْتَ بِهَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرُ عَلَئنَا مِنْ رَأسِ ضَالٍ (9)! فَقَالَ
(1) "مختصر تفسير ابن كثير" 2/ 112.
(2) لم يُسْهم له: أي لم يعطه سهمًا معلومًا كبقية الجيش، وإنما أعطاه شيئًا من الغنيمة ترضية له، وهذا هو حكم العبد المملوك في الشريعة الإِسلامية أنه إذا قاتل مع المسلمين لا يسهم له كبقية الجنود، وإنما يعطى من الغنيمة ما يراه الأمير.
(3) قال وكيع: كان لا يأكل اللحم. اهـ. فلذلك سمي آبي اللحم.
(4) أي: في شأني وحقي بما هو مدح لي. "عون المعبود" 5/ 170.
(5) فإذا أنا أجُرُّه: أي أسحب السيف على الأرض من صغر سنين. "عون المعبود" 5/ 170.
(6) خُرثَى المتاع: أي أثاث البيت كالقدر وغيره. "عون المعبود" 5/ 170.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (2730)، كتاب: الجهاد، باب: في المرأة والعبد يُحذيان من الغنيمة، الترمذي (1557)، كتاب: السير، باب: هل يُسهم للعبد؟، أحمد (27914)، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود" (2440).
(8) حُزُم: جمع حزام، وهو ما يُشَدُّ به الوسط.
(9) فقال أبان: أنت بها، أي: أنت تقول بهذا، يا وَبْرُ. عن أبي حاتم أن العرب يُسمى كل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375
* * *
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اجْلِسْ يَا أَبَانُ"، وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وكانت ثمار خيبر كثيرة جدًا، حتى إن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قدرها بأربعين ألف وَسْق.
تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أَهْلَ خَيبَرَ على نِصْفَ ما يخرج من ثمارها، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ النَّخْلُ (2)، بَعَثَ إِلَيْهِم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رَوَاحَةَ فَحَزَرَ عَلَيهِمْ النَّخْلَ (3)، فَقَالَ: في ذِهْ كَذَا وَكَذَا، فقَالُوا: أَكْثَرْتَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ ابن رواحة: فَأَنَا أَلِي حَزْرَ النَّخْلِ وَأُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي قُلْتُ (4)، قَالُوا: هَذَا الْحَقُّ وَبِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، قَدْ رَضِينَا أَنْ نَأْخُذَهُ بِالَّذِي قُلْتَ (5).
فلما قال لهم ابْنُ رَوَاحَةَ ذلك أَخَذُوا الثَّمَرَ وَعَلَيْهِمْ عِشْرُونَ أَلْفَ وَسْقٍ (6).
ولكثرة ثمار خيبر، وما أخذه المسلمون منها، كان في ذلك توسعة على
= دابة من حشرات الجبال وَبْرًا، وقيل هي دابة صغيرة كالهرة وحشية، تَحدَّر علينا: أي تهجم علينا بغتة، من رأس ضال: قال ابن دقيق العيد: الضال هو السدر البري. اهـ والمعنى تنزل علينا من رأس شجر السدر.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4238)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، وأبو داود (2723)، كتاب: الجهاد، باب: في من جاء بعد الغنيمة لا سهم له، واللفظ له.
(2) يصرم النخل: أي يقطع.
(3) الحزر: التقدير.
(4) المعنى: أنهم لما قالوا له: أكثرت علينا، واتهموه بالظلم وأن الثمار أقل من ذلك، فلو أعطوه عشرين ألف وَسْق وهو نصف ما قدَّره ابن رواحة سيتبقى لهم أقل من ذلك، فقال لهم ابن رواحة إذن أعطيكم أنا عشرين ألف وسق وآخذ ما تبقى.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3410)، كتاب: البيوع، باب: في المساقاة، ابن ماجه (1820)، كتاب: الزكاة، باب: خرص النخل والعنب، وصححه الألباني.
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3415)، كتاب: البيوع، باب: في الخرص، وصححه الألباني.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376
* * *
المسلمين وإغناءً لهم، حتى إن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - يقول: مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ (1).
وقالت عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنْ التَّمْرِ (2).
ولما وسع الله على المهاجرين وأخذوا من غنائم خيبر، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إلى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ إياها حين هاجروا من مكة، حتى إن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ردَّ عِذَاقًا (3) على أم سليم كانت قد أعطتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاها لأُمِّ أَيْمَنَ، فرد على أم سُليم عِذاقها، وأعطنى أم أيمن مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ (4).
النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمِّر أحد الأنصار على خيبر:
عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما - أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَخَا بني عَدِيٍّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلى خَيْبَرَ فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا (5).
وعنهما أيضًا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيبَرَ فَجَاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيب (6)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيبَرَ هَكَذَا؟ "، فَقَالَ: لَا وَاللهَ يَا رَسُول الله إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، والصاعين بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: "لَا
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4243)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4242)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3) العذاق: جمع عذق، وهو عرجون النخل.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (2630)، كتاب: الهبة، باب: فضل المنيحة، ومسلم (1771)، كتاب: الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والتمر حين استغنوا عنها بالفتوح.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (4246، 4247)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر.
(6) قال ابن حجر: بتمر جنيب: قال مالك: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: هو الصلب، وقيل: الذي أُخرج من حشفة ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره. اهـ "فتح الباري" 4/ 467.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377
* * *
تَفْعَلْ بعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" (1).
وهذا الرجل- الذي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على خيبر- هو سواد بن غزية (2).
وعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا غزَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، إِنكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ"، وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَ لِي: "يَا عبد الله بن قَيسٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ "، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله فَدَاكَ أبي وَأُمِّي، قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" (3).
وفي غزوة خيبر أُصيب سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في ساقه، فَنَفَثَ فِيهِا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، يقول سلمة: فَمَا اشْتَكَيتُهَا حَتَّى السَّاعَة (4).
وفي خيبر أيضًا نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ (5)، ونَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ أيضًا عَنْ أَكْلِ الثُّومِ (6).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4244، 4245)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر.
(2) "فتح الباري" من رواية أبي عوانة والدارقطني.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4205)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4206)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4216)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1407)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة.
(6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4215)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378
* * *
وعن سُوَيْدِ بن النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ (1)، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ (2)، فَأَكَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إلى الْمَغْرِب فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (3).
- وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: رُميَ إلينا جراب فيه طعام وشحم (4) يوم خيبر، فوثبت لآخذه، فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحييت منه.
وفي رواية: فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَسِّمًا (5).
4 - وفي غزوة خيبر: حُرِّمت لحوم الحُمُر الأهلية.
الشرح:
وفي غزوة خيبر نهى النبي عن لحوم الحمر الأهلية (6).
عَنْ سَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ
= (561)، كتاب: المساجد، باب: نهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها مما له من رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح وإخراجه من المسجد.
النهي عن أكل الثوم للكراهة لا للتحريم، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بأن ريحها يؤذي الناس كما يؤذي الملائكة أيضًا.
(1) الأزواد: جمع زاد، وهو الطعام.
(2) ثرى: أي بُل بالماء، لما لحقه من يبس.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (209)، كتاب: الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ.
(4) الشحم: الدهن.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4214)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1772)، كتاب: الجهاد والسير، باب: أخذ الطعام من أرض العدو.
(6) الحمر الأهلية، ويقال الإنسية: هي الحمر المستأنسة التي تعيش في البيوت، وهي غير الحمر الوحشية.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379
* * *
عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُوقِدُونَ؟ "، قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ:"عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: لَحْمِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: "أَوْ ذَاكَ" (1).
وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: أُكِلَت الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى في النَّاسِ: إِنَّ الله وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ (2).
5 - وفي غزوة خيبر: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب، ومن معه من مهاجري الحبشة، ومعهم أبو موسى، ومن معه من الأشعريين.
الشرح:
عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ (3)، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمَا أَحَدُهُمَا أبو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أبو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: بِضْعًا، وَإِمَّا قَالَ: ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَألْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بن أبي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ (4).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4199)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1940)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.
(3) أي: بلغنا مبعثه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينها بمكة.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4230)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2502)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380
* * *
وعَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَنْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَسَمَ لَنَا، وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ غَيْرَنَا (1).
6 - وفي غزوة خيبر: قدم ابو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا (2).
7 - وفي هذه السنة: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة - رضي الله عنها -.
الشرح:
كانت أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين - رضي الله عنها - تحت عبيد الله بن جحش قبل زواجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة، وهناك تنصَّر عبيد الله بن جحش وارتد عن الإِسلام.
عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: رأيت في المنام كأنَّ زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت فإذا به قد تنصَّر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية له يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكِّلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكلته، فأعطيت أبرهة سوارين من فضة فلما كان العشي أمر النجاشيُّ جعفر بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أنْ أزوجه أم حبيبة، فأجبتُ وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير،
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4233)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2827)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381
* * *
فخطب خالد، فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وزوجته أم حبيبة، وقبض الدنانير، وعمل لهم النجاشي طعامًا فأكلوا.
قالت أم حبيبة: فلما وصل إليَّ المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارًا، قالت: فردتها عليَّ، وقالت: إن الملك عزم عليَّ بذلك، وردَّت عليَّ ما كنت أعطيتها أولاً، ثم جائتني من الغد بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت به معي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال ابن حجر رحمه الله:
وروى ابن سعد أن ذلك كان سنة سبع، وقيل كان سنة ست، والأول أشهر. اهـ (2).
8 - وفي غزوة خيبر: اصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حُييٍّ من السَّبْي فأعتقها وتزوجها.
الشرح:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - في قصة خيبر، قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ، قَالَ: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً"، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيِّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: "ادْعُوهُ بِهَا"، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْي غَيْرَهَا"، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوسًا، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ
(1) "الطبقات الكبرى" 8/ 327. نقلاً عن "الإصابة".
(2) "الاصابة" 4/ 2508، 2509.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382
* * *
شَيءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ"، وَبَسَطَ نِطَعًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعن أنس أيضًا قال: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلى وَلِيمَتِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ، وَالْأَقِطَ، وَالسَّمْنَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ (2).
ويقول أنس - رضي الله عنه -: قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الْحِصْنَ، ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صفِيَّةَ بنتِ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ صَنَعَ حَيسًا في نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: "آذنْ مَنْ حَوْلَكَ"، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَتَهُ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إلى الْمَدِينَةِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، وَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ (3)، وجَعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (4).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (371)، كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4213)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4211)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4200)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمه ثم يتزوجها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383
* * *
9 - وفي هذه السنة: كانت سرية أبان بن سعيد بن العاص قِبَل نجدٍ.
الشرح:
ولم تأت تفاصيل عن تلك السرية، إلا ما جاء ذكره من حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره في غزوة خيبر، أنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سعيد بن العاص عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حُزْمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَا تَقْسِمْ لَهُم ... الحديث (1).
10 - وفي هذه السنة: أهدت يهودية شاةً مصلية مسمومة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ لقمة فأخبرته الشاة بأنها مسمومة.
الشرح:
قامت زينب بنت الحارث زوج سلام بن مشكم اليهودية بإهداء شاة مصلية (2) مسمومة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سألت: أي عضو أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّم، ثم سَّمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تناول الذراع، فلاك منها مُضغة، فلم يُسغْها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأما بشر فأساغها (3)، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فلفظها، ثم قال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم" (4)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ
(1) متفق عليه: وقد سبق تخريجه.
(2) مصلية: مشوية.
(3) أساغها: بلعها.
(4) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384
* * *
الْيَهُود"، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَبُوكُم؟ "، قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ"، فَقَالُوا: صدَقْتَ وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أَبِينَا، قَالَ لَهُم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ "، فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْسَئُوا فِيهَا وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا"، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "فَهَلْ أَنْتُم صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ "، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَم يَضُرَّكَ (1).
وعَنْ أَنسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ"، قَالَ أنس: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا في لَهَوَاتِ (2) رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ" (4).
فرفض النبي قتلها في أول الأمر -كما تقدم- ثم إن بِشْرَ بن الْبَرَاءِ بن
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5777)، كتاب: الطب، باب: ما يُذكر في سُمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) لَهَوَات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، كأنه بقي للسم علامة في فم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (2617)، كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190)، كتاب: السلام، باب: السَّم.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4512)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سمًا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟، وصححه الألباني "صحيح السنن".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385
* * *
مَعْرُورٍ مات عن جرَّاء ما أكل من السم، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُتِلَتْ به (1).
وكان هذا السم من أسباب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض الوفاة.
عن عَائِشَة - رضي الله عنها - قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (2).
11 - وفي هذه السنة: قدم حاطبُ بن أبي بلعتة من عند المقوقِس وقد أرسل معه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وبغلة وحماراً وكُسوة، فأسلمت مارية وأختها قَبْل قدومهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم، ووهب سيرين لحسان بن ثابت فهي أم ابنه عبد الرحمن، فهو وإبراهيم ابنا خالة.
الشرح:
قال ابن القيم رحمه الله:
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، واسمه جُريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط، فقال خيرًا، وقارب الأمر ولم يسلم، وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وقيسرى، فتسرَّى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين توبًا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دُلْدُل، وحمارًا أشهب وهو عُفير، وغلامًا خصيًا يقال له: مابور، وقيل: هو ابن عم مارية، وفرسًا وهو اللزار، وقدحًا من
(1) صحيح: المصدر السابق رقم (4511)، وصححه الألباني.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4428)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، معلقًا، وأحمد 6/ 18.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386
* * *
زجاج، وعسلاً (1).
12 - ولما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر بعث مُحيّصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصف فدك خالصًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل.
الشرح:
لما فتح الله على المسلمين حصون خيبر، وسمع بهم أهل فدك، قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل وكان فيمن مشى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم في ذلك مُحيصة بن مسعود، أخو بني حارثة فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأَعْمر لها، فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك علي ذلك، فكانت خيبر فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لم يُجْلبوا عليها بخيل ولا ركاب (2).
وعن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثُ صَفَايَا: بنو النَّضِيرِ، وَخَيبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمَّا بنو النَّضِيرِ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ: فَجَزَّأَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَينَ
(1) "زاد المعاد" 1/ 118، ابن سعد في "الطبقات" 1/ 261.
(2) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387
* * *
فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ (1).
13 - وفي مُنصرفة من خيبر أيضًا فتح وادي القرى، وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على شَطر ما يخرج منها كأهل خيبر.
الشرح:
ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - متوجهًا إلى وادي القرى، التي لم يستسلم أهلها كأهل فدك إنما استقبلوا جيش المسلمين بالرمى، فقتلوا مِدْعَم عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى فتحها عنوة، وأقام بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (2).
وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ (3)، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَة عبد لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَه أَحَدُ بني الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ (4)، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ (5) الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا"، فَجَاءَ رَجُلٌ
(1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (2967)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، وحسن إسناده الألباني "صحيح سنن أبي داود".
(2) انظر: انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر إلى وادي القرى، "سيرة ابن هشام" 3/ 200، "زاد المعاد" 3/ 314، و"عيون الأثر" 2/ 197.
(3) الحوائط: أي الحدائق.
(4) عائر: أي لا يُدرى من رمى به.
(5) الشملة: كساء غليظ يُلْتحف به.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388
* * *
حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ (1)، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" (2).
14 - ولما علم يهود تيماء ما جرى لإخوانهم في خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بأموالهم.
الشرح:
قال ابن القيم رحمه الله:
فلما بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأقاموا بأموالهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء، ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام، وانصرف رسول الله - رضي الله عنه - راجعًا إلى المدينة. اهـ (3).
15 - وفي مرجعهم إلى المدينة نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى (4) عَرَّسَ (5)، وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ (6)، فَصَلَّى بِلَالٌ مَا
(1) الشراك: هو جلدة النعل على ظهر القدم.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4234)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(3) "زاد المعاد" 3/ 314، 315، وانظر: "تاريخ الطبري" 3/ 91، و "عيون الأثر" 2/ 199.
(4) الكرى: النعاس.
(5) التعريس: نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة.
(6) اكلأ لنا الليل: أي ارقبه واحفظه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389
* * *
ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ (1)، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عبد الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ وَقَتَلَ رَاعِيَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله وَأَخْبِرْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرحِهِ (2)، قَالَ: ثُمَّ قُمتُ عَلَى أَكَمَةٍ (3)، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ في آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ أَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ (4)
فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ (5) سَهْمًا في رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إلى كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: فَوَاللهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً
(1) أُنديه مع الظهر: قال النووي: ومعناه: أن يورد الماشية الماء فتُسقى قليلاً ثم ترسل إلى المرعى، ثم ترد الماء فترد قليلاً، ثم تُردُّ إلى المرعى. اهـ "شرح مسلم" 6/ 357.
(2) سرحه: أي ماشيته التي يُسرح بها.
(3) الأكمة: هي الكومة من الرمل أصغر من الجبل.
(4) اليوم يوم الرضع: أي يوم اللئام، حيث كان أحدهم إذا أراد سرقة اللبن من الشاة أو الناقة ليشربه لا يحلبه في إناء ثم يشربه لئلا يسمع أصحابها صوت اللبن وهو يُحلب في الإناء، إنما كان يضع فمه في ضرع الناقة أو الشاة فيشرب كالذي يرضع فلا يُسمع له صوت وهذا فعل اللئلام من السَرَقة.
(5) أصك: أضرب.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358
* * *
فَجَلَسْتُ في أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا في تَضَايُقِهِ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ، حَتَّى مَا خَلَقَ الله مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنْ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ فَإِذَا هُم قَدْ أَتَاهُم فُلَانُ بن بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنِي: يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ، قَالَ الْفَزَارِيُّ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى، قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرحَ (1) وَاللهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَئءٍ في أَيْدِينَا، قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ: فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ في الْجَبَلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنْ الْكَلَامِ، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي، قَالُوا: لَا وَمَنْ أَنْتَ، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا سلَمَةُ بن الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ (2)، قَالَ: فَرَجَعُوا فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، قَالَ: فَإذَا أَوَّلُهُمْ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ عَلَى إِثْرِهِ أبو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَلَي إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بن الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ، قَالَ: فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ فَالْتَقَى هُوَ وَعبد الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَعَقَرَ بِعبد الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ وَطَعَنَهُ عبد الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَلَحِقَ أبو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِعبد الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَىَّ حَتَّى مَا أَرَى
(1) البرح: أي شدة.
(2) أظن هنا بمعنى اليقين، أي: أنا أتيقن وأعلم هذا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359
* * *
وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا غُبَارِهِمْ شَيئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ: ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، قَالَ: فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنِي: أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ في ثَنِيَّةٍ (1)، قَالَ: فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ في نُغْضِ كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ (2)، قَالَ: قُلْتُ: نَعَم يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ، قَالَ: وَأَرْدَوْا (3) فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ (4)، فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْت، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيءٍ اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنْ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْقَوْمِ، وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله خَلِّنِي، فَأَنْتَخِبُ مِنْ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبعُ الْقَوْمَ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ (5)، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ في ضَوْءِ النَّارِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا"، قُلْتُ: نَعَمْ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ في أَرْضِ غَطَفَانَ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَفُوا
(1) الثنية: الطريق أعلى الجبل، ويشتدون: أي يُسرعون.
(2) أكوعه بكرة: أي أنت الأكوع الذي كنت في أول هذا النهار.
(3) أردوا: أي تركوا.
(4) السطيحة: إناء من جلودٍ سُطح بعضها على بعض، مَذقة: قيل: لبن ممزوج بماء.
(5) أي: فلا يبقى منهم أحد يخبر من وراءهم فيستمدونهم علينا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360
* * *
جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمْ الْقَوْمٌ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أبو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ"، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ (1) رَاجِعِينَ إلى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَبَينَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا (2)، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ أَلَا مُسَابِقٌ إلى الْمَدِينَةِ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا، قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بِأبي وَأُمِّي ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ، قَالَ: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ: قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ (3) فَعَدَوْتُ، قَالَ: فَرَبَطْتُ (4) عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي (5)، ثُمَّ عَدَوْتُ في إِثْرِهِ فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ، قَالَ: فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَاللهِ، قَالَ: أَنَا أَظُنُّ، فَسَبَقْتُهُ إلى الْمَدِينَةِ (6).
وكانت غزوة ذي قرد قبل الحديبية بثلاث كما ذكر ذلك سلمة - رضي الله عنه - كما سيأتي في غزوة خيبر -إن شاء الله- ورجح ذلك أنها كانت في السنة السابعة قبل خيبر بثلاث (7).
(1) العضباء: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت ناقة نجيبة لا تُسبق.
(2) شدًا: أي جريًا.
(3) طفرت: أي قفزت.
(4) ربطت: أي توقفت عن الجري.
(5) أستبقي نفسي: أي أريحها.
(6) صحيح: سبق تخريجه.
(7) صحيح: أخرجه البخاري، باب: غزوة ذي قرد، كتاب: المغازي، ورجحه ابن حجر في "الفتح" 7/ 526، وابن كثير في "البداية" 4/ 174.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361
* * *
3 - وفي المحرم من هذه السنة: كانت غزوة خيبر.
الشرح:
قَالَ سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في حديثه السابق عن عزوة ذي قَرَد: فَوَاللهِ مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وخيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة، وتبعد عنها بحوالي 165كم (2)، وترتفع عن سطح البحر 850 م، وهي من أعظم حرار العرب بعد حرَّة بني سليم، وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرة مياهها، فاشتهرت بكثرة نخيلها، هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه، لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفًا ومنعة ورجالاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غَطَفَان التي تُعْتَبر خيبر ضمن أراضيها.
ونظرًا لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف، وكان فيها نشاط واسع للصيرفة.
وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة (3) حيث ذهب يهود المدينة الذين أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فأقاموا فيها.
سبب الغزوة:
تقدم أنَّ قبائل اليهود الثلاثة بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة نقضوا
(1) صحيح: سبق تخريجه.
(2) قال الدكتور/ العُمري: هذا بالنسبة للطريق المسفلت، وهو يختلف عن الطريق التي سلكها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر. اهـ "السيرة النبوية الصحيحة" هامش 1/ 318.
(3) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 318.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362
* * *
عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتل بني قريظة وأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، فذهب بعضهم إلى خيبر وأصبحوا يُشكلون خطرًا على المسلمين، وكان لبعضهم يدًا في تأليب قريش وجمعهم الأحزاب لمحاربة المسلمين- كما تقدم ذلك.
فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم -بعدما عاهد قريشًا- أن يعالج الموقف بعدما صارت خيبر مصدر خطر كبير على الإِسلام والمسلمين.
خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر:
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر بقريب من ألف وخمسمائة مقاتل معهم مائتا فرس.
عَنْ مُجَمِّعِ بن جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُ مِائَةِ فَارِسٍ (1)، فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر ليلاً (2)، واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سِباع بن عُرْفُطة (3)، وكان الله تعالى قد وعد المؤمنين مغانم خيبر، في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
(1) روى هذا الحديث أبو داود (3015)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن ضعفه في موضع آخر برقم (2736)، قال أبو داود: وأرى الوهم في حديث مُجَمِّع أنه قال: ثلاث مئة فارس، وكانوا مئتي فارس.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -.
(3) إسناده قوي: أخرجه أحمد 2/ 345، 346، وقال شعيب الأرنؤوط: وإسناده قوي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363
* * *
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} [الفتح: 18 - 20].
فأراد المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الحديبية أن يخرجوا معه إلى خيبر، لما علموا ما بها من مغانم وأموال كثيرة، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} عن الحديبية {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} أي: إلى خيبر، {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} أي: يريدون أن يبدلوا كلام الله لما ووعده بأن المغانم ستكون لمن شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة -كما تقدم في الآيات- {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي: قال بأن المغانم ستكون لأهل الحديبية، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: أن نشرككم في المغانم، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} [الفتح:15] أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فهم لهم (1).
ومضى جيش المسلمين حتى نزل بالرجيع.
عن مَرْوان بن الحكم، والمسوَر بن مخرمة قالا: انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم، فنزل بالرجيع- واد بين خيبر وغطفان- فتخوف أن تُمدَّهم غطفان، فبات حتى أصبح، فغدا إليهم (2).
وَكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيلٍ لَم يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ (3).
(1) انظر: "مختصر تفسير ابن كثير" 3/ 296. الشيخ /أحمد شاكر.
(2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 4/ 196، 197، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق "زاد المعاد": رجاله ثقات.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4197)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، واللفظ للبخاري.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364
* * *
فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح قريبًا من خيبر بغلس (1).
يقول أَنَسُ بن مَالِك - رضي الله عنه -: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أبي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - في زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وانحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نبي الله، وإِنِّي لأرى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -.
يقول أنس: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفئوسهم، ومكاتلهم (2)، ومرورهم (3)، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ (4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنْذَرين" قالها ثلاث مرات (5).
فلما رأى أهل خيبر جيش المسلمين هربوا إلى حصونهم، فتحصنوا بها.
وصدق الله إذ يقول: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14].
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1 - حصن ناعم.
2 - حصن الصعب بن معاذ.
(1) الغلس: اختلاط ظلمة الليل بضوء النهار.
(2) المكاتل: جمع مِكتل- بكسر الميم -وهو القُفة.
(3) المرور: جمع مَرّ -بفتح الميم- وهي المساحي.
(4) الخميس: هو الجيش، وسمي خميسًا, لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب.
(5) متفق عليه: انظر التخريج السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365
* * *
3 - حصن قلعة الزبير.
4 - حصن أُبيٍّ.
5 - حصن نزار.
والحصون الثلاثة الأولى منها تقع في منطقة يقال لها: (النطاة) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشَّق.
أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1 - حصن القَموص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير).
2 - حصن الوَطيح.
3 - حصن السُّلالم.
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها (1).
فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول الحصون افتتح حسن ناعم، وعنده قُتل محمود بن مسلمة، أُلْقيت عليه منه رحى فقتلته (2).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى اللِّوَاءَ أَبا بَكْر الصديق - رضي الله عنه -، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ، فَخَرَجَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ"، فَبِات الصحابة وأنفسهم طَيِّبَةٌ أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا،
(1) "الرحيق المختوم" (318، 319)، وقد ذكر هذه الحصون ابن إسحاق، والواقدي.
انظر: "سيرة ابن هشام"، "الطبقات الكبرى" غزوة خيبر.
(2) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366
* * *
فَلَمَّا أَنْ أَصبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ (1)، فَتَفَلَ في عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ وَفُتِحَ لَهُ (2).
وكَانَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قد تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خَيْبَرَ لمرض عينه، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَلَحِقَ بِهِ (3).
وعن سَهْل بن سَعْد - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُم أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: "أَيْنَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ؟ "، فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ الله يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قَالَ: "فَأَرْسَلُوا إِلَيهِ"، فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيُّ: يَا رَسُولَ الله أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْاِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيهِمْ مِنْ حَقِّ الله فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" (4).
(1) الرمد: مرض العين.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (22889)، الحاكم 3/ 37، الهيثمي في "الزوائد" 6/ 150، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والهيثمي. وذكر الواقدي في مغازيه 2/ 657 أن حصن ناعم فتح بعد عشرة أيام، ولكن هذه الرواية تبين أنه فتح بعد ثلاثة أيام فقط.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4209)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد. من حديث سلمة بن الأكوع، واللفظ للبخاري.
(4) متفق عليه أخرجه البخاري (4210)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2406)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل علي - رضي الله عنه -.
وحُمْر النعم: هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367
* * *
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ:
تَاللهِ لَوْلَا الله مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: أَنَا عَامِرٌ، قَالَ: "غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يَا نَبِي الله لَوْلَا مَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَالَ خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ، وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَت تَلَهَّبُ
قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ في تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ (1)، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ (2).
قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ
(1) يسفل له: أي يضربه من أسفل.
(2) أي: قُتل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368
* * *
عَامِرٍ قَتَلَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"، ثُمَّ أَرْسَلَنِي إلى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ أَوْ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَسَقَ في عَينَيهِ فَبَرَأَ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا الذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ (1)
وهكذا تم فتح حصن ناعم.
وكانت غطفان قد سمعت بمنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فجمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة (2) سمعوا خلفهم في أموالهم حِسّا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهلهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين خيبر (3).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد.
(2) منقلة: أي مرحلة.
(3) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369
* * *
وفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - حصن القموص، حصن بني أبي الحقيق، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سبايا، منهن صفية بنت حُييِّ بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - صفية لنفسه (1).
ثم فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه (2).
ولما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسُّلالم، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحًا (3).
تصالح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر:
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْضُ حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا" (4).
فكان الصلح مع يهود خيبر مشروطًا بإخراجهم إذا شاء المسلمون ذلك.
ولذلك أخرجهم عُمَرُ - رضي الله عنه - في إمارته وقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) "سيرة ابن هشام" 3/ 195.
(2) "سيرة ابن هشام" 3/ 196، والودك: اللحم السمين.
(3) السابق.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (3152)، كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1551)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من التمر والزرع.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370
* * *
كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، ومَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، وإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ (1).
وكان سبب إخراجهم أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عندما ذهب إلى ماله هناك ليلاً، فقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أهل خَيبَرَ عَلَى أمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ الله وَإِنَّ عبد الله بن عُمَرَ خَرَجَ إلى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ (2)، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بني أبي الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - وَعَامَلَنَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ" (3)، فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أبي الْقَاسِمِ (4)، فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (5).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل خيبر على أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيئًا، فَإِنْ
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3007)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": حسن صحيح.
(2) الفدع: هو زوال المفصل. وأخرج البخاري حديثًا معلقًا: أنهم ألقوه من فوق بيت ففدعوا يديه.
(3) القلوص -بفتح القاف-: الناقة الصابرة على السير، وقيل: الشابة، وفي ذلك إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره بالغيبيات قبل وقوعها.
(4) هزيلة: تصغير هزل، وهو ضد الجد.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2730)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371
* * *
فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ كَانَ قُتِلَ قَبْلَ خَيْبَرَ، كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ يَوْمَ بني النَّضِيرِ حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فِيهِ حُلِيُّهُمْ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَعْيَةَ (1): "أَيْنَ مَسْكُ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ؟ "، قَالَ: أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنَّفَقَاتُ، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ، فَقَتَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ابْنَ أبي الْحُقَيقِ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ (2).
تقسيم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر:
لَمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رسوله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى ثلاثة آلاف وستمائة سَهْمًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وهو ما غنمه المسلمون من منطقتي الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا، وَعَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - النِّصْفَ الْآخَرَ، وهو ألف وثمانمائة سهم لِنَوَائِبِهِ وما ينزل من أمور الْمُسْلِمِينَ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا القسم ما حازه المسلمون من حصون: الْوَطِيحَ، وَالْكُتَيْبَةَ، والسُّلالم وتوابعها (3).
قال البيهقي رحمه الله:
وهذا لأن خيبر فُتح شطرها عَنْوة (4)، وشطرها صلحًا، فقسم ما فُتح عنوة
(1) عم حيي بن أخطب.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3006)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أهل خيبر، وحسنه الألباني.
(3) ورد هذا التقسيم في عدة أحاديث- صحيحة، صححها العلامة محمَّد ناصر الدين الألباني، أخرجها أبو داود في سننه، انظر: "سنن أبي داود"، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر.
(4) عَنوة: أي قهرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372
* * *
بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتُح صلحًا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين. اهـ (1).
قال ابن القيم رحمه الله:
فالصواب الذي لا شك فيه: أنها فتحت عَنوة، والإمام مُخيَّر في أرض العنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْم بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأنواع الثلاثة، فقسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر، وترك شطرها، وقد تقدم تقرير كون مكة فتحت عنوة بما لا مدفع له. اهـ (2).
قلت: والأدلة ترجح كلام بن القيم رحمه الله من أنها فتحت عَنوة، وذلك لما رواه أبو داود (3009) عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فأصبناها عَنوة، وصححه الألباني وقد وردت أحاديث تفيد بأن بعضها فُتح عنوة وبعضها فتح صلحًا (3)، وهي ضعيفة، ضعفها الشيخ الألباني رحمه الله، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - للفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل (4) سهمًا واحدًا (5).
وقد أسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين حضروا بعد الفتح، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ولم يقسم لأحد لم يشهد الغزوة غيرهم (6).
(1) "زاد المعاد" 3/ 291.
(2) "زاد المعاد" 3/ 292.
(3) انظر: "سنن أبي داود" (3017).
(4) الراجل: الذي يقاتل على رجله بلا فرس.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4228)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين.
(6) متفق عليه: وسيأتي تخريجه، وذكر ابن إسحاق أنه أسهم لجابر بن عبد الله ولم يشهد الغزوة، وليس له إسناد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373
* * *
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب من سهم ذي القربى، ولم يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من ذلك السهم (1).
عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: فلَمَّا كَاد يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى في بني هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بني نَوْفَلٍ وَبَنِي عبد شَمْسٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بن عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله هَؤُلَاءِ بنو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ الله بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بني الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ في جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيءٌ وَاحِدٌ"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - صلى الله عليه وسلم - (2).
قال ابن كثير رحمه الله:
وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب, لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإِسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحماية له: مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حَميَّةً للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله، وأما بنو عبد شمس
(1) تُقَسَّم غنيمة المسلمين إلى خمسة أخماس: أربعة منها توزع على المقاتلين، وخمس لله ورسوله ويقسم خمسة أسهم، توزع على من ذكرهم الله في هذه الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3140)، كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض، ما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المطلب وبني هاشم من خُمس خيبر، وأبو داود (2980)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، واللفظ له.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374
* * *
وبنو نوفل- وإن كانوا أبناء عمهم- فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول (1).
وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدًا يقال له عميرًا من الغنيمة ولم يُسهم له (2). يقول عُمَيْرٌ مَوْلَى آبي اللَّحْمِ (3): شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، فَأَمَرَ بِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ (5)، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (6) الْمَتَاعِ (7).
ويروي أبو هُرَيْرَةَ قصة له مع أبان بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ فيقول - رضي الله عنه -: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ بن سَعِيدٍ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا، وإِنَّ حُزُمَ (8) خَيْلِهِمْ لِيفٌ، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِم لَنَا يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَا تَقْسِمْ لَهُمْ يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أَبَانُ: أنْتَ بِهَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرُ عَلَئنَا مِنْ رَأسِ ضَالٍ (9)! فَقَالَ
(1) "مختصر تفسير ابن كثير" 2/ 112.
(2) لم يُسْهم له: أي لم يعطه سهمًا معلومًا كبقية الجيش، وإنما أعطاه شيئًا من الغنيمة ترضية له، وهذا هو حكم العبد المملوك في الشريعة الإِسلامية أنه إذا قاتل مع المسلمين لا يسهم له كبقية الجنود، وإنما يعطى من الغنيمة ما يراه الأمير.
(3) قال وكيع: كان لا يأكل اللحم. اهـ. فلذلك سمي آبي اللحم.
(4) أي: في شأني وحقي بما هو مدح لي. "عون المعبود" 5/ 170.
(5) فإذا أنا أجُرُّه: أي أسحب السيف على الأرض من صغر سنين. "عون المعبود" 5/ 170.
(6) خُرثَى المتاع: أي أثاث البيت كالقدر وغيره. "عون المعبود" 5/ 170.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (2730)، كتاب: الجهاد، باب: في المرأة والعبد يُحذيان من الغنيمة، الترمذي (1557)، كتاب: السير، باب: هل يُسهم للعبد؟، أحمد (27914)، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود" (2440).
(8) حُزُم: جمع حزام، وهو ما يُشَدُّ به الوسط.
(9) فقال أبان: أنت بها، أي: أنت تقول بهذا، يا وَبْرُ. عن أبي حاتم أن العرب يُسمى كل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375
* * *
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اجْلِسْ يَا أَبَانُ"، وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وكانت ثمار خيبر كثيرة جدًا، حتى إن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قدرها بأربعين ألف وَسْق.
تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أَهْلَ خَيبَرَ على نِصْفَ ما يخرج من ثمارها، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ النَّخْلُ (2)، بَعَثَ إِلَيْهِم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رَوَاحَةَ فَحَزَرَ عَلَيهِمْ النَّخْلَ (3)، فَقَالَ: في ذِهْ كَذَا وَكَذَا، فقَالُوا: أَكْثَرْتَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ ابن رواحة: فَأَنَا أَلِي حَزْرَ النَّخْلِ وَأُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي قُلْتُ (4)، قَالُوا: هَذَا الْحَقُّ وَبِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، قَدْ رَضِينَا أَنْ نَأْخُذَهُ بِالَّذِي قُلْتَ (5).
فلما قال لهم ابْنُ رَوَاحَةَ ذلك أَخَذُوا الثَّمَرَ وَعَلَيْهِمْ عِشْرُونَ أَلْفَ وَسْقٍ (6).
ولكثرة ثمار خيبر، وما أخذه المسلمون منها، كان في ذلك توسعة على
= دابة من حشرات الجبال وَبْرًا، وقيل هي دابة صغيرة كالهرة وحشية، تَحدَّر علينا: أي تهجم علينا بغتة، من رأس ضال: قال ابن دقيق العيد: الضال هو السدر البري. اهـ والمعنى تنزل علينا من رأس شجر السدر.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4238)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، وأبو داود (2723)، كتاب: الجهاد، باب: في من جاء بعد الغنيمة لا سهم له، واللفظ له.
(2) يصرم النخل: أي يقطع.
(3) الحزر: التقدير.
(4) المعنى: أنهم لما قالوا له: أكثرت علينا، واتهموه بالظلم وأن الثمار أقل من ذلك، فلو أعطوه عشرين ألف وَسْق وهو نصف ما قدَّره ابن رواحة سيتبقى لهم أقل من ذلك، فقال لهم ابن رواحة إذن أعطيكم أنا عشرين ألف وسق وآخذ ما تبقى.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3410)، كتاب: البيوع، باب: في المساقاة، ابن ماجه (1820)، كتاب: الزكاة، باب: خرص النخل والعنب، وصححه الألباني.
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3415)، كتاب: البيوع، باب: في الخرص، وصححه الألباني.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376
* * *
المسلمين وإغناءً لهم، حتى إن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - يقول: مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ (1).
وقالت عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنْ التَّمْرِ (2).
ولما وسع الله على المهاجرين وأخذوا من غنائم خيبر، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إلى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ إياها حين هاجروا من مكة، حتى إن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ردَّ عِذَاقًا (3) على أم سليم كانت قد أعطتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاها لأُمِّ أَيْمَنَ، فرد على أم سُليم عِذاقها، وأعطنى أم أيمن مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ (4).
النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمِّر أحد الأنصار على خيبر:
عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما - أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَخَا بني عَدِيٍّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلى خَيْبَرَ فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا (5).
وعنهما أيضًا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيبَرَ فَجَاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيب (6)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيبَرَ هَكَذَا؟ "، فَقَالَ: لَا وَاللهَ يَا رَسُول الله إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، والصاعين بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: "لَا
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4243)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4242)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3) العذاق: جمع عذق، وهو عرجون النخل.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (2630)، كتاب: الهبة، باب: فضل المنيحة، ومسلم (1771)، كتاب: الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والتمر حين استغنوا عنها بالفتوح.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (4246، 4247)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر.
(6) قال ابن حجر: بتمر جنيب: قال مالك: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: هو الصلب، وقيل: الذي أُخرج من حشفة ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره. اهـ "فتح الباري" 4/ 467.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377
* * *
تَفْعَلْ بعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" (1).
وهذا الرجل- الذي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على خيبر- هو سواد بن غزية (2).
وعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا غزَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، إِنكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ"، وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَ لِي: "يَا عبد الله بن قَيسٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ "، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله فَدَاكَ أبي وَأُمِّي، قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" (3).
وفي غزوة خيبر أُصيب سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في ساقه، فَنَفَثَ فِيهِا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، يقول سلمة: فَمَا اشْتَكَيتُهَا حَتَّى السَّاعَة (4).
وفي خيبر أيضًا نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ (5)، ونَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ أيضًا عَنْ أَكْلِ الثُّومِ (6).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4244، 4245)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر.
(2) "فتح الباري" من رواية أبي عوانة والدارقطني.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4205)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4206)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4216)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1407)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة.
(6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4215)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378
* * *
وعن سُوَيْدِ بن النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ (1)، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ (2)، فَأَكَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إلى الْمَغْرِب فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (3).
- وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: رُميَ إلينا جراب فيه طعام وشحم (4) يوم خيبر، فوثبت لآخذه، فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحييت منه.
وفي رواية: فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَسِّمًا (5).
4 - وفي غزوة خيبر: حُرِّمت لحوم الحُمُر الأهلية.
الشرح:
وفي غزوة خيبر نهى النبي عن لحوم الحمر الأهلية (6).
عَنْ سَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ
= (561)، كتاب: المساجد، باب: نهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها مما له من رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح وإخراجه من المسجد.
النهي عن أكل الثوم للكراهة لا للتحريم، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بأن ريحها يؤذي الناس كما يؤذي الملائكة أيضًا.
(1) الأزواد: جمع زاد، وهو الطعام.
(2) ثرى: أي بُل بالماء، لما لحقه من يبس.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (209)، كتاب: الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ.
(4) الشحم: الدهن.
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4214)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1772)، كتاب: الجهاد والسير، باب: أخذ الطعام من أرض العدو.
(6) الحمر الأهلية، ويقال الإنسية: هي الحمر المستأنسة التي تعيش في البيوت، وهي غير الحمر الوحشية.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379
* * *
عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُوقِدُونَ؟ "، قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ:"عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: لَحْمِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: "أَوْ ذَاكَ" (1).
وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: أُكِلَت الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى في النَّاسِ: إِنَّ الله وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ (2).
5 - وفي غزوة خيبر: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب، ومن معه من مهاجري الحبشة، ومعهم أبو موسى، ومن معه من الأشعريين.
الشرح:
عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ (3)، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمَا أَحَدُهُمَا أبو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أبو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: بِضْعًا، وَإِمَّا قَالَ: ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَألْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بن أبي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ (4).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4199)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1940)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.
(3) أي: بلغنا مبعثه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينها بمكة.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4230)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2502)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380
* * *
وعَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَنْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَسَمَ لَنَا، وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ غَيْرَنَا (1).
6 - وفي غزوة خيبر: قدم ابو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا (2).
7 - وفي هذه السنة: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة - رضي الله عنها -.
الشرح:
كانت أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين - رضي الله عنها - تحت عبيد الله بن جحش قبل زواجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة، وهناك تنصَّر عبيد الله بن جحش وارتد عن الإِسلام.
عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: رأيت في المنام كأنَّ زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت فإذا به قد تنصَّر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية له يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكِّلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكلته، فأعطيت أبرهة سوارين من فضة فلما كان العشي أمر النجاشيُّ جعفر بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أنْ أزوجه أم حبيبة، فأجبتُ وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير،
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4233)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2827)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381
* * *
فخطب خالد، فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وزوجته أم حبيبة، وقبض الدنانير، وعمل لهم النجاشي طعامًا فأكلوا.
قالت أم حبيبة: فلما وصل إليَّ المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارًا، قالت: فردتها عليَّ، وقالت: إن الملك عزم عليَّ بذلك، وردَّت عليَّ ما كنت أعطيتها أولاً، ثم جائتني من الغد بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت به معي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال ابن حجر رحمه الله:
وروى ابن سعد أن ذلك كان سنة سبع، وقيل كان سنة ست، والأول أشهر. اهـ (2).
8 - وفي غزوة خيبر: اصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حُييٍّ من السَّبْي فأعتقها وتزوجها.
الشرح:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - في قصة خيبر، قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ، قَالَ: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً"، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيِّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: "ادْعُوهُ بِهَا"، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْي غَيْرَهَا"، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوسًا، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ
(1) "الطبقات الكبرى" 8/ 327. نقلاً عن "الإصابة".
(2) "الاصابة" 4/ 2508، 2509.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382
* * *
شَيءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ"، وَبَسَطَ نِطَعًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعن أنس أيضًا قال: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلى وَلِيمَتِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ، وَالْأَقِطَ، وَالسَّمْنَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ (2).
ويقول أنس - رضي الله عنه -: قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الْحِصْنَ، ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صفِيَّةَ بنتِ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ صَنَعَ حَيسًا في نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: "آذنْ مَنْ حَوْلَكَ"، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَتَهُ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إلى الْمَدِينَةِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، وَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ (3)، وجَعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (4).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (371)، كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4213)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4211)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4200)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمه ثم يتزوجها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383
* * *
9 - وفي هذه السنة: كانت سرية أبان بن سعيد بن العاص قِبَل نجدٍ.
الشرح:
ولم تأت تفاصيل عن تلك السرية، إلا ما جاء ذكره من حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره في غزوة خيبر، أنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سعيد بن العاص عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حُزْمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَا تَقْسِمْ لَهُم ... الحديث (1).
10 - وفي هذه السنة: أهدت يهودية شاةً مصلية مسمومة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ لقمة فأخبرته الشاة بأنها مسمومة.
الشرح:
قامت زينب بنت الحارث زوج سلام بن مشكم اليهودية بإهداء شاة مصلية (2) مسمومة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سألت: أي عضو أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّم، ثم سَّمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تناول الذراع، فلاك منها مُضغة، فلم يُسغْها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأما بشر فأساغها (3)، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فلفظها، ثم قال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم" (4)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ
(1) متفق عليه: وقد سبق تخريجه.
(2) مصلية: مشوية.
(3) أساغها: بلعها.
(4) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384
* * *
الْيَهُود"، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَبُوكُم؟ "، قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ"، فَقَالُوا: صدَقْتَ وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أَبِينَا، قَالَ لَهُم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ "، فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْسَئُوا فِيهَا وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا"، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "فَهَلْ أَنْتُم صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ "، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَم يَضُرَّكَ (1).
وعَنْ أَنسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ"، قَالَ أنس: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا في لَهَوَاتِ (2) رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ" (4).
فرفض النبي قتلها في أول الأمر -كما تقدم- ثم إن بِشْرَ بن الْبَرَاءِ بن
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5777)، كتاب: الطب، باب: ما يُذكر في سُمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) لَهَوَات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، كأنه بقي للسم علامة في فم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (2617)، كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190)، كتاب: السلام، باب: السَّم.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4512)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سمًا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟، وصححه الألباني "صحيح السنن".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385
* * *
مَعْرُورٍ مات عن جرَّاء ما أكل من السم، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُتِلَتْ به (1).
وكان هذا السم من أسباب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض الوفاة.
عن عَائِشَة - رضي الله عنها - قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (2).
11 - وفي هذه السنة: قدم حاطبُ بن أبي بلعتة من عند المقوقِس وقد أرسل معه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وبغلة وحماراً وكُسوة، فأسلمت مارية وأختها قَبْل قدومهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم، ووهب سيرين لحسان بن ثابت فهي أم ابنه عبد الرحمن، فهو وإبراهيم ابنا خالة.
الشرح:
قال ابن القيم رحمه الله:
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، واسمه جُريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط، فقال خيرًا، وقارب الأمر ولم يسلم، وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وقيسرى، فتسرَّى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين توبًا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دُلْدُل، وحمارًا أشهب وهو عُفير، وغلامًا خصيًا يقال له: مابور، وقيل: هو ابن عم مارية، وفرسًا وهو اللزار، وقدحًا من
(1) صحيح: المصدر السابق رقم (4511)، وصححه الألباني.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4428)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، معلقًا، وأحمد 6/ 18.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386
* * *
زجاج، وعسلاً (1).
12 - ولما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر بعث مُحيّصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصف فدك خالصًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل.
الشرح:
لما فتح الله على المسلمين حصون خيبر، وسمع بهم أهل فدك، قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل وكان فيمن مشى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم في ذلك مُحيصة بن مسعود، أخو بني حارثة فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأَعْمر لها، فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك علي ذلك، فكانت خيبر فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لم يُجْلبوا عليها بخيل ولا ركاب (2).
وعن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثُ صَفَايَا: بنو النَّضِيرِ، وَخَيبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمَّا بنو النَّضِيرِ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ: فَجَزَّأَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَينَ
(1) "زاد المعاد" 1/ 118، ابن سعد في "الطبقات" 1/ 261.
(2) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387
* * *
فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ (1).
13 - وفي مُنصرفة من خيبر أيضًا فتح وادي القرى، وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على شَطر ما يخرج منها كأهل خيبر.
الشرح:
ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - متوجهًا إلى وادي القرى، التي لم يستسلم أهلها كأهل فدك إنما استقبلوا جيش المسلمين بالرمى، فقتلوا مِدْعَم عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى فتحها عنوة، وأقام بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (2).
وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ (3)، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَة عبد لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَه أَحَدُ بني الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ (4)، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ (5) الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا"، فَجَاءَ رَجُلٌ
(1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (2967)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، وحسن إسناده الألباني "صحيح سنن أبي داود".
(2) انظر: انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر إلى وادي القرى، "سيرة ابن هشام" 3/ 200، "زاد المعاد" 3/ 314، و"عيون الأثر" 2/ 197.
(3) الحوائط: أي الحدائق.
(4) عائر: أي لا يُدرى من رمى به.
(5) الشملة: كساء غليظ يُلْتحف به.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388
* * *
حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ (1)، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" (2).
14 - ولما علم يهود تيماء ما جرى لإخوانهم في خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بأموالهم.
الشرح:
قال ابن القيم رحمه الله:
فلما بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأقاموا بأموالهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء، ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام، وانصرف رسول الله - رضي الله عنه - راجعًا إلى المدينة. اهـ (3).
15 - وفي مرجعهم إلى المدينة نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى (4) عَرَّسَ (5)، وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ (6)، فَصَلَّى بِلَالٌ مَا
(1) الشراك: هو جلدة النعل على ظهر القدم.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4234)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(3) "زاد المعاد" 3/ 314، 315، وانظر: "تاريخ الطبري" 3/ 91، و "عيون الأثر" 2/ 199.
(4) الكرى: النعاس.
(5) التعريس: نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة.
(6) اكلأ لنا الليل: أي ارقبه واحفظه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق