...............................................................................................................

الاثنين، 7 مايو 2018

6 الاغصان



الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم: 77 - 80] (1).
وكان ممن عذب صهيب الرومي:
قال ابن حجر نقلاً عن البغوي:
وكان من المستضعفين ممن يعذب في الله (2).
ولما أقبل أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - إلى مكة مؤمنًا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي" فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله, فثَارَ عليه الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ, فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تُجَّارِكُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ بِمِثْلِهَا، وَثَارُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَأَنْقَذَهُ (3).
فهذا قليل من كثير مما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من كفار مكة لإرغامهم على ترك عقيدة التوحيد.
ووالله ما كان هذا منهم لتكذيبهم له - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعلمون جيدًا أنه الصادق، وقد شهدوا له بذلك حتى بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الذي حملهم على ذلك جحودهم وظلمهم وكبرهم! قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا
(1) متفق عليه أخرجه البخاري (2425) , كتاب: الخصومات، باب: التقاضي، ومسلم (2795) كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح.
(2) "الإصابة" 2/ 909.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2473) كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل أبي ذر.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74
* * *
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ...} [النمل: 14]، وكانوا ينكرون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5] وكان من أسباب محاربتهم للدعوة أن قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31].
فلم يكن عندهم أدنى استعداد لترك دين الآباء والأجداد حتى قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32].
ثم التجأ المشركون- بعد ذلك إلى أسلوب آخر ألا وهو أسلوب التشكيك -أي: تشكيك المؤمنين في دينهم ونبيهم- فلجأوا إلى طلب المستحيلات، حتى يعجز عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يغمزُن بعد ذلك أصحابه أنه لو كان نبيًا حقًا لما عجز عن ذلك، فكانوا يطالبونه بهذه الآيات ويقولون حتى تطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين، وهم لا ينوون في قرارة أنفسهم إلا نكران هذه الآيات.
فلما علم الله منهم أنهم يطالبون بهذه الآيات على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى، والرشاد لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيِّهم وضلالتهم يترددون (1).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا
(1) "البداية والنهاية" 3/ 56.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75
* * *
الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ، قَالَ: "وَتَفْعَلُوا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لك: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، قَالَ: "بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ" (1).
ثم سأل المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشق لهم القمر شقين فأجابهم الله لهذا:
فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِرْقَتَينِ فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشْهَدُوا" (2).
فلما انشق القمر قال كفار قريش: سحركم ابن أبي كبشه، فقال: رجل منهم: إن محمدًا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا، فسألوا فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك (3).
ثم التجأ المشركون بعد ذلك إلى أسلوب المجادلة:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: اجتمعت قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، وينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة،
(1) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 345، وابن جرير في "التفسير" 15/ 108، والحاكم 2/ 362، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، قال الألباني وهو كما قالا "صحيح السيرة" (152 - 153).
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (4867)، كتاب: "التفسير"، باب: قوله تعالى وانشق القمر، ومسلم (2802)، كتاب: صفة القيامة، باب: انشقاق القمر.
(3) "عيون الأثر" 1/ 207.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76
* * *
فقالوا: أنت يا أبا الوليد! فأتاه عتبة فقال: يا محمَّد! أنت خيرٌ أم عبد الله؟ فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول لله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة (1) قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى (2)، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا، وإن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "فرغت؟ " قال: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} " إلى أن بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} " [فصلت:1 - 13] فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نصبها بيِّنة، ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك أيكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله, ما فهمت شيئًا مما قال، غير ذكر الصاعقة (3).
(1) السخل: المولود المحبب إلى أبويه، وهو في الأصل ولد الغنم. "النهاية في غريب الحديث والأثر" ابن الأثير، ط. دار المعرفة, بيروت.
(2) أي ما ننتظر إلا وقتًا قليلاً قدر ما تصيح الحُبلى ثم تضع.
(3) صحيح: أخرجه الحاكم 2/ 506، 507، وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، قال الألباني: وهو كما قالا انظر "صحيح السيرة" 159، 160.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77
* * *
6 - عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتماعات سرية بالمسلمين في دار الأرقم ليُعلِّمهم شرائع الإسلام.
الشرح:
كانت هذه الدار في أصل الصفا بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلوا عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإِسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة.
ومما لم يكن يُشك فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو اجتمع بالمسلمين علنًا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب والحكمة، وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل قد وقع ذلك فعلاً، فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام.
ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة السرية والاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم وإجتماعهم، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرًا، نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام (1).
(1) "الرحيق المختوم" 97، 98.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78
* * *
7 - وفي السنة الخامسة من البعثة: هاجر جماعة من الصحابة إلى الحبشة - بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفاظًا على دينهم, منهم: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب, فأقاموا بها عشر سنين.
الشرح:
كان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وقيل وامرأتان، وقيل كانوا إثنى عشر رجلاً، وقيل عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار (1).
سبب الهجرة إلى الحبشة:
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها:
لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه"، فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلمًا (2).
المهاجرون الأولون إلى الحبشة:
كان عثمان بن عفان أول من خرج إلى أرض الحبشة، ومعه امرأته رقية
(1) "فتح الباري" 7/ 227.
(2) سيأتي تخريجه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79
* * *
بنت رسول - صلى الله عليه وسلم - (1)، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، فولدت له بأرض الحبشة محمَّد بن أبي حذيفة، ثم تبعهم مصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سَبرة بن أبي رُهُم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وسهيل بن بيضاء.
فهؤلاء أحد عشر رجلاً وخمسة نسوة.
قيل: وكان عليهم عثمان بن مظعون.
وهو قول أكثر أهل السير.
وقيل: كان عليهم عثمان بن عفان. والله أعلم.
رجوع المهاجرين إلى مكة مرة أخري:
ثم حدث بعد ذلك أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بمكة فلما وصل إلى آية السجدة منها سَجَدَ وسجد معه المسلمون والمشركون وحتى الجن سجدوا، ومَا بَقِيَ أحد مِنْ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ (2).
فوصل هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ولكن بصورة أخرى، حيث وصلهم أن مشركي مكة قد أسلموا، فرجعوا.
حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة
(1) رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام. أخرجه البيهقي في "الدلائل" والفسوي في "المعرفة والتاريخ" وهو حديث ضعيف لا يصح.
(2) صحيح: انظر: "صحيح البخاري" (1067، 1070، 1071) كتاب: سجود القرآن.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80
* * *
كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيًا، فكان ممن دخل عليه مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد معه بدرًا، ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومن مات بمكة (1).
وكان ممن دخل منهم بجوار: عثمان بن مظعون دخل بجوارٍ من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد دخل بجوار من أبي طالب بن عبد المطلب، وكان خاله، فأم أبي سلمة هي بَرَّةُ بنت عبد المطلب (2).
عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد:
فلما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله مالا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وَفَتْ ذمَّتُك، قد رددت إليك جوارك، فقال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي، قال: لا, ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره! قال: فانطلقْ إلى المسجد فارددْ علي جواري علانية كما أجرتك علانية، قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علىَّ جواري، قال: صدق قد وجدته وفيًا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان (3).
قصة أبي سلمة في جواره:
لما استجار أبو سلمة بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، قالوا:
(1) "سيرة ابن هشام" 1/ 247.
(2) "سيرة ابن هشام" 1/ 248. بتصرف يسير.
(3) "سيرة ابن هشام" 1/ 248، 249.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81
* * *
يا أبا طالب، لقد منعت منا ابن أخيك محمدًا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وأنا إن لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قوله ,والله لتنتهنَّ عنه أو لنقومنَّ معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، قال فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة، وكان لهم وليًا وناصرًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبقوا على ذلك (1).
دخول أبي بكر في جوار ابن الدُّغُنَّة ورد جواره عليه:
روى ابن إسحاق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى سار مكة يومًا أو يومين، لقيه ابن الدغنة (2) أخو بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش (3) فقال ابن الدغنة: أين أبو بكر؟ قال: أخرجني وآذوني، وضيقوا عليَّ، قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتُكسب المعدوم، ارجع فأنت في جواري، فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا بخير، قالت: فكفوا عنه، قالت: وكان
(1) "سيرة ابن هشام" 1/ 249.
(2) ابن الدغنة: ضبط بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون مخففة، وبضم الدال والغين وفتح النون مشددة، فالأول ضبط المحدثين، والثاني ضبط أهل اللغة، وفي القاموس أو بضم فسكون كخرمة, قال السهيلي: والدُغنة اسم امرأة عُرف بها الرجال، والدغن: الغيم بعد المطر. من تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد على "سيرة ابن هشام".
(3) الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث، والتحبش: التجمع، وقيل: حالفوا قريشًا تحت جبل يسمى حُبْشيًا بأسفل مكة فسموا بذلك. من تعليقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد على "سيرة ابن هشام".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82
* * *
لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمح، فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقًا، إذا قرأ القرآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة, فقالوا: يا ابن الدغنة، إن لم تُجرْ هذا الرجل ليُؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي وكانت له هيئة ونحوٌ، فنحن نتخوف علنى صبياننا ونسائنا وضَعَفَتِنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع ما شاء، قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال له: يا أبا بكر، إني لم أُجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه، وتأذُّوا بذلك منك، فأدخل بيتك، فاصنع فيها ما أحببت، قال: أو أرُدُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد على جواري، قال: قد رددته عليك، قالت: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم (1).
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلي نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا (2).
وكان عدد المهاجرين في هذه المرة نحو ثمانين رجلاً كما جاء في حديث ابن مسعود (3).
(1) "سيرة ابن هشام" 1/ 250، 251. بتصرف يسير.
(2) "الرحيق المختوم" (99).
(3) حسن: أخرجه أحمد 4/ 4400، الحاكم 2/ 623 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن سيد الناس في "عيون الأثر"، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" 164، 166.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83
* * *
قريش ترسل عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليردَّ المسلمين:
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته (1).
ولنترك إحدى شهود العيان تحكى لنا تفاصيل ما دار هناك في أرض الحبشة، وما دار بين النجاشي - رضي الله عنه - ورسولا قريش.
تقول السيدة أم سلمة - رضي الله عنها -: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنَّا على ديننا، وعبدنا الله, لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمَّروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هدية قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجَا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبعد من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منَّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم
(1) "الرحيق المختوم" (99)، بطارقته: جمع بطريق، وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب وتقدم عندهم. "النهاية في غريب الحديث".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84
* * *
إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعماهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله، ايْمُ الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ، قومًا جاوروني نزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85
* * *
والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنَّا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص)، قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أُكادُ، قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه؟ قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله (1) فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في
(1) أي: ولم ينزل بنا همٌّ مثله، خوفًا من النجاشي وأن ذلك يخالف عقيدته.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86
* * *
عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبيا، كائنًا في ذلك ما هو كائن (1)، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (2). قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله! (3) اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، والسيوم: الآمنون, من سبكم غُرِّم ثم من سبكم غُزِم، فما أُحب أن لي دَبْرًا ذهبًا وأني آذيت رجلاً منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة فيه, وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع
(1) وهذا موقف عظيم نتعلمه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يحملهم ما هم فيه من شدة وبلاء على الكذب والتدليس وأن يقولوا في عيسى بن مريم خلاف عقيدتهم التي تخالف عقيدة النصارى، بل قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن، فكان ما كان من النجاشي أن أجلسهم في أرضه وتحت حمايته مطمئنين وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "فإن الصدق طمأنينة" الترمذي (2518)، وأحمد 1/ 200، وصححه الألباني "صحيح الجامع" (3378).
بل إن ذلك أدى إلى إسلام النجاشي.
فتعلموا يا شباب الصحوة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومواقف صحابته، فهؤلاء والله الذين يُقتدى بهم، فإن اقتديتم بهم فنعم الاقتداء.
(2) امرأة بتول: أي منقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم، وبها سُميت مريم أم المسيح عليهما السلام. "النهاية في غريب الحديث".
(3) النخيرة صوت الأنف. قال ابن الأثير: فتناخرت بطارقته أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور. "النهاية في غريب الحديث".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق