المسألة الثانية عشرة: القول في نسخ الإجماع والنسخ به
الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به عند الجمهور. أما كونه لا ينسخ، فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنسخ لا يكون بعد موته، وأما في حياته فالإجماع لا ينعقد بدونه، بل يكون قولهم المخالف لقوله لغوا باطلا، لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، وقولهم الموافق "لقوله"* لا اعتبار به، بل الاعتبار بقوله وحده، والحجة فيه لا في غيره. فإذا عرفت هذا علمت أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد أيام النبوة، وبعد أيام النبوة فقد انقطع الكتاب والسنة، فلا يمكن أن يكون الناسخ منهما. ولا يمكن أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا آخر؛ لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ، وإن كان عن دليل، فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ، والإجماع لا يكون خطأ، فبهذا يستحيل أن يكون الإجماع ناسخا أو منسوخا. ولا "يصح"** أيضًا: أن يكون الإجماع منسوخا بالقياس؛ لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفًا للإجماع. وقد استدل من جوز ذلك، بما قيل: من أن الأمة إذا اختلفت على قولين فهو إجماع، على أن المسالة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما، ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين -كما مر في الإجماع1- فإذا أجمعوا بطل الجواز، الذي هو مقتضى ذلك الإجماع، وهذا هو النسخ. وأجيب: بأنا لا نسلم ذلك لوقوع الخلاف فيه كما تقدم، ولو سلم فلا يكون نسخًا، لما تقدم من أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني. وقال الشريف المرتضى: إن دلالة الإجماع مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده. قال: فالأقرب أن يقال: إن الأمة أجمعت على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، أي: لا يقع ذلك لا أنه غير جائز، ولا يلتفت إلى قول عيسي بن أبان: إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة، من "وجوب الغسل من غسل الميت"2. انتهى. __________ * في "أ": بعد. ** في "أ": يصلح. __________ 1 انظر 1/ 229. 2 أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت 993. وأبو داود، كتاب الجنائز 3162. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت 1463. وأحمد في مسنده 2/ 433. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت 1/ 301. وابن حبان في صحيحه 1161. وعبد الرزاق في المصنف 6110. قال التهاونوي في إعلاء السنن: نقلا عن الخطابي في شرح سنن أبي داود: لا أعلم أحدا من الفقهاء يوجب الغسل من غسل الميت ولا الوضوء من حمله. 1/ 149 كتاب أبواب الغسل، باب ترك الغسل من غسل الميت. (2/74) قال الصيرفي: ليس لإجماع حظ في نسخ الشرع؛ لأنهم لا يشرعون، ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر، أو رفع حكمه، لا أنهم رفعوا الحكم، وإنما هم أتباع لما أمروا به. وقال بعض الحنابلة: يجوز النسخ بالإجماع، لكن لا بنفسه، بل بسنده، فإذا رأينا "نصًّا"* صحيحًا، والإجماع بخلافه، استدللنا بذلك على نسخ، وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ، وإلا لما خالفوه، وقال ابن حزم: جوز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح، والإجماع على خلافه، قال: وذلك دليل على أنه منسوخ، قال: وهذا عندنا غلط فاحش؛ لأن ذلك معدوم، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 وكلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحي محفوظ. انتهى. وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقه"2 ومثله بحديث الوادي، الذي في الصحيح حين نام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فما أيقظهم إلا حر الشمس. وقال في آخره: "فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" 3. قال: فإعادة الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين "أنه"** لا يجب ولا يستحب. __________ * في "أ": متنًا. ** في "أ": ولا. __________ 1 من سورة الحجر 9. 2 للإمام الحافظ، أبي بكر، أحمد بن علي البغدادي، وهو مطبوع انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 291. كشف الظنون 2/ 1447. ومعجم المؤلفين 2/ 3. 3 أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا كفارة لها إلا ذلك" {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 597. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 684. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها 442، 437 البيهقي، كتاب الصلاة، باب لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها 2/ 218. وأحمد في مسنده 3/ 269. وسبب ورود هذا الحديث كما نقل السيوطي: عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به نام حتى طلعت الشمس فصلى وقال: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " . ثم قرأ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف 3/ 169. (2/75) المسألة الثالثة عشرة: القياس لا يكون ناسخا ذهب الجمهور إلى أن القياس لا يكون ناسخا. ونقله القاضي أبو بكر في "التقريب" عن الفقهاء، والأصوليين، قالوا: لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس؛ لأن القياس يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ النص، ولأنه دليل محتمل، والنسخ يكون بأمر مقطوع؛ ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه، ولأنه إن عارض نصا أو إجماعا، فالقياس فاسد الوضع، وإن عارض قياسا أخر، فتلك المعارضة إن كانت بين أصلي القياس، فهذا يتصور فيه النسخ قطعا؛ إذ هو من باب نسخ النصوص، وإن كانت بين العلتين، فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع، لا من باب القياس. قال الصيرفي: لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي، ولا حظ للقياس فيه أصلا. وحكى القاضي أبو بكر عن بعضهم: أن القياس ينسخ به المتواتر، ونص القرآن. وحكى عن آخرين: أنه "إنما"* ينسخ به أخبار الآحاد فقط. وحكى الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي: "أنه يجوز النسخ بالقياس الجلي لا الخفي، وقيل: يجوز النسخ بالقياس"** إذا كانت علته منصوصة، لا مستنبطة. وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأما بعده فلا ينسخ به بالاتفاق. وأما كونه منسوخا فلا شك أن القياس يكون منسوخا بنسخ أصله، وهل يصح نسخه مع بقاء أصله؟. في ذلك خلاف، الحق منعه، وبه قال قوم من الأصوليين. وقال آخرون: إنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب والسنة، والقياس، وأما بعد موته فلا، ورجحه صاحب "المحصول" وجماعة من الشافعية. __________ * في "أ": مما. ** ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/76) المسألة الرابعة عشرة: في نسخ المفهوم وقد تقدم تقسميه إلى مفهوم مخالفة، ومفهوم موافقة. أما مفهوم المخالفة: فيجوز "نسخه"* مع نسخ أصله، وذلك ظاهر، ويجوز نسخه بدون نسخ أصله، وذلك كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الماء من الماء" 1 فإنه نسخ مفهومه، بما ثبت من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قعد بين شعبها الأربع وجهدها فقد وجب الغسل" 2 وفي لفظ: "إذا لاقى الختان الختان" 3 فهذا نسخ مفهوم "الماء من الماء" وبقي منطوقه محكما، غير منسوخ؛ لأن الغسل واجب من الإنزال بلا خلاف. وأما نسخ الأصل دون المفهوم، ففي جوازه احتمالان، ذكرهما الصفي الهندي، قال: والأظهر أنه لا يجوز. وقال سليم الرازي في "التقريب": من أصحابنا من قال: يجوز أن يسقط اللفظ ويبقى دليل الخطاب. والمذهب: أنه لا يجوز ذلك؛ لأن الدليل إنما هو تابع للفظ يستحيل أن يسقط الأصل ويكون الفرع باقيا4. __________ * في "أ": ذلك. __________ 1 أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء 343. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في الإكسال 217. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل بخروج المني 1/ 167. وأحمد في مسنده 3/ 29. وابن حبان في صحيحه 1168. وابن خزيمة في صحيحه 2 و233. والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 54. 2 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء 348. والبخاري في الغسل، باب إذا التقى الختانان 291. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في الإكسال 216. والنسائي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان 1/ 110. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين 1/ 163. وأحمد في مسنده 2/ 393. وابن حبان في صحيحه 1174. والبغوي في شرح السنة 242. 3 لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرجه الترمذي من حديث عائشة بلفظ: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل" كتاب الطهارة 108. ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان 608. النسائي، كتاب الطهارة كما في التحفة 12/ 272. أحمد في مسنده 6/ 47. ابن حبان في صحيحه 1176. ابن أبي شيبة 1/ 86. البيهقي في "المعرفة" 1/ 413. 4 واختلف في نسخ مفهوم المخالفة بدون الأصل وبالعكس، وكذا اختلف في كونه ناسخا. والمختلفون هم القائلون به سوى الحنفية، كذا في التقرير، والأشبه جواز بقاء كل بدون الآخر لكونهما حكمين غير متلازمين فلا يلزم من انتفاء واحد انتفاء الآخر، وفي كونه ناسخا ومنسوخا تأمل فإنه أدون من القياس عند قائليه فلا يصلح معارضا لشيء من الأدلة لو فرض اتحاد الزمان ولا بد للنسخ من المعارضة كما قالوا في القياس فليفهم. ا. هـ فواتح الرحموت 2/ 89. (2/77) وأما مفهوم الموافقة: فاختلفوا هل يجوز نسخه، والنسخ به، أم لا؟ أما جواز النسخ به، فجزم القاضي بجوازه في "التقريب" وقال: لا فرق في جواز النسخ بما اقتضاه نص الكتاب وظاهره، وجوازه بما اقتضاه فحواه ولحنه، ومفهومه، وما أوجبه العموم ودليل الخطاب عند مثبتها؛ لأنه كالنص أو أقوى منه. انتهى. وكذا جزم بذلك ابن السمعاني. قال: لأنه مثل النطق وأقوى. ونقل الآمدي، والفخر الرازي الاتفاق على أنه ينسخ به ما ينسخ بمنطوقه. قال الزركشي في "البحر": وهو عجيب، فإن في المسألة وجهين لأصحابنا وغيرهم، حكاهما الماوردي في "الحاوي"، والشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، وسليم الرازي، وصححوا المنع، والماوردي نقله عن الأكثرين. قال: لأن القياس فرع النص، الذي هو أقوى، فلا يجوز أن يكون ناسخا له. قال: والثاني، وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة الجواز. وأما جواز نسخه: فهو ينقسم إلى قسمين: الأول: أن ينسخ مع بقاء أصله. الثاني: أن ينسخ تبعًا لأصله. ولا شك في جواز الثاني. وأما الأول: فقد اختلف فيه الأصوليون على قولين: أحدهما: الجواز، وبه قال أكثر المتكلمين، وجعلوه مع أصله كالنصين، يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر، ونقله سليم عن الأشعري وغيره من المتكلمين. "قال"* : بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ، فكانا بمنزلة لفظين، فجاز نسخ أحدهما، مع بقاء حكم الآخر. والقول الثاني: المنع، وصححه سليم الرازي، وجزم به الروياني، والماوردي، ونقله ابن السمعاني عن أكثر الفقهاء؛ لأن ثبوت لفظه موجب لفحواه ومفهومه، فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه، كما لا ينسخ القياس مع بقاء أصله. وذهب بعض المتأخرين إلى التفصيل، فقال: إن كانت علة المنطوق لا تحتمل التغيير، __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/78) كإكرام الوالدين بالنهي عن التأفيف، فيمتنع نسخ الفحوى؛ لأنه يناقض المقصود، وإن احتملت النقض جاز، كما لو قال لغلامه: لا تعط زيدا درهما، قاصدا بذلك حرمانه "لأكثر منه"*، ثم يقول: أعطه أكثر من درهم، ولا تعطه درهما، لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى العلة مواساته. وهذا التفصيل قوي جدا. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/79) المسألة الخامسة عشرة: في الزيادة على النص هل تكون نسخًا لحكم النص أم لا؟ وذلك يختلف باختلاف الصور، فالزائد إما أ ن يكون مستقلا بنفسه أو لا. الأول: المستقل: "وهو"* إما أن يكون من غير جنس الأول، كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة، فليس بناسخ، لما "تقدمه"** من العبادات بلا خلاف. قال في "المحصول": اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخًا للعبادات. انتهى. ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام؛ لعدم التنافي. وإما أن تكون من جنسه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور. وذهب بعض أهل العراق إلى أنها تكون نسخًا لحكم المزيد عليه، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1؛ لأنها تجعلها غير الوسطي، و"هذا"*** قول باطل، لا دليل عليه، ولا شبهة دليل، فإن الوسطي ليس المراد بها المتوسطة في العدد، بل المراد بها الفاضلة. ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد، لم تكن تلك الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه، فقد علم توسطها عند نزول الآية، وصارت مستحقة لذلك الوصف، وإن خرجت عن كونها وسطى. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** في "أ": تقدم. *** في "أ": وهو. __________ 1 جزء من الآية 238 من سورة البقرة. (2/79) قال القاضي عبد الجبار: ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة؛ لأن هذه المزيدة تصير أخيرة، وتجعل تلك التي كانت أخيرة غير أخيرة، وهو خلاف الإجماع، وألزمهم صاحب "المحصول": بأنه لو كان عدد كل الوجبات قبل الزيادة عشرة، فبعد الزيادة لا يبقى ذلك العدد، فيكون نسخًا، يعني: وهو خلاف الإجماع1. الثاني: الذي لا يستقل، كزيادة ركعة على الركعات، وزيادة التغريب على الجلد، وزيادة وصف الرقبة بالإيمان، وقد اختلفوا فيه على أقوال: الأول: أن ذلك لا يكون نسخًا مطلقًا، وبه قالت الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وغيرهم من المعتزلة كأبي علي، وأبي هاشم*، وسواء اتصلت بالمزيد عليه أم لا، ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من إجزاء المزيد عليه بدونها، أو غير مانعة. الثاني: أنها نسخ، وهو قول الحنفية، قال شمس الأئمة السرخسي الحنفي: وسواء كانت الزيادة في السبب، أو في الحكم. قال ابن السمعاني: أما أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: إن الزيادة على النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ. حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق، واختاره بعض أصحابنا. قال ابن فورك، وإلكيا: وعزي إلى الشافعية أيضًا. الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه، فإن تلك الزيادة نسخ، كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة" 2 فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة. وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخًا، حكاه ابن برهان، وصاحب "المعتمد"، وغيرهما. الرابع: أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيًّا، حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد. __________ * في "ب": كابي علي وهاشم. __________ 1 قال بعضهم: إيجاب صلاة سادسة نسخ؛ لأنه يبطل المحافظة على الصلاة الوسطى الثابت بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فإنه إذا صارت الصلوات ستا لم يبقى وسطى، والصلاة الوسطى عند الإمام وصاحبيه صلاة العصر، وهو مذهب أكثر الصحابة والتابعين، والأحاديث وإن كانت متعارضة لكن القوة لأحاديث العصر، والتفصيل في "فتح المنان في تأييد مذهب النعمان" للشيخ عبد الحق الدهلولي، وفائدة هذا القول تظهر في إيجاب صلاة الوتر بخبر الواحد، فإنه لما كان إيجاب السادسة نسخًا عندهم بإيجاب المحافظة على الوسطى الثابت بالقاطع لم يكن إيجاب الوتر بخبر الواحد صحيحا وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون. ا. هـ انظر فواتح الرحموت 2/ 91 التلويح على التوضيح 2/ 36. 2 تقدم تخريجه 1/ 393. (2/80) ما كان يفعلها قبلها لم يتعد به، وذلك كزيادة ركعة "كانت"* نسخًا، وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخًا، كزيادة التغريب على الجلد، وإليه ذهب عبد الجبار، كما حكاه عنه صاحب "المعتمد"، وابن الحاجب، وغيرهما، وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني، والإسترابادي1، والبصري2. الخامس: التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ، وبين أن تنفصل عنه، فلا تكون نسخًا، حكاه ابن برهان عن عبد الجبار أيضًا، واختاره الغزالي. السادس: إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في المستقبل، كانت نسخًا، وإن لم تغير حكمه في المستقبل، بأن كانت مقارنة، لم تكن نسخًا، حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة. قال صاحب "المعتمد": وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي، وأبو عبد الله البصري. السابع: أن الزيادة إن رفعت حكمًا عقليًّا، أو ما ثبت باعتبار الأصل، كبراءة الذمة، لم تكن نسخًا؛ لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام، ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد أن رفعها يكون نسخًا، وإن تضمنت رفع حكم شرعي، كانت نسخًا. حكى هذا التفصيل ابن برهان في "الأوسط" عن أصحاب الشافعي، وقال: إنه الحق، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، والفخر الرازي، والبيضاوي، وهو اختيار أبي الحسين البصري في "المعتمد"، وهو ظاهر كلام القاضي أبي بكر الباقلاني في "مختصر التقريب"، وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني في "البرهان". قال الصفي الهندي: إنه أجود الطرق وأحسنها، فهذه الأقوال كما ترى. قال بعض المحققين: إن هذه التفاصيل لا حاصل لها، وليست في محل النزاع، فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكمًا شرعيًّا كان نسخًا حقيقة، وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان، وما لم يكن كذلك فليس بنسخ، فإن القائل: "أنا أفصل"** بين ما رفع حكمًا __________ * في "أ": تكون. ** في "أ": إنما فصل. __________ 1 هو ركن الدين، الحسن بن رضي الدين، محمد بن شرفشاه الحسيني، الشافعي، نزيل الموصل، توفي سنة خمس عشرة وسبعمائة هـ، من آثاره: "حل العقد والعقل في شرح مختصر السول والأمل" "شرح الحاوي الصغير للقزويني" "شرح الشافعية لابن الحاجب" "شرح قواعد العقائد للغزالي في الكلام". ا. هـ هدية العارفين 1/ 283 الأعلام 2/ 215. 2 انظر البحث مفصلا مبينا بالأمثلة في فواتح الرحموت 1/ 19 والتلويح على التوضيح 2/ 36 وميزان الأصول 2/ 1011. (2/81) شرعيا، وما لا يرفع، كأنه قال: إن كانت الزيادة نسخًا فهي نسخ، وإلا فلا، وهذا لا حاصل له، وإنما النزاع منهم هل ترفع حكمًا شرعيًّا فتكون نسخًا، أو لا فلا تكون نسخًا؟ فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكمًا شرعيًّا لوقع الاتفاق على أنها "تنسخ، أو وقع الاتفاق على أنها لا ترفع حكمًا شرعيًّا لوقع الاتفاق على أنها"* ليست بنسخ، ولكن النزاع في الحقيقة إنما هو في أنها رفع أم لا. انتهى. قال الزركشي في "البحر": واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ، وكان مقطوعا به، فلا ينسخ إلا بقاطع، كالتغريب1، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخًا نفاه؛ لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن عند الجمهور نسخًا قبلوه؛ إذ لا معارضة. وقد ردوا -يعني الحنفية- بذلك أخبارًا صحيحة، لما اقتضت زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد، فردوا أحاديث تعين الفاتحة في الصلاة2، وما ورد في الشاهد واليمين3، وما ورد في إيمان الرقبة4، وما ورد في اشتراط النية في الوضوء5. انتهى. وإذا عرفت أن هذه هي الفائدة في هذه المسألة التي طالت ذيولها، وكثرت شعبها، هان عليك الخطب، وقد قدمنا في المسألة التاسعة من مسائل هذا الباب ما عرفته. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 وهي وجوب التغريب بعد الجلد في البكر على زعم أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى,. وقد نفى الحنفية ذلك لأنه نسخ عندهم. ا. هـ انظر ميزان الأصول 2/ 1013 والتلويح على التوضيح 2/ 37. 2 تقدم تخريجه 1/ 22 3 تقدم تخريجه 1/ 315. 4 أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي بلفظ فيه: "فأعتقها فإنها مؤمنة" كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته 537. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة 930. والنسائي، كتاب السير كما في التحفة 8/ 427. والبيهقي، كتاب الإيمان، باب ما يجوز في عتق الكفارات 10/ 57. وأحمد في مسنده 5/ 447. وأخرجه ابن حبان في صحيحه 165. والطبرني في الكبير 19/ 938. 5 قال النووي: وأما الطهارة عن الحدث من الوضوء والغسل والتيمم فلا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات " . والحديث أخرجه البخاري عن عمر رضي الله عنه كتاب بدء الوحي، باب كيف بدء الوحي، إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. مسلم، كتاب الإمارة باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنية" 155، 1907. (2/82) المسألة السادسة عشر: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا ... المسألة السادسة عشرة: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها؛ لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه، ولا خلاف أيضًا في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخًا لها، كذا نقل الإجماع الآمدي، والفخر الرازي. وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة، سواء كان جزءا لها، كالشطر، أو خارجا كالشرط، فاختلفوا فيه على مذاهب. الأول: أن نسخه لا يكون نسخًا للعبادة، بل يكون بمثابة تخصيص العام، قال ابن برهان: وهو قول علمائنا. وقال ابن السمعاني: إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي، واختاره الفخر الرازي، والآمدي، قال الأصفهاني: إنه الحق، وحكاه صاحب "المعتمد" عن الكرخي. الثاني: أنه نسخ للعبادة، وإليه ذهب الحنفية، كما حكاه عنهم ابن برهان، وابن السمعاني. الثالث: التفصيل بين الشرط، فلا يكون نسخه نسخًا للعبادة، وبين الجزء كالقيام، والركوع في الصلاة، فيكون نسخه نسخًا لها، وإليه ذهب القاضي عبد الجبار، ووافقه الغزالي، وصححه القرطبي. قالوا: لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط، بخلاف الجزء، وهذا في الشرط المتصل، أما الشرط المنفصل، فقيل: لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة؛ لأنهما عبادتان منفصلتان. وقيل: إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ إلا به، فيكون نسخه نسخًا لها، من غير فرق بين الشرط والجزء، وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخًا لها. وهذا هو المذهب الرابع، حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع". احتج القائلون: بأنه لا يكون نسخًا مطلقًا، من غير فرق بين الشرط1 والشطر2، بأنهما أمران، فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر. __________ 1 هو تعليق شيء بشيء، بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني. وقيل: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجا عن ماهيته، ولا يكون مؤثرا في وجوده ا. هـ التعريفات 166. 2 شطر الشيء: نصفه ا. هـ مصباح مادة شطر. (2/83) وأيضا لو كان نسخًا للعبادة لافتقرت في وجوبها إلى دليل آخر غير الدليل الأول. وإنه باطل بالاتفاق. واحتج القائلون: بأن نسخ الشطر يقتضي نسخ العبادة، دون نسخ الشرط، بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد، ورفع إجزائها من دون الركعة؛ لأن تلك العبادة قبل النسخ كانت غير مجزئة بدون الركعة. وأجيب بأن للباقي من العبادة أحكاما مغايرة لأحكامها قبل رفع ذلك الشطر، فكان النسخ مغايرا لنسخ تلك العبادة. وأيضا الثابت في الباقي هو الوجوب الأصلي، والزيادة باقية على الجواز الأصلي، وإنما الزائل وجوبها، فارتفع حكم شرعي لا إلى حكم شرعي، فلا يكون ذلك نسخا1. __________ 1 انظر كتاب التبصرة 281 والمستصفى 1/ 116 وفواتح الرحموت 2/ 94. (2/84) المسألة السابعة عشرة: في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخا وذلك أمور: الأول: أن يقتضي ذلك اللفظ، بأن يكون فيه ما يدل على تقدم أحدهما وتأخر الآخر. قال الماوردي: المراد بالتقدم التقدم في النزول، لا في التلاوة، فإن العدة بأربعة شهور وعشر سابقة على العدة بالحول في التلاوة، مع أنها ناسخة لها. ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 1، فإن يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة، ومثل قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2. الثاني: أن يعرف الناسخ من المنسوخ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن يقول: هذا ناسخ لهذا، أو ما في معنى ذلك، كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها" 3. __________ 1 جزء من الآية 66 من سورة الأنفال. 2 جزء من الآية 13 من سورة المجادلة؛ وانظر الحاشية 1 في 2/ 58. 3 أخرجه البيهقي بهذا اللفظ من حديث ابن مسعود، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 4/ 77. ومسلم بلفظ: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" ، كتاب الأضاحي 1977. وبنحوه عنده في الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 977. الحاكم. كتاب الجنائز 1/ 375 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده 5/ 350. وابن حبان في صحيحه 3169. (2/84) الثالث: أن يعرف ذلك من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرجمه لماعز ولم يجلده1 فإنه يفيد نسخ قوله: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة" 2. قال ابن السمعاني: وقد قالوا: إن الفعل لا ينسخ القول، في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ للقول بقول آخر، فيكون القول منسوخا بمثله من القول، والفعل مبين لذلك. الرابع: إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ، وهذا منسوخ، كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم "شهر"* رمضان، ونسخ الحقوق المعلقة بالمال بالزكاة. ذكر معنى ذلك ابن السمعاني. قال الزركشي: وكذا حديث "من غل صدقته" فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا آخذوها وشطر ماله" 3، قال: فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم لهذا الحديث، فدل ذلك على نسخه. انتهى. وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ. قال القاضي: يستدل بالإجماع على أن معه خبرا وقع به النسخ؛ لأن الإجماع لا ينسخ به، ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلا على تعين النص للنسخ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط. الخامس: نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين، وتأخر الآخر؛ إذ لا مدخل للاجتهاد فيه. قال ابن السمعاني: وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين، أما إذا قال في المتواتر: إنه كان قبل الآحاد، ففي ذلك خلاف، وجزم القاضي في "التقريب" بأنه لا يقبل، ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين؛ لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز، وقال القاضي عبد الجبار: يقبل. وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحدا. السادس : كون أحد الحكمين شرعيًّا، والآخر موافقا للعادة، فيكون الشرعي ناسخا. وخالف في ذلك القاضي أبو بكر، والغزالي؛ لأنه يجوز ورود الشرع بالنقل عن العادة، ثم يرد نسخه ورده إلى مكانه. وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه، فليس ذلك من دلال النسخ. وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، بوجه من الوجوه، فرجح قوم، منهم ابن الحاجب الوقف. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73. 2 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73. 3 أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 2/ 23. (2/85) وقال الآمدي: إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع، وإن جوزه قوم، وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما، أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك1. __________ 1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 1/ 128 وفواتح الرحموت 2/ 96. (2/86) المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في القياس وما يتصل به من الاستدلال الفصل الأول: في تعريفه ... الفصل الأول: في تعريفه وهو في اللغة: تقدير شيء على مثال شيء آخر، وتسويته به، ولذلك سمي المكيال مقياسا، وما يقدر به النعال مقياسا، ويقال: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساويه. وقيل: هو مصدر قست الشيء، إذا اعتبرته، أقيسه قيسا وقياسا، ومنه قيس الرأي، وسمي امرؤ القيس1 لاعتبار الأمور برأيه. وذكر صاحب "الصحاح"، وابن أبي البقاء2 فيه لغة بضم القاف، يقال: قُسْتُه أقوسه قَوسًا؛ هو على اللغة الأولى من ذوات الياء، وعلى اللغة الثانية من ذوات الواو. وفي الاصطلاح: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما، من حكم أو صفة3. كذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني. قال في "المحصول": واختاره جمهور المحققين منا. وإنما قال: معلوم، ليتناول الموجود والمعدوم، فإن القياس يجري فيهما جميعا. واعترض عليه بأنه إن أريد بحمل أحد المعلومين على الآخر، إثبات مثل حكم أحدهما للآخر، فقوله بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لذلك فيكون تكرارا من غير فائدة. __________ 1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، وهذا لقبه الذي اشتهر به وقد اختلف في اسمه فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل عدي. وهو أشهر شعراء العرب، يماني الأصل ولد نحو سنة ثلاثين ومائة قبل الهجرة، وتوفي سنة ثمانين قبل الهجرة، ويعرف بالملك الضليل لاضطراب أموره طول حياته، وذي القروح لما أصابه من مرض في موته. ا. هـ شرح المعلقات السبع7 الأعلام 2/ 11. 2 هو عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء عبد الله، الشيخ الإمام، العلامة، النحوي، العكبري البغدادي، ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة هـ، من آثاره "تفسير القرآن، إعراب القرآن، إعراب الشواذ، متشابه القرآن، إعراب الحديث" وكتب غيرها كثير، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 91. شذرات الذهب 5/ 67. 3 وقد ذكر الغزالي هذا التعريف في المستصفى 2/ 228. (2/89) واعترض عليه أيضًا: بأن قوله: في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع "مثبت"* بالقياس، وهو باطل، فإن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، بأمر جامع. واعترض عليه "أيضا"**: بأن إثبات لفظ أو في الحد للإبهام، وهو ينافي التعيين الذي هو مقصود الحد. وقال جماعة من المحققين: إنه مساواة فرع لأصل في علة الحكم، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم. وقال أبو الحسين البصري: هو تحصيل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد. وقيل: إدراج خصوص في عموم. وقيل: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به. وقيل: إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه. وقيل: استنباط الخفي من الجلي. وقيل: حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل. وقيل: "الجمع بين النظيرين"***، وإجراء حكم أحدهما على الآخر. وقيل: بذل الجهد في طلب الحق1. وقيل: حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه2. وقيل: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه، بضرب من الشبه3. وعلى كل حد من هذه الحدود اعتراضات يطول الكلام بذكرها. وأحسن ما يقال في حده: استخراج مثل حكم المذكور، لما لم يذكر، بجامع بينهما؛ فتأمل هذا تجده صوابا إن شاء الله. __________ * في "أ": ثبت. ** ما بين قوسين ساقط من "أ". *** في "أ": حمل الشيء على غيره. __________ 1 أي بذلك المجتهد جهده في استخراج الحق من الكتاب والسنة. ا. هـ فواتح الرحموت2/ 247. 2 وذلك لعلة مشتركة بينهما وهو قول أبي هاشم الجبائي المعتزلي ا. هـ. فواتح الرحموت2/ 247. 3 انظر هذه التعريفات مفصلة في فواتح الرحموت 2/ 247. (2/90) وقال إمام الحرمين: يتعذر الحد الحقيقي في القياس؛ لاشتماله على حقائق مختلفة، كالحكم فإنه قديم، والفرع والأصل فإنهما حادثان، والجامع فإنه علة، ووافقه ابن المنير على ذلك. وقال "الأبياري"*: الحقيقي إنما يتصور فيما يتركب من الجنس والفصل، ولا يتصور ذلك في القياس. قال الأستاذ أبو إسحاق: اختلف أصحابنا فيما وضع له اسم القياس على قولين: أحدهما: أنه استدلال المجتهد، وفكرة المستنبط. والثاني: أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه، قال: وهذا هو الصحيح. انتهى. واختلفوا في موضوع1 القياس: "فقال"** الروياني: وموضوعه طلب أحكام الفروع المسكوت عنها، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها؛ ليلحق كل فرع بأصله. وقيل غير ذلك، مما هو دون ما ذكرناه. __________ * في "أ": ابن الأنباري. ** في "أ": قال. __________ 1 موضوع كل علم: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض. ا. هـ التعريفات 305. (2/91) الفصل الثاني: في حجية القياس مدخل ... الفصل الثاني: في حجية القياس اعلم: أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية. قال الفخر الرازي: كما في الأودية، والأغذية. وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي: فذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، والمتكلمين إلى "أن القياس الشرعي"* أصل من أصول الشريعة، يستدل به على الأحكام التي "لم"** يرد بها السمع. __________ * في "أ": أنه. ** ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/91) قال في "المحصول": اختلف الناس في القياس الشرعي، فقالت طائفة: العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة، وقالت طائفة: العقل يقتضي المنع من التعبد به، والأولون قسمان: القسم الأول: منهم من قال: وقع التعبد به، ومنهم من قال: لم يقع1. أما من اعترف بوقوع التعبد به، فقد اتفقوا على أن السمع "دل"* عليه، ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع: الأول: أنه هل في العقل ما يدل عليه؟ فقال: القفال منا، وأبو الحسين البصري من المعتزلة: العقل يدل على وجوب العمل به، وأما الباقون منا، ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك. والثاني: أن أبا الحسن البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية، والباقون قالوا: قطعية. والثالث: أن القاساني والنهرواني2 ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين: إحداهما: إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ، أو يإيمائه3. والصورة الثانية: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة. وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به، فمنهم من قال: لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به، فوجب الامتناع من العمل به. ومنهم من لم يقنع بذلك، بل تمسك في نفيه بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة. __________ * في "أ":دال. __________ 1 قال الغزالي في المستصفى 2/ 234: وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة: يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم: يجب التعبد به عقلا، وقال قوم: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في فطنه الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه: فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له، والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا. ا. هـ. 2 لم نستطع تحديد من المراد بالنهرواني وذلك لأن كتب التراجم أوردت كثيرًا من المسمين بالنهرواني، وكتب الأصول لم تذكر النهرواني باسمه الصريح، وليس هو المعافى بن زكريا كما ذكره بعض المحققين لأنه كان جريري المذهب ولم يكن داوديا، والذي يعرف بأنه من نفاة القياس كان داوديا. وقد ذكر الدكتور محمد حسن هيتو نحوا من هذا الكلام أيضًا بعد أن عجز عن تحديد المراد بالنهرواني في تعليقه على التبصرة للشيرازي 436. 3 وذلك كقوله: حرمت الخمر لشدتها، وقوله: فإنها من الطوافين عليكم والطوافات. ا. هـ المستصفى 2/ 274. (2/92) وأما القسم الثاني: وهم الذين قالوا: بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به، فهم فريقان: أحدهما: خصص ذلك المنع بشرعنا، وقال: لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس، وهو قول النظام. والفريق الثاني: الذين قالوا: يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع. انتهى. قال الأستاذ أبو منصور: المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب: أحدها: ثبوته في العقليات، والشرعيات، وهو قول أصحابنا من الفقهاء، والمتكلمين، وأكثر المعتزلة. والثاني: ثبوته في العقليات، دون الشرعيات، وبه قال جماعة من أهل الظاهر. والثالث: نفيه في العلوم العقلية، وثبوته في الأحكام الشرعية، التي ليس فيها نص، ولا إجماع، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية. والرابع: نفيه في العقليات والشرعيات. وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني. انتهى. والمثبتون له اختلفوا أيضًا. قال الأكثرون: هو دليل بالشرع. وقال القفال، وأبو الحسين البصري: هو دليل بالعقل، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له. وقال الدقاق: يجب العمل به بالعقل والشرع، وجزم به ابن قدامه في "الروضة"1، وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله: لا يستغني أحد عن القياس. قال: وذهب أهل الظاهر، والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا، وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله: يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس. وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص؛ لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار. ثم اختلف القائلون به أيضًا اختلافًا آخر، وهو: هل دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية؟ فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب أبو الحسين، والآمدي إلى الثاني. __________ 1 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين، الإمام القدوة، العلامة المجتهد، شيخ الإسلام، أبو محمد، ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هـ وتوفي سنة عشرين وستمائة هـ، من آثاره "المغني، الكافي، المقنع، العمدة" وغيرها كثير، وله كتاب "روضة الناظر" في أصول الفقه، وهو مطبوع. انظر: سير أعلام النبلاء 22/ 165 شذرات الذهب 5/ 88، الأعلام 4/ 67. (2/93) وأما المنكرون للقياس، فأول من باح بإنكاره النظام، وتابعه قوم من المعتزلة، كجعفر بن حرب1، وجعفر بن مبشر2، ومحمد بن عبد الله الإسكافي3، وتابعهم على نفيه في "الأحكام" داود الظاهري. قال أبو القاسم البغدادي4 فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب "جامع العلم" أيضًا: لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد، وإثباته في الأحكام إلا داود، فإنه نفاه فيهما جميعا. قال: ومنهم من أثبته في التوحيد، ونفاه في الأحكام. وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود، والنهرواني، والمغربي5، والقاساني: أن القياس محرم بالشرع. قال الأستاذ أبو منصور: وأما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن، أو السنة، أو معدول عنه بفحوى النص ودليله، وذلك يُغني عن القياس. قال ابن القطان: ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل، ولا يجوز القول به. قال ابن حزم في "الإحكام": ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة، وهو قولنا الذي ندين الله به، والقول بالعلل باطل. انتهى. __________ 1 أبو الفضل، الهمذاني، المعتزلي، كان من نساك القوم، له تصانيف من آثاره" متشابه القرآن، الاستقصاء، الرد على أصحاب الطبائع، الأصول"، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 549 الأعلام 2/ 123 الأعلام 4/ 67. 2 في الأصول: جعفر بن حبشة، والتصحيح من البحر المحيط: 5/ 17، وأحكام الآمدي: 3/ 9. وهو أبو محمد جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي. أحد مصنفي المعتزلة، له آراء انفرد بها، وكان موصوفا بالديانة. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 162، وميزان الاعتدال: 1/ 144. الأعلام: 2/ 126. 3 وهو العلامة أبو جعفر، السمرقندي ثم الإسكافي، المتكلم، كان أعجوبة في الذكاء، وسعة المعرفة، من آثاره: "نقض كتاب حسين النجار، تفضيل علي، الرد على من أنكر خلق القرآن"، توفي سنة أربعين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 550 الأعلام 6/ 227. 4 هو عبيد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي، أبو القاسم، فقيه، أصولي، مقرئ فرضين تفقه على أبي سعيد الإصطخري، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هـ، وله تآليف كثيرة في الفقه والقراءات والفرائض. ا. هـ معجم المؤلفين 6/ 242، والبحر المحيط 5/ 17. 5 هو أبو عبد الله محمد بن عيسى البريلي الأصل المعروف بالمغربي، توفي سنة أربعمائة هـ، صنف وقوف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن. ا. هـ هدية العارفين 2/ 58، معجم المؤلفين 11/ 103. وقال الدكتور محمد حسن هيتو في تحقيقه لكتاب التبصرة للشيرازي عند ذكر المغربي: هو أبو عبد الله المغربي، وقد نقل عنه الغزالي في المنخول في مكانين "ص90-94". التبصرة 419. (2/94) والحاصل: أن داود الظاهري وأتباعه لا يقولون بالقياس، ولو كانت العلة منصوصة. ونقل القاضي أبو بكر، والغزالي عن القاساني، والنهرواني القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة. وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية، ولا حاجة لهم إلى الاستدلال، فالقيام في مقام المنع يكفيهم، وإيراد الدليل على القائلين بها، وقد جاءوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة، فلا نطول البحث بذكرها. وجاءوا بأدلة نقلية1، فقالوا: دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب، والسنة، والإجماع. __________ 1 أي المثبتون للقياس المتعبدون به. (2/95) الأدلة من القرآن الكريم ... الأدلة من القرن الكريم: أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1. ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الاعتبار مشتق من العبور، وهو "المرور"*، يقال: عبرت على النهر، "وعبرت النهر"**، والمعبر: الموضع الذي يعبر عليه، والمِعْبَر: السفينة التي يعبر فيها، كأنها أداة العبور، والعَبْرَة: الدمعة التي عبرت من الجفن، وعبر الرؤيا: جاوزها إلى ما يلازمها. قالوا: فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة، فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك، والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلا تحت الأمر. قال في "المحصول": فإن قيل: لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة فقط، بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه: الأول: أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي: إنه معتبر. الثاني: أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال: إنه غير معتبر، أو قليل الاعتبار. الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 2، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} 3، والمراد الاتعاظ. __________ * في "أ": المجاوزة. ** ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الآية 3 من سورة الحشر. 2 جزء من الآيتين في سورة آل عمران 13 وفي سورة النور 44. 3 جزء من الآيتين في سورة النحل 66 وفي سورة المؤمنون 21. (2/95) الرابع: يقال: السعيد من اعتبر بغيره، والأصل في الكلام الحقيقة، فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ، لا في المجاوزة، فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلنا، فعليكم بالترجيح، ثم الترجيح معنا، فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه. سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة، لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع، "وقد وجد ههنا مانع"* فإنه لو قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} 1 فقيسوا الذرة على البر كان ذلك ركيكا، لا يليق بالشرع، وإذا كان كذلك، ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته. سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة، لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي. بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله، فقد عبر من الدليل إلى المدلول، فسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع، وبالنص، وبالبراءة الأصلية، وبالقياس من الشرع، وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته، وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز، لا بلفظه، ولا بمعناه، فلا يكون دالا على النوع، الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك "وجهة الامتياز، فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي، لا بلفظه ولا بمعناه"**. قال: وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر: الأول: إذا نص الشارع على علة الحكم، فههنا القياس عندنا واجب. والثاني: قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف2. والثالث: الأقيسة في أمور الدنيا، فإن العمل بها عندنا واجب. والرابع: أن يشبه الفرع بالأصل، في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص. والخامس: الاتعاظ والانزجار، بالقصص والأمثال. فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمي اعتبارا؛ يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر، وثبت أن بيانه في صورة كثيرة، فلا يبقى فيه دلالة ألبتة على الأمر بالقياس الشرعي. __________ * ما بين القوسين ساقط من "أ". ** ما بين القوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الآية 2 من سورة الحشر. 2 أي تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف الوارد في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...} الآية. (2/96) ثم "قال"*: جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين: الأول: أنه يقال: فلان "اعتبر فاتعظ"** فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار، وذلك بوجب التغاير. الثاني: أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ، فإن الإنسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه؛ لا يكون متعظا، ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته. ويجاب عن الوجه الأول: بالمعارضة، فإنه يقال: فلان قاس هذا على هذا، فاعتبر، والجواب الجواب. ويجاب عن الثاني: بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ، فإن من نظر في شيء من المخلوقات، فاتعظ به؛ لا يقال فيه: "إنه"*** متصف بالمجاوزة، لا لغة، ولا شرعا، ولا عقلا. وأيضا يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي، وليس في اللغة ما يفيد ذلك ألبتة، ولو كان القياس مأمورا به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار، لكان كل اعتبار، أو عبورا مأمورا به، واللازم باطل، فالملزوم مثله. وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين، ولا من العقلاء: أنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان، أو يجري دمع عينه، أو يعبر رؤيا الرائي، مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي. والحاصل: أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك، فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته. واستدل الشافعي في "الرسالة" على إثبات القياس بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} 1. قال: فهذا تمثيل الشيء بعدله. وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2. وأوجب المثل، ولم يقل أي مثل، فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا. __________ * في "أ": قلنا. ** في "ب": اتعظ فاعتبر. وما أثبتناه يوافق ما في المحصول. *** ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الآية 95 من سورة المائدة. 2 جزء من الآية 95 من سورة المائدة. (2/97) وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال، وقال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1.انتهى. ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد، وكونه مثلا له موكول إلى العدلين، ومفوض إلى اجتهادهما، وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة، وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة، فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها، وليس ذلك من القياس في شيء. واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 2 "فأولو الأمر"* هم العلماء، والاستنباط هو القياس. ويجاب عنه: بأن الاستنباط هو استخراج الدليل عن المدلول، بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص، أو الإطلاق أو التقييد، أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه. ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط، لكان ذلك مخصوصا "بمثل القياس"** المنصوص على علته، وقياس الفحوى ونحوه، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة، التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به. واستدل أيضًا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 3 الآية. قال: لأن القياس تشبيه الشيء بالشيء، فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز. و"يجاب عنه بمنع كون هذا من القياس الشرعي، ولا مما يدل عليه بوجه من وجوه الدلالة، ولو سلمنا لجاز لنا أن نقول على وجه المعارضة: إنما جاز"*** ذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية؛ لأنا نعلم أنه صحيح، فلا يجوز من فعل من لا يخلو من الجهالة والنقص؛ لأنا لا نقطع بصحته، بل ولا نظن ذلك، لما في فاعله من الجهالة والنقص. __________ * في "أ": قالوا: أولو الأمر هم العلماء. ** في "أ": بالقياس. *** ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 جزء من الأية 150 من سورة البقرة. 2 جزء من الأية 83 من سورة النساء. 3 جزء من الأية 26 من سورة البقرة. (2/98) واستدل غيره "أيضا"* بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 1. ويجاب عنه: بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللاحق، وكون المؤثر فيهما واحدا، وذلك غير القياس الشرعي، الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما. واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 2. وتقريره: أن العدل هو التسوية، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم، فيتناوله عموم الآية. ويجاب عنه: بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها، فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة، ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي، ونوع من أنواع الظنون الزائفة، وخصلة من خصال الخيالات المختلفة. __________ *ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 الآيتان 78-79 من سورة يس. 2 جزء من الآية90 من سورة النحل. (2/99) أدلة القياس من السنة: وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس، فاعلم، أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمد، أبو داود، والترمذي، وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو1 -ابن أخي المغيرة بن شعبة- قال: حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال: لما بعثه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟" قال: اجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسول الله" 2. والكلام في إسناد هذا الحديث يطول، وقد قيل: إنه مما تُلقي بالقبول. وأجيب عنه: أن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية. __________ 1 هو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، توفي ما بين المائة إلى مائة وعشر هـ. ا. هـ تهذيب التهذيب 2/ 152. 2 تقدم تخريجه في 1/ 152. (2/99) ورد: بأنه قال: اجتهد رأيي، بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة، وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال: إنه غير موجود في الكتاب والسنة. وأجيب عن هذا الرد: بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة، فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثباته، واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة يكون بالتمسك بالبراءة الأصلية، أو بأصالة الإباحة في الأشياء، أو الحظر، على اختلاف الأقوال في ذلك، أو التمسك بالمصالح، أو التمسك بالاحتياط. وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي، فليس المراد كل قياس، بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها، والرجوع إليها، كالقياس الذي علته منصوصة، والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلة، والشبه الباطلة. وأيضًا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة؛ لأن الشريعة؛ إذ ذاك لم تكمل، فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1؛ ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع، إما بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وقوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3. واستدلوا أيضًا بما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من القياسات، كقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئ عنه؟" قالت: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى" 4 __________ 1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة. 2 جزء من الآية 38 من سورة الأنعام. 3 جزء من الآية 59 من سورة الأنعام. 4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس في الحج باب وجوب الحج وفضله1513. ومسلم في الحجم باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت 1334وأبو داود في المناسك، باب الرجل يحج عن غيره 1809. ومالك في الموطأ في الحج باب الحج عمن يحج عنه "1/ 359، والبيهقي في سننه في الحج "4/ 328"، وهذا كله من غير زيادة "فدين الله أحق أن يقضى " . ولكن البخاري ذكرها في صحيحه حديث ابن عباس: أنه جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم" ، قال: "فدين الله أحق أن يقضى" في كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم برقم 1953. (2/100) وقوله لرجل سأله، فقال: أيقضي أحدنا شهوته، ويؤجر عليها؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟" قال: نعم. قال: "فكذلك إذا وضعها في حلال، كان له أجر" 1. وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود: "هل لك من إبل؟" قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟" قال: حمر، قال: "فهل فيها من أورق؟" قال: نعم. قال: "فمن أين؟" قال: لعله نزعة عرق، قال: "وهذا لعله نزعه عرق" 2. وقال لعمر، وقد قبل امرأته، وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء" 3. وقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 4. وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام، وقد وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قياسات كثيرة، حتى صنف الناصح الحنبلي5 جزءا في أقيسته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويجاب عن ذلك: بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم، الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 6. ويقول في وجوب أتباعه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7، وذلك خارج عن محل النزاع، فإن القياس الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت له العصمة، ولا وجب اتباعه، ولا كان كلامه وحيا، بل من جهة نفسه. الأمارة، وبعقله المغلوب بالخطأ، وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. __________ 1 أخرجه أحمد في مسنده 5/ 167 وأبو داود في الأدب باب إماطة الأذى عن الطريق 5243. 2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد 5305. ومسلم، كتاب اللعان 1500. أبو داود، كتاب الطلاق، باب إذا شك في الولد 2260. والترمذي، كتاب الولاء والهبة، باب في الرجل ينتفي من ولده 2128. وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يشك في ولده 2002. والنسائي، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بامرأته وشك في ولده وأراد الانتفاء منه 6/ 178. وابن حبان في صحيحه 4107. وأحمد في مسنده 2/ 239. 3 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 25. 4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض 2646. ومسلم، كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة 1444. وأبو داود، من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب النكاح، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب 2055. والنسائي، كتاب النكاح، باب ما يحرم من الرضاع 6/ 98. والترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب 1147. ومالك في الموطأ، كتاب الرضاع، باب رضاعة الصغير 2/ 601. وابن حبان في صحيحه 4223. وأحمد في مسنده 6/ 44. 5 هو عبد الرحمن بن نجم الدين عبد الوهاب الحنبلي، الدمشقي، الواعظ، ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة أربع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "أسباب الحديث، الاستسعاد بمن لقيت من صالحي العباد في البلاد، الإنجاد في الجهاد" وله كتاب "أقيسة النبي المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وهو مخطوط في الأزهر ا. هـ سير أعلام النبلاء 19/ 54 الأعلام 3/ 340. 6 سورة النجم 4. 7 جزء من الآية 7 من سورة الحشر. (2/101) الأدلة من الإجماع: واستدلوا أيضًا بإجماع الصحابة على القياس1. قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي. وقال الصفي الهندي: دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين. وقال الرازي في "المحصول": مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأصوليين. وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض، شرقا وغربا، قرنا بعد قرن، عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين. قال: وهذا "من"* أقوى الأدلة. ويجاب عنه: بمنع ثبوت هذا الإجماع، فإن المحتجين بذلك إنما جاءونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين، في غاية القلة، فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم، مع تفرقهم في الأقطار، واختلافهم في كثير من المسائل، ورد بعضهم على بعض، وإنكار بعضهم لما قاله البعض، كما ذلك معروف؟! بيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة على أقوال معروفة2، وأنكر بعضهم على بعض "ما سلكه من القياس في ذلك، وكذلك اختلفوا في مسألة الحرام3 على أقوال، وأنكر بعضهم على بعض"**. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 مثال ذلك: ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب في كتاب إلى أبي موسى الأشعري "اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك" ا. هـ انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 2/ 806. 2 اختلف الصحابة ومن بعدهم في توريث الجد مع الأخوة. أ- فقال أبو بكر، وابن عباس، وابن عمر، ابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخد ري ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم: بنو الأعيان وبنو العلات أي: الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون مع الجد بل يستبد هو بجميع المال. ب- وقال علي وابن مسعود، وزيد بن ثابت: يرثون مع الجد؛ وهو قول الشافعي ومالك والصاحبين من الحنفية. وقال أبو حنيفة، وشريح، وعطاء، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين بعدم التوريث. ج- أما الإخوة لأم فيسقطون مع الجد إجماعا. ا. هـ شرح السراجية 165. 3 وهي قوله لزوجته "أنت على حرام" فوقع الخلاف فيها على أقوال: فقال أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة: لو نوى الطلاق، فهو طلاق ولو نوى اليمين فهو يمين. وعن ابن عمر قريبا منه. وقال زيد رضي الله عنه: يمين يكفرها. والشافعي يقول: تحريم الحلال لا يكون يمينا ولكن تجب الكفارة في الزوجة والأمة. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 70. (2/102) وكذلك اختلفوا في مسألة زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم، وأنكر بعضهم على بعض. وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع1. وهكذا وقع الإنكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم، والقياس إن كان منه فظاهر، وإن لم يكن منه فقد أنكره منهم من أنكره، كما في هذه المسائل التي ذكرناها. ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها، والتي قطع فيها بنفي الفارق. فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس، الذي اعتبره كثير من الأصوليين، وأثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل، وتسافر فيها الأذهان، حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء، وتتغلغل فيها العقول، حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر2، ولا من الشريعة السمحة السهلة، في قبيل ولا دبير3. وقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها" 4. وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين، وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته ويؤيد براهينه. وإذا عرفت ما حررناه وتقرر لديك جميع ما قررناه؛ فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته، وما قطع فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، على اصطلاح من يسمي ذلك قياسا، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة. __________ 1 وقع الخلاف في الخلع هل هو فسخ أو طلاق. قال الحنفية: هو تطليقه بائنة. وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم. قال الشافعي: هو فسخ. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 171. 2 الصدر "ضد الورد" وهو الانصراف ا. هـ المصباح مادة صدر. 3 يقال: ما يعرف قبيلة من دبيره، وفلان ما يدري قبيلا من دبير أي لا يعرف شيئا. ا. هـ لسان العرب مادة دبر. 4 أخرجه ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية بلفظ: "وقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها" . في المقدمة 43. وأحمد في مسنده 4/ 126. والدارمي في سننه 96. والترمذي برقم 2776. (2/103) ثم اعلم: أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا، وإن كان منصوصا على علته، أو مقطوعا فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل، مشمولا به، مندرجا تحته، وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما بعدوه؛ لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به، والعمل عليه، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، وقد قدمنا لك أنما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها، ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها. وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك: أن النصوص لا تفي بالأحكام، فإنها متناهية، والحوادث غير متناهية. ويجاب عن هذا بما قدمنا من إخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها، وبما أخبرها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها. ثم لا يخفى على ذي لب صحيح، وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة، ومطلقاتهما، وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث، ويقوم ببيان كل نازلة تنزل، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. (2/104) الفصل الثالث: في أركان القياس مدخل ... الفصل الثالث: في أركان القياس وهي أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم. ولا بد من هذه الأربعة الأركان في كل قياس، ومنهم من ترك التصريح بالحكم. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح القياس إلا بعد التصريح به. قال ابن السمعاني: ذهب بعضهم إلى جواز القياس بغير أصل، قال: وهو من خلط الاجتهاد بالقياس، والصحيح: أنه لا بد من أصل، "لأن الفروع"* لا تتفرع إلا عن أصول. انتهى. والأصل يطلق على أمور منها: ما يقتضي العلم به العلم بغيره. ومنها: ما لا يصح العلم بالمعنى إلا به. ومنها: الذي يعتبر به ما سواه. __________ * في "أ": الفروع. (2/104) ومنها الذي يقع القياس عليه، وهو المراد هنا1. وقد وقع الخلاف فيه، فقيل: هو النص الدال على ثبوت الحكم في محل الوفاق2، وبه قال القاضي أبو بكر، والمعتزلة. وقال الفقهاء: هو محل الحكم المشبه به. قال ابن السمعاني: وهذا هو الصحيح. قال الفخر الرازي: الأصل هو الحكم الثابت في محل الوفاق، باعتبار تفرع العلة عليه. وقال جماعة، منهم ابن برهان: إن هذا النزاع لفظي، يرجع إلى الاصطلاح، فلا مشاحة3 فيه، أو إلى اللغة "فهو يجوز"* إطلاقه على ما ذكر4، بل يرجع إلى تحقيق المراد بالأصل، وهو يطلق تارة على الغالب، وتارة على الوضع اللغوي، كقولهم: الأصل عدم الاشتراك، وتارة على إرادة التعبد الذي لا يعقل معناه، كقولهم: خروج النجاسة من محل، وإيجاب الطهارة في محل آخر على خلاف الأصل. قال الآمدي: يطلق الأصل على ما يتفرع عليه غيره، وعلى ما يعرف بنفسه، وإن "لم"** يُبْنَ عليه غيره، كقولنا: تحريم الربا في النقدين أصل. وهذا منشأ الخلاف في أن الأصل في تحريم النبيذ الخمر أو النص، أو الحكم. قال: واتفقوا على أن العلة ليست أصلا. انتهى. وعلى الجملة: إن الفقهاء يسمون محل الوفاق أصلا، ومحل الخلاف فرعا، ولا مشاحة في الاصطلاحات، ولا يتعلق بتطويل البحث في هذا كثير فائدة. فالأصل: هو المشبه به، ولا يكون ذلك إلا لمحل الحكم، لا لنفس الحكم، ولا لدليله. والفرع: هو المشبه، لا لحكمه. والعلة: هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع. والحكم: هو ثمرة القياس، والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** في "أ": ولم. __________ 1 ذكر الزركشي هذه الأقسام في كتابه "البحر المحيط" مفصلة فانظرها 5/ 75. 2 مثاله خبر الواحد في تحريم الربا. انظر البحر المحيط 5/ 75. 3 يقال: هما يتشاحان على أمر: إذا يتنازعاه؛ وتشاح الخصمان في الجدل، كذلك لسان العرب: مادة شحَّ. 4 انظر البحر المحيط للزركشي 5/ 76 (2/105) شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه ... الشروط المعتبرة في الأصل: ولا يكون القياس صحيحا إلا بشروط اثني عشر، لا بد من اعتبارها في الأصل. الأول: أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع، ثابتا في الأصل، فإنه لو لم يكن ثابتا. (2/105) فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء، أو شرع ونسخ ولم يمكن بناء الفرع عليه. الثاني: أن يكن الحكم الثابت في الأصل شرعيًّا، فلو كان عقليًّا أو لغويا لم يصح القياس عليه؛ لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي. واختلفوا: هل يثبت القياس على النفي الأصلي، وهو ما كان قبل الشرع؟ فمن قال: إن نفي الحكم الشرعي حكم شرعي، جوز القياس عليه، ومن قال: إنه ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه. الثالث: أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية؛ لأن ما لم تكن طريقه سمعية لا يكون حكمًا شرعيًّا، وهذا عند من ينفي التحسين والتقبيح العقلين، لا عند من يثبتها. الرابع: أن يكون الحكم ثابتا بالنص، وهو الكتاب أو السنة. وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة. قال الزركشي: لم يتعرضوا له، ويتجه أن يقال: إن قلنا إن حكمهما "حكم"* النطق فواضح، وإن قلنا: كالقياس "فيلحق"** به. انتهى1. والظاهر: أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما؛ لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية، كما يثبتهما بالمنطوق. وأما ما ثبت بالإجماع، ففيه وجهان: قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني اصحهما الجواز وحكاه ابن برهان عن جمهور اصحاب الشافعي والثاني عدم الجواز ما لم يعرف النص الذي اجمعوا لأجله قال ابن السمعاني: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام، كالنص، فإذا جاز القياس على الثابت بالنص، جاز على الثابت بالإجماع. الخامس: أن لا يكون الأصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر، وإليه ذهب الجمهور. وخالف في ذلك بعض الحنابلة، والمعتزلة فأجازوه. واحتج الجمهور على المنع؛ بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة، فيستغنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول، وإن اختلفت لم __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** في "أ": فيلتحقان. __________ 1 انظر: البحر المحيط، 5/ 83. (2/106) ينعقد القياس الثاني، لعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم. وقسم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هذه المسألة إلى قسمين: أحدهما: أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى، الذي ثبت به، ويقاس عليه غيره، قال: وهذا لا خلاف في جوازه. والثاني: أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره، ويقاس غيره عليه. قال: وهذا فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو عبد الله البصري: الجواز. والثاني: وبه قال الكرخي: المنع، وهو الذي يصح "عندي"* الآن؛ لأنه يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل، وذلك لا يجوز، وكذا صححه في "القواطع"، ولم يذكر الغزالي غيره. السادس: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع، أما لو كان شاملا له، خرج عن كونه فرعا، وكان القياس ضائعا، لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل، ولأنه لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس. السابع: أن يكون الحكم في الأصل متفقًا عليه؛ لأنه لو كان مختلفا فيه احتيج إلى إثباته أولًا، وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه؛ لأن القياس في نفسه لا يشترط الاتفاق عليه في جواز التمسك به، فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى. واختلفوا في كيفية الاتفاق على الأصل، فشرط بعضهم أن يتفق عليه الخصمان فقط، لينضبط فائدة المناظرة. وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة. قال الزركشي: والصحيح الأول. واختار في "المنتهى" أن المعترض إن كان مقلدا لم يشترط الإجماع؛ إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا له، وإن كان مجتهدا اشترط الإجماع؛ لأنه ليس مقتديا بإمام، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه، ولا منصوصا عليه جاز أن يمنعه. الثامن: أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب، وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل، ولكنه معلل عند أحدهما بعلة "وعند الآخر بعلة"** أخرى يصلح كل منهما أن يكون علة، وهذا يقال له: مركب الأصل، "وأن اتفقا على علة الأصل*** لاختلافهم في نفس __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". ** ما بين قوسين ساقط من "أ". *** ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/107) الوصف، ولكن منع أحدهما وجودها في الفرع، وهذا يقال له مركب الوصف، لاختلافهم في نفس الوصف، هل له وجود في الأصل أم لا؟ وكلام الصفي الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول، وخالفه الآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما، فجعلوه متناولا لقسمين، وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط، والجمهور على اعتباره، وخالفهم جماعة، فلم يعتبروه، وقد طول الأصوليون، والجدليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته. التاسع: أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع، فإن تعبدنا فيه بالقطع، لم يجز فيه القياس؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، وقد ضعف الأبياري القول بالمنع، وقال: بل ما تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس، الذي يفيده1. وقد قسم المحققون القياس إلى ما لا يفيد العلم، وإلى ما يفيده. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": لعل هذا الشرط مبني على أن دليل "القياس ظني، فلو كان قطعيا، وعلمنا العلة قطعا، ووجودها في الفرع قطعا، فقد علمنا الحكم قطعا، ومن نظر لأن دليل"* الأصل وإن كان قطعيا، وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعا فنفس الإلحاق، وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي. وقد تقدم ابن دقيق العيد إلى مثل هذا الفخر الرازي. العاشر: أن لا يكون معدولا به عن قاعدة القياس، كشهادة خزيمة2، وعدد الركعات، ومقادير الحدود، وما يشابه ذلك؛ لأن إثبات القياس عليه إثبات للحكم مع منافيه، وهذا هو معنى قول الفقهاء: الخارج عن القياس لا يقاس عليه. وممن ذكر هذا الشرط الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب وغيره. وأطلق ابن برهان أن مذهب أصحاب الشافعي، جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس. وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه، وكذلك منع منه الكرخي إلا بإحدى خلال: __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 ذكر الزركشي في البحر قول الأبياري وقال: بل ما يعتد فيه بالعلم ا. هـ البحر المحيط 5/ 92-93. وانظر المستصفى 2/ 331. 2 أخرجه الترمذي من حديث زيد بن ثابت بلفظ: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، الذي جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادته شهادة رجلين، وهو قوله : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } . برقم 3104.وأخرجه النسائي في الكبرى "تحفة الأشراف" 2703. والبيهقي من حديث عمارة بن خزيمة بلفظ "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبه" كتاب الشهادات، باب الأمر بالإشهاد10/ 146. والبخاري من حديث زيد رضي الله عنه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 4988. (2/108) إحداها: أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته. ثانيتها: أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر، وإن اختلفوا في علته. ثالثتها: أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول، وإن كان مخالفا للقياس على أصل آخر. الحادي عشر: أن لا يكون حكم الأصل مغلظا، على خلاف في ذلك. الثاني عشر: أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل؛ لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة، فلو تقدم لزم اجتماع النقيضين، أو الضدين1، وهو محال. هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل. وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطا، والحق عدم اعتبارها. فمنها: أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل، ذكر ذلك بشر المريسي2 والشريف المرتضى. ومنها: أن يشترط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد. قال ذلك جماعة، وخالفهم الجمهور. ومنها: الاتفاق على وجود العلة في الأصل، قاله البعض، وخالفهم الجمهور. ومنها: تأثير الأصل في كل بوضوح، ذكره البعض وخالفهم الجمهور* __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 الضدان: صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض. والفرق بين الضدين والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان ولكن يرتفعان كالسواد والبياض ا. هـ التعريفات 179. 2 هو ابن غياث المعتزلي، فقيه عارف بالفلسفة، وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء. أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ منه نبذا ثم لازم أبا يوسف وأخذ عنه الفقه، وقال برأي الجهمية، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة وروايات عن أبي حنيفة ا. هـ الفوائد البهية 54 سير أعلام النبلاء 10/ 19 شذرات الذهب 2/ 44 الجواهر المضية 1/ 447. (2/109) مباحث العلة: تعريف العلة: واعلم: أن العلة ركن من أركان القياس كما تقدم، فلا يصح بدونها؛ لأنها الجامعة بين الأصل والفرع. (2/109) قال ابن فورك: من الناس من اقتصر على الشبه، ومنع القول بالعلة. وقال ابن السمعاني: ذهب بعض القياسيين، من الحنفية وغيرهم إلى صحة القياس من غير علة إذا لاح بعض الشبه. والحق: ما ذهب إليه الجمهور من أنها معتبرة لا بد منها في كل قياس. وهي في اللغة: اسم لما يتغير الشئ بحصوله، أخذا من العلة التي هي المرض؛ لأن تأثرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض، يقال: اعتل فلان، إذا حال عن الصحة إلى السقم. وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة؛ لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة. وأما في الاصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال: الأول: أنها المعرفة للحكم، بأن جعلت علما على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم، قاله الصيرفي، وأبو زيد من الحنفية، وحكاه سليم الرازي في "التقريب" عن بعض الفقهاء، واختاره صاحب "المحصول"، وصاحب "المنهاج"1. الثاني: أنها الموجبة للحكم بذاتها، لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة، بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل. الثالث: أنها الموجبة للحكم، على معنى: أن الشارع جعلها موجبة بذاتها، وبه قال الغزالي، وسليم الرازي. قال الصفي الهندي: وهو قريب لا باس به. الرابع: أنها الوجبة بالعادة، واختاره الفخر الرازي. الخامس: أنها الباعث على التشريع، بمعنى: أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم. السادس: أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها، وهو اختيار الرازي، وابن الحاجب. السابع: أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها. وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات، فيقال لها: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر. __________ 1 وبهذا القول قال صدر الشريعة، انظر التلويح على التوضيح 2/ 62 وميزان الأصول 2/ 827 (2/110) وقد ذهب المحققون إلى أنه لا بد من دليل على "صحتها؛ لأنها شرعية كالحكم، فكما أنه لا بد من دليل على الحكم، كذلك لا بد من دليل على"* العلة. ومنهم من قال: إنها تحتاج إلى دليلين يعلم بأحدهما أنها علة، وبالآخر أنها صحيحة. وقال ابن فورك: من أصحابنا من قال: يعلم صحة العلة بوجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". (2/111) الشروط المعتبرة في العلة: ولها شروط أربعة وعشرون: الأول: أن تكون مؤثرة في الحكم، فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة. هكذا قال جماعة من أهل الأصول. ومرادهم بالتأثير: المناسبة، قال القاضي في "التقريب": معنى كون العلة مؤثرة في الحكم: هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها، دون شيء سواها. وقيل معناه: إنها جالبة لحكم ومقتضية له. الثاني: أن تكون وصفا ضابطا، بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع، لا حكمة مجردة لخفائها، فلا يظهر إلحاق غيرها بها. وهل يجوز كونها نفس الحكم، وهي الحاجة إلى جلب مصلحة، أو دفع مفسدة؟ قال الرازي في "المحصول": يجوز. وقال غيره: يمتنع. وقال آخرون: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها، واختاره الآمدي، والصفي الهندي. واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها، أي: مظنتها بدلا عنها، ما لم يعارضه قياس1. __________ 1 قال في البحر: والمنقول عن أبي حنيفة المنع، وقال: الحكمة من الأمور الغامضة وشأن الشرع فيما هو كذلك، قطع النظر عن تقدير الحكم عن دليله ومظنته. وعن الشافعي: الجواز وأن اعتبارهما هو الأصل، وإنما اعتبرت المظنة للتسهيل وعلى هذا الأصل ينبني خلافهما في المصابة بالزنا هل تُعطى حكم الإبكار أم الثيبات في السكوت؟ ا. هـ البحر المحيط "5/ 133. (2/111) الثالث: أن تكون ظاهرة جلبة، وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع، على تقدير أن تكون أخفى منه، أو مساويه له في الخفاء. كذا ذكره الآمدي في "جدله"1. الرابع: أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص، ولا إجماع. الخامس: أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها. ووجه ذلك: أن الأقوى أحق بالحكم، كما أن النص أحق بالحكم من القياس. السادس: أن تكون مطردة، أي: كلما وجدت وجد الحكم، لتسلم من النقض والكسر، فإن عارضها نقض أو كسر بطلت. السابع: أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي، أي: لا يبطل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، قاله الجماعة. وذهب الأكثرون إلى جوازه. قال المانعون: لو كان العدم علة للحكم الثبوتي؛ لكان مناسبا أو مظنة، واللازم باطل. وأجيب يمنع بطلان اللازم. الثامن: أن لا تكون العلة المتعدية هي المحل، أو جزء منه؛ لأن ذلك يمنع من تعديتها. التاسع: أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة، والمراد انتفاء العلم أو الظن به؛ إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. العاشر: أن تكون أوصافها مسلمة، أو مدلولا عليها. كذا قال الأستاذ أبو منصور. الحادي عشر: أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع، بنص أو إجماع "كذا قال الأستاذ أبو منصور2*. الثاني عشر: أن لا تكون موجبة للفرع حكمًا، وللأصل حكمًا آخر غيره3. الثالث عشر: أن لا توجب ضدين؛ لأنها حينئذ تكون شاهدة لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 واسم كتابه غاية الأمل في علم الجدل. ا. هـ. معجم المؤلفين 7/ 155، هدية العارفين 1/ 707 2 قال في البحر المحيط 5/ 146: ذكره وما قبله الأستاذ أبو منصور. 3 مثاله: اعتلال من قال: لا زكاة في مال الصبي قياسا على سقوط الجزية عن أموالهم بعلة الصغر، وهذا خطأ لأن المراد من العلة الجمع بين الفرع والأصل في الحكم الواحد، وإذا كان حكمهما في الفرغ غير حكمهما في الأصل خرجت عن أن تكن علة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 146-147. (2/112) الرابع عشر: أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل، خلافا لقوم. الخامس عشر: أن يكون الوصف معينا؛ لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة. السادس عشر: أن يكون طريق إثباتها شرعيًّا كالحكم. ذكره الآمدي في "جدله". السابع عشر: أن لا يكون وصفًا مقدرًا. قال الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة، خلافا للأقلين من المتأخرين. الثامن عشر: إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تر جع على الأصل بإبطاله، أو إبطال بعضه، لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح؛ إذ الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من الاستنباط؛ لأنه فرع له، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال. التاسع عشر: إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تعارض بمعارض منافٍ، موجود في الأصل1. العشرون: إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تتضمن زيادة على النص، أي: حكمًا غير ما أثبته النص. الحادي والعشرون: أن لا تكون معارضة لعلة أخرى، تقتضي نقيض حكمها. الثاني والعشرون: إذا كان الأصل فيه شرط: فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط. الثالث والعشرون: أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع، لا بعمومه ولا بخصوصه، للاستغناء حينئذ عن القياس. الرابع والعشرون: أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي. فهذه شرط العلة. __________ 1 وذلك بأن تبدي علة أخرى من غير ترجيح، وإلا جاز التعليل لمجموعهما أو بالأخرى.ا. هـ. (2/113) ما لا يعتبر من الشروط في العلة: وقد ذكرت لها شروط غير معتبرة على الأصح. منها: ما شرطه فيها الحنفية، وأبو عبد الله البصري: وهو تعدي العلة من الأصل إلى غيره، فلو وقفت على حكم النص لم تؤثر في غيره. (2/113) وهذا يرجع إلى التعليل بالعلة القاصرة، وقد وقع الاتفاق على أنها إذا كانت منصوصة، أو مجمعا عليها: صح التعليل بها1. حكى ذلك القاضي أبو بكر، وابن برهان، والصفي الهندي، وخالفهم القاضي عبد الوهاب، فنقل عن قوم: أنه لا يصح التعليل بها على الإطلاق، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة. قال: وهذا قول أكثر أهل العراق. انتهى. وأما إذا كانت العلة القاصرة مستنبطة: فهي محل الخلاف. فقال أبو بكر القفال: بالمنع. وبمثله قال ابن السمعاني، ونقله إمام الحرمين عن الحليمي. وقال القاضي أبو بكر، وجمهور أصحاب الشافعي: بالجواز. قال القاضي عبد الوهاب: هو قول جميع أصحابنا، وأصحاب الشافعي، وحكاه الآمدي عن أحمد. قال ابن برهان في "الوجيز": كان الأستاذ أبو إسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة، ويقول: هي أولى من المتعدية، واحتج بأن وقوفها يقتضي نفي الحكم عن الأصل "كما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل فيغيره فصار وقوفها مؤثرا"* في النفي، كما كان تعديها مؤثرا في الإثبات، وهذا احتجاج فاسد، واستدلال باطل. ومنها: أن لا يكون وصفها حكمًا شرعيًّا، عند قوم؛ لأنه معلول، فكيف يكون علة؟! والمختار جواز تعليل الحكم الشرعي بالوصف الشرعي. ومنها: أن تكون مستنبطة من أصل مقطوع بحكمه عند قوم. والمختار عدم اعتبار ذلك بل يكتفى بالظن ومنها: القطع بوجود العلة في الفرع عند قوم، منهم: البزدوي. والمختار الاكتفاء بالظن. ومنها: أن لا تكون مخالفة لمذهب صحابي، وذلك عند من يقول بحجية قول الصحابي، لا عند الجمهور. __________ * ما بين قوسين ساقط من "أ". __________ 1 مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما إثمان فلا يعلل بهما ا. هـ البحر المحيط 5/ 157. قال في التلويح 2/ 66: ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب الفضة غير متعدية عنهما؛ إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا، والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة، أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقًا. (2/114) القول في تعدد العلل: وقد اختلفوا في جواز تعدد العلل مع اتحاد الحكم1؛ فإن كان الاتحاد بالنوع، مع الاختلاف بالشخص، كتعليل إباحة قتل زيد بردته، وقتل عمرو بالقصاص، وقتل خالد بالزنا مع الإحصان، فقد اتفقوا على الجواز، وممن نقل الاتفاق على ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي، والآمدي، والصفي الهندي. وأما إذا كان الاتحاد بالشخص، فقيل: لا خلاف في امتناعه بعلل عقلية. وحكى القاضي الخلاف في ذلك، فقال: ثم اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين، فقيل: لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعًا. وقيل: يرتفع بارتفاع إحداهما. وأما تعدد العلل الشرعية، مع الاتحاد في الشخص، كتعليل قتل زيد بكونه قتل من يجب عليه فيه القصاص، وزنى مع الإحصان، فإن كل واحد منهما يوجب القتل بمجرده، فهل يصح تعليل إباحة دمه بهما معا أم لا؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب. الأول: المنع مطلقًا، منصوصة كانت أو مستنبطة. حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم، وجزم به الصيرفي، واختاره الآمدي، ونقله القاضي، وإمام الحرمين. الثاني: الجواز مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه القاضي في "التقريب". قال: وبهذا نقول؛ لأن العلل علامات وأمارات على الأحكام، لا موجبة لها، فلا يستحيل ذلك. قال ابن برهان في "الوجيز": إنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين. الثالث: الجواز في المنصوصة دون المستنبطة2، وإليه ذهب أبو بكر بن فورك، والفخر الرازي، وأتباعه. وذكر إمام الحرمين أن القاضي يميل إليه، وكلام إمام الحرمين هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب في نقل هذا المذهب عن القاضي، كما صرح به في "مختصر المنتهى"، ولكن النقل عن القاضي مختلف كما عرفته. __________ 1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 2/ 342-343. والمنخول 392-393. 2 وأخرج هذا القسم الثالث الزركشي في البحر: حيث قال: ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. قال عبد الوهاب: وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري، والصحيح الجواز مطلقا. ا. هـ البحر المحيط 5/ 158. (2/115) الرابع: الجواز في المستنبطة دون المنصوصة، حكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى"، وابن المنير في "شرحه للبرهان"، وهو قول غريب. والحق: ما ذهب إليه الجمهور من الجواز. وكما ذهبوا إلى الجواز فقد ذهبوا أيضًا إلى الوقوع، ولم يمنع من ذلك عقل ولا شرع. (2/116) الشروط المعتبرة في الفرع: وأما ما يشترط في الفرع فأمور أربعة: أحدهما: مساواة علته لعلة الأصل. والثاني: مساواة حكمه لحكم الأصل. والثالث: أن لا يكون منصوصا عليه. والرابع: أن لا يكون متقدما على حكم الأصل. (2/116) الفصل الرابع: في الكلام على مسالك العلة وهي طرقها الدالة عليها مدخل ... الفصل الرابع: في الكلام على مسالك العلة وهي طرقها الدالة عليها ولما كان لا يكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل والفرع، بل لا بد في اعتباره من دليل يدل عليه، وكانت الأدلة إما بالنص، أو الإجماع، أو الاستنباط، احتاجوا إلى بيان مسالك العلة. وقد أضاف القاضي عبد الوهاب إلى الأدلة الثلاثة دليلا رابعا، وهو العقل، ولم يعتبره الجمهور، بل جعلوا طريق إثبات العلة هو السمع فقط. وقد اختلفوا في عدد هذه المسالك. فقال الرازي في "المحصول": هي عشرة: النص، والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والدوران، والسبر والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط. قال: وأمور أخر اعتبرها قوم، هي عندنا ضعيفة. انتهى. واختلف أهل الأصول في تقديم مسلك الإجماع على مسلك النص، أو مسلك النص على مسلك الإجماع. فمن قدم الإجماع نظر إلى كونه أرجح من ظواهر النصوص؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ. ومن قدم النص نظر إلى كونه أشرف من غيره، وكونه مستند الإجماع، وهذا مجرد اصطلاح في التأليف، فلا مشاحة فيه1. وسنذكر من المسالك ههنا أحد عشر مسلكا: __________ 1 انظر البحر المحيط 5/ 184، وفواتح الرحموت 2/ 295 وميزان الأصول 2/ 843. (2/116) المسلك الأول: الإجماع وهو نوعان: =========== |
وقعة بئر مَعُونَة شهر صفر سنة 4هـ /وتجرأت بنو غَطَفَان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الأولي سنة 4 هـ/سرية أبي سلمة 1/محرم سنة 4هـ/بعث عبد الله بن أُنَيس 5/محرم/سنة 4هـ حتي السبت 25 محرم سنة4هـ/بعث الرَّجِيع شهر صفر 4 للهجرة /واقعة بئر مَعُونة شهر صفر 4 للهجرة غزوة بني النضير ربيع الأول سنة 4 من الهجرة،/غزوة نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادي الأولي سنة 4 هـ(ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة 4 هـ /غزوة ذات الرِّقَاع ربيع2 سنة4هـ/غزوة الخندق فى أواخر السنة الخامسة
...............................................................................................................
الاثنين، 23 أبريل 2018
ارشاد الفحول للشوكاني 11..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق