الثلاثاء، 8 مايو 2018

الأغصان البهية من 548 الي 573..

الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548
وقال جابر - رضي الله عنه - خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ومهل أهل الطريق الآخر الجُحْفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلَمْلَم".
قال: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة -أو أربع- وساق هديًا، فخرجنا معه، معنا النساء والولدان، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عُميس: محمَّد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ فقال: "اغتسلي واستثفري (1) بثوب وأحرمي".
فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وهو صامت (2).
الإحرام
ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهلَّ الحج- وفي رواية: أفرد الحج هو وأصحابه- قال جابر: نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَينَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيهِ يَنْزِلُ الْقُرآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيءٍ عَمِلْنَا بِهِ.
فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ- وفي رواية: ولبى الناس- والناس يزيدون: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيْئًا مِنْهُ،
(1) الاستثفار: أن تشدَّ المرأة فرجها بخرْقة عريضة بعد أن تحتشي قطنًا، فتمنع بذلك سيل الدم.
(2) صامت: يعني لم يُلّبِّ بعد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549
* * *
وَلَزِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: ونحن نقول: لبيك اللهم، لبيك الحج، نصرخ صراخا، لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ مفردا، لا نخلطه بعمرة- وفي رواية: لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، وفي أخرى: أهللنا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصًا ليس مع غيره، خالصًا وحده (1) - وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف (2) عركت (3).
دخول مكة والطواف
حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ صبح رابعة مضت من ذي الحجة، دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فاسْتَلَمَ الرُّكْنَ- وفي رواية: الحجر الأسود (4) - ثم مضى عن يمينه فَرَمَلَ حتى عاد إليه ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا هيّنته (5)، ثُمَّ نَفَذَ إلى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- فَقَرَأَ:
(1) وهذا في أول الحجة، وقبل أن يعلمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مشروعية العمرة في أشهر الحج، وفي ذلك أحاديث منها: حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهلَّ بعمرة فليهل، قالت عائشة: وكنت فيمن أهل بالعمرة. (البخاري، ومسلم). قاله الألباني -رحمه الله- "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (56) هامش.
(2) سرفٍ: بكسر الراء: موضع قرب التنعيم، وهو من مكة على عشرة أميال، وقيل: أقل، وقيل: أكثر.
(3) عركت: أي: حاضت.
(4) قال الألباني -رحمه الله-: واستلم الركن اليماني أيضًا في هذا الطواف، كما في حديث ابن عمر، ولم يقبّله، وإنما قَبَّل الحجر الأسود، وذلك في كل طوْفة."حجة النبي- صلى الله عليه وسلم -" (57) هامش.
(5) قال الألباني -رحمه الله-: وطاف - صلى الله عليه وسلم - مضطبعًا، كما في غير هذا الحديث، والاضبطاع أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن، ويردَّ طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (58) هامش.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550
* * *
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ورفع صوته يسمع الناس فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَينَ الْبَيْتِ، فصلى ركعتين فَكَانَ يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} - وفي رواية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}.
ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه، ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
الوقوف على الصفا والمروة
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ- وفي رواية: باب الصفا- إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وَكَبَّرَهُ ثلاثاً، وحمده وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يحيى ويميت، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لا شريك له، أَنْجَزَ وَعْدَه وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ" ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، وقَالَ: مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ثُمَّ نَزَلَ ماشيًا إلى الْمَروَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذا صَعِدَتَا -يعني: قدماه- الشق الآخر مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَروَةَ، فرقى عليها حتى نظر إلى البيت، فَفَعَلَ - عَلَى الْمَروَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا.
الأمر بنسخ الحج إلى العمرة
حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ- وفي رواية: كان السابع- عَلَى الْمَرْوَةِ، فَقَالَ: "يا أيها الناس لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرتُ لَم أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرةٌ"،- وفي رواية:
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551
* * *
فقال: "أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا (1)، وأقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية (2) فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة".
فَقَامَ سُرَاقَةُ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ - وهو في أسفل المروة- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أرأيت عمرتنا هذه لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ قال: فَشَبَّكَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الْأُخْرَى، وَقَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إلى يوم القيامة، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ"، ثلاث مرات، قال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما نستقبل؟ قال: "لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"، قال: ففيم العمل إذن؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (3).
قال جابر: فأمرنا إذا حللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، كل
(1) هذا هو السنة والأفضل بالنسبة للمتمتع أن يقصر من شعره، ولا يحلقه، وإنما يحلقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية وغيره، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُم اغْفِر لِلْمُحَلّقِينَ"، ثَلَاثًا، "وَللْمُقَصِّرِينَ"، مرة واحدة محمول على غير المتمتع؛ كالقارن والمعتمر عمرة مفردة، فالقول بأن الحلق للمتمتع أفضل- كما هو مذهب الحنفية- ليس بصواب.
قاله الألباني -رحمه الله- "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (61) هامش.
(2) هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سُمِّي بذلك لأنهم كانوا يرتوون من الماء لما بعده، أي: يسقون ويستقون. (نهاية).
(3) زاد في حديث آخر: أما أهل السعادة فيُيسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسَّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} رواه البخاري وغيره. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (63) هامش.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552
* * *
سبعة منا في بدنة، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال: فقلنا: حِلُّ ماذا؟ قال: الحِلُّ كله، قال: فكَبُر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا.
النزول في البطحاء
قَالَ: فَخَرَجْنَا إلى الْبَطْحَاءِ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: عَهْدِي بِأَهْلِي الْيَوْمَ، قَالَ: فتذاكرنا بيننا فقلنا: خرجنا حجاجًا لا نريد إلا الحج، ولا ننوي غيره، حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع- وفي رواية: خمس ليال- أمرنا أن نفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكرينا المني من النساء (1)، قال: يقول جابر بيده، قال الراوي: كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء بلغه من قِبَل الناس.
خطبته - صلى الله عليه وسلم - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له
فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "أبالله تعلموني أيها الناس؟ قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، افعلوا ما آمركم به، فإني لولا هديي لحللتُ كما تحلون، ولكن لا يحل منِّي حرام (2). حتى يبلغ الهدي محلَّه، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلُّوا". قال: فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وسمعنا وأطعنا.
فحلَّ الناس كلهم وقعدوا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي.
(1) إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء (نووي).
(2) أي: لا يحل من شيء حرام.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553
* * *
قال: وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة (1).
التوجُّه إلى منى مُحرمين يوم الثامن
فلما كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر، توجهوا إلى مني فأهلوا بالحج من البطحاء.
قال: ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك؟ " قالت: شأني أني قد حضت، وقد حلَّ الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي"، ففعلت- وفي رواية: فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت.
وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى بها -يعني: مني وفي رواية: بنا- الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبَّة له- من شعر تُضرب له بنمِرة (2).
التوجه إلى عرفات والنزول بنمرة
فَسَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (3) وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
(1) قال الألباني -رحمه الله-: هذا ما اطلع عليه جابر - رضي الله عنه -،فلا يعارض قول عائشة: فكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، وقول أختها أسماء: وكان مع الزبير هدي فلم يحلل، أخرجهما مسلم, لأن من علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدَّم على النافي. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (46) هامش.
(2) هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات، وليست نَمِرة من عرفات.
(3) وكان أصحابه في مسيره هذا منهم الملَبِّي ومنهم المكبِّر، كما في حديث أنس في "الصحيحين". قاله الألباني -رحمه الله-.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554
* * *
بالمزدلفة، ويكون منزله ثَمَّ كَمَا كَانَتْ قُرَيْش تَصْنَعُ في الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضرِبَتْ لَهُ بنمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا.
حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فركب حتى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي (1).
خطبة عرفات
فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْركُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتين مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بن الْحَارِثِ بن عبد المطلب، كَانَ مُسْتَرْضِعًا في بني سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا الله في النِّسَاءِ، فَإِنكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِة الله، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَاِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ الله، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ- وفي رواية: مسؤولون- عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ رسالات ربك، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ لأمتك، وقضيت الذي عليك، فَقَالَ بِإِصبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: "اللهُمَّ اشْهَدْ اللهمَّ اشْهَدْ".
الجمع بين الصلاتين والوقوف على عرفة
ثُمَّ أَذَّنَ بنداء واحد، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ
(1) هو وادي عُرَنة، بضم العين وفتح الراء، وليست من عرفات. (نووي).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555
* * *
يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلى الصَّخَرَاتِ (1)، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بين يديه (2)، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ (3)، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ (4).
وقال: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف".
وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بن زيد خَلْفَهُ.
(1) قال الألباني -رحمه الله-: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، قال النووي: فهذا هو الموقف المستحب، وأما ما اشتهر بين العوام من الأغبياء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلاَّ به فغلط. اهـ "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (73) هامش.
(2) أي: مجتمعهم. السابق.
(3) وجاء في غير حديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف يدعو رافعًا يديه ومن السنُّة أيضًا التلبية في موقفه على عرفة، خلافًا لما ذكره شيخ الإِسلام في "منسكه" ص 383، فقد قال سعيد بن جُبير: كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال لي: يا سعيد مالي لا أسمع الناس يلبون؟ فقلت: يخافون من معاوية، قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك. فإنهم قد تركوا السُّنَّة من بغض عليٍّ- رضي الله عنه -.
ثم روي الطبراني في "الأوسط" 1/ 115/2، والحاكم من طريق أخرى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات, فلما قال:"لبيك اللهم لبيك"، قال:"إنما الخير خير الآخرة". وسنده حسن.
وفي الباب عن ميمونة من فعلها. أخرجه البيهقي. اهـ. السابق.
(4) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفه هذا مفطرًا، فقد أرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه، كما في "الصحيحين" عنها. السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556
* * *
الإفاضة من عرفات
وَدَفَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: أفاض وعليه السكينة- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى هكذا وأشار بباطن كفه إلى السماء: "أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ".
كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا (1) مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ (2).
الجمع بين الصلاتين في المزدلفة والبيات بها
حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا، فجمع الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلَم يُسَبِّحْ (3) بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ (4) وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الفجر، بِأَذَانٍ وإقَامَةٍ.
الوقوف على المشعر الحرام
ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ (5) فرقى عليه، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ- وفي لفظ: فحمد الله- وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ.
(1) الحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه. (نهاية).
(2) وكان في سيره هذا يلبي لا يقطع التلبية، كما في حديث الفضل بن العباس، في "الصحيحين". "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (75) هامش.
(3) لم يُسبح: المقصود منها: لم يصل نفلاً.
(4) قال الألباني: قال ابن القيم: ولم يحيى تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء، قلت: وهو كما قال، وقد بينت حال تلك الأحاديث في "التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب" "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (76) هامش.
(5) المشعر الحرام: هو جبل يُسمى قُزَح، بضم القاف وفتح الزاي، وهو جبل معروف في المزدلفة، وقيل: المشعر الحرام جميع مزدلفة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557
* * *
فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفُ حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، وقال: "وقفت ها هنا، والمزدلفة كلها موقف".
الدفع من المزدلفة لرمي الجمرة
فَدَفَعَ من جمع قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وعليه السكينة (1)، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بن عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الفضل، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلى الشِّقِّ الْآخَرِ، يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ.
حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ (2) فَحَرَّكَ قَلِيلًا (3)، وقال: "عليكم السكينة".
رمي الجمرة الكبرى
ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا ضحى، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وهو على راحلته، يقول: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه" (4). قال: ورمى بعد يوم النحر في
(1) واستمر - صلى الله عليه وسلم - على تلبيته لم يقطعها. السابق.
(2) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة، سُمّي بذلك لأن خيل أصحاب الفيل حُسِر فيه، أي: أعي وكَلَّ، قال ابن القيم: ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة، لا من هذه، ولا من هذه.
قال الألباني: قلت: لكن في صحيح مسلم والنسائي عن الفضل بن عباس أن محسرًا من مني. اهـ.
(3) أي أسرع السير، كما في غير هذا الحديث، وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع الذي نزل فيها بأس الله بأعدائه. اهـ "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (78) هامش.
(4) فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلانهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وحثُّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة في ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سُمِّيت حجة الوداع. (نووي).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558
* * *
سائر أيام التشريق (1)، إذا زالت الشمس، ولقيه سُراقة وهو يرمي جمرة العقبة، فقال: يا رسول الله ألنا هذه خاصة؟ قال: "لا، بل لأبد".
النحر والحلق
ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ - يقول: ما بقى- وَأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.- وفي رواية: قال: نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة، وفي أخرى قال: فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وفي رواية: فاشتركنا في الجزور سبعة، فقال له رجل: أرأيت البقرة أيشترك؟ فقال: "ما هي إلا من البدن"، وفي رواية: قال جابر: كنا لا نأكل من البدن إلا ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كلوا وتزودوا"، قال: فأكلنا وتزودنا حتى بلغنا بها المدينة (2).
رفع الحرج عمن قدم شيئًا من المناسك أو أخر يوم النحر
وفي رواية: نَحَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ وَجَلَسَ بمنى يوم النحر لِلنَّاسِ، فَمَا سُئِلَ يومئذ عَنْ شَيءٍ قدم قبل شيء إِلَّا قَالَ: "لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ" حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: "لَا حَرَجَ".
ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: "لَا حَرَجَ".
ثم جاء آخر فقال: طفت قبل أن أرمي؟ قال: "لا حرج".
وقال آخر: طفت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح لا حرج".
(1) أيام التشريق: هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر.
(2) قال الألباني: وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - قد طيبته - صلى الله عليه وسلم - بالمسك، وذلك عقب رميه - صلى الله عليه وسلم - لجمرة العقبة يوم النحر كما تقدم. اهـ.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559
* * *
ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم لا حرج".
ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد نحرت ها هنا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ، فانحروا من رحالكم".
خطبة النحر
وقال جَابِر - رضي الله عنه -: خَطَبَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: "أَيُّ يوم أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ " فَقَالُوا: يَوْمُنَا هَذَا، قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرمَةً؟ "، قَالُوا: شَهْرُنَا هَذَا، قَالَ: "أَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ "، قَالُوا: بَلَدُنَا هَذَا، قَالَ: "فَإنَّ دمَاءَكُم وَأَمْوَالَكم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا، هَلْ بَلَّغْتُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "اللهُمَّ اشْهَدْ".
الإفاضة لطواف الصدر
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فطافوا (1)، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة (2)، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ.
فَأَتَى بني عبد الْمُطلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: "انْزِعُوا بني عبد الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.
تمام قصة عائشة - رضي الله عنها -
وقال جابر - رضي الله عنه - وإن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم
(1) ثم حلَّ منهم كلَّ شيء حرم منهم، كما في "الصحيحين" عن عائشة وابن عمر (الألباني).
(2) كذا أطلق جابر - رضي الله عنه - وفصلت ذلك عائشة - رضي الله عنها -، حيث قالت: فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مِنى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحداً. اهـ. أخرجه الشيخان (الألباني).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560
* * *
تطف بالبيت.
قال: حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، والصفا والمروة، ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا". قالت: يا رسول الله أتنطلقون بحج وعمرة وانطلق بحج؟ قال: "إن لك مثل ما لهم".
فقالت: إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت.
قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه (1).
قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، فاعتمرت بعد الحج، ثم أقبلت، وذلك ليلة الحَصْبة (2).
وقال جابر: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحِجْر بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإن الناس غَشَوْه.
وقال: رفعت امرأة صبيًا لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" (3).
13 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: قدم عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - من نجران إلى مكة ليحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
وقدم عليٌّ من سعايته من اليمن بِبُدْن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فاطمة - رضي الله عنها - ممن
(1) معناه: إذا هويت شيئًا لا نقص فيه في الدين - مثل طلبها الاعتمار وغيره - أجابها إليه، وفيه حسن معاشرة الأزواج، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} , لا سيما فيما كان من باب الطاعة. (نووي).
(2) سُمِّيت بذلك لأنهم نفروا من مني فنزلوا في المحصَّب وباتوا به. (نووي).
(3) نقلت هذا المبحث بتمامه من كتاب "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه - " للعلامة المحدث الشيخ الألباني - رحمه الله -، وهو عبارة عن عدة روايات صحيحة ساقها الشيخ في سياق واحد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561
* * *
حلَّ: ترجلَّت (1)، ولبست ثيابًا صبغًا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟! فقالت: إن أبي أمرني بهذا.
قال: فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشًا على فاطمة للذي صنعت مُستفتيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فقال: "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، أنا أمرتها به".
قال جابر: وقال لعليّ: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: "فإن معي الهدي فلا تحل، وامكث حرامًا كما أنت". قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن، والذي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مائة بدنة (2).
14 - وفي ذي الحجة منه هذه السنة: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة يوم الجمعة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
الشرح:
عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ نزلت عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
(1) ترجلَّت: أي: تمشَّطت.
(2) المصدر السابق: 66 - 67.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562
* * *
وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الجُمُعَة (1).
15 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: ادَّعى مُسَيلِمة الكذاب النبوة، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا فيه وفي الأسود العَنْسي، فتحقَّقتْ.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأَوْحَى الله إِلَيَّ أَنْ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ (2).
وفي "البخاري" عن أبي هريرة أيضًا: أحدهما العنْسي والآخر مسيلمة (3)
16 - وفي هذه السنة: قدم وفد الأَزْد بقيادة صُرَد بن عبد الله الأَزْدي - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم صُرَد بن عبد الله الأزدي في بضعة عشر رجلاً من قومه، وفدًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلوا على فروة بن عمرو فحيَّاهم وأكرمهم، وأقاموا عنده عشرة أيام، وكان صُرَد أفضلهم، فأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فقاتل بهم أهل
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (45)، كتاب: الإيمان, باب: زيادة الإيمان ونقصانه، ومسلم (3017)، كتاب: التفسير.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4375)، كتاب: المغازي، باب: وقد بني حنيفة ...
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4374)، والحديث أخرجه مسلم أيضًا (2274) في كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563
* * *
جُرَش، فهزمهم (1).
17 - وفي هذه السنة: قدم وفد زُبيد على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم عمر بن معد يكرب الزبيدي في عشرة نفر من زبيد المدينة، فقال: من سيِّد أهل هذه البحرة من بني عمرو بن عامر؟ فقيل له: سعد بن عبادة، فأقبل يقول راحلته حتى أناخ ببابه، فخرج إليه سعد فرحَّب به، وأمر رحله فُحُطَّ وأكرمه وحباه، ثم راح به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم هو ومن معه, وأقام أيامًا، ثم أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجائزة وانصرف إلى بلاده، وأقام مع قومه على الإسلام فلما تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ارتدَّ، ثم رجع إلى الإسلام، وأبلى يوم القادسية وغيرها (2).
18 - وفي هذه السنة: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرْوُة بن مُسَيك المراديُّ، فأسلم، فولّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على: مُراد, وزُبيد، ومُذْحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
وقدم فروة بن مُسَيك المرادي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفارقًا لملوك كندة، ومباعدًا لهم، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مُراد، وزبيد، ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن
(1) "الطبقات" 1/ 337، 338، مختصرًا.
(2) "الطبقات" 1/ 328، "سيرة ابن هشام" 4/ 133 - 134.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564
* * *
سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
19 - وفي هذه السنة: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القَدْمَة الثانية، وفيهم الجاورد بن المعلَّى, وكان نصرانيًا فأسلم.
الشرح:
قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجارود بن عمرو بن حَنَش أخو عبد القيس، وكان نصرانيًا، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّمه فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فخرج من عنده الجارود راجعًا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صُلبًا في دينه حتى هلك (2).
20 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني حنيفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم مُسيلمة الكذَّاب.
الشرح:
قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فكان منزلتهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار من بني النجار، فأتت به بنو حنيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستره بالثياب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، معه عسيب من سَعَف النخل (3)، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسترونه بالثياب، كلمة وسأله, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه (4).
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 132، مختصرًا.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 128.
(3) العسيب: جريد النخل.
(4) "سيرة ابن هشام" 4/ 128.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565
* * *
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَدِمَ مُسَيلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا في بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ ثَابِتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ في أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ الله فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ الله، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ". (1).
31 - وفي هذه السنة: قدم الشقيَّان: عامر بن الطفيل، وأَرْبَد بن قيس بن جَزْء على النبي - صلى الله عليه وسلم - للغدر به، فدعا عليهما، فطُعِن أحدهما، وصُعِق الآخر.
الشرح:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم عامر بن الطفيل وأَرْبَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: "دعه فإن يرد الله به خيرا يهده"، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم"، قال: تجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: "لا ليس ذلك إلى إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء"، قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟، قال: "لا"، قال: فماذا تجعل لي؟ قال: "أجعل لك أَعنَّة الخيل تغزو عليها"، قال: أو ليس ذلك إلى اليوم؟ وكان أوصى إلى أَرْبَد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويراجعه، فدار أَرْبَد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضربه، فاخترط من
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4373)، كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة، ومسلم (2274) قوله: وإني لأراك ... يعني الرؤية التي تقدم ذكرها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566
* * *
سيفه شبرًا ثم حبسه الله تعالى فلم يقدر على سلَّه، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى أربد وما يصنع بسيفه, فقال: "اللهم اكفنيهما بما شئت"، فأرسل الله تعالى على أَرْبَد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربًا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلا جردًا وفتيانًا مردًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يمنعك الله تعالى من ذلك وابنا قيلة" - يريد الأوس والخزرج - فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضمّ عليه سلاحه، فخرج وهو يقول: واللات والعزى لئن أصحر محمَّد إليّ وصاحبه - يعني ملك الموت - لأنفذنّهما برمحي، فلما رأى تعالى ذلك منه أرسل ملكًا فلطمه بجناحيه فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة كغدة البعير، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية، ثم مات على ظهر فرسه، وأنزل الله تعالى فيه هذه القصة: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} حتى بلغ {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 13 - 14] (1).
22 - وفي هذه السنة: قدم وفد طيِّئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم زيد الخير، فأسلموا.
الشرح:
وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد طيئ فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلَّموه وعرض عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير (2).
(1) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" (159، 160)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 320، وابن هشام في "السيرة" 4/ 122 - 124، وانظر: "البداية والنهاية" 5/ 125 - 128.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 129.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567
* * *
23 - وفي هذه السنة: قدم وَبَرُ بن يُحَنس على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام, فأسلم فيروز الديلمي، ووهب بن منبِّه، وعطاء بن مَرْكَبود، وغيرهم.
الشرح:
في سنة عشر قدم وبر بن يُحَنّس على الأبناء من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل على بنات النعمان بن بُزْرَج، فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي، فأسلم، وإلى مركبود، فأسلم (1).
24 - وفي هذه السنة: أسلم (باذان) ملك اليمن، وبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليمن.
الشرح:
كان باذان ملك اليمن في زمانه، وأسلم (باذان) لما هلك كسرى، وبعث بإسلامه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتغله على بلاده (2).
25 - وفي هذه السنة: قدم وفد كندة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم الأشعث بن قيس الكندي، فأسلموا.
الشرح:
قدم وقد كِنْدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا (3)، وعَن الْأَشْعَثِ بن قَيْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي وَفْدِ كِنْدَةَ، وَلَا يَرَوْنِي إِلَّا أَفْضَلَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا
(1) انظر: "الإصابة" 3/ 2078 , و"تاريخ الطبري" 2/ 209.
(2) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 133، و "الإصابة" 1/ 192.
(3) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 134.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568
* * *
رَسُولَ الله أَلَسْتُمْ مِنَّا؟ فَقَالَ: نَحْنُ بنو النَّضْرِ بن كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، قَالَ فَكَانَ الْأَشْعَثُ بن قَيْسٍ، يَقُولُ: لَا أُتِي بِرَجُلٍ نَفَى رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، ومِنْ النَّضْرِ بن كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ (1).
26 - وفي هذه السنة: قدم وفد مُحارب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد محارب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر، منهم سواء بن الحارث، وابنه: خزيمة بن سواء، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، فأسلموا، وقالوا: نحن على من وراءنا. وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى أهلهم (2).
27 - وفي هذه السنة: نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} [النور: 58] , وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك
الشرح:
قال ابن سيد الناس - رحمه الله - في معرض ذكره لأحداث السنة العاشرة من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ونزول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]،
(1) حسن: أخرجه ابن ماجه (2612)، كتاب: الحدود، باب: من نفى رجلاً من قبيلته، وحسنه الألباني (الصحيحة) (2375).
(2) "الطبقات" 1/ 299، مختصرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569
* * *
وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك. اهـ (1).
28 - وفي هذه السنة: مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سنة ونصف.
الشرح:
قال ابن حجر - رحمه الله -:
إبراهيم ابن سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، أمُّه مارية القبطية، ولدته في ذي الحجة سنة ثمان، قال مصعب الزبيري: ومات سنة عشر، جزم به الواقدي، وقال يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول. اهـ (2).
29 - وفي هذه السنة: كسفت الشمس يوم موت إبراهيم, فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف.
الشرح:
عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قال: كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ, فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا الله وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ" (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَصَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلكَ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ عُرِضَ عَلَىَّ كُلُّ شَيْءٍ تُولَجُونَهُ فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ - أوْ قَالَ: تَنَاوَلْتُ مِنْهَما قِطْفًا - فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ، وَعُرِضَتْ عَلَىَّ النَّارُ،
(1) "عيون الأثر" 2/ 374.
(2) "الإصابة" 1/ 105، وانظر: "عيون الأثر" 2/ 374.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1060)، كتاب: الكسوف، باب: الدعاء في الكسوف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570
* * *
فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بني إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ (1)، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بن مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ (2) في النَّارِ".
وفي رواية: "وَرَأَيْتُ في النَّارِ امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْداءَ طَوِيلَةً" وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بني إِسْرَائِيلَ.
وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ حِينَ انْصَرَفَ - من الصلاة - وَقَدْ آضَتْ الشَّمْسُ (3)، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ، مَا مِنْ شَيءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ في صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَن يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ (4)، فَإنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ, وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ, الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ في مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ في صَلَاتِي هَذِهِ" (5).
وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: انْصَرَفَ رَسُولُ الله - من الصلاة - وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ الله، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا
(1) خشاش الأرض: أي من هوامها وحشراتها، وقيل: من صغار الطير. (نووي).
(2) قصبه: أمعاءه.
(3) آضت الشمس: أي رجعت إلى حالها الأول قبل الكسوف، وهو من آض يئيض إذا رجع. (نووي).
(4) المحجن: هو عصا معكوفة الطرف.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (904)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571
* * *
وَادْعُوا الله وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنْ الله أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ" (1).
وفي رواية: عَنْ عَائِشَةَ أيضًا أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ وَرَأيتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ" (2).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أن الصحابة قَالُوا: يَا رَسُولَ الله رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا في مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ (3)، فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِ الْعَشِيرِ، وَبكُفْرِ الإِحْسَانِ، لَوْ أَحْسَنْتَ إلى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" (4).
قال ابن حجر - رحمه الله -:
يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم- يَعْنِي: اِبْن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُور أَهْل السِّيَر أَنَّهُ
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (1044)، كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1046)، كتاب: الكسوف، باب: خطبة الإمام في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، واللفظ لمسلم.
قوله: "وهو الذي سيَّب السوائب"، السائبة: ناقة, أو بقرة, أو شاة إذا بلغت من العمر شيئًا اصطلحوا عليه سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، تقربًا للآلهة وكان ابن لحُيّ هو الذي سنَّ ذلك.
(3) كففت: أي وقفت.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (1052)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907)، كتاب: الكسوف، باب: ما عُرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572
* * *
مَاتَ في السَّنَة الْعَاشِرَة مِنْ الْهِجْرَة، فَقِيلَ: في رَبِيع الْأَوَّل، وَقِيلَ: فِي رَمَضَان، وَقِيلَ: في ذِي الْحِجَّة، لِأَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّة في الْحَجّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ وَفَاته وَكَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَاف، نَعَمْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَة تِسْع فَإِنْ ثَبَتَ يَصِحّ، وَجَزَمَ النَّوَوِيّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَة الْحُدَيْبِيَة، وَيُجَاب بِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَجَعَ مِنْهَا في آخِر الشَّهْر. اهـ (1).
30 - وفي هذه السنة: أسلم أميرُ من أُمراء الروم، وأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بإسلامه، فعلم الروم، فأخذوه وقتلوه، وهو فروة بن عمرو الجذامي.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه، غلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم، ثم أخذوه فصلبوه على ماء يقال له: عفرى بفلسطين، ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء. اهـ (2).
31 - وفي هذه السنة: قدم وفد الرهاويين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم خمسة عشر رجلاً من الرهاويين، وهم حيٌّ من مذحج، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) "فتح الباري" 2/ 614، 615.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 138، بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق