الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 14..

الشروط الواجب توفرها في المجتهد:
إذا عرفت هذا، فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا، قد ثبت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها، وإنما يتمكن من ذلك بشروط.
الأول:
أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا، ولا يجوز له الاجتهاد، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة، بل ما يتعلق منهما بالأحكام.
قال الغزالي، وابن العربي: والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية، ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هو باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح، وتدبر كامل، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال.
قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام.
وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو

(2/206)


لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان1 أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية.
قال الأستاذ أبو منصور: يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع، ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ.
واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، فقيل: خمسمائة حديث، وهذا من أعجب ما يقال، فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة.
وقال ابن العربي في "المحصول": هي ثلاثة آلاف.
وقال أبو علي الضرير: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي: يكفيه مائة ألف؟ قال: لا. قلت: "مائتا ألف؟ قال: لا. قلت"* ثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قلت: أربعمائة ألف؟ قال: لا. قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو.
قال بعض أصحابه: هذا محمول على الاحتياط، والتغليظ في الفتيا، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه، فقد قال أحمد رحمه الله: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينبغي أن تكون ألفًا ومائتين.
قال أبو بكر الرازي: لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب؛ إذ لا يمكن الإحاطة به، ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما رُوي.
وقال الغزالي، وجماعة من الأصوليين: يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام، كسنن أبي داود2، ومعرفة السنن للبيهقي3، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام، ويكتفي فيه بمواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة، وتبعه على ذلك الرافعي، ونازعه النووي وقال: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام،
__________
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو أبو الحسن البلخي، كبير المفسرين، أبو الحسن، وهو من الضعفاء، توفي سنة خمسين ومائة هـ، من آثار "التفسير الكبير، نوادر التفسير، الرد على القدرية، متشابه القرآن" وغيرها. قال البغدادي في هدية العارفين: صنف من الكتب تفسير خمسمائة آية من القرآن ا. هـ هدية العارفين 2/ 470، سير أعلام النبلاء 7/ 201 شذرات الذهب 1/ 227.
2 أبو داود: هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة مقدم الحفاظ، محدث البصرة، ولد سنة اثنتين ومائتين هـ، قال الصاغاني فيه: لين لأبي داود السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هـ من آثاره كتابه المشهور "سنن أبو داود" جمع فيه أربعة آلاف حديث وثمانية من خمسمائة ألف حديث كتبها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 203 شذرات الذهب 2/ 167 تذكر الحفاظ 2/ 591 كشف الظنون 2/ 1004.
3 للإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1739.

(2/207)


ولا معظمها، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود، وكذا قال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا، لوجهين:
الأول:
أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها.
الثاني:
أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام. انتهى.
ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط.
والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن، كالأمهات الست1 وما يلتحق بها: مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد2، والمستخرجات3، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له، مستحضرة في ذهنه، بل أن يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها، بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها، والحسن، والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة، وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح، وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، وما هو قادح من العلل، وما هو غير قادح.
الشرط الثاني: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل.
الشرط الثالث:
أن يكون عالما بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه، ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا
__________
1 وهي الكتب الستة المعروفة: 1- صحيح البخاري 2- صحيح مسلم 3- سنن أبي داود 4-سنن ابن ماجه 5- سنن النسائي 6- صحيح الترمذي.
2 جمع مسند والمراد به هنا كتاب ذكرت فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة بحيث يوافق حروف الهجاء أو يوافق السوابق الإسلامية أو يوافق شرافة النسب، وأشهرها: مسند الإمام أحمد بن حنبل.
3 المستخرج: مشتق من الاستخراج وهو: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري مثلا فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه، ومثاله: "كتاب المستخرج على صحيح البخاري للإسماعيلي وللبرقاني" و"المستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانة الإسفراييني" وغير ذلك. ا. هـ تدريب الراوي 1/ 112.

(2/208)


من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك، وقد قربوها أحسن تقريب، وهذبوها أبلغ تهذيب، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبًا لا يصعب الكشف عنه، ولا يبعد الاطلاع عليه، وإنما يتمكن من معرفة معانيها، وخواص تراكيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، حتى يثبت له في كل فن من هذه "الفنون"* ملكة، يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا.
ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة "مختصر من"** ختصراتها، أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها، فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصرًا في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه.
والحاصل: أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن.
قال الإمام الشافعي: يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه.
قال الماوردي: ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد1 وغيره.
الشرط الرابع:
أن يكون عالما بعلم أصول الفقه، لاشتماله على "ما تمس"*** حاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته، ومطولاته، بما تبلغ "إليه"****طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسالة من مسائله نظرًا يوصله إلى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها، بأيسر علم، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد، وخبط فيه وخلط.
قال الفخر الرازي في "المحصول"؛ وما أحسن ما قال: إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه. انتهى.
__________
* بين القوسين ساقط من "أ".
** بين القوسين ساقط من "أ".
*** في"أ": نفسه.
**** في "أ": به.
__________
1 قال الأستاذ أبو إسحاق: ويكفيه من اللغة أن يعرف غالب المستعمل ولا يشترط التبحر، ومن النحو الذي يصح به التمييز في ظاهر الكلام كالفاعل والمفعول وما تتفق عليه المعاني في الجمع والعطف والخطاب والكتابات والوصل والفصل، ولا يلزم الإشراف على دقائقه. ا. هـ البحر المحيط 6/ 202.

(2/209)


قال الغزالي: إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه.
الشرط الخامس:
أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ1.
وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي، فشرطه جماعة منهم الغزالي، والفخر الرازي، ولم يشترطه الآخرون، وهو الحق؛ لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية، لا على الأدلة العقلية، ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد.
واختلفوا أيضًا في اشتراط علم أصول الدين، فمنهم من "اشتراط"* ذلك، وإليه ذهب المعتزلة، ومنهم من لم يشترط ذلك، وإليه ذهب الجمهور.
ومنهم من فصل، فقال: يشترط العلم بالضروريات، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق "بالرسول وما جاء به"**.
ولا يشترط علمه بدقائقه، وإليه ذهب الآمدي.
واختلفوا أيضًا في اشتراط علم الفروع، فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق، والأستاذ أبو منصور إلى اشتراطه، واختاره الغزالي وقال: إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان.
وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه، قالوا: وإلا لزم الدور، وكيف يحتاج إليه، وهو الذي يولدها، بعد حيازته لمنصب الاجتهاد.
وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل، وهو كذلك، ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة، فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا2.
وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه، قالوا: لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وهو كذلك، ولكنه مندرج تحت علم اصول الفقه فإنه باب من أبوابه، وشعبة من شعبه.
__________
* في "أ": يشترط.
** في "أ": بالرسل وما جاءوا به.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 203.
2 انظر ما سبق في الشرط الأول: 2/ 206-207.

(2/210)


موضع الاجتهاد:
وإذا عرفت معنى الاجتهاد، والمجتهد، فاعلم: أن المجتهد فيه، هو الحكم الشرعي العملي1.
قال في "المحصول": المجتهد فيه: هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، واحترزنا بالشرعي عن العقليات، ومسائل الكلام.
وبقولنا: ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وما اتفقت عليه الأئمة من جليات الشرع.
قال أبو الحسين البصري: المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون، من الأحكام الشرعية، وهذا ضعيف؛ لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 227 والمستصفى 2/ 354.

(2/211)


المسألة الثانية: هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا؟
فذهب جمع إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد، قائم بحجج الله، يبين للناس ما نزل إليهم.
قال بعضهم: ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم به الكفاية؛ لأن الاجتهاد من فروض الكفايات.
قال ابن الصلاح: الذي رأيته في "كلام"* الأئمة يشعر بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، قال: والظاهر أنه لا يتاتى في الفتوى.
وقال بعضهم: الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب: فرض عين، وفرض كفاية، وندب.
فالأول: على حالين:
"أحدهما" **: اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة.
والثاني: اجتهد فيما تعين عليه الحكم فيه، فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور، وإلا كان على التراخي.
__________
* في "أ": كتب.
** زيادة يقتضيها السياق.

(2/211)


والثاني: على حالين:
أحدهما: إذا نزلت بالمستفتي حادثة، فاستفتى أحد العلماء، توجه الفرض على جميعهم، وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعا.
والثاني: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما، فإيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها.
والثالث: على حالين:
أحدهما: فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله.
والثاني: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى.
ولا يخافك أن القول بكون الاجتهاد فرضا، يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل على ذلك ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة" 1.
وقد حكى الزركشي في "البحر" عن الأكثرين: أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد، وبه جزم صاحب "المحصول".
قال الرافعي: الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم.
قال الزركشي: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في "الوسيط"2: قد خلا العصر عن المجتهد المستقل.
قال الزركشي: ونقل الاتفاق عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا.
والحق: أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد في حق العامي، لا الناقل فقط.
وقالت الحنابلة: لا يجوز خلو العصر عن مجتهد، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق، والزبيري3، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء، قال ومعناه: أن الله تعالى لو أخلى زمانا من قائم بحجة، زال.
__________
1 تقدم في 1/ 207.
2 وهو الوسيط في الفروع للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، وهو ملخص من بسيطة مع زيادات، وهو أحد الكتب الخمسة المتداولة بين الشافعية التي تتداول كما ذكره النووي في تهذيبه ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008.
3 هو أحمد بن سليمان البصري، المعروف بالزبيري الشافعي، ويعرف أيضًا بصاحب الكافي، أبو عبد الله، فقيه، عارف بالأدب، خبير بالأنساب، من آثاره: كتابه "الاستشارة والاستخارة، الكافي في فروع الفقه الشافعي" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 1/ 237 كشف الظنون 1/ 493.

(2/212)


التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة.
قال الزبيري: لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت، ودهر وزمان، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجود، كما قال الخصم، فليس بصواب؛ لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها، ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق، كما جاء في الخبر: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس "1 ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار. انتهى.
قال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد، بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان.
وقال في "شرح خطبة الإلمام": والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على وضاح الحجة، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى.
وما قاله الغزالي رحمه الله: من أنه قد خلا العصر عن المجتهد، قد سبقه إلى القول به القفال، ولكنه ناقض ذلك فقال: إنه ليس بمقلد للشافعي، وإنما وافق رأيه رأيه، كما "نقل"* ذلك عنه الزركشي2، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد، مما يقضى منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر القفال، والغزالي، والرازي، والرافعي، من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ، واطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما "اعتبره"** أهل العلم في الاجتهاد.
وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه "الأمة"*** من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات.
وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى آهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله.
__________
* في "ب": حكى.
** في "أ": اعتد به.
*** في "أ": الأئمة.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عبد الله، كتاب الفتن، باب قبل الساعة 2949. وأحمد في مسنده 1/ 435. وأبو يعلى في مسنده 5248. وابن حبان في صحيحه 6850. والطيالسي 311.
2 انظر البحر المحيط 6/ 208.

(2/213)


للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يكن حصره، والسنة المطهرة قد دونت، وتكلم "الأئمة"* على التفسير والترجيح، والتصحيح، والتجريح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح، وعقل سوي.
وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أُتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، "واستصعبوا"** ما سهله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلب أنواع علوم الكتاب والسنة.
ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية، فها نحن "نوضح"*** لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم، ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس1، ثم تلميذه زين الدين العراقي2، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة
__________
* في "أ": الأمة.
** في "أ": استصعبنا
*** في "أ": نصرح.
__________
1 هو محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، اليعمري، الربعي، أبو الفتح فتح الدين، مؤرخ، عالم بالأدب، من حفاظ الحديث ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ وتوفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة هـ من آثاره "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة" وغيرها ا. هـ ذيل تذكرة الحفاظ 16 شذرات الذهب 6/ 108 الأعلام 7/ 34.
2 هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الكردي، الرازناني الأصل، المهراني، المصري، الشافعي، المعروف بالعراقي، زين الدين، أبو الفضل توفي سنة اثنتين وثمانمائة هـ من آثاره: "ألفية علوم الحديث، المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" وغيرها. ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 204 هدية العارفين 1/ 562 تذكرة الحفاظ 1/ 28.
3 هو أحمد بن علي بن محمد الكناني، العسقلاني، المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة هـ من آثاره "فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة" وغيرها كثير. ا. هـ شذرات الذهب 7/ 270 معجم المؤلفين 2/ 20 إيضاح المكنون 1/ 13.
4 هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، المصري، الشافعي، جلال الدين، أبو الفضل، ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة هـ، وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة هـ، له مؤلفات كثيرة منها "المزهر في اللغة، الدر المنثور في التفسير المأثور، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 128 "شذرات الذهب 8/ 51 هدية العارفين 1/ 534.

(2/214)


أعلام، كل واحد منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتنا، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها.
ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم، فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل.
وقد قال الزركشي في "البحر" ما لفظه: ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى.
و"حكاية"* هذا الإجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير إفادة، فإن أمره أوضح من كل واضح، وليس ما يقوله من كان من أسراء التقليد بلازم لمن فتح الله على أبواب المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأول فاقرة1 جاء بها المقلدون، ولا هي أول مقالة قالها المقصرون.
ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عبادة الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة.
ويا لله العجب من مقالات هي جهالات، وضلالات، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة، وأنه لم يبق إلا تقليد الرجال، الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة، كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم، ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله، من كتاب الله وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة، وهل النسخ إلا هذا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 2.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الفاقرة: الداهية الكاسرة للفقار ا. هـ لسان العرب مادة فقر.
2 جزء من الآية 16 من سورة النور.

(2/215)


المسألة الثالثة: في تجزء الاجتهاد
...
المسألة الثالثة: في تجزُّؤ الاجتهاد
وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا، بل لا بد أن يكون مجتهدا مطلقًا، عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل؟
فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ، وعزاه الصفي الندي إلى الأكثرين، وحكاه صاحب "النكت"1 عن أبي علي الجبائي، وأبي عبد الله البصري.
قال ابن دقيق العيد: وهو المختار؛ لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية، حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمأخذ أمكن الاجتهاد.
قال الغزالي: والرافعي: يجوز أن يكون العالم منتصبا للاجتهاد في باب دون باب.
وذهب آخرون إلى المنع؛ لأن المسألة في نوع من الفقه، ربما كان أصلها في نوع آخر منه.
احتج الأولون: بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل، واللازم منتفٍ، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب، وكثير منهم سئل عن مسائل، فأجاب في البعض، وهم مجتهدون بلا خلاف.
ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فأجاب في أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري.
وأجيب: بأنه قد يترك ذلك لمانع، أو للورع، أو لعلمه بأن السائل متعنت، وقد يحتاج بعض المسائل إلى "مزيد"* بحث، يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال.
واحتج "النافون"** بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض، فلا يحصل له ظن عدم المانع.
وأجيب: بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة.
ويرد هذا الجواب: بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها، فإن من لا
__________
* في "أ": فريد.
** في "أ": الباقون.
__________
1 لعله كتاب "النكت" للإمام أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، قال السبكي: هو في علم الخلافيات. وقال حاجي خليفة في كشف الظنون: إنه في علم الجدل ا. هـ كشف الظنون 2/ 1977، طبقات الشافعية 4/ 234 الجواهر المضية 4/ 246.

(2/216)


يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحجزة بعض، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة، فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن احتاج بعضها إلى "مزيد"* بحث، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره، ولا يثق به الغير لذلك، فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة "دون مسالة"** فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادًا مطلقًا، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ "ما لا يتعقله"***، قال الزركشي: وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف بابًا دون باب، أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعًا، والظاهر جريان الخلاف في الصورتين، وبه صرح الأبياري1. انتهى.
ولا فرق عند التحقيق "بين الصورتين"**** في امتناع تجزؤ الاجتهاد، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك؛ لأنه لا يزال يجوز للغير ما قد بلغ إليه علمه، فإن قال: قد غلب ظنه بذلك؛ فهو مجازف، وتتضح مجازفته بالبحث معه.
__________
* في "أ": فريد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": لا يتعلقه.
__________
1 وتوسط فقال: إن أجمعوا في مسألة على ضبط مآخذها وكان الناظر المخصوص محيطا بالنظر في تلك المآخذ صح أن يكون مجتهدا فيها وإلا لم يصح. هذه تتمة كلام الزركشي في البحر المحيط 6/ 209.

(2/217)


المسألة الرابعة: جواز الاجتهاد للأنبياء
...
المسألة الرابعة: جوز الاجتهاد للأنبياء
اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلا تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين، حكى هذا الإجماع ابن فورك، والأستاذ أبو منصور وأجمعوا أيضًا على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وتدبير الحروب، ونحوها، حكى هذا الإجماع سليم الرازي، وابن حزم.
وذلك كما قلت وقع من نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إرادته بأن يصالح غطفان على "ثلث"* ثمار
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(2/217)


المدينة1، وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة2.
فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية، فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
ليس لهم ذلك، لقدرتهم على النص بنزول الوحي، وقد قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4؛ وقد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي.
وقال القاضي في "التقريب": كل من نفى القياس أحال تعبد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "به"*.
قال الزركشي: وهو ظاهر اختيار ابن حزم.
واحتجوا أيضًا بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل ينتظر الوحي، ويقول: "ما أنزل على في هذا شيء" ، كما قال لما سئل عن زكاة الحمير؟ فقال: "لم ينزل علي "في ذلك" ** إلا هذه الآية الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 5"6، وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه.
ومن الذاهبين إلى هذا المذهب، أبو علي، وأبو هاشم.
المذهب الثاني:
أنه يجوز لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولغيره من الأنبياء، وإليه ذهب الجمهور.
واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره
__________
* في "أ": بالاجتهاد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 340 وابن هشام في سيرته 3/ 176.
2 أخرجه مسلم عن عائشة وثابت وأنس بن مالك بلفظ: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع أصواتًا فقال: "ما هذه الأصوات؟" قالوا: النخل يأبرونه فقال: "لو لم يفعلوا لصلح ذلك" ، فأمسكوا فلم يأبروا عامته فصار شيصًا، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ " . كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي 2363. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الرهون، باب تلقيح النخل 2471. ابن حبان في صحيحه 22. أحمد في مسنده 6/ 123. وفي الباب عن عبيد الله عند مسلم 2361 وابن ماجه 2470.
3 الآية: 4 من سورة النجم.
4 الآية: 3 من سورة النجم.
5 الآيتان 7-8 من سورة الزلزلة.
6 أخرجه مسلم من حديث أبو هريرة، باب الزكاة، كتاب إثم مانع الزكاة 987. وأخرجه أحمد في مسنده وانظر الفتح الرباني 8/ 235 رقم 44. وأخرجه البيهقي، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة 4/ 119. وذكره التهانوني في إعلاء السنن 9/ 34.

(2/218)


بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين في آيات الله، وأعظم المعتبرين "بها"*
وأما قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فالمراد به القرآن؛ لأنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} 1؛ ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان متعبدا بالاجتهاد بالوحي، لم يكن نطقا عن الهوى، بل عن الوحي، وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع، مع كونه معرضا للخطأ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.
وأيضا قد وقع "ذلك"** كثيرا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن غيره من الأنبياء فأما منه فمثل قوله: "أرأيت لو تمضمضت" 2 "أرأيت لو كان على أبيك دين" 3، وقوله للعباس: "إلا الإذخر" 4 لم ينتظر الوحي في هذا، ولا في كثير مما سئل عنه، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" 5
وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان6.
وأما ما احتج به المانعون، من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو جاز له الاجتهاد؛ لجازت مخالفته، واللازم باطل.
وبيان الملازمة: أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد، ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة؛ إذ لا قطع بأنه حكم الله، لكونه محتملا للإصابة، ومحتملا للخطأ، فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاده يكون له حكم اجتهاد غيره، فإن ذلك إنما كان لازما لاجتهاد غيره، لعدم اقترانه بما اقترن به اجتهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمر باتباعه.
وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لماتأخر في جواب سؤال سائل، فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن، لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده، على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب، والنظر فيما ينبغي النظر
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 103 من سورة النحل.
2 تقدم تخريجه في 2/ 25.
3 تقدم تخريجه في 2/ 100.
4 تقدم تخريجه في 1/ 366.
5 تقدم تخريجه في 1/ 96.
6 وردت القصة في سورة الأنبياء في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء 78-79

(2/219)


فيه في الحادثة، كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين.
المذهب الثالث:
الوقف عن القطع بشيء من ذلك، زعم الصيرفي في "شرح الرسالة" أنه مذهب الإمام الشافعي؛ لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئًا منها.
واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي.
ولا وجه للوقف في هذه المسألة لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع، على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ} 1 فعاتبه على ما وقع منه، ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.
ومن ذلك ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقت الهدي" 2 أي: لو علمت أولًا ما علمت آخرًا ما فعلت، ذلك ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وأمثال ذلك كثيرة، كمعاتبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 3. وكما في معاتبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 4 إلى آخر ما قصه الله من ذلك في كتابه العزيز.
والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرنا يغني عن ذلك، ولم يأتِ المانعون بحجة تستحق المنع، أو التوقف لأجلها.
__________
1 جزء من الآية 43 من سورة التوبة.
2 أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت 1651 مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع 1211. أبو يعلى في مسنده بلفظ: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكني سقت الهدي وقرنت الحج والعمرة" 4345. أحمد في مسنده 3/ 266. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الحج، باب في القرآن وغيره وحجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5442.وأخرجه الشافعي في الأم بنفس اللفظ 2/ 127 كتاب الحج. وذكره المزني في مختصره، كتاب الحج 1/ 63-64.
3 جزء من الآية من سورة الأنفال.
4 جزء من الآية 37 من سورة الأحزاب. والآية نزلت في سيدنا زيد بن حارثة والسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنهما عندما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتزوج من زينب بعد أن يطلقها زيد، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبناه فقال الناس: تزوج حليلة ابنه، وحصلت فيها قصة مشهورة انظرها في تفسير القرطبي 14/ 188 وابن كثير 3/ 498.

(2/220)


المسألة الخامسة: في جواز الاجتهاد في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فذهب "الأكثر"* إلى جوازه ووقوعه، واختاره جماعة من المحققين، منهم القاضي.
ومنهم من منع ذلك، كما روي عن أبي علي، وأبي هاشم.
ومنهم من فصَّل بين الغائب والحاضر، فأجازه لمن غاب عن حضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما وقع في حديث معاذ1، دون من كان في حضرته الشريفة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختاره الغزالي، وابن الصباغ، ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء، والمتكلمين، ومال إليه إمام الحرمين.
قال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى على أصول أصحابهم.
قال ابن فورك: بشرط تقريره عليه.
وقال ابن حزم: إن كان اجتهاد الصحابي في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الأحكام، كإيجاب شيء، أو تحريمه، فلا يجوز، كما وقع من أبي السنابل2 من الإفتاء باجتهاده في الحامل المتوفى عنها زوجها، أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر فأخطأ في ذلك، وأن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز، كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة3؛ لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة تلزم.
وكاجتهاد قوم بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن هم السبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر
__________
* في "أ": الأكثرون.
__________
1 تقدم في 1/ 152.
2 هو أبو السنابل بن بعكك، الصحابي، قيل اسمه حبة وقيل حنة وقيل عمرو، قال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أسلم بوم الفتح، وله قصة معروفة تعرف بقصة سبيعة، وهي أنها لما مات زوجها فوضعت حملها وتهيأت للخطاب فأنكر عليها، وقال: حتى تعتدي أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعلمها أن قد حللت، وهذا يدل على أن أبا السنابل كان فقيهًا.. ا. هـ الإصابة 4/ 96. أخرج القصة مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل 1485. والنسائي. كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 6/ 193. والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع 1194. ومالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا 2/ 590. وأحمد في مسننده 6/ 314 ابن حبان في صحيحه 4296. وعبد الرزاق في المصنف 11724. وابن الجارود في المنتقى 762.
3 أخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها. فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلَا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا بلال، قم فناد بالصلاة" كتاب الآذان، باب بدء الآذان 604. وأخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 377. وابن ماجه، كتاب الآذان والسنة فيها، باب بدء الآذان 707. والبيهقي، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 1/ 390.

(2/221)


ليلة البدر، فأخطئوا في ذلك، وبيَّن لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هم1، ولم يعنفهم في اجتهادهم.
ومنهم من قال: وقع ظنًّا لا قطعًا، واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
ومنهم من قال: إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجتهد إذا أمره بذلك، كما وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريطة2. وإن لم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجز له الاجتهاد، إلا أن يجتهد، ويعلم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقرره عليه، كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل، فإنه قال: لاها الله إذًا لا يعمد إلى أَسدٍ من أُسدِ الله فَيُعطيك سلبه"3 فقرره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وكذلك امتناع علي رضي الله عنه من محو اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصحيفة4"*.
والحق: ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فلا يجوز له الاجتهاد لتعين السؤال
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث عمران بن الحصين، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو 5705. ومسلم، كتاب الإيمان، باب الرقية 220. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب فضل عكاشة بن محض الأسدي 15665 وفي كتاب أهل الجنة، باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب برقم 18692. وأبو يعلى في مسنده مطولا من حديث عمران بن الحصين عن ابن مسعود 5339. وأحمد في مسنده 3806.
2 هو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد، فجاء على حمار، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قوموا إلى خيركم أو إلى سيدكم" قال: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك" قال: فإني أحكم فيها أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله" وقال مرة: "لقد حكمت بحكم الملك " .
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل 3043. ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد 1768. وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام 5215. والنسائي، كتاب الفضائل 118. والبيهقي، كتاب السير، باب ما يفعل بذراري من ظهر عليهم 6/ 57. وابن حبان في صحيحه 7026. وأحمد في مسنده 3/ 22.
3 أخرجه البخاري، من حديث أبي قتادة، كتاب البيع، باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها 2100. ومسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 1751. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل 2717. والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء فيمن قتل قتيلا فله سلبه 1562 مختصرا. وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب المبارزة والسلب 2837. وابن حبان في صحيحه 4805. وأحمد في مسنده 5/ 306. والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل 6/ 306.
4 أخرجه البخاري من حديث البراء مطولا وفيه: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "امحه واكتب: محمد بن عبد الله. فقال علي: لا أمحوه.. الحديث " كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان 2698. وأخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية 1783. وأبو داود، كتاب المناسك، باب المحرم يحمل السلاح 1832. وأحمد في مسنده 4/ 289. وابن حبان في صحيحه 4869. وأبو يعلى في مسنده 1703. والبيهقي، كتاب الجزية، باب الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما من المشركين 9/ 226-227.

(2/222)


منه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"* فيما نابه من الأمر، وبين من كان غائبا عها، فيجوز له الاجتهاد.
وقد وقع من ذلك واقعات متعددة، كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه، وكان جنبا ولم يغتسل، بل تيمم وقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، فقرره النبي على ذلك2.
وكما وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه "لا يصلين أحد إلا في بني قريظة" فتخوف ناس من فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن فات الوقت فما عنف أحدًا من الفريقين3.
ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل: تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه إلى اليمن، وهو حديث مشهور4، له طرق متعددة، ينتهض مجموعها للحجية، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل5.
ومنه بعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي قاضيا، فقال: لا علم لي بالقضاء، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه" 6 أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك.
ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند: أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر، فأتوا عليًّا يختصمون في الولد، فأقرع بينهم، فبلغ "ذلك"** النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 29 من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري معلقا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت. وأخرجه أبو داود،كتاب الطهارة 335. وابن حبان في صحيحه 1315. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. والدارقطني في سننه 1/ 179. وأحمد في مسنده 4/ 203.
3 أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء 946. ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب المبادرة بالغزو 1770.
4 تقدم تخريجه في 1/ 152.
5 واسمه بغيه المستفيد في الرد على من أ نكر الاجتهاد من أهل التقليد ا. هـ. هدية العارفين 1/ 365.
6 أخرجه ابن ماجه بنفس اللفظ من حديث علي، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاء 2310. والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "اللهم اهده للقضاء" كتاب الأحكام 4/ 88 وهناك رواية أخرى بلفظ: فإن الله تعالى يثبت لسانك ويهدي قبلك. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء 3582. الترمذي كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين المتحاكمين حتى يسمع كلامهما 1331. وأبو يعلى في مسنده 371. والبيهقي، كتاب آداب القاضي 10/ 86، 87. وابن حبان في صحيحه 5065.

(2/223)


"لا أعلم فيها إلا ما قال علي" 1، وإسناده صحيح، وأمثال هذا "كثير"*.
قال الفخر الرازي في "المحصول": الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه.
وقد اعترض عليه في ذلك، ولا وجه للاعتراض؛ لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حجة وشرعا بالتقرير، لا باجتهاد الصحابي، وإن لم يبلغه كان اجتهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي، عند من قال بجوازه في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا عند من منع منه، وإن بلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"** وأنكره، أو قال بخلافه، فليس في ذلك الاجتهاد فائدة؛ لأنه قد بطل بالشرع.
__________
* في "أ": كثيرة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم، انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/ 38 برقم 73. وأخرجه أبو الحميدي في مسنده برقم 785 بدون زيادة "لا أعلم فيها إلا ما قال علي " . وأخرجه أبو داود 2269. والنسائي 6/ 182. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة 2348.

(2/224)


المسألة السادسة: فيما ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه
فعيه أولا: أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم في تقريراته لبعض أمته، ثم في الإجماع، إن كان يقول بحجيته، ثم في القياس، على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة، كلا أو بعضا1.
وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي فيما حكاه عنه الغزالي: أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نصوص الكتاب، فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخض في القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا نظر في المخصصات، من قياس، وخبر، فإن لم يجد مخصصا حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر، من كتاب ولا سنة، نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص، ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد ألحق به، وإلا انحدر به إلى القياس، فإن أعوزه تمسك بالشبه، ولا يعول على طرد. انتهى.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 229.

(2/224)


وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول، فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى1.
قال الماوردي: الاجتهاد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينقسم إلى ثمانية أقسام:
أحدها:
ما كان الاجتهاد مستخرجا من معنى النص، كاستخراج علة الربا، فهذا صحيح عند القائلين بالقياس.
ثانيها:
ما استخرجه من شبه النص، كالعبد، لتردد شبهه بالحر في أنه يملك؛ لأنه مكلف، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك؛ لأنه مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له، غير أن المنكرين له جعلوه داخلا في عموم أحد الشبهين.
ثالثها:
ما كان مستخرجا من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2 فإنه "يعم الأب والزوج والمراد به"* أحدهما، وهذا صحيح يتوصل إليه بالترجيح.
رابعها:
ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 3 فيصح الاجتهاد في قدرة المتعة باعتبار حال الزوجين.
خامسها:
ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4 فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى أهله، فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى.
سادسها:
ما استخرج من دلائل النص، كقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 5 فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين، بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مُدَّين، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء، أن لكل مسكين مدا.
__________
* في "أ": تحريف لما بين قوسين.
__________
1 انظر: 2/ 264.
2 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 236 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 7 من سورة الطلاق.

(2/225)


سابعا:
ما استخرج من أمارات النص، كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1 فيكون الاجتهاد في القبلة بالإمارات والدلائل عليها، من هبوب الرياح، ومطالع النجوم.
ثامنها:
ما استخرج من غير نص ولا أصل، فاختلف في صحة الاجتهاد، فقيل لا يصح حتى يقترن بأصل.
وقيل: يصح لأنه في الشرع أصل. انتهى.
وعندي: أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وجعل كل ذلك دأبه، ووجه إليه همته، واستعان بالله عز وجل، واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه، ومرمى قصده، الوقوف على الحق، والعثور على الصواب، من دون تعصب لمذهب من المذاهب، وجد فيهما ما يطلبه، فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال، والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف، فاشدد يديك على هذا، فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنا ما كان.
فإن استبعدت هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، وقلت كما قاله كثير من الناس: إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث، فمن نفسك أُتيت، ومن قبل تقصيرك أُصبت، وعلي نفسها براقش تجني2، وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم "موفقين"* وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية.
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكن حشاك في أحشائه3
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها4
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا "عشقت"** فعند ذلك عنف5
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": "هويت".
__________
1 جزء من الآية 16 من سورة النحل.
2 براقش اسم كلبة لها قصة وهي كما قال أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: براقش اسم كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن هناك أهلها فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهب مثلا بقولهم: "على أهلها دلت براقش". ويروى أن براقش اسم امرأة ابنة ملك قديم خرج أبوها إلى بعض مغازيه واستخلفها فأغراها بعضهم بأن يبني بناء ضخما تذكر به، فلما رجع أبوها قال لها: أردت أن يكون الذكر لك دوني فأمر الصناع الذين بنو البناء أن يهدموه فقالت العرب: على أهلها تجني براقش وذهبت مثلا ا. هـ لسان العرب مادة برقش.
3 وهو من البحر الكامل، وقائله أبو الطيب المتنبي، ويروى البيت "لا تعذر" ا. هـ ديوان أبي الطيب المتنبي 343.
4 وهو من البحر البسيط، وقائله: الأبله البغدادي المسمى بمحمد بن بختيار بن عبد الله، الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان معروف ا. هـ وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 463 مرآة الزمان 279.
5 وهو من البحر الكامل، وقائله ابن الفارض عمر بن أبي الحسن، وهو من قصيدة أولها:
قلبي يحدثني بأنك متلفي ... وروحي فداك عرفت أم لم تعرف
ا. هـ ديوان ابن الفارض 153.

(2/226)


المسألة السابعة: في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والتي الحق فيها مع واحد
الفرع الأول: العقليات
...
المسألة السابعة: في المسائل التي كل مجتهد فيه مصيب والتي الحق فيها مع واحد
اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين.
وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين.
الفرع الأول: العقليات
وهي على أنواع:
الأول:
لم يكن الغلط فيه مانعا من معرفة الله ورسوله، كما في إثبات العلم بالصانع، والتوحيد، والعدل.
قالوا: فهذه الحق فيها واحد، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني:
مثل مسألة الرؤية1، وخلق القرآن2، وخروج الموحدين من النار3، وما
__________
1 وهي رؤية الله عز وجل في الآخرة من قبل المؤمنين. ووقع فيها الخلاف فأثبتها أهل السنة والجماعة بأدلة من القرآن والحديث، ونفاها المعتزلة، بأدلة عقلية وتأويل للآيات الشريفة ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص114-115.
2 اتفقت جميع الفرق على أن القرآن من حيث حروفه وكلماته الموجودة في المصاحف مخلوق لا محالة.
واختلفوا في كلام الله عز وجل النفسي هل هو مخلوق أم لا؟ فأهل السنة والجماعة قالوا بأن كلام الله قديم غير مخلوق والمعتزلة قالوا إنه مخلوق ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد 94.
3 من ذلك الحديث الوارد عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن ذرة " . أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه 44. ومسلم في الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها 193، 325. والترمذي، كتاب صفة جهنم، باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد 2593. وابن حبان في صحيحه 7484. وأبو يعلى في مسنده 2927، 2977، 3273. وأحمد في مسنده 9/ 173-276. والطيالسي 1966. وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة 4312.

(2/227)


يشابه ذلك، فالحق فيها واحد، فمن أصابه فقد أصاب، ومن أخطأ فقيل: يفكر.
ومن القائلين بذلك الشافعي، فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم.
النوع الثالث:
إذا لم تكن المسألة دينية، كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء، وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف، قالوا: فليس المخطئ فيها بآثم، ولا المصيب فيها بمأجور؛ إذ هذه وما يشابهها يجرى مجرى الاختلاف في كون "مكة"* أكبر من المدينة أو أصغر منها.
وقد حكى ابن الحاجب في "المختصر" أن المصيب في العقليات واحد، ثم حكى عن العنبري1 أن كل مجتهد في العقليات مصيب، وحُكي أيضًا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد، بخلاف المعاند.
قال الزركشي: وأما "الجاحظ"** فجعل الحق فيها واحدا، ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم.
قال ابن السمعاني: وكان العنبري يقول في مثبتي القدر: هؤلاء عظموا الله، وفي نافي القدر: هؤلاء نزهوا الله، وقد استبشع هذا القول منه، فإنه يقتضي تصويب اليهود، والنصارى، وسائر الكفار في اجتهادهم، قال: ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة، كالرؤية، وخلق الأفعال، ونحوه.
وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود، والنصارى، والمجوس؛ فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام.
قال القاضي في "مختصر التقريب": اختلفت الروايات عن العنبري، فقال في أشهر الروايتين: إنما أصوب كل مجتهد "في الدين تجمعهم الملة"***، وأما الكفرة فلا يُصوبون، وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة.
__________
* في "أ": ملكه.
** في "أ": الحق.
*** في "أ": الذين يجمعهم الله.
__________
1 هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي، تولى قضاء البصرة، وكان عالما بالفقه والحديث، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث "ص49": "كان شديد التناقض في أقواله، وهو رجل من أهل الكلام والقياس والنظر" ولد سنة مائة، وتوفي سنة ثمان وستين ومائة هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام الذهبي: "وفيات 168هـ"، وأخبار القضاة لوكيع: 2/ 88، والوافي بالوفيات: 19/ 368، والأعلام: 4/ 192.

(2/228)


قال: ونحن نتكلم معهما، يعني: العنبري، والجاحظ، فنقول:
أنتما أولا: محجوجان "بالإجماع"* قبلكما وبعدكما.
ثانيا: إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد، فقد خرجتما عن حيز العقلاء، وانخرطتما في سلك الأنعام، وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف، ونفي الحرج، كما نقل عن الجاحظ، فالبراهين العقلية من الكتاب، والسنة، والإجماع، الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة.
وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول: مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن، وغير ذلك مما يعظم خطره، وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه.
وقد حكى القاضي أيضًا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني، إمام مذهب الظاهر، أنه قال بمثل قول العنبري.
وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق، ومن أهل ملتنا وغيرهم، وقد نحا الغزالي "قريبا من هذا"** المنحى في كتاب "التفرقة بين الإسلام والزندقة"1
وقال ابن دقيق العيد: ما نقل عن العنبري، والجاحظ، إن أرادا أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر، فباطل، وإن أريد به أن من بذل الوسع، ولم يقصر في الأصوليات، يكون معذورا غير معاقب، فهذا أقرب؛ لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب، وكلف بعد استفراغه غاية الجهد، لزم تكليفه بما لا يطاق.
قال: وأما الذي حكي عنه من الإصابة في العقائد القطعية، فباطل قطعا، ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى.
وأما المخطئ في الأصول: "كالمجسمة2"*** فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله.
واختلف في تكفيره، وللأشعري قولان، قال إمام الحرمين، وابن القشيري، وغيرهما: وأظهر مذهبه ترك التكفير، وهو اختيار القاضي في كتاب "إكفار"**** المتأولين3
__________
* في "أ": بأن الإجماع.
** في "أ": نحو هذا.
*** في "أ": والمجتهد.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهي للإمام أبي حامد محمد الغزالي. ا. هـ إيضاح المكنون 1/ 300.
2 وهم الذين شبهوا الله بصورة الإنسان.
3 لم نجد أحدًا ذكر هذا الكتاب بهذا الاسم، ولعله يقصد من كتاب إكفار المتأولين أي باب أو فصل في كتاب. فكلمة كتاب تعني ما يضم أبوابا وفصولا.

(2/229)


وقال ابن عبد السلام: رجع الإمام أبو الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا "بالموصوفات"*.
قال الزركشي: وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي1 لا يفكر، فقيل له: ألا تكفر من يكفرك، فعاد إلى القول بالتفكير، وهذا مذهب المعتزلة، فهم يكفرون خصومهم، ويكفر كل فريق منهم الآخر.
وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير، وقالوا: إنما يكفر من جهل وجود الرب، أو علم وجوده، ولكن فعل فعلا، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر. انتهى.
واعلم: أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبه كئود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه، ولا يحرص عليه؛ لأنه مبني على شفا جرف هار، وعلى ظلمات بعضها فوق بعض، وغالب القول به ناشئ عن العصبية، وبعضه ناشئ عن شبه واهية، وليست من الحجة في شيء، ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين، فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة الأقدام، ومدحضة كثير من علماء الإسلام.
والحاصل: أن الكتاب، والسنة، ومذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعا لا شك فيه، ولا شبهة، فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم: إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب، والسنة، فإن ذلك دعوى باطلة، مترتبة على شبهة داحضة، وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام، فموضعه علم الكلام.
__________
* في "أ": بالموصوف.
__________
1 هو محمد بن سليمان بن محمد، الحنفي، العجلي، الصعلوكي النيسابوري،الفقيه، أبو سهل، المتكلم، النحوي، المفسر، اللغوي، الصوفي توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، ا. هـ سير أعلام النبلاء 16/ 235 شذرات الذهب 3/ 69 الأعلام 6/ 149.

(2/230)


الفرع الثاني: المسائل الشرعية
فذهب الجمهور، ومنهم الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، ومن المعتزلة أبو الهذيل، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبتاعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان منها قطعيا
ما كان منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وتحريم الزنا، والخمر، فليس كل مجتهد فيها بمصيب، بل الحق فيها واحد، فالموافق له مصيب، والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري، وإن كان.

(2/230)


فيها دليل قاطع، وليست من الضروريات الشرعية، فقيل: إن قصر فهو مخطئ آثم، وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم.
قال ابن السعاني: ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحان من الله لعباده، ليفاضل بينهم في درجات العلم، ومراتب الكرامة، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1 وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 2.
القسم الثاني: المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها
وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا، واختلف النقل عنهم في ذلك اختلافا كثيرا، فذهب جمع جم إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق، وأن كل واحد منهم مصيب، وحكاه الماوردي، والروياني، عن الأكثرين.
قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال، ولم يتعين لنا، وهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد، في الزمان الواحد، في الشخص الواحد حلالا وحراما، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُخطِّئ بعضهم بعضا، ويعترض بعضهم على بعض، ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا، لم يكن للتخطئة وجه.
ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد، هل كل مجتهد مصيب أم لا؟
فعند مالك، والشافعي، وغيرهما أن المصيب منهم واحد، وإن لم يتعين، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد.
وقال جماعة، منهم أبو يوسف: إن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله.
وأنكر ذلك أبو سحاق المروزي، وقال: إنما نسبه إليه قوم من المتأخرين، ممن لا معرفة له بمذهبه.
قال القاضي أبو الطيب الطبري: واختلف النقل عن أبي حنيفة، فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا، وفي بعضها كقول أبي يوسف، وقد روي عن أهل العراق، وأصحاب مالك وابن "سريج"*، وأبي حامد، بمثل قول أبي يوسف.
واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا، فيما اختلفوا فيه،
__________
* في "أ": ابن شريح.
__________
1 جزء من الآية من سورة المجادلة.
2 جزء من الآية 76 من سورة يوسف.

(2/231)


ولا يجوز إجماعهم على خطأ.
قال ابن فورك: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدهما:
أن الحق في واحد، وهو المطلوب، وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب، ومن قصر عنه وفقد الصواب؛ فهو مخطئ، ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور؛ لأن المعذور من يسقط عنه التكليف، لعذر في تركه، كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا قد كلف إصابة العين، لكنه خفف أمر خطابه، وأجر على قصده الصواب، وحكمه نافذ على الظاهر، وهذا مذهب الشافعي، وأكثر أصحابه، وعليه نص في كتاب "الرسالة" و"أدب القاضي"1.
والثاني:
أن الحق واحد، إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد، وإن كان بعضهم مخطئا.
والثالث:
أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن. انتهى.
وذهب قوم: إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة، وقد يكون صغيرة.
ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية، وحُكي عن أهل الظاهر، وعن جماعة من الشافعية، وطائفة من الحنفية.
وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة، وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة، واستكثر من ذلك الرازي في "المحصول"، ولم يأتوا بما يشفي طالب الحق.
وههنا دليل يرفع النزاع، ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب، وهو الحديث الثابت في الصحيح، ومن طرق: "أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا" 2.
فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه، فيقال له: مصيب، ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه، ويقال له مخطئ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه.
__________
1 للإمام محمد بن إدريس الشافعي ا. هـ الأعلام 6/ 26.
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 1716. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ 3574. والنسائي، كتاب القضاء، كما في التحفة 8/ 158. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب اجتهاد الحاكم فيما يسوغ فيه الاجتماع 10/ 119. وابن حبان في صحيحه 5060. وأحمد في مسنده 4/ 198.

(2/232)


مصيبًا، و"إطلاق"* اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين، فقد أخطأ خطأ بينًا، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل المجتهدين قسمين، قسما مصيبا، وقسما مخطئا، ولو كان كل واحد منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وهكذا من قال: إن الحق واحد، ومخالفه آثم، فإن هذا الحديث يرد عليه ردا بينا، ويدفعه دفعا ظاهرا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا، ورتب على ذلك استحقاقه للأجر، فالحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مأجور، إذا كان قد وفَّى الاجتهاد حقه، ولم يقصر في البحث، بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا.
ومما يحتج به على هذا حديث: "القضاة ثلاثة" 1 فإنه لو لم يكن الحق واحدا، لم يكن للتقسيم معنى، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمير السرية: "وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" 2.
وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله عز وجل متعددا بتعدد المجتهدين، تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل، ومع شريعته المطهرة، هي أيضًا صادرة عن محض الرأي، الذي لم يشهد له دليل، ولا عضدته شبهة تقبلها العقول، وهي أيضًا مخالفة لإجماع الأمة، سلفها خلفها، فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور، ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاده ما هو أنهض مما تمسك به، ومن شك في ذلك، وأنكره، فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم البعض واعتراض بعضهم على بعض.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يخطئ 3573. والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القاضي 1322. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2351. والحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام، باب قاضيان في النار... 4/ 9 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل 10/ 117. وذكره المزي في تحفة الأشراف 2/ 94. وذكره البغوي في مصابيح السنة 2814.
2 أخرجه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1731. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2612، 2613. والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة 1408. وابن ماجه، كتاب الجهد، باب وصية الإمام 3858. وابن حبان في صحيحه 4739. وأحمد في مسنده 5/ 352. والبيهقي، كتاب السير، باب الرخصة في الإقامة بدار الشرك لمن لا يخاف الفتنة 9/ 15. وابن الجارود في المنتقى 1042.

(2/233)


وأما الاستدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان1 فهو عليهم لا لهم، فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 2 ولو كان الحق بيد كل واحد منهما؛ لما كان لتخصيص سليمان بذلك المعنى.
وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 3 فهو خارج عن محل النزاع؛ لأن الله سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم، من القطع والترك هو بإذنه عز وجل، فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها، هو كل واحد من الأمرين، وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه "بأنه سبحانه يريد"* بخصوصها، هو كل واحد من الأمرين، وأن حكمه على التخيير بين أمور، يختار المكلف ما شاء منها، كالواجب المخير، وأن حكمه يجب على الكل، حتى يفعله البعض، فيسقط عن الباقين، كفروض الكفايات، فتدبر هذا وافهمه حق فهمه.
وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة، لمن خشي فوت الوقت، وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة، امتثالا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يصلين أحد إلا في بني قريظة" 4 فالجواب عنه كالجواب عما قبله، على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق، بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده، وصح صدوره عنه، لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق، وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده، وفرق بين الإصابة والصواب، فإن إصابة الحق "هي"** الموافقة، بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه، من حيث كونه قد فعل ما كلف به، واستحق الأجر عليه، وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له.
وإذا عرفت هذا الحق معرفته، لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة، وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال: الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أو لا، فإن كان الأول، فإما أن "يجتهد"*** المجتهد أو لا، الثاني على قسمين؛ لأنه إما أن يقصر في
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": هو.
*** في "أ": يجده.
__________
1 تقدم في: 2/ 219.
2 جزء من الآية 79 من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية 5 من سورة الحشر.
4 تقدم تخريجه في 2/ 223.

(2/234)


طلبه أو لا يُقصر، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام، وإن لم يحكم بمقتضاه، فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب، فهو مخطئ وآثم، وفاقا، وإن لم يكن مع العلم، ولكن قصر في البحث عنه، فكذلك، وإن لم يقصر، بل بالغ في الاستشكاف والبحث، ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب، فحكمه حكم "ما إذا لم"* يجده، مع الطلب الشديد وسيأتي1.
وإن لم يجده، فإن كان "للتقصير"** في الطلب فهو مخطئ وآثم، وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه، وأفرغ الوسع في طلبه، ومع ذلك لم يجده، فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص، أو عرفه و"لكن"*** مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا، وهل هو مخطئ أو مصيب، على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه، والأولى بأن يكون مخطئا، وأما "التي لا نص"**** فيها، فإما أن يقال: لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا، بل "حكمه"***** تابع لاجتهاد المجتهدين، فهذا الثاني قول من قال: كل مجتهد مصيب، وهو مذهب جمهور المتكلمين، كالشيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضي، والغزالي، والمعتزلة، كأبي الهذيل، وأبي على، وأبي هاشم، وأتباعهم، ونقل عن الشافعي، وأبي حنيفة، والمشهور عنهما خلافه.
فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم، لما حكم إلا به، أو لم يوجد ذلك، والأول هو القول بالأشبه، وهو قول كثير من المصوبين، وإليه صار أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن سريج، في إحدى الروايتين عنه، قال: وأما الثاني: فقول الخلص من المصوبة. انتهى.
__________
* في "أ": ما لم.
** في "ب": التصير.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": التخيير يقال.
*****في "أ": إجماع و.
__________
1 انظر الصفحة: 237.

(2/235)


المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت واحد
...
المسألة الثامنة: لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد
لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد؛ لأن دليلهما إن تعادلا من كل وجه، ولم يمكن الجمع ولا الترجيح، وجب عليه الوقف، وإن أمكن الجمع بينهما، وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما، وإن ترجح أحدهما على الآخر، تعين عليه الأخذ به، وبهذا تعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد.

(2/235)


وأما في وقتين فجائز، لجواز تغير الاجتهاد الأول، وظهور ما هو أولى، بأن يأخذ به "ويدع"* ما كان قد أخذ به.
وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين، عند تعادل الأمارتين، فمن قال بالتخيير جوز ذلك له. ومن قال بالوقف لم يجوز.
فإن كان لمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوع عن القول الأول بدلالته على تغيير اجتهاده الأول.
وإذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده، ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة، فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكرا، فإن كان ذاكرا جاز له الفتوى به، وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد، فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، وإن "أداه"** إلى موافقة ما قد أفتى به أو لا "أفتى به"*** وإن لم يستأنف الاجتهاد، لم يجز له الفتوى.
قال الرازي في "المحصول": ولقائل أن يقول: لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقا قويا، حصل له الآن ظن أن ذلك القوى حق، جاز له الفتوى به؛ لأن العمل بالظن واجب، وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده، فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده، وترجح له ما يخالف الاجتهاد الأول؛ لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية.
وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاده ما حكم به حاكم آخر باجتهاده؛ لأنه يؤدي إلى ذلك، ويتسلسل، وتفوت مصلحة نصب الحكام، وهي فصل الخصومات، ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول مخالفا لدليل قطعي، فإن كان مخالفا للدليل القاطع نقضه اتفاقا، وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده، فحكمه باطل؛ لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده، وليس له أن يقول بما يخالفه، ولا يحل له أن يقلد مجتهدا آخر، فيما يخالف اجتهاده، بل يحرم عليه التقليد مطلقًا، إذا كان قد اجتهد في المسالة، فأداة اجتهاده إلى حكم، ولا خلاف في هذا.
وأما قبل أن يجتهد، فالحق: أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقًا.
وقيل: يجوز له فيما يخصه من الأحكام، لا فيما لا يخصه، فلا يجوز.
وقيل: يجوز له تقليد من هو أعلم منه.
وقيل: يجوز له أن يقلد مجتهدا من مجتهدي الصحابة.
ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل، وليست محتاجة إلى التطوير، فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي.
__________
* في "أ": مما كان. والزيادة التي بين قوسين هي من وضع محقق النسخة "ب".
** في "أ": أدى.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

(2/236)


المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد
...
المسألة التاسعة: في جوز تفويض المجتهد
قال الرازي في "المحصول": اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو للعالم: أحكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب؟
فقطع بوقوعه مويس بن عمران1 من المعتزلة، وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه.
وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه، وهو المختار. انتهى.
ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو المجتهد، أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد، وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض، وكيف اتفق له.
واستدل من قال بالجواز: بأنه ليس بممتنع لذاته، والأصل عدم امتناعه لغيره.
وهذا الدليل ساقط جدا، وتفويض من كان ذا علم، بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد، مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها، وتتباين طرائقها، ولا علم للعبد بما عند الله عز وجل فيها، ولا بما هو الحق الذي يريده من عباده، ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه، ولا يردد في بطلانه، فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد، المتمكن من النظر والاستدلال، إذا بحث وفحص، وأعطى النظر حقه، فليس معه إلا مجرد الظن بأن ذلك الذي رجحه، وقاله هو الحق الذي طلبه الله عز وجل، فكيف يحل له أن يقول ما أراد، ويفعل ما اختار، من دون نظر واجتهاد، وكيف يجوز مثل ذلك على الله عز وجل، مع القطع: بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية؛ لأنه واحد من أهلها، مأخوذ بما أخذوا به، مطلوب منه ما طلب منهم، فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره، وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب، بما كلف به، وهل هذه المقالة إلا مجرد جهل بحت، ومجازفة ظاهرة، وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد، مع جهله بما في أحكام الله من المصالح، فإن من كان "هكذا"* قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة، وعلى ما لا مصلحة فيه.
__________
* في "أ": هذا.
__________
1 في الأصول، والمحصول، وأحكام الآمدي: موسى بن عمران وهذا خطأ، إنما هو مويس بن عمران، ويكنى أبا عمران المعتزلي، كان واسع العلم في الكلام وكان يقول بالإرجاء. انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للمؤلفين أبي القاسم البلخي والقاضي عبد الجبار.

(2/237)


وأما الاستدلال بقوله سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1 فهو خارج عن محل النزاع؛ لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله، وهم معصومون من الخطأ، وإذا وقع منهم نادرا فلا يقرون عليه، وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله عز وجل، أو باجتهاد يقرره الله عز وجل، ويرضاه، وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقع الجوابات منه على "من"* سأله من دون انتظار الوحي، وبمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" 2 وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة بنت الحارث"3: "لو بلغني هذا لمننت عليه" أي: على أخيها النضر بن الحارث4 أحد أسرى بدر، والقصة والشعر معروفان.
وأما اعتذار من اعتذر عن القائل بصحة ذلك، بأنه إنما قال بالجواز، ولم يقل بالوقوع، فليس هذا الاعتذار بشيء، فإن تجويز مثل هذا على الله عز وجل، مما لا يحل لمسلم أن يقول به.
وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء، وإلى المجتهدين بالنظر والاجتهاد، فليس محل النزاع إلا التفويض "لمن"** كان من أهل العلم، أن يحكم بما شاء، وكيف اتفق، وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاءوا به "في هذه المسألة من الأدلة واقع في غير موقعه، وأنه لا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف، ولم يأتوا بشيء تقبله العقول، ولا بدليل يدل عليه الشرع، بل جميع ما جاءوا به"*** جهل على جهل، وظلمات بعضها فوق بعض.
__________
* في "أ": ما.
** في "أ": إلى من.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 93 من سورة آل عمران.
2 تقدم تخريجه في 2/ 220.
3 قال الزبير: كانت تحت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر فولدت له عليا والوليد ومحمدا وأم الحكم، قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباها صبرا يوم بدر، كانت شاعرة محسنة، ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر كتبت إليه قتيلة في أبيها وذلك قبل إسلامها فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى حتى أخضلت الدموع لحيته وقال: "لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه". ا. هـ الإصابة 4/ 379، الاستيعاب 4/ 3799. وبعض المؤرخين من يراها أخت النضر ولكن السهيلي في الروض الأنف 2/ 119 يؤكد أنها بنت النضر لا أخته كما في هامش الأعلام للزركلي 5/ 190.
4 هو النضر بن الحارث بن علقمة، من بين عبد الدار، من قريش، صاحب لواء المشركين ببدر، كان من شجعان قريش ووجوهها وشياطينها، وهو الذي آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفر به وفيه نزل قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ا. هـ الكامل لابن الأثير 2/ 284 الأعلام 8/ 33.

(2/238)


الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي
المسألة الأولى: في حد التقليد، والمفتي، والمستفي
...
الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي
وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى: في حد التقليد، والمفتي، والمستفتي
أما التقليد: فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة، التي يقلد غيره بها، ومنه تقليد الهدي، فكأن المقلد جعل ذلك الحكم، الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده.
وفي الاصطلاح: هو العمل بقول الغير من غير حجة1.
فيخرج العمل بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعمل بالإجماع، ورجوع العامي إلى المفتي، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول، فإنها قد قامت الحجة في ذلك.
أما العمل بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالإجماع، فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة، وفي مقصد الإجماع.
وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود: فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة، من الأمر بالشهادة، والعمل بها، وقد وقع الإجماع على ذلك.
وأما رجوع العامي إلى قول المفتي، فللإجماع على ذلك.
ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة، فإنه قد دل الدليل على قبولها، ووجوب العمل بها، وأيضا: ليست قول الراوي، بل قول من روى عنه، إن كان ممن تقوم به الحجة.
وقال ابن الهمام في "التحرير": التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. وهذا الحد أحسن من الذي قبله.
وقال القفال: هو قبول قول القائل، وأنت لا تعلم من أين قاله.
وقال الشيخ أبو حامد، والأستاذ أبو منصور: هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله.
وقيل: هو قبول قول الغير دون حجته، أي: حجة القول.
والأولى أن يقال: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة.
وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 270 والمستصفى 2/ 387.

(2/239)


وأما المفتي فهو المجتهد، وقد تقدم بيانه، ومثله قول من قال: إن المفتي الفقيه؛ لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول.
والمستفتي من ليس بمجتهد، ومن ليس بفقيه، وقد عرفت من حد المقلد، على جميع الحدود، المذكورة، أن قبول قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعمل به ليس من التقليد في شيء؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله نفس الحجة1.
قال القاضي حسين في "التعليق": لا خلاف أن قبول قول غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الصحابة، والتابعين، يسمى تقليدا، وأما قبول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل يسمي تقليدا؟ فيه وجهان "يبنيان"* على الخلاف في حقيقة التقليد ما هو؟
وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا، فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به، ما نصه: وأما أن يقلده، فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى.
ولا يخفاك أن مراده بالتقليد ههنا غير ما وقع عليه الاصطلاح، ولهذا قال الروياني في "البحر": أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقليدا، ولم يرد حقيقة التقليد، وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه، وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان.
قال: والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم.
قال الزركشي في "البحر"2: وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في "التخليص" حيث قال: وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عن ذوي التحقيق. انتهى.
وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح "عليه"** لا يشمل ذلك، وهو المطلوب.
قال ابن دقيق العيد: إن قلنا إن الأنبياء لا يجتهدون، فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي، فلا يكون تقليدا، وإن قلنا إنهم يجتهدون، فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين: إما الوحي، أو الاجتهاد، وعلى كل تقدير، فقد علمنا السبب، واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة. انتهى.
وقد نقل القاضي في "التقريب" الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والراجع إليه ليس بمقلد، بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين. انتهى.
__________
* في "أ": يبتنيان.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 270
2 البحر المحيط 6/ 271.

(2/240)


المسألة الثانية: حكم التقليد في أصول الدين
اختلفوا في المسائل العقلية، وهي المتعلقة بوجود الباري وصفاته، هل يجوز التقليد فيها أم لا؟
فحكى الرازي في "المحصول" عن كثير من الفقهاء أنه يجوز، ولم يحكه ابن الحاجب في "المختصر" إلا عن العنبري.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز.
وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في "شرح الترتيب"1 عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف.
قال أبو الحسين بن القطان: لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد.
وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين، وطائفة من الفقهاء.
وقال إمام الحرمين في "الشامل"2: لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة.
وقال الإسفراييني: لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر.
واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله عز وجل، وأنها لا تحصل بالتقليد؛ لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده، ولا يدري أهو صواب أم خطأ.
قال الأستاذ أبو منصور: فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل، فاختلفوا فيه: فقال أكثر الأئمة: إنه مؤمن من أهل الشفاعة، وإن فسق بترك الاستدلال، وبه قال أئمة الحديث.
وقال الأشعري، وجمهور المعتزلة: لا يكون مؤمنا حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين. انتهى.
فيا لله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود، وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك، ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك أدلته.
__________
1 وهو للإمام أبي إسحاق الإسفراييني شرح فيه كتاب الترتيب ولم أجد أحدا نسب كتاب الترتيب إلى مؤلفه انظر كشف الظنون 2/ 1403.
2 وهو في أصول الدين لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، أبي المعالي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1024.

(2/241)


وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن، وإن فسق، فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه، بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، بل حرم كثير منهم النظر إلى ذلك، وجعله في الضلالة والجهالة، ولم يخف هذا من مذهبهم، حتى على أهل الأصول والفقه.
قال الأستاذ أبو إسحاق1: ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قول الله ورسوله، ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا، وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه، وإنما هو طريق إلى حصول العلم، حتى يصير بحيث لا يتردد، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه، من غير دلالة قاطعة، فقد صار مؤمنا، وزال عنه كلفة طلب الأدلة، ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي، من الشبهة والشكوك، فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها، حين لم يَكِله إلى النظر والاستدلال، لا سيما العوام، فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة. انتهى.
ومن أمعن النظر في أحوال العوام "وجد هذا"* صحيحا، فإن كثيرا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي، ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام، المشتغلين به، الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه، وتنتقض منه عروة عروة، فإن أدركته الألطاف الربانية نجا، وإلا هلك، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم، المتبحرين في أنواعها، في آخر أمره، أن يكون على دين العجائز، ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له اطلاع على أخبار الناس.
وقد أنكر القشيري، والشيخ أبو محمد الجويني، وغيرهما، من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي الحسن الأشعري.
قال ابن السمعاني: إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك، وتصدر عقيدته عنه، كيف وهم لو عرضت عليهم تلك "الأدلة** لم يفهموها، وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقده، ويلقى به ربه، من العلماء يتبعهم في ذلك، ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء، والأدغال2، ثم
__________
* في "أ": وجدها.
** في "أ": الأحكام.
__________
1 ذكر هذا القول الزركشي في كتابه مفصلا في البحر المحيط 6/ 277-278 فانظره هناك.
2 جمع دَغَل: وهو في الأصل كل موضع يخاف فيه الاغتيال، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه وفي "اتخذوا دين الله دغلا" أي: يخدعون الناس. ويقال: أدغل في الأمر: إذا أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. ا. هـ لسان العرب مادة دغل.

(2/242)


يعض عليها بالنواجز، فلا يحول ولا يزول، ولو قطع أربا، فهنيئًا لهم بالسلامة، والبعد عن الشبهات الداخلية على أهل الكلام، والورطات التي توغلوها، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة، فصاروا متحيرين، ولا يوجد فيهم متورع عفيف، إلا القليل، فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة، وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمة.
قال: ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية، ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر، وإنما "المنكر"* إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اقتعدوه وساموا به الخلق، وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى، ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع، وهذا هو الخطة الشنعاء، والداء العضال، وإذا كان السواد الأعظم هم العوام، وبهم قوم الدين، وعليهم مدار رحى الإسلام، ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة، التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها، إلا العدد الشاذ النادر، ولعله لا يبلغ عدد العشرة. انتهى.
__________
* في أ: منكر.
المسألة الثالثة: حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعيةيتبع إن شاء الله
---------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق