الاثنين، 7 مايو 2018

13 من الصفحة 172 الي ص 185 .والتالي ص186. ان شاء الله



انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مَثَلَ به بعيرُه على رأس أبي قُبيس (1)، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت (2) فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دارٌ إلا دخلتها منها فِلقة قال العباس: والله إن هذه لرؤيا! وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة -وكان له صديقًا- فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى حدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغْتَ من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغتُ أقبلت حتى جلستُ معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدتُ ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا. قال: ثم تفرقنا، فلما أمسيتُ لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم تكن عندك غَيرة لشيء مما
(1) جبل بمكة.
(2) ارفضَّت: أي تفتت.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173
* * *
سمعت! قال: قلت: قد والله فعلتُ، ما كان مني إليه كبير، وأيم الله لأتعرضنَّ له فإن عاد لأكفينَّكُنَّه.
قال: فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أُحبُّ أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فاقعُ به، وكان رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ، فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أَكُلُّ هذا فَرَقٌ مني أن أُشاتمه؟! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدَّع بعيره (1) وحوَّل رَحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (2) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمَّد في أصحابه، لا أرى أن تُدركوها الغوث الغوث.
قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعًا، قالوا: أيظن محمَّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟! كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان قد لأط (3) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يُجزئ عنه (4).
(1) جدَّع بعيره: قطع أنفه.
(2) اللطيمة: الإبل تحمل الطيب.
(3) لأط: أي اقتضاه.
(4) "سيرة ابن هشام" 2/ 135، 136، رواه ابن إسحاق بإسنادين أحدهما عن ابن عباس، ولكن فيه مبهم حيث قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس به.
والثاني بإسناد صحيح إلى عروة بن الزبير ولكنه مرسل، ويمكن أن يعتضدا ببعضهما.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174
* * *
وكان أمية بن خلف أيضًا أراد أنْ يتخلف عن الخروج، وله في ذلك قصة يحكيها سَعْدُ بن مُعاذٍ - رضي الله عنه - حيث كانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وَكانَ أُمَيَّةُ إِذا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ بن معاذ، وَكانَ سَعْدٌ إِذا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي ساعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيتِ فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهارِ فَلَقِيَهُما أبو جَهْلٍ فَقالَ: يا أَبا صَفْوانَ مَنْ هَذا مَعَكَ؟ فَقالَ: سَعْدٌ، فَقالَ لَهُ أبو جَهْلٍ: أَلا أَراكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّباةَ وَزَعَمْتُمْ أَنكمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَما واللهِ لَوْلا أَنَّكَ مَعَ أبي صَفْوانَ ما رَجَعْتَ إلى أَهْلِكَ سالِمًا، فَقالَ لَهُ سَعْدٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أَما واللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذا لَأَمْنَعَنَّكَ ما هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يا سَعْدُ عَلَى أبي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوادِي، فَقالَ سَعْدٌ: دَعْنا عَنْكَ يا أُمَيَّةُ فَواللهِ لَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّهُمْ قاتِلُوكَ"، قالَ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَفَزعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إلى أَهْلِهِ قالَ: يا أُمَّ صَفْوانَ أَلَمْ تَرَيْ ما قالَ لِي سَعْدٌ؟ قالَتْ: وَما قالَ لَكَ؟ قالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَقالَ أُمَيَّةُ: واللهِ لا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ فَلَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أبو جَهْلٍ النّاسَ، قالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتاهُ أبو جَهْلٍ، فَقالَ: يا أَبا صفْوانَ إِنَّكَ مَتَى ما يَراكَ النّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أبو جَهْلٍ حَتَّى قالَ: أَمّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَواللهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قالَ أُمَيَّةُ: يا أُمَّ صَفْوانَ جَهِّزِيني، فَقالَتْ لَهُ: يا أَبا صَفْوانَ وَقَدْ نَسِيتَ ما قالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قالَ: لا، ما أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلّا قَرِيبًا، فَلَمّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ الله -عز وجل- بِبَدْرٍ (1).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3950) كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقتل ببدر.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175
* * *
فتأهبت قريش للخروج بجيش قوامه نحو ألف مقاتل بما معهم من جمال وخيول وعتاد وعُدة، للدفاع عن عيرها وأموالها، كما أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وكانت العربُ تفعل ذلك لتحفيز جنودها على القتال، فإن الرجل إذا ماِ خارت قوته ووهنت عزيمته وأراد أن يفر من ساحة المعركة تذكر ما خلفه من نساء وأبناء وأموال فكان ذلك حافزًا له على القتال بقوة وبأس وعدم الفرار من أرض المعركة.
وفي المقابل تأهب جيش المسلمين للخروج سريعًا للحاق بقافلة أبي سفيان فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد أرسل بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ ما صَنَعَتْ عِيرُ أبي سُفْيانَ (1)، فلما جاء بُسيسة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بأن القافلة قد قربت حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخروج بسرعة حتى لا تفوته القافلة، حتى إنه من شدة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لم ينتظر من كانت ظُهْرانِهِم (2) في عوالي المدينة فجعلوا يستأذنونه أن يُحضِروا ظُهرانهم فَقالَ: "لا إِلّا مَنْ كانَ ظَهْرُهُ حاضِرًا" (3).
فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جيش تعداده بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاثَ مِائَةٍ مقاتل (4) منهم الْأَنْصارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ومن المهاجرين نَيِّفًا وسِتِّينَ (5) ليس معهم إلا
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
(2) الظهر: الدوابُّ التي تُركب.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
(4) هناك حديثان صحيحان في عدد جيش المسلمين والمشركين:
أما الأوّل: ففي صحيح البخاري (3956، 3959).
وأما الثاني: ففي مسند أحمد (948) بإسناد صححه الشيخ الألباني في تحقيق فقه السيرة وكذلك صححه الشيخ. أحمد شاكر.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (3956) كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176
* * *
فرسٌ واحدٌ للمقداد بن عمرو (1) وسبعون بعيرًا (2) يعتقب كُلُّ ثَلاثَةٍ بعيرًا (3) فكانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وَعَلِيٌّ وأبو لُبابَةَ يعتقبون بعيرًا فلما كانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (4) قالا: نَحنُ نَمْشِي عَنْكَ يا رسول الله، فَقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أَنْتُما بِأَقْوَى مِنِّي وَلا أَنا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُما" (5).
وفي أثناء السير ولما بلغ الجيش الروحاء -وهي على أربعين ميلًا من المدينة- ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة أميرًا على المدينة وكان قد ترك ابن أم مكتوم ليصلي بالناس (6).
أما أبو سفيان فقد تمكن في خِضَمِّ ذلك أن يفر بقافلته فأخذ بها طريق الساحل -وهو غير طريقهم المعتاد- وأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بفرار القافلة، وبأن قريشًا خرجت بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
فحينها استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في الأمر فبعضهم كره القتال، وفي ذلك، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(1) صحيح: أخرجه أحمد في "المسند" (1023)، وابن خزيمة (899)، وابن حبّان (2257)، والطيالسي (116).
وجاءت روايات أخرى ضعيفة بأنهما كانا فرسين أحدهما للزبير والثاني للمقداد، وهو ضعيف.
(2) "سيرة ابن هشام" 2/ 138.
(3) يعتقبون البعير: أي يتبادلون الركوب عليه.
(4) أي: نوبته في المشي.
(5) صحيح: أخرجه أحمد (3901)، الحاكم 3/ 20 وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في تخريج فقه السيرة: سنده حسن، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(6) "سيرة ابن هشام" 2/ 138، والحاكم في "المستدرك" 3/ 632 وسكت عنه الذهبي.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177
* * *
لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} [الأنفال: 5، 6] والحق الذي تبيّن هو أن الله تعالى قد وعدهم إحدى الطائفتين إما أخذ القافلة وغنيمتها، وإما القتال، فلما فرت القافلة كان الحق الذي تبيّن هو القتال فكره بعض المسلمين ذلك يقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (1) وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: 7، 8].
وكان هؤلاء يرون أن القتال لا فائدة منه لأنّ القافلة نجت فلا غنيمة تُفيد المسلمين، ولأن المسلمين غير مستعدين للحرب كما استعدت قريش، ولكن الله تعالى قد بين الحكمة من القتال في الآيتين السابقتين من سورة الأنفال.
فلما عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر قام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطّاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له به.
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليّ أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك
(1) الشوكة: القتال، وغير ذات الشوكة: هي الغنيمة التي لا قتال فيها.
(2) موضع بناحية اليمن.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178
* * *
أنهم عدد الناس (1) وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذلك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول، قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" (2).
وكان لواء المسلمين في هذه المعركة مع مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وكان أبيض وكان أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العُقاب، والأخرى مع بعض الأنصار (3).
فسار النبي -صلى الله عليه وسلم- مستعينًا بالله -عز وجل- على هؤلاء المجرمين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورءاء الناس ليصدوا عن سبيل الله.
(1) أي: أكثر الناس، فهم أكثر من المهاجرين.
(2) رواه ابن هشام في "السيرة" بهذا السياق عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهد أخرى كثيرة تقويه، انظر: "صحيح البخاري" (3952)، مسلم (1779)، أحمد (3698، 4070، 4376، 11961)، والنسائيُّ في "الكبرى" (11140).
(3) "سيرة ابن هشام" 2/ 138.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179
* * *
وفي الطريق وتحديدًا وهم بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ (1) أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُزأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحابُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَأَوْهُ فَلَمّا أَدرَكَهُ قالَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ"، قالَ: لا، قالَ: "فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذا كان بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقالَ للنبي-صلى الله عليه وسلم-: كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقالَ لَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّة، قالَ: "فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، ثُمَّ رَجَعَ الرجل مرة أخرى وهم بِالْبَيْداءِ، فَقالَ لَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ"، قالَ الرجل: نَعَم، فَقالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فانْطَلِقْ" (2).
وفي الطريق أيضًا ردَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- البراء بن عازب وابن عمر لصغرهما (3).
وعلى الجانب الآخر فإن كفار قريش كادوا أن يرجعوا بلا قتال حيث تذكروا الذي كان بينهم وبين بني بكر من خصومة وخافوا أن يأتوهم من خلفهم فيُعينون عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك -وكان من أشراف بني كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا (4).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ
(1) حَرَّةُ الوَبَرَة: موضع على نحوٍ من أربعة أميال من المدينة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1817) كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة الاستعانة في الغزو بكافر.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (3956) كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر.
(4) "سيرة ابن هشام" 2/ 138 بإسناد مرسل عن عروة بن الزبير، وتشهد له الآية.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180
* * *
{الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: 48].
حيث فر الشيطان من ساحة المعركة عندما رأى الملائكة تتنزل لنصرة المؤمنين كما سيأتي. إن شاء الله.
وأيضًا أشار عتبة بن ربيعة عليهم بالرجوع لئلا تَكْثر التِراتُ بين الطرفين وبينهم أرحام وقرابات، ولكن أصر أبو جهل على القتال وغلب رأيه أخيرًا (1).
ثم وصل الفريقان إلى بدر التي تبعد عن المدينة بنحو (160) كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبق إلى هناك فلما أمسى القوم بعث النبي - صلي الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية (2) لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما أذلقوهما (3) قالا نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش؟ " قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعُدوة القصوى، فقال لهما رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "كم القوم؟ " قالا: كثير، قال: "ما عدتهم؟ " قالا: لا ندري، قال: "كم ينحرون كل يوم؟ " قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "القوم فيما بين التسعمائة والألف"، ثم قال لهما: "فمَن فيهم من أشراف قريش؟ " قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام،
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 425، بسند حسن. نقلاً من "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 359.
(2) أي سُقاة للقوم يجلبون لهم الماء ليرتووا.
(3) أي بالغوا في ضربهما.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181
* * *
وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عديِّ بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبيه، ومنبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودٍّ، فأقبل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" (1)، ثم قَالَ النبي - صلي الله عليه وسلم -: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ" - وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَا هُنَا هَا هُنَا- فَمَا مَاطَ (2) أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم - (3)، فبات المسلمون تلك الليلة بالعدوة الدنيا -أي القريبة من المدينة، وبات المشركون بالعدوة القصوى- أي البعيدة عن المدينة من ناحية مكة، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ} أي العير الذي فيه أبو سفيان {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي مما يلي ساحل البحر، {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي: يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 141، بسند صحيح صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث عن يزيد بن رومان عن عروة ابن الزبير، ولكنه مرسل، وروى نحوه أحمد (948) من حديث علي بن أبي طالب بسند صححه الشيخان: أحمد شاكر، والألباني في تخريج "فقه السيرة" (229)، ورواه مسلم مختصرًا (1779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر.
(2) ماط: أي بَعُد.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182
* * *
ويحيى من حيَّ أي: يؤمن من آمن عن بينة أي: عن حجة وبصيرة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به عليم بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين (1).
وكان الوادي الذي نزل به المسلمون لينًا سهلًا لا تثبت فيه أقدام الخيول، والوادي الذي نزل به المشركون صلبًا تتحرك فيه الخيل بسهولة، فأنعم الله تعالى على المسلمين بأن أرسل عليهم من السماء ماءً ليثبت به أقدامهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} تطهير الظاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]، حيث تصلبت الأرض وتوطأت، فثبتت به أقدام المسلمين في مواجهة عدوهم (2).
ثم أنزل الله تعالى على المؤمنين النعاس أمانًا لهم، وراحة من عناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركة كانوا في ذروة النشاط والاستعداد.
أمَّا النبي - صلي الله عليه وسلم - فلم ينم، بل ظلَّ في عريشه الذي بناه له الصحابة بمشورة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، حيث قال: يا نبي الله، ألا نبنى لك عريشًا تكوّن فيه ونعُدُّ عندك ركائبك؟ ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشدِّ لك حبًّا منهم، ولو ظنُّوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ينصحونك ويجاهدون معك،
(1) "مختصر تفسير ابن كثير" للشيخ أحمد شاكر 2/ 114.
(2) "مختصر تفسير ابن كثير" 2/ 94، 95 بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183
* * *
فأثنى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش، فكان فيه (1).
فظلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العريش يدعو ربه، ويستغيث به، ويستنصره.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ في قُبَّةٍ له: "اللهُمَّ إنِّي أَنْشدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللهمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعبد بَعْدَ الْيَوْمِ" فَأَخَذَ أبو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ في الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} [القمر: 45، 46] (2).
وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله إلى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْقِبلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعبد في الْأرْضِ" فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاة عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِي الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ الله - عز وجل - {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9] (3).
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 144 عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ قال، ثم ذكره، وله شاهد في "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبَّة، وهو الحديث الآتي.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2915)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184
* * *
وظلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحالة ليلة السابع عشر من شهر رمضان حتى أصبح.
عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ الله تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ (1)، وعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أيضًا قَالَ: أَصَابَنَا مِنْ اللَّيْلِ حشٌّ (2) مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ (3) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنْ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو رَبَّهُ -عز وجل- وَيَقُولُ: "اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدْ"، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلَاةَ عِبَادَ الله فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بنا رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنْ الْجَبَلِ"، فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُم عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ في الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ" -وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ- وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ؟ فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتميتِينَ، لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خيرٌ، يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ أبو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا، وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا، فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ (4)؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ، قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً، فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ سِتَّةٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بني عَمِّنَا مِنْ بني عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "قُمْ يَا عَلِيُّ، وَقُمْ يَا
(1) صحيح: أخرجه أحمد (1023).
(2) حشٌ: أي قليل.
(3) الحجف: أي التروس.
(4) هي كلمة تقال للمتنعم المترف الذي لم تحُكُّه التجارب والشدائد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185
* * *
حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةُ بن الْحَارِثِ بن عبد الْمُطَّلِبِ" فَقَتَلَ الله تَعَالَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بن عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ - رضي الله عنه - (1).
حيث أَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَل علىٌّ إلى شَيْبَة، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ (2) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِال عَلَى وحمزة على الْوَلِيدِ فَقَتَلَاه، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ (3).
وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] (4) فمات عبيدة - رضي الله عنه - بالصفراء (5) منصرفه من بدر فدُفن هنالك (6).
وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - قد منع الجيش من التقدم أو الالتحام مع المشركين إلا أن يكون النبي - صلي الله عليه وسلم - هو المتقدم أولًا، فَقَالَ لهم: "لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلى شَيءٍ حَتَّى أكُونَ أَنَا دُونَهُ" (7).
ونصح النبي - صلي الله عليه وسلم - جنده وأمرهم، فقَالَ لهم: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ (8) فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ" (9)، أي: ابقوا على نبلكم ولا تستعملوه حتى يقتربوا منكم،
(1) صحيح: أخرجه أحمد (948)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، والألباني في "فقه السيرة" (229).
(2) أثخن: أي ضربه، ولكن لم يقتله.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2665)، كتاب: الجهاد، باب: في المبارزة.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3965).
(5) اسم مكان.
(6) أخرجه الحاكم (4862)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الألباني "فقه السيرة" (233).
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
(8) أي: اقتربوا منكم.
(9) صحيح: أخرجه البخاري (3984)، كتاب: المغازي، باب: (10).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق