الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 8.الفصل الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة


الفصل الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
الباب الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
فقيل: الخاص هو اللفظ الدال على مسمى واحد.
ويعترض عليه بأن تقييده بالوحدة غير صحيح، فإن تخصيص العام قد يكون بإخراج أفراد كثيرة من أفراد العام، وقد يكون بإخراج نوع من أنواعه، أو صِنف من أصنافه، إلا أن يراد بالمسمى الواحد ما هو أعم من أن يكون فردًا أو نَوعًا أو صِنفًا، لكنه يشكل عليه إخراج أفراد متعددة، نحو: أكرم القوم إلا زيدًا، وعمرًا، وبكرًا.
ثم يرد على هذا الحد أيضًا أنه يصدق على كل دال على مسمى واحد، سواء كان مخرجًا "من عموم"* أو لا.
وقيل في حده: هو ما دل على كثرة مخصوصة.
ويعترض عليه: بأن التخصيص قد يكون بفرد من الأفراد نحو: أكرم القوم إلا زيدًا، وليس زيد وحده بكثرة.
وأيضًا يعترض عليه: بأنه يصدق على كل لفظ يدل على كثرة، سواء كان مخرجًا من عموم أم لا، إلا أن يراد بهذين الحدين تحديد الخاص من حيث هو خاص "من غير اعتبار كونه مخرجًا من عموم، ولكنه يأبى ذلك كون المقام مقام تحديد الخاص المخرج من العام، لا تحديد الخاص من حيث هو خاص"**.
وأما التخصيص وهو المقصود بالذكر هنا، فهو في اللغة: الإفراد، ومنه الخاصة.
وفي الاصطلاح: تمييز بعض الجملة بالحكم. كذا قال ابن السمعاني.
ويرد عليه: العام الذي أريد به الخصوص.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ". 
...............
وقيل: بيان ما لم يرد بلفظ العام.
ويرد عليه أيضًا: بيان ما لم يرد بالعام الذي أريد به الخصوص، وليس من التخصيص.
وقال العبادي1: التخصيص بيان المراد بالعام ويعترض عليه: بأن التخصيص هو بيان ما لم يرد بالعام، لا بيان ما أريد به.
وأيضًا: يدخل فيه العام الذي أريد به الخصوص.
وقال ابن الحاجب: التخصيص: قصر العام على بعض مسمياته.
واعترض عليه: بأن لفظ القصر يحتمل القصر في التناول أو الدلالة، أو الحمل، أو الاستعمال.
وقال أبو الحسين: هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه.
واعترض عليه: بأن ما أخرج فالخطاب لم يتناوله.
وأجيب: بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص.
وقيل: هو تعريف أن العموم للخصوص.
وأورد عليه: أنه تعريف التخصيص بالخصوص، وفيه دور.
وأجيب: بأن المراد بالتخصيص المحدود، التخصيص في الاصطلاح، وبالخصوص المذكور في الحد هو الخصوص في اللغة فتغايرا فلا دور.
قال القفال الشاشي: إذا ثبت تخصيص العام ببعض ما اشتمل عليه علم أنه غير مقصود بالخطاب، وأن المراد ما عداه، ولا نقول إنه داخل في الخطاب فخرج منه بدليل وإلا لكان نسخًا ولم يكن تخصيصًا، فإن الفارق بينهما أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص بيان ما قصد "له اللفظ"* العام.
قال إلكيا الطبري، والقاضي عبد الوهاب: معنى قولنا إن العموم مخصوص، أن المتكلم به قدر أراد بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز؛ لأنه شبيه بالمخصوص الذي يوضع في الأصل للخصوص، وإرادة البعض لا تصيره موضوعًا في الأصل لذلك، ولو كان حقيقة لكان العام خاص وهو متنافٍ وإنما يصير خاصًّا بالقصد، كالأمر يصير أمرًا بالطلب والاستدعاء، وقد ذكر مثل هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي.
__________
* في "أ": باللفظ.
__________
1 هو محمد بن أحمد بن محمد بن عباد، العبادي، الهروي، الشافعي، القاضي أبو عاصم، من آثاره: "المسبوط، الهادي، أدب القاضي، طبقات الفقهاء"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 180" هدية العارفين "2/ 71"، شذرات الذهب "3/ 306".

(1/351)


وأما الخصوص: فقيل هو كون اللفظ متناولًا لبعض ما يصلح له لا لجميعه.
ويعترض عليه: بالعام الذي أريد به الخصوص.
وقيل: هو كون اللفظ متناولًا للواحد المعين، الذي لا يصلح إلا له.
ويعترض على تقييده بالوحدة مثل ما تقدم.
قال العسكري: الفرق بين الخاص والخصوص، بأن الخاص هو ما يراد به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع، والخصوص ما اختص بالوضع لا بالإرادة.
وقيل: الخاص ما يتناول أمرًا واحدًا بنفس الوضع، والخصوص أن يتناول شيئًا دون غيره، وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير.
وأما المخصص: فيطلق على معانٍ مختلفة، فيوصف المتكلم بكونه مخصصًا للعام، بمعنى أنه أراد به بعض ما تناوله، ويوصف الناصب لدلالة التخصيص بأنه مخصص، ويوصف الدليل بأنه مخصص، كما يقال: السنة تخصص الكتاب، ويوصف المعتقد لذلك بأنه مخصص.
وإذا عرفت أن المقصود في هذا الباب ذكر حد التخصيص دون الخاص والخصوص، فالأولى في حده أن يقال هو إخراج بعض ما كان داخلًا تحت العموم، على تقدير عدم المخصص.

(1/352)


المسألة الثانية: في الفرق بين النسخ والتخصيص
اعلم: أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض ما يتناوله اللفظ، احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما من وجوه:
الأول: أن التخصيص ترك بعض الأعيان، والنسخ ترك "بعض الأزمان"*، كذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني.
الثاني: أن التخصيص يتناول الأزمان، والأعيان، والأحوال بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان.
قال الغزالي: وهذا ليس بصحيح، فإن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان، والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال. انتهى.
وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل، فينبغي أن يكون هو الوجه الثالث.
__________
* في "أ": ترك الأعيان.

(1/352)


الرابع: أن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ذكره البيضاوي.
الخامس: أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين، بطريق خاص بخلاف التخصيص، قاله أيضًا الأستاذ، واختاره البيضاوي. واعترض عليه إمام الحرمين.
السادس: أن التخصيص تقليل، والنسخ تبديل، حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي، واعترض بأنه قليل الفائدة.
السابع: أن النسخ يتطرق إلى كل حكم، سواء كان ثابتًا في حق شخص واحد، أو أشخاص كثيرة، والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول، ومنهم من عبر عن هذا بعبارة أخرى فقال: التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور، واحد والنسخ يدخل فيه.
الثامن: أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته، حقيقةً كان أو مجازًا، على الخلاف السابق، والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية.
الوجه التاسع: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ، ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص.
العاشر: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى، ولا يجوز التخصيص.
قال القرافي: وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرًا "وهو غير مسلم"*."والمراد"** أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة، أما كلها فلا؛ لأن قواعد العقائد لم تنسخ "وكذلك حفظ الكليات الخمس"***.
الحادي عشر: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص، فإنه بيان المراد باللفظ العام، ذكره القفال الشاشي، والعبادي في "زياداته"1.
الثاني عشر: أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم، والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ؛ ذكره الماوردي.
__________
* وفي العبارة ولعله: "وهو غير مسلم"، كما تدل عليه عبارة القرافي في شرح التنقيح. كما في هامش النسخة "أ".
** في "أ": أو المراد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهو في فروع الشافعية، لأبي عاصم، محمد بن أحمد العبادي، وله: "زيادة الزيادات على زيادة الزيادات" وأصله في مجلد لطيف، يعبر عنه الرافعي بفتاوى العبادي ا. هـ. كشف الظنون "2/ 974".

(1/353)


الثالث عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنًا بالعام، أو متقدمًا عليه، أو متأخرًا عنه، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدمًا على المنسوخ، ولا مقترنًا به، بل يجب أن يتأخر عنه.
الرابع عشر:
أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل، والقرائن وسائر أدلة السمع.
الخامس عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون بالإجماع، والنسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع.
السادس عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام، والنسخ يختص بأحكام الشرع.
السابع عشر:
أن التخصيص على الفور، والنسخ على التراخي، ذكره الماوردي، قال الزركشي: وفيه نظر.
الثامن عشر:
أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع، ونسخه به غير واقع، وهذا فيه ما سيأتي1 من الخلاف.
التاسع عشر:
أن التخصيص لا يدخل في غير العام، بخلاف النسخ، فإنه يرفع حكم العام والخاص.
الموفي عشرين:
أن التخصيص يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه، والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال، وإن كان غير مراد فيما بعده، هذا جملة ما ذكروه من الفروق. وغير خافٍ عليك أن بعضها غير مسلم، وبعضها يمكن دخوله في البعض الآخر منها.
__________
1 انظر صفحة: "355".

(1/354)


المسألة الثالثة: تخصيص العمومات وجوازه
اتفق أهل العلم، سلفًا وخلفًا، على أن التخصيص للعمومات جائز، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به، وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة، لا يخفى على من له أدنى تمسك بها، حتى قيل: إنه لا عام إلا وهو مخصوص، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 1، قال الشيخ علم الدين العراقي2: ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع:
__________
1 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
2 هو عبد الكريم بن علي بن عمر، الأنصاري، العراقي، الشافعي، الضرير، علم الدين، فقيه، أصولي، مفسر، أديب، ولد سنة ثلاثٍ وعشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة أربعٍ وسبعمائة هـ، من آثاره: "شرح التنبيه للشيرازي" "الانتصار للزمخشري من ابن المنير". ا. هـ. معجم المؤلفين "5/ 319"، هدية العارفين "1/ 610"، كشف الظنون "2/ 1477"، الأعلام "4/ 53".

(1/354)


أحدها: قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 1 فكل ما سميت أمًّا من نسب أو رضاع "أو أمَّ أمٍّ"* وإن علت فهي حرام.
ثانيها: قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان} 2 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 3.
ثالثها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 4.
رابعها: قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 5 واعترض على هذا: بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات، وهي أشياء، وقد ألحق بهذه المواضع الأربعة قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 6.
وقد استدل من لا يعتد به بما لا يعتد به، فقال: إن التخصيص يستلزم الكذب، كما قال من قال بنفس المجاز: إنه ينفي فيصدق في نفيه، ورد ذلك بأن صدق النفي إنما يكون بقيد العموم، وصدق الإثبات بقيد الخصوص، فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد.
وما قالوه: من أنه يلزم البداء مردود بأن ذلك إنما يلزم لو أريد العموم الشامل لما خصص، لكنه لم يرد ابتداء، وإنما أريد الباقي بعد التخصيص، وقد قيد بعض المتأخرين خلاف من خالف في جواز التخصيص، ممن لا يعتد به بالأخبار لا بغيرها من الإنشاءات، ومن جملة من قيده بذلك الآمدي.
وعلى كل حال، فهو قول باطل، ومذهب عن حلية التحقيق والحق عاطل.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو جزء من الآية "23" من سورة النساء.
2 الآية "26" من سورة الرحمن.
3 جزء من الآية "185" من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
5 جزء من الآية "189" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "6" من سورة هود.

(1/355)


المسألة الرابعة: قولهم في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص
اختلفوا في المقدر الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب:
المذهب الأول:
أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، وإليه ذهب الأكثر، وحكاه الآمدي

(1/355)


عن أكثر أصحاب الشافعي.
قال: وإليه مال إمام الحرمين ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري، ونقله ابن برهان عن المعتزلة.
قال الأصفهاني: ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد، نعم اختاره الغزالي والرازي.
المذهب الثاني:
أن العام إن كان مفردًا كمن، والألف واللام، نحو اقتل من في الدار، واقطع السارق، جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو واحد؛ لأن الاسم يصلح لهما جميعًا وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف، قاله القفال الشاشي وابن الصباغ.
قال الشيخ: أبو إسحاق الإسفراييني: لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد، فيما إذا لم تكن الصيغة جمعًا، كمن والألف واللام.
المذهب الثالث:
التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء، والبدل، فيجوز إلى الواحد، وإلا فلا يجوز، قال الزركشي: حكاه ابن المطهر1، وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي2.
المذهب الرابع:
أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقًا، على حسب اختلافهم في أقل الجمع، حكاه ابن برهان وغيره.
المذهب الخامس:
أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم، حكاه إمام الحرمين في "التلخيص"3 عن معظم أصحاب الشافعي، قال: وهو الذي اختاره الشافعي. ونقله ابن السمعاني في "القواطع"4 عن سائر أصحاب الشافعي، ما عدا القفال. وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في "أصوله"5 عن إجماع الشافعية، وحكاه ابن الصباغ في "العدة"6 عن أكثر
__________
1 لعله الحسين بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، المعروف بالعلامة الحلي، جمال الدين، أبو منصور، عالم مشارك في الفقه والأصول والكلام، وغير ذلك، ولد بالحلة، وتوفي سنة ست وعشرين وسبعمائة هـ، من آثاره: "منتهى المطلب في الفقه". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 346"، إيضاح المكنون "1/ 10"، معجم المؤلفين "3/ 303".
2 انظر صفحة: "357".
3 لعل المراد "تلخيص نهاية المطلب في دراية المذهب" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
4 واسمه "القواطع في أصول الفقه"، لمنصور بن محمد السمعاني، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1357".
5 لعل المراد به هو: "الجامع الجلي والخفي في أصول الدين والرد على الملحدين" انظر كشف الظنون "1/ 539".
6 واسمه: "عدة العالم والطريق السالم" في أصول الفقه، لابن الصباغ، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1129".

(1/356)


الشافعية، وصححه القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور.
المذهب السادس: إن كان التخصيص بمتصل، فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد نحو: أكرم الناس إلا الجهال، وأكرم الناس إلا تميمًا، وإن كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلى اثنين، نحو: أكرم القوم الفضلاء، أو إذا كانوا فضلاء.
وإن كان التخصيص بمنفصل، وكان في العام المحصور القليل كقولك: قتلت كل زنديق، وكانوا ثلاثة أو أربعة، ولم تقتل سوى اثنين جاز إلى اثنين وإن كان العام غير محصور، أو كان محصورًا كثيرًا جاز بشرط كون الباقي قريبًا من مدلول العام، هكذا ذكره ابن الحاجب واختاره.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": ولا نعرفه لغيره.
احتج الأولون بأنه لو قال قائل: قتلت كل من في المدينة، ولم يقتل إلا ثلاثة عد لاغيًا مخطئًا في كلامه، وهكذا لو قال: أكرمت كل العلماء، ولم يكرم إلا ثلاثة أو قتلت جميع بني تميم، ولم يقتل إلا ثلاثة.
واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين، أو ثلاثة، بأن ذلك أقل الجمع، على الخلاف المتقدم.
ويجاب: بأن ذلك خارج عن محل النزاع، فإن الكلام إنما هو في العام والجمع ليس بعام ولا تلازم بينهما.
واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد، بأنه يجوز أن يقول: أكرم الناس إلا الجهال، وإن كان العالم واحدًا.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجودًا في الخارج، ومثل هذه الصورة اتفاقية، ولا يعتبر بها فالناس ههنا ليس بعام، بل هو للمعهود كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس} 1 فإن المراد بالناس المعهود، وهو نعيم بن مسعود، والمعهود ليس بعام.
استدلوا أيضًا بأنه يجوز أن يقول القائل: أكلت الخبز، وشربت الماء، والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز.
__________
1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران. وسبب نزولها قيل: إنها نزلت في نعيم ين مسعود عندما قال هذا الكلام مرفوعًا من أبي سفيان ليثبط عزيمة المسلمين عن الحزوة إلى بدر الصفرى لميعاد أبي سفيان.
وقيل: نزلت في وفد عبد القيس حين مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوا عزيمتهم.
وقيل: الناس هنا المنافقون. ا. هـ. تفسير القرطبي "4/ 279".

(1/357)


وأجيب عن ذلك بأنه غير محل النزاع، فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام، بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود والذهني، وهو الخبز والماء المقرر في الذهني أنه يؤكل ويشرب، وهو مقدار معلوم.
والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام، أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولًا للعام، ولو في بعض الحالات، وعلى بعض التقادير، كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية، والكلمات العربية، ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد خصص، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام، فإنه هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر الأقرب هما مدلولا العام على التمام، فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده، كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها، ولا يصح أن يقال ههنا: إن الأكثر في حكم الكل؛ لأن النزاع في مدلول اللفظ، ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة، أو المجاز، ولو كان المخرج فردًا واحدًا.
وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد يكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام، عرفت أيضًا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعًا؛ لأن النزاع في معنى العموم لا في معنى الجمع، ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظًا كمن وما والمعرف باللام، وبين كونها غير مفردة، فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة، والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ

(1/358)


المسألة الخامسة: المخصص
اختلفوا في المخصص على قولين حكاهما القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وابن برهان في "الوجيز".
أحدهما:
أنه إرادة المتكلم، والدليل كاشف عن تلك الإرادة.
وثانيهما:
أنه الدليل الذي وقع به التخصيص، واختار الأول ابن برهان، وفخر الدين الرازي في "محصوله" فإنه قال: المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم، لأنها المؤثرة، ويطلق على الدال على الإرادة مجازًا.
وقال أبو الحسين في "المتعمد": العام يصير عندنا خاصًّا بالأدلة، ويصير خاصًّا في نفس الأمر بإرادة المتكلم.
والحق: أن المخصص حقيقة هو المتكلم، لكن لما كان المتكلم يخصص بالإرادة أسند

(1/358)


التخصيص إلى إرادته، فجعلت الإرادة مخصصة. ثم جعل ما دل على إرادته، وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصًا في الاصطلاح، والمراد هنا إنما هو الدليل، فنقول: المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه، فهو المنفصل، وإما أن لا يستقل، بل يتعلق معناه باللفظ إلى قبله فهو المتصل. فالمنفصل سيأتي1 إن شاء الله.
وأما المتصل: فقد جعله الجمهور أربعة أقسام: الاستثناء المتصل، والشرط والصفة، والغاية. وزاد القرافي، وابن الحاجب: بدل البعض من الكل، "ونازع"* الأصفهاني في ذلك قائلًا: إنه في نية طرح ما قبله.
قال القرافي: وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر، هذه الخمسة وسبعة أخرى، وهي: الحال، وظرف الزمان، وظرف المكان، والمجرور مع الجار، والتمييز، والمفعول معه، والمفعول لأجله، فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه.
ومتى اتصل بما يستقل بنفسه عمومًا كان أو غيره صار غير مستقل بنفسه.
__________
* في "أ": تابع.

(1/359)


المسألة السادسة: حكم الاستثناء من الجنس
لا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس، كقام القوم إلا زيدًا، وهو المتصل، ولا تخصيص إلا به.
وأما المنقطع: فلا يخصص به نحو: جاءني القوم إلا حمارًا، فالمتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني "والمنقطع ما كان اللفظ الأول منه لا يتناول الثاني"*، وفي معنى هذا ما قيل: إن المتصل ما كان الثاني جزءًا من الأول، والمنقطع ما لا يكون الثاني جزءًا من الأول.
قال ابن السراج1: ولا بد في المنقطع من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى منه.
قال ابن مالك2: لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول، كقولك: قام القوم إلا حمارًا،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو أبو بكر السراج، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "303".
2 هو محمد بن عبد الله، بن مالك، الطائي، نزيل دمشق، أبو عبد الله، جمال الدين، الولود سنة ستمائة هـ، كان إمامًا في القراءات واللغة والنحو. وغير ذلك، توفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "تسهيل الفوائد في النحو وسبك المنظوم وفك المختوم".ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 339"، معجم المؤلفين "10/ 234"، كشف الظنون "1/ 82".

(1/359)


فإنه لما ذكر القوم تبادر الذهن إلى أتباعهم المألوفة، فذكر الحمار في الاستثناء لذلك، هو فمستثنى تقديرًا.
قال أبو بكر الصيرفي: يجوز الاستثناء من غير الجنس، ولكن بشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما، وإلا لم يجز كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس1
فاليعافير قد تؤانس، فكأنه قال: ليس بها من يؤانس به إلا هذا النوع.
وقد اختلف في الاستثناء المنقطع، هل وقع في اللغة أم لا، فقال الزركشي: من أهل اللغة من أنكره، وأوله تأويلًا رده به إلى الجنس، وحينئذ فلا خلاف في المعنى.
وقال العضد في شرحه لـ"مختصر المنتهى": لا نعرف خلافًا في صحته لغة.
واختلفوا أيضًا: هل وقع في القرآن أم لا، فأنكر بعضهم وقوعه فيه.
وقال ابن عطية2: لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي.
واختلفوا أيضًا: هل هو حقيقة أم مجاز على مذاهب:
المذهب الأول:
أنه حقيقة واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، ونقله ابن الخباز3 عن ابن جني.
قال الإمام الرازي: وهو ظاهر كلام النحويين، وعلى هذا فإطلاق لفظ الاستثناء على المستثنى "المتصل"* المنقطع هو بالاشتراك اللفظي.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو من بحر الرجز، وهو لجران العود واسمه عامر بن الحارث، شاعر جاهلي أدرك الإسلام. ا. هـ. شرح المفصل "2/ 80". وديوان جران العود "53" وأوضح المسالك "2/ 230".
2 هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، أبو محمد الغرناطي، مفسر، فقيه، عارف بالأحكام والحديث، له "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" وغيره، توفي سنة اثنين وأربعين وخمسمائة هـ: انظر ترجمته ومراجعها في الأعلام "3/ 282".
3 هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي، الموصلي، الضرير، المعروف بابن الخباز، شمس الدين، عالم في النحو، واللغة، والفقه، والعرض، والفرائض، توفي سنة تسع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح ميزان العربية" و"شرح اللمع" لابن جني. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 202"، كشف الظنون "1/ 155" معجم المؤلفين "1/ 200".

(1/360)


المذهب الثاني:
أنه مجاز، وبه قال الجمهور، قالوا لأنه ليس فيه معنى الاستثناء، وليس في اللغة ما يدل على تسميته بذلك.
المذهب الثالث:
أنه لا يسمى استثناء، لا حقيقة ولا مجازا، حكاه القاضي في "التقريب" والماوردي، وقال الخلاف لفظي.
قال الزركشي: بل هو معنوي، فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به، وإلا فلا.
ثم بعد الاختلاف في كونه حقيقة أو مجازا، اختلفوا في حده ولا يتعلق بذلك كبير فائدة، فقد عرفت أنه لا يخصص به، وبحثنا إنما هو في التخصيص، ولا يخصص إلا بالمتصل فلنقتصر على الكلام المتعلق به.

(1/361)


المسألة السابعة: إقامة الحجة على من أنكر الاستثناء
قد قال قائل: إن الاستثناء في لغة العرب متعذر لأنه إذا قيل: قام القوم إلا زيدًا فلا يخلو إما أن يكون داخلًا في العموم، أو غير داخل قال: والقسمان باطلان:
أما الأول: فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة، وإلا لزام توارد الإثبات والنفي على محل واحد، وهو محال.
وأما الثاني: فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه.
وأجاب الجمهور عن هذا بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد، لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج، أما إذا كان كذلك فلا توارد، فإن المراد بقول القائل: جاءني عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة، وإلا ثلاثة قرينة إرادة السبعة من العشرة، إرادة الجزء باسم الكل، كما في سائر المخصصات للعموم.
ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج، والعشرة نص في مدلولها، والنص لا يتطرق إليه تخصيص، وإنما التخصيص في الظاهر.
قال الزركشي: وما قاله من الإجماع مردود، فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئًا فإذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، فإنك أخبرت بالقيام عن القوم، الذين ليس فيهم زيد وزيد، مسكوت عنه، لم يحكم عليه بالقيام ولا بنفيه.
قال بعض المحققين: وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره؛ لأن الله سبحانه قال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 1، فلو أراد الألف من لفظ الألف لم
__________
1 جزء من الآية "14" من سورة العنكبوت.

(1/361)


تخلف مراده عن إرادته فعلم أنه ما أراد، إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف.
وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني: بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة، بمنزلة سبعة من غير إخراج، وأنهما كاسمين وضعا لمسمى واحد أحدهما مفرد، والآخر مركب وجرى صاحب "المحصول" على هذا، واختاره إمام الحرمين واستنكر قول الجمهور، وقال إنه محال لا يعتقده لبيب.
قال ابن الحاجب: وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة؛ إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ، وضع لمعنى واحد، لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج.
وأجاب آخرون: بأن المستثنى منه مراد بتمامه، ثم أخرج المستثنى، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا، وإن كان قبله ذكرًا، فالمراد بقولك عشرة إلا ثلاثة: عشرة باعتبار الأفراد، ثم أخرجت ثلاثة، ثم أسند إلى الباقي تقديرًا، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج.
قال ابن الحاجب: وهو الصحيح، ورجحه الصفي الهندي، وجماعة من أهل الأصول.
والفرق بين هذا الجواب، والجواب الذي قبله، بأن الأفراد في غير هذا مرادة بكمالها، وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها، والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة لا للدلالة على عدم المراد.
وأيضًا الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة، أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص، وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص، وعلى الثالث محتملة. فقيل الأظهر أنها تخصيص، وقيل ليست بتخصيص.
قال "المازري"*: أصل هذه الخلاف في الاسثناء من العدد هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة أو لم تغيره، وإنما كشفت عن المراد بها، فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها، قال بالأول، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفى، ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه كما دل قوله: "لا تقتلوا الرهبان" على المراد بقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1.
قال: فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازًا، دل عليه قوله:
__________
* في "أ": الماوردي.
__________
1 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.

(1/362)


إلا ثلاثة، والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة، ثم حذفت منها ثلاثة، ثم حكمت بالسبعة، فكأنه قال: له علي الباقي من عشرة، أخرج منها ثلاثة، أو عشرة إلا ثلاثة له عندي، وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه، ثم أخرج الثلاثة، ثم حكم، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الكيس، ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي، وهي السبعة. انتهى.
والظاهر: ما ذهب إليه الجمهور لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام.
وعلى كل حال: فالمسألة قليلة الفائدة؛ لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب، تقررًا مقطوعًا به، لا يتيسر لمنكر أن ينكره، وتقرر أن ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف، وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه وثبت استعماله.
وما ذكرنا في المقام يكفي في ذلك، ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به، فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها.

(1/363)


المسألة الثامنة: شروط صحة الاستثناء
يشترط في صحة الاستثناء شروط.
الأول:
الاتصال بالمستثنى منه لفظًا: بأن يكون الكلام واحدًا غير منقطع، ويلحق به ما هو في حكم الاتصال، وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو نحوهما، مما لا يعد فاصلًا بين أجزاء الكلام، فإن انفصل لا على هذا الوجه كان لغوًا ولم يثبت حكمه.
قال في "المحصول": الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو أقيم مقامه.
والدليل على هذا التعريف: أن الذي يخرج بعض الجملة عنها، إما أن يكون معنويًّا، كدلالة العقل، والقياس، وهذا خارج عن هذا التعريف. وإما أن يكون لفظيًّا، وهو إما أن يكون منفصلًا، فيكون مستقلًّا بالدلالة، وإلا كان لغوًا، وهذا أيضًا خارج عن الحد، أو متصلًا، وهو إما للتقييد بالصفة أو الشرط أو الغاية، أو الاستثناء.
أما التقييد بالصفة، فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة، لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار، ولفظ الطوال لا يتناول القصار، بخلاف قولنا أكرم بني تميم إلا زيدًا، فإن الخارج وهو زيد تتناوله صيغة الاستثناء، وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط. وأما التقييد بالغاية، فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِق} 1 بخلاف
__________
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.

(1/363)


الاستثناء، فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه. انتهى.
وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم.
وروي عن ابن عباس: أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمان، ثم اختلف عنه فقيل: إلى شهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: أبدًا.
وقد رد بعض أهل العلم وقالوا: لم يصح عن ابن عباس ومنهم إمام الحرمين والغزالي، لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق لإمكان تراخي الاستثناء.
وقال القرافي: المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة، كمن حلف وقال: إن شاء الله، وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها.
قال: ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} 1
قال: المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد، ذلك، ولم يخصص. انتهى.
ومن قال: بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم يعلم بأنها ثابتة في "مستدرك الحاكم"2 وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: "إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة"3.
وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق كما ذكره أبو موسى المديني4 وغيره.
وقال سعيد بن منصور5:...حدثنا
__________
1 جزء من الآيتين "23-24" من سورة الكهف.
2 واسمه: "المستدرك على الصحيحين"، للإمام المعروف بالحاكم النيسابوري، تقدمت ترجمته في الصفحة "180" اعتنى فيه في عدد الحديث على ما في الصحيحين مما رأه على شرط الشيخين، أو على شرط واحد منهما، وما أداه اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1672".
3 أخرج الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس موقوفًا عليه بنحوه في الأيمان والنذور "4/ 303" والطبراني في المعجم الكبير "11069". والطبري في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} "9/ 229". والبيهقي في السنن في الإيمان باب الحالف يسكت بين يمينه واستثنائه "10/ 48".
4 هو محمد بن عمر بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، أبو موسى، الحافظ، الثقة، شيخ المحدثين، المولود سنة إحدى وخمسمائة هـ، قال الذهبي عنه: كان حافظ المشرق في زمانه، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة هـ، من آثاره: "كتاب الترغيب والترهيب، وتتمة الغرييين". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 152"، شذرات الذهب "4/ 273"، هدية العارفين "2/ 100".
5 هو ابن شعبة، أبو عثمان الخراساني، المروزي، المحدث، المفسر، سكن مكة وتوفي فيها سنة سبع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "كتاب السنن، وتفسير القرآن الكريم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 586"، شذرات الذهب "2/ 62"، معجم المؤلفين "4/ 232".

(1/364)


أبو معاوية1 قال: حدثنا الأعمش2 عن مجاهد3 عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء بعد سنة، ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات، فالرواية عن ابن عباس قد صحت، ولكن الصواب خلاف ما قاله.
ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَن حلف على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" 4 ولو كان الاستثناء جائزًا على التراخي لم يوجب التكفير على التعيين، ولقال: فليستثن أو يكفر.
وأيضًا: هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات لأن من وقع ذلك منه يمكن أن يقول من بعد: قد استثنيت فيبطل حكم ما وقع منه، وهو خلاف الإجماع.
وأيضًا يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب لجواز أن يرد على ذلك الاستثناء فيصرفه عن ظاهره.
وقد احتج لما قاله ابن عباس بما أخرجه أبو داود5 وغيره، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والله لأغزون قريشًا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله" 6 وليس في هذا ما تقوم به الحجة؛ لأن ذلك السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام
__________
1 هو محمد بن حازم، مولى بني سعد، أبو معاوية السعدي، الكوفي، الضرير، المولود سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وعمي وهو ابن أربع سنين، كان حافظًا، حجة، محدث الكوفة، توفي، سنة خمس وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 73"، تذكرة الحفاظ "1/ 294"، الجرح والتعديل "7/ 246".
2 هو سليمان بن مهران، الأسدي، أبو محمد، أصله من بلاد الري، منشأه ووفاته بالكوفة، تابعي جليل، كان عالمًا بالقرآن والحديث والفرائض، قال الذهبي عنه: رأسًا في العلم النافع والعمل الصالح. توفي سنة ثمانٍ وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 226"، تهذيب التهذيب "4/ 222"، الأعلام "3/ 135".
3 هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، شيخ القراء، والمفسرين، أخذ القرآن والتفسير والفقه عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، توفي سنة أربع ومائة هـ، وهو ساجد. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 125"، سير أعلام النبلاء "4/ 449"، تهذيب التهذيب "10/ 42".
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الأيمان، باب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها "1650" بلفظ: "من حلف على يمين فرأى..." الترمذي في النذور والإيمان، باب ما جاء في الكفارة قبل الحنث "1530". الإمام أحمد في المسند "2/ 361". البيهقي في السنن، كتاب الإيمان، باب الكفارة قبل الحنث "10/ 53". ابن حبان في صحيحه "4349".
5 هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة، مقدم الحفاظ، محدث البصرة، المولود سنة اثنتين ومائتين هـ، ألف عدة كتب أشهرها "السنن" الذي يعتبر أحد الكتب الستة. قال الصاغاني: فيه لين لأبي داود السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 203"، شذرات الذهب "2/ 167"، تذكرة الحفاظ "2/ 591".
6 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث ابن عباس "2675". ابن حبان في صحيحه "4343". والطبراني في الكبير "11742". وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "3286" والبيهقي في السنن، كتاب الأيمان "10/ 47-48". وقال ابن أبي حاتم، كما في العلل "1/ 440" الفقرة "1322": وأن المرسل أشبه بالصواب.

(1/365)


وأيضًا غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد سكوته وقتًا يسيرًا، ولا دليل على الزيادة على ذلك، وقول ابن عباس "هو ما عرفت من جوازه بعد سنة. قال ابن القيم في "مدرج السالكين"1: إن مراد ابن عباس"* أنه إذا قال شيئًا ولم يستثن، فله أن يستثني عند الذكر قال: وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه. انتهى.
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه.
وروي عن سعيد بن جبير أنه يجوز الاستثناء ولو بعد يوم أو أسبوع أو سنة.
وعن طاوس2: يجوز ما دام في المجلس. وعن عطاء3: يجوز له أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة.
وروي عن مجاهد أنه يجوز إلى سنتين.
واعلم: أن الاسثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت عليه الأدلة الصحيحة، منها حديث: "لأغزون قريشًا" المتقدم.
ومنها: ما ثبت في الصحيح من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: إلا الإذخر، فإن لقينهم وبيوتهم فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا الإذخر" 4.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، الإمام شمس الدين، أبو عبد الله الدمشقي، الحنبلي، المولود سنة إحدى وتسعين وستمائة هـ، فقيه، أصولي، مجتهد، مفسر، متكلم، مشارك في غير ذلك أيضًا لازم ابن تميمة، وسجن معه في قلعة دمشق، وتوفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره: "زاد المعاد، إغاثة اللهفان، الجواب الكافي، بدئع الفرائد"، وله "مدارج السالكين" شرح فيه منازل السائرين إلى الحق المبين، وهو كتاب في أحوال السلوك. ا. هـ. هدية العارفين "2/ 158" كشف الظنون "2/ 1828"، معجم المؤلفين "9/ 106".
2 هو طاوس بن كيسان، أبو عبد الرحمن الفارسي، ثم اليمني، الفقيه القدوة، الحافظ، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت، وعائشة وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم، توفي سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 38"، شذرات الذهب "1/ 133"، الجرح والتعديل "4/ 500".
3 هو عطاء بن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي، ولد أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه، حدث عن عائشة وأم سلمة وعثمان بن عفان وغيرهم، كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث، أدرك مائتين من الصحابة، توفي سنة خمس عشرة ومائة هـ، ا. هـ. تهذيب التهذيب "7/ 199" سير أعلام النبلاء "5/ 78".
4 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، في كتاب الحج باب تحريم مكة، وتحريم صيدها "1353"، والنسائي في كتاب مناسك الحج باب حرمة مكة "2874" 5/ 203". والبخاري مرسلًا في المغازي باب رقم "53" الحديث "4313" وأخرجه أيضًا متصلًا من حديث ابن عباس برقم "1834" وأبو داود: في كتاب المناسك باب تحريم مكة "2018". وابن الجارود في المنتقى "509". وابن جبان في صحيحه برقم "3720".

(1/366)


ومنها ما ثبت في الصحيح -أيضًا في حديث سليمان- عليه السلام لما قال: "لأطوفن الليلة"1.
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية: "إلا سهيل بن بيضاء" 2.
الشرط الثاني:
أن يكون الاستثناء غير مستغرق، فإن كان مستغرقًا فهو باطل بالإجماع، كما حكاه جماعة من المحققين، منهم الرازي في "المحصول" فقال: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق، ومنهم ابن الحاجب فقال في "مختصر المنتهى": الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق.
واتفقوا أيضًا على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل مما بقي من المستثنى منه "أي: يكون قليلًا من كثير"* واختلفوا "فيما إذا كان المستثنى أكثر مما بقي من المستثى منه"** فمنع ذلك قوم من النحاة: منهم الزجاج، وقال لم ترد به اللغة، ولأن الشيء إذا نقص يسيرًا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء، فلو استثنى أكثر لزال الاسم.
قال ابن جني: لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان عبثًا من القول.
وقال ابن قتيبة في كتاب "المسائل"3: إن ذلك، يعني استثناء الأكثر لا يجوز في اللغة،
__________ __________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": اختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه.
__________ __________
1 أخرجه مسلم في الأيمان، باب الاستثناء في اليمين وغيرها "1654". البخاري في النكاح، باب قول: الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي "55242". والنسائي في الأيمان والنذور، باب إذا حلف فقال له رجل: إن شاء الله هل له استثناء "3840" 7/ 26. والبيهقي في السنن، كتاب الأيمان، باب من قال وايم الله "10/ 44". وأحمد في مسنده "2/ 229". وابن حبان في صحيحه "4337".
2 أخرجه الترمذي: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الأنفال "3084". في الحديث عن أسارى بدر وهو الصواب لأن استثناء سهيل بن بيضاء حصل منهم ولم يكن ذلك في صلح الحديبية ولعله سبق قلم من المؤلف. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "3632" "1/ 383".
3 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري، أبو محمد، من أئمة الأدب ومن المصنفين الذين بعد صيتهم ولد ببغداد وسكن الكوفة وتوفي ببغداد سنة ست ومائتين هـ، من آثاره: "المعارف، عيون الأخبار، المشبه في الحديث والقرآن، والمسائل والأجوبة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 296". شذرات الذهب "2/ 169"، الأعلام "4/ 137".

(1/367)


لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير، أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركته بالاستثناء، ثم ذكر مثل كلام الزجاج.
قال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب البصريين من النحاة، وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم، وأجازه أكثر الأصوليين: نحو: عندي له عشرة إلا تسعة، فيلزمه درهم، وهو قول السيرافي وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} 1 والمتبعون له هم الأكثر بدليل قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 2 وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} 3.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الرب عز وجل: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم" 4 وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك.
وقد أجيب عن هذا الدليل: بأنه استثناء منقطع ولا وجه لذلك.
ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري، وابن درستويه5 من النحاة، وهو أحد قولي الشافعي.
والحق: أنه لا وجه للمنع، لا من جهة اللغة، ولا من جهة الشرع، ولا من جهة العقل.
وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى، وإليه ذهب الجمهور، وهو واقع في اللغة، وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} 6.
وقد نقل القاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والمازري، والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ولا وجه لذلك.
__________
1 جزء من الآية "42" من سورة الحجر.
2 جزء من الآية "13" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "103" من سورة يوسف.
4 حديث قدسي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ولم أهتد إلى رواية بكر مطولًا في كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم "2577". وابن ماجه: في كتاب الزهد باب ذكر التوبة "4257" والترمذي في صفة القيامة بباب رقمه "48"، رقم الحديث "2495". والحاكم في المستدرك كتاب، التوبة والإنابة، "4/ 241". وعبد الرزاق في المصنف "20272". وابن حبان في صحيحه "619".
5 هو عبد الله بن جعفر درستويه، أبو محمد الفارسي، النحوي، تلميذ المبرد، المولود سن ثمانٍ وخمسين ومائتين هـ، برع في العربية، ورزق الإسناد العالي، وكان ثقة، توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "كتاب الإرشاد في النحو، شرح الفصيح وغريب الحديث". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 531". شذرات الذهب "2/ 375".
6 الآيتان "2-3" من سورة المزمل.

(1/368)


ومن المانعين استثناء المساوي ابن قتيبة فإنه قال: القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه.
الشرط الثالث:
أن يلي الكلام بلا عاطف، فأما إذا وليه حرف العطف، نحو: عندي له عشرة دراهم، وإلا درهمًا، أو فإلا درهما كان لغوا، قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: بالاتفاق.
الشرط الرابع:
أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه كما لو أشار إلى عشرة دراهم، فقال: هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا، فقال: إمام الحرمين في "النهاية": إن ذلك لا يصح لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها، فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار. انتهى.
والحق جوازه، ولا مانع منه ومجرد الإقرار في ابتداء الكلام موقوف على انتهائه، من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه.

(1/369)


المسألة التاسعة: الاستثناء من النفي والخلاف فيه
اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي.
وأما الاستثناء من النفي فذهب الجمهور إلى أنه إثبات، وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة وهي عدم الحكم، قالوا: فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه، لا بالنفي ولا بالإثبات.
واختلف كلام فخر الدين الرازي، فوافق الجمهور في "المحصول" واختار مذهب الحنفية في "تفسيره".
والحق ما ذهب إليه الجمهور، ودعوى الواسطة مردودة، على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازمًا في الاستثناء من الإثبات، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله.
وأيضًا نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ويرد عليه، ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحًا لم تكن كلمة التوحيد توحيدًا، فإن قولنا: لا إله إلا الله، هو استثناء من نفي؛ وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 1.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه، في كتاب الصلاة باب فضل استقبال القبلة "392". وأبو داود في كتاب الجهاد باب على ما يقاتل المشركون "2641". والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت بقتالهم حتى يقولوا..." "2608". وقال: حسن صحيح، والبيهقي في السنن كتاب الصلاة، باب في فرض القبلة وفضل استقبالها "2/ 3". والنسائي في تحريم الدم "3976" "7/ 75"، وابن حبان في صحيحه "5895".

(1/369)


وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك: ثنيت الشيء إذا صرفته عن وجهه: فإذا قلت: لا عالم إلا زيد فههنا أمران:
أحدهما:
هذا الحكم.
والثاني:
نفس العلم.
فقولك: إلا زيد، يحتمل أن يكون عائدًا إلى الأول، وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت؛ إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم، فيبقى المستثنى مسكوتًا عنه غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الثاني، وحينئذ يلزم تحقق الثبوت؛ لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة؛ لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى؛ إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية لا على الأعيان الخارجية، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى.
وحكى عنهم الرازي في "المحصول" أنهم احتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نكاح إلا بولي" 1 و"لا صلاة إلا بطهور" 2 ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي، ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء، بل يدل على عدم صحتها عند عدم هذين الشرطين.
هكذا حكى عنهم في "المحصول" ولم يتعرض للرد عليهم.
ويجاب عن الأول: بمنع ما قالوه، ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي، لكان مستفادًا من الوضع الشرعي.
وعن الثاني: بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة، وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي، فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها، فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله؛ لأنا لم نقل لا نكاح إلا الولي، ولا صلاة إلا الطهور، بل قلنا: "إلا بولي" و"إلا بطهور" فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه فيكون التقدير: لا نكاح يثبت بوجه إلا
__________
1 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم "4076" والبيهقي في سننه في كتاب النكاح، لا نكاح إلا بشاهدين عدلين "7/ 125" وابن عدي في الكامل "6/ 358".
وورد أيضًا من حديث عدة من الصحابة منهم ابن عباس أخرجه ابن ماجه من طريقه من كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "1880"، والدارقطني 3/ 221. والإمام أحمد في مسنده 1/ 250. وابن حبان أيضًا من حديث أبي موسى الأشعري برقم "4077".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ $"لا تقبل صلاة بغير طهور"، كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "224". والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1". وابن ماجه "8". وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور "271". وابن الجارود في المنتقي "65".

(1/370)


مقترنًا بولي، أو نحو ذلك من التقديرات.
قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": وكل هذا عندي تشغيب. ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة، يعني كلمة الشهادة، وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر، ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه؛ لأنه المقصود الأعظم.

(1/371)


المسألة العاشرة: اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة، هل يعود إلى الجميع أم لا
اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة، هل يعود إلى الجميع، أو إلى الأخيرة كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} 1.
فذهب الشافعي وأصحابه، إلى أنه يعود إلى جميعها، ما لم يخصه دليل.
وقد نسب ابن القصار2 هذا المذهب إلى مالك.
قال الزركشي: وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك.
ونسبه صاحب "المصادر" إلى القاضي عبد الجبار، وحكاه القاضي أبو بكر عن الحنابلة قال: ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال: في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُؤَمَّنَّ الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه" 3 قال: أرجو أن يكون الاستثناء على كله.
__________
1 الآيات "68-69-70" من سورة الفرقان.
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، المعروف بابن القصار، أبو الحسن، شيخ المالكية، فقيه أصولي، ولي قضاء بغداد، كان ثقة، قليل الحديث، توفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "كتاب في مسائل الخلاف وعيون الأدلة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 107"، شذرات الذهب "3/ 149"، معجم المؤلفين "7/ 12".
3 أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه، في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة "673". وأبو داود: في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "582". والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في من أحق بالإمامة "235": وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في كتاب إقامة الصلاة، باب من أحق بالإمامة "980" والنسائي في كتاب الإمامة، باب من أحق بالإمامة "779" "2/ 72" والحميدي في مسنده "457".

(1/371)


وذهب أبو حنيفة، وجمهور أصحابه "أنه يعود"* إلى الجملة الأخيرة، إلا أن يقوم دليل على التعميم، واختاره الفخر الرازي.
وقال الأصفهاني في "القواعد"1: إنه الأشبه، ونقله صاحب "المعتمد" عن الظاهرية.
وحكى عن أبي عبد الله البصري، وأبي الحسن الكرخي، وإليه ذهب أبو علي الفارسي، كما حكاه عنه إلكيا الطبري، وابن برهان.
وذهب جماعة إلى الوقف، حكاه صاحب "المحصول" عن القاضي أبي بكر، والمرتضى من الشيعة.
قال سليم الرازي في "التقريب": وهو مذهب الأشعرية، واختاره إمام الحرمين الجويني، والغزالي، وفخر الدين الرازي.
قال في "المحصول" بعد حكاية الوقف عن أبي بكر، والمرتضى: إلا أن المرتضى توقف للاشتراك، والقاضي لم يقطع بذلك.
ومنهم من فصل القول فيه، وذكروا وجوها.
وأدخلها في التحقيق: ما قيل إن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد، أو من نوعين، فإن كان الأول، فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى، أو لا تكون كذلك، فإن كان الثاني، فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم، أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم، أو مخنلفتي الاسم متفقتي الحكم.
فالأول: كقولك: أطعم ربيعة، واخلع على مضر، إلى الطوال، والأظهر ههنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها "إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها"** إلا وقد تم غرضه من الأولى، فلو كان الاستثناء راجعًا إلى جميع الجمل، لم يكن قد تم غرضه ومقصوده من الجملة الأول.
والثاني: كقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال.
والثالث: كقولنا أطعم ربيعة، وأطعم مضر، إلا الطوال، والحكم أيضًا ههنا كما ذكرنا؛ لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة، فالظاهر أنه لم ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية.
__________
* في "أ": عوده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "القواعد في الجدل والمنطق والأصلين" للشيخ شمس الدين الأصفهاني وتقدمت ترجمته في الصفحة: "46" وهو من أحسن تصانيفه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1359".

(1/372)


وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى، فإما أن يكون حكم الأولى مضمرًا في الثانية كقوله: أكرم ربيعة ومضر، إلا الطوال، أو اسم الأولى مضمرًا في الثانية، كقوله: أكرم ربيعة واخلع عليهم، إلا الطوال فالاستثناء راجع إلى الجملتين؛ لأن الثانية لا "تستقل إلا"* مع الأولى، فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما.
وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام، فإما أن تكون القصة واحدة أو مختلفة، فإن كانت مختلفة فهو كقولنا: أكرم ربيعة، والعلماء هم المتكلمون، إلا أهل البلدة الفلانية، فالاستثناء راجع إلى ما يليه، لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها.
وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الآية1، فالقصة واحدة، وأنواع الكلام مختلفة، فالجملة الأولى أمر، والثانية نهي، والثالثة خبر، فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة؛ لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها، "والإنصاف أن هذا التقسيم"** حق، لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف، لا بمعنى "دعوى"*** الاشتراك، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا، وهذا هو اختيار القاضي. انتهى.
قال ابن فارس في كتاب "فقه العربية": إن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة2، وإن دل على منعه امتنع كآية القذف3، انتهى.
ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع، فإنه لا خلاف أنه إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه، وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين.
واستدل أهل المذهب الأول: بأن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة، قالوا بدليل الشرط، والاستثناء، بالمشيئة، فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا.
وأجيب: بأن ذلك مسلم في المفردات، وأما في الجمل فممنوع.
__________
* في "أ": لا تستقل كلامًا إلا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانه: تكرار لقوله: وأما إذا كانت القصة واحدة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وتمامها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور "4-5".
2 وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} "33" من سورة المائدة.
3 أي الآيتين "4-5" من سورة النور. انظر الحاشية "1".

(1/373)


وأجيب أيضًا عن القياس على الشرط بالفرق بينهما، وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر.
ويجاب عن الأول: بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات، ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها.
وعن الثاني: بأنه يمنع مثل هذا الفرق. لأن الاستثناء يفيد مفاد الشرط في المعنى.
واستدل أهل المذهب الثاني: بأن رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور، والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ، ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جميعها، وإن منع مانع فله حكمه، ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار، وجعلوه مذهبًا رابعًا من أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة، فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع.
وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهبًا خامسًا، وهو أنه إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله: أكرم بني تميم، والنحاة البصريين إلا البغاددة فإنه يختص بالأخيرة لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع.
وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهبًا سادسًا، من كون الجملة الثانية إن كانت إعراضًا وإضرابًا عن الأولى اختص بالأخيرة لأن الإعراض والإضراب مانع من الرجوع إلى الجميع، وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وساقوا من أدلة المذاهب ما لا طائل تحته فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة قد قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به، وبعضها يستلزم القياس في اللغة وهو ممنوع.

(1/374)


المسألة الحادية عشرة: حكم الوصف الوارد بعد المستثنى
إذا وقع بعد المستثنى والمستثنى منه جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما، فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه، وعند الحنفية إلى المستثنى فإذا قال: عندي له ألف درهم إلا مائة، قضيت ذلك فعند الشافعية أنه يكون هذا الوصف راجعًا إلى المستثنى منه فيكون مقرًّا بتسعمائة مدعيًا لقضائها فإن برهن على دعواه فذلك وإلا فعليه ما أقر به، وعند الحنفية يرجع الوصف إلى المستثنى فيكون مقرًّا بألف مدعيًا لقضاء مائة منه.
وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منها، نحو: أكرم بني هاشم، وأكرم بني المطلب وجالسهم.
أما إذا كان الضمير أو الوصف لا يصلح إلا لبعض الجمل دون بعض، كان للتي يصلح لها دون غيرها: نحو: أكرم القوم، وأكرم زيدًا العالم، وأكرم القوم، وأكرم زيدًا وعظمه.

(1/374)


المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط
مدخل
...
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط
وحقيقته في اللغة العلامة، كذا قيل.
واعترض عليه: بما في "الصحاح"1 وغيره من كتب اللغة، بأن الذي بمعنى العلامة هو الشرط بالتحريك، وجمعه أشراط، ومنه أشراط الساعة، أي: علاماتها.
وأما الشرط، بالسكون: فجمعه شروط، هذا جمع الكثرة فيه، ويقال في جمع القلة منه أشرط كفلوس وأفلس.
وأما حقيقته في الاصطلاح: فقال الغزالي: الشرط ما لا يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عنده.
واعترض عليه: بأنه يستلزم الدور؛ لأنه عرف الشرط بالمشروط، وهو مشتق منه فيتوقف "تعقله"* على تعلقه، وبأنه غير مطرد لأن جزء السبب كذلك، فإنه لا يوجد المسبب بدونه، ولا يلزم أن يوجد عنده وليس بشرط.
وأجيب عن الأول: بأن ذلك بمثابة قولنا: شرط الشيء ما لا يوجد ذلك الشيء بدونه، وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك.
وعن الثاني: بأن جزء السبب قد يوجب المسبب بدونه إذا وجد سبب آخر.
وقال في "المحصول": إن الشرط هو الذي يتوقف عليه المؤثر في تأثيره، لا في ذاته.
وقال: ولا ترد عليه العلة، لأنها نفس المؤثر، والشيء لا يتوقف على نفسه، ولا جزء العلة،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "الصحاح في اللغة" لأبي نصر الجوهري، وتقدمت ترجمته في الصفحة "301"، قال في مقدمته: قد أودعت فيه ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى مراتبها على ترتيب لم أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، بعد تحصيلها رواية ودراية. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1071".

(1/375)


ولا شرط العلة؛ لأن العلة تتوقف عليه في ذاتها. انتهى.
واعترض عليه: بأنه غير منعكس؛ لأن الحياة شرط في العلم القديم، ولا يتصور ههنا تأثير ومؤثر "إذا"* إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث. وقيل: الشرط ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر، لا على جهة السببية، فيخرج السبب وجزؤه.
ورد بأن الفرق بين السبب والشرط يتوقف على فهم المعنى المميز بينهما، ففيه تعريف الشيء بمثله في الخفاء.
وقيل: هو ما استلزم عدمه عدم أمر مغاير، وهو كالذي قبله.
وأحسن ما قيل في حده: أنه ما يتوقف عليه الوجود، ولا دخل له في التأثير والإفضاء، فيخرج جزء السبب؛ لأنه وإن توقف عليه السبب، لكن له دخل في الإفضاء إليه ويخرج سبب الشيء بالنسبة إليه بالطريق الأولى، وتخرج العلة لأنها وإن توقف عليها الوجود فهي مع ذلك مؤثرة.
__________
* في "ب": إذا.

(1/376)


أقسام الشرط:
والشرط ينقسم إلى أربعة أقسام: عقلي، وشرعي، ولغوي، وعادي.
فالعقلي: كالحياة للعلم، فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد إلا بحياة، فقد توقف وجوده على وجودها عقلًا.
والشرعي: كالطهارة للصلاة، فإن الشرع هو الحاكم بأن الصلاة لا توجد إلا بطهارة، فقط توقف وجود الصلاة على وجود الطهارة شرعًا.
واللغوي: كالتعليقات، نحو إن قمت قمت، ونحو أنت طالق إن دخلت الدار، فإن أهل اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو الشرط، والمعلق عليه هو الجزاء، ويستعمل الشرط اللغوي في السبب الجعلي، كما يقال: إن دخلت الدار فأنت طالق، والمراد: أن الدخول سبب الطلاق، يستلزم وجوده وجوده، لا مجرد كون عدمه مستلزمًا لعدمه، من غير سببيته، وبهذا صرح الغزالي، والقرافي، وابن الحاجب، وشراح "كتابه"1.
__________
1 هو "مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" وتقدم الكلام عليه في الصفحة "326" وممن شرحه سعد الدين التفتازاني، وأكمل الدين البابرتي.

(1/376)


ويدل على هذا قول النحاة في الشرط والجزاء: بأن الأول سبب، والثاني مسبب.
والشرط العادي: كالسلم لصعود السطح، فإن العادة قاضية بأن لا يوجد الصعود إلا بوجود السلم أو نحوه، مما يقوم مقامه.
ثم الشرط قد يتحد، وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد شرطًا "على الجمع، فيتوقف المشروط على حصولها جميعًا، وقد يكون لكل واحد شرطًا"* مستقلًّا فيحصل المشروط بحصول أي واحد منها، فإذا قال: إن دخلت الدار وأكلت وشربت فأنت طالق، لم تطلق إلا بالدخول والأكل، والشرب، وإن قال: إن دخلت الدار أو أكلت أو شربت فأنت طالق، طلقت بواحدة منها.
واعلم: أن الشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال، وفي تعقبه لجمل متعددة.
قال الرازي في "المحصول" اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل، هل يرجع حكمه إليها بالكلية؟
فاتفق الإمامان: أبو حنيفة، والشافعي، على رجوعه إلى الكل.
وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه، حتى إنه إذا كان متأخرًا اختص بالجملة الأخيرة، وإن كان متقدمًا اختص بالجملة الأولى.
والمختار التوقف كما تقدم1 في مسألة الاستثناء.
ثم قال: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، ودليله ما مر في الاستثناء، واتفقوا على أنه "يحسن"** التقييد بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي، وإن اختلفوا فيه على الاستثناء. انتهى.
فقد حكي الاتفاق في هاتين الصورتين كما نراه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "1".
** في "أ": يجوز.
__________
1 انظر صفحة: "372".

(1/377)


المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة
وهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعدد، والمراد بالصفة هنا هي المعنوية على ما حققه علماء البيان، لا مجرد النعت المذكور في علم النحو.

(1/377)


قال إمام الحرمين الجويني في "النهاية": الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص، فإذا قلت: رجل شاع هذا في الرجال، فإذا قلت: طويل اقتضى ذلك تخصيصًا، فلا تزال تزيد وصفًا، فيزداد الموصوف اختصاصًا، وكلما كثر الوصف قل الموصوف.
قال المازري: ولا خلاف في اتصال التوابع، وهي النعت والتوكيد، والعطف والبدل، وإنما الخلاف في الاستثناء.
وقال الرازي في "المحصول": الصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد، كقولنا: رقبة مؤمنة، ولا شك في عودها إليها أو عقيب شيئين، وههنا فإما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر، كقولك: أكرم العرب والعجم المؤمنين، فههنا الصفة تكون عائدة إليهما، وإما أن لا يكون كذلك، كقولك: أكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد، فههنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة، وإن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط. انتهى.
قال الصفي الهندي: إن كانت الصفات كثيرة، وذكرت على "الجمع"* عقب جملة تقيدت بها، أو على البدل، فلواحدة غير معينة منها، وإن ذكرت "عقب"** جمل، ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف. انتهى.
وأما إذا توسطت الصفة بين جمل، ففي عودها إلى الأخيرة خلاف، كذا قيل، ولا وجه للخلاف في ذلك، فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما بعدها لعدم جواز تقدم الصفة على الموصوف.
__________
* في "أ": الجميع.
** في "أ": عقيب.

(1/378)


المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية
وهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها، وانتفائه بعدها ولها لفظان، وهما: حتى وإلى كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1 وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 2.
قال الرازي في "المحصول": التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف؛ لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية مقطعا، فلم تكن الغاية غاية، قال:
__________
1 جزء من الآية "222" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.

(1/378)


ويجوز اجتماع الغايتين، كما لو قيل: لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن، فههنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة، عبر عن الأولى بالغاية مجازا لقربها منها واتصالها بها.
قال الزركشي: ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين؛ لأن التحريم الناشئ عن دم الحيض غاية انقطاع الدم، فإذا انقطع حدث تحريم آخر، ناشئ عن عدم الغسل، والغاية الثانية غاية هذا التحريم.
وقد أطلق الأصوليون كون الغاية من المخصصات، ولم يقيدوا ذلك، وقيد ذلك بعض المتأخرين بالغاية التي تقدمها لفظ يشملها، لو لم يؤت بها كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} 1 فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين، أعطوا الجزية أو لم يعطوها.
واختلفوا في الغاية نفسها، هل تدخل في المغيا، كقولك: أكلت حتى قمت، هل يكون القيام محلا للأكل أم لا، وفي ذلك مذاهب:
الأول:
أنها تدخل فيما قبلها.
والثاني:
لا تدخل، وبه قال الجمهور كما حكاه في "البرهان".
والثالث:
إن كانت من جنسه دخلت وإلا فلا، حكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد.
والرابع:
إن تميزت عما قبلها بالحس، نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} 2 لم تدخل، وإن لم تتميز بالحس مثل {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 3 دخلت الغاية وهي المرافق، ورجح هذا الفخر الرازي.
والخامس:
إن اقترنت بـ: من لم يدخل نحو: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة لم تدخل، وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديدًا وأن تكون بمعنى مع، وحكاه إمام الحرمين في "البرهان" عن سيبويه وأنكره عليه ابن خروف، وقال لم يذكر سيبويه "منها حرفًا"* منهما ولا هو مذهبه.
والسادس:
الوقف، واختاره الآمدي.
وهذه المذاهب في غاية الانتهاء.
وأما في غاية الابتداء ففيها مذهبان: الدخول وعدمه.
__________
* في "أ": حرفًا منهما.
__________
1 جزء من الآية "29" من سورة التوبة.
2 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.

(1/379)


وجعل الأصفهاني الخلاف في الغايتين، غاية الابتداء وغاية الانتهاء على السواء، فقال: وفيها مذاهب تدخلان، ولا تدخلان، وتدخل غاية الابتداء دون الانتهاء، وتدخلان إن اتحد الجنس لا أن اختلف وتدخلان إن لم يتميز ما بعدهما عما قبلهما بالحس، وإلا لم تدخلا فيما قبلهما، "وفيما قاله"* نظر، بل الظاهر أن الأقوال المتقدمة هي في غاية الانتهاء، لا في غاية الابتداء.
وأظهر الأقوال وأوضحها عدم الدخول إلا بدليل، من غير فرق بين غاية الابتداء والانتهاء.
والكلام في الغاية الواقعة بعد متعدد كما تقدم1 في الاستثناء.
__________
* في "أ": وفيه: نظر.
__________
1 انظر صفحة: "363".

(1/380)


المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل
أعني: بدل البعض من الكل، نحو: أكلت الرغيف ثلثه، وأكرم القوم علماءهم، ومنه قوله سبحانه: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} 1؛ وقد جعله من المخصصات جماعة من أهل الأصول منهم ابن الحاجب وشراح "كتابه".
قال السبكي: ولم يذكره الأكثرون؛ لأن المبدل منه في نية الطرح، فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه، فلا تخصيص به.
وفيه نظر؛ لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري، أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر، بل هو للتمهيد والتوطئة، وليفاد بمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون "إلا"* في الإفراد.
قال السيرافي: زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول، وهو المبدل منه، ولا يريدون إلغاءه، وإنما مرادهم: أن البدل قائم بنفسه، وليس تبيينه الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت، وهو معه كالشيء الواحد. انتهى.
ولا يشترط فيه ما يشترط في الاستثناء، من بقاء الأكثر عند من اعتبر ذلك، بل يجوز إخراج الأكثر وفاقًا نحو: أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه، أو ثلثيه.
ويلحق ببدل البعض بدل الاشتمال؛ لأن كل واحد منهما فيه بيان وتخصيص.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "71" من سورة المائدة

...................................
المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال
وهو في المعنى كالصفة؛ لأن قولك: أكرم من جاءك راكبًا، يفيد تخصيص الإكرام بمن ثبتت له صفة الركوب، وإذا جاء بعد جمل فإنه يكون للجميع قال البيضاوي بالاتفاق، نحو: أكرم بني تميم، وأعط بني هاشم نازلين بك.
وفي دعوى الاتفاق نظر، فإنه ذكر الفخر الرازي في "المحصول" أنه يختص بالجملة الأخيرة، على قول أبي حنيفة، أو بالكل، على قول الشافعي.

(1/381)


المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظرف والجار والمجرور
نحو: أكرم زيدًا اليوم، أو في مكان كذا، وإذا تعقب أحدهما جملًا، كان عائدًا إلى الجميع.
وقد ادعى البيضاوي الاتفاق على ذلك، كما ادعاه في الحال. ويعترض عليه بما في "المحصول" فإنه قال في الظرف والجار والمجرور: إنهما يختصان بالجملة الأخيرة، على قول أبي حنيفة، أو بالكل على قول الشافعي، كما قال في الحال، صرح بذلك في مسألة الاستثناء المذكور عقب جمل.
ويؤيد ما قاله البيضاوي ما قاله أبو البركات ابن تيمية1، فإنه قال: فأما الجار والمجرور، فإنه ينبغي أن يتعلق بالجميع قولًا واحدًا.
وأما لو توسط، فقد ذكر ابن الحاجب في مسألة، لا يقتل مسلم بكافر، أن قولنا: ضربت زيدًا يوم الجمعة، وعَمرًا يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني.
__________
1 هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، الحراني، ابن تيمية، أبو البركات، مجد الدين، شيخ الحنابلة، فقيه العصر، المولود سنة تسعين وخمسمائة هـ، كان بارعًا في الحديث، وله اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير، توفي سنة اثنتي وخمسين وستمائة هـ، من آثاره: "الأحكام الكبرى، المحرر في الفقه". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 257"، سير أعلام النبلاء "23/ 291".

(1/381)


المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز
التخصيص بالتمييز نحو: عندي له رطل ذهبًا، وعندي له عشرون درهمًا، فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس، أو الأنواع، وإذا جاء بعد جمل نحو: عندي له ملء هذا أو عندي له رطل فإنه يعود إلى الجميع، وظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق.
-----------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق