الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521
أي: مكافأة له لما صنع حيث ألبس العباس - رضي الله عنه - قميصه حين قدم العباس المدينة فلم يجدوا قميصًا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أُبيٍّ.
29 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - أميرًا على الحج في شهر ذي الحجة سنة تسع؛ ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - ومن معه من المسلمين (1).
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ في الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (2).
30 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - إلى الحج ليقرأ على الناس (براءة) ففعل ذلك يوم النحر عند الجمرة.
الشرح:
ثُمَّ بعث النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لَا
(1) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 16.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1622)، كتاب: الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، ومسلم (1347)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522
* * *
يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (1).
عَنْ زَيْدِ بن أُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةْ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يدخلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا (2).
31 - وفي هذه السنة: توفِّيت أُم كلثوم - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قال ابن سعد -رحمه الله-:
خرجت أم كلثوم إلى المدينة لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع فاطمة وغيرها من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها عثمان بعد وفاة أختها رقية، في ربيع الأول سنة ثلاث، وماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له. اهـ (3).
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنَا بنتَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: "هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ (4) اللَّيْلَةَ؟ " فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: "فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا" (5).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4656)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3].
(2) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 579، والترمذي (3092)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "الإرواء" (1101).
(3) "الطبقات" 8/ 25.
(4) يقارف: يجامع.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1342)، كتاب: الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة؟
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523
* * *
قال ابن حجر -رحمه الله-:
هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"، في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في "الذرية الطاهرة"، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط"، والحاكم في "المستدرك". قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر لم يشهدها، قلت (ابن حجر): وَهِمَ حماد في تسميتها فقط. اهـ (1).
32 - وفي هذه السنة: تُوفّيّ سهيل بن بيضاء الفهريُّ وصلَّي عليه سوله الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
الشرح:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
خرج سهيل مهاجرًا إلى أرض الحبشة، حتى فشا الإسلام وظهر، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأقام معه حتى هاجر، وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعًا، ثم شهد بدرًا، ومات بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد.
روى الدراورديُّ عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد. اهـ (2).
(1) "فتح الباري" 3/ 188 - 189.
(2) "الاستيعاب" (343).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524
* * *
33 - وفي هذه السنة: قُتِل مَلِكُ الفُرْس، ومَلَّكوا ابنته (بوران) عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة".
الشرح:
عَنْ أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً" (1).
34 - وفي هذه السنة: فُرضَت الصدقات، وفرَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّاله على الصدقات.
الشرح:
قال ابن إسحاق -رحمه الله-:
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أُمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإِسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنَسْي وهو بها، وبعث زيد بن لبيد، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيِّئ، وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه- إلى أهل نجران، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم (2).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (7099)، كتاب: الفتن، باب رقم (18)، وانظر: "شذارت الذهب" 1/ 24.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 144.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525
* * *
35 - وفي هذه السنة: قدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ثم عاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، فما أمسي ذلك اليوم في حاضره رجله ولا امرأة إلاَّ مسلمًا.
الشرح:
عن أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ فَقَالَ: لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتّكئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، قُلْنَا لَهُ: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَجَبْتُكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي سَائِلُكَ يَا مُحَمَّدُ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: "سَلْ مَا بَدَا لَكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: نَشَدْتُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ الله أَرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بن ثَعْلَبَةَ أَخُو بني سَعْدِ بن بَكْرٍ (1)، فانطلق ضمام فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال بئست اللات والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون؟ قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد
(1) صحيح: أخرجه البخاري (63)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في العلم، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526
* * *
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلاَّ مسلمًا.
يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (1).
36 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأَزْوَر، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القايف، وسلمة بن حبيش، وطلحة بن خويلد، ونقادة بن عبد الله بن خلف (2).
37 - وفي هذه السنة: قدم وفد الداريين مِن لَخْمٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد الداريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من تبوك، وهم عشرة نفر، فيهم تميم ونُعيم ابنا أوس بني خارجة بن سواد بن جُذيمة بن درَّاع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نُمارة بن لخم، ويزيد بن قيس بن خارجة، والفاكهة بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند والطيب ابنا ذرٍّ، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومُرَّة ابنا مالك بن سياد، فأسلموا (3).
(1) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 4/ 127، 128. عن ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالتحديث، وفيه: محمَّد بن الوليد بن نُويفع، مقبول قد وُثِّق.
(2) "الطبقات" 1/ 292.
(3) "الطبقات" 1/ 343.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527
* * *
38 - وفي هذه السنة: قدم وفد بَهْراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد بَهْراء من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببني جُديلة، فخرج إليهم المقداد فرحب بهم، وأنزلهم في منزل من الدار، وأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسلموا وتعلَّموا الفرائض وأقاموا أيامًا، ثم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُودعونه، فأمر بجوائزهم وانصرفوا إلى أهلهم (1).
39 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
وَفِدَ من بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثلاثة نفر: معاوية بن ثور بن عبادة بن البَكَّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له: بشر، والفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو البكائي، وهو الأصم، فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزل وضيافة وأجازهم ورجعوا إلى أهلهم (2).
40 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني فزارة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان ذلك سنة تسع، قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجة بن حصن، والحُرُّ بن قيس بن حصن وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مُقرِّين بالإِسلام، وسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) "الطبقات" 1/ 331.
(2) "الطبقات" 1/ 304.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528
* * *
عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فدعا لهم فمطرت (1).
41 - وفي هذه السنة: قدم وفد ثعلبة بن مُنْقِذٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
ذكر قدوم وفد ثعلبة بن مُنقذ، ابن جرير الطبري في "تاريخه"، ضمن حوادث سنة تسع (2).
42 - وفي هذه السنة: قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتوا المسجد، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على جنازة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنتم؟ " قالوا: من بني سعد هُذيم فأسلموا وبايعوا، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُنزلوا وضُيِّفوا ثلاثًا، ثم جاءوا ليودعوه فقال: "أَمِّروا عليكم أحدكم"، وأمر بلالًا فأجازهم بأواق من فضة، ورجعوا إلى قومهم، فرزقهم الله الإِسلام (3).
43 - وفي هذه السنة: قدم وفدُ مرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر
(1) "الطبقات" 1/ 297، مختصرًا.
(2) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 191.
(3) "الطبقات" 1/ 329، 330، بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529
* * *
نفرًا، رأسهم الحارث بن عوف، فأجازهم، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف ثنتي عشرة أُوقَيَّة، وذكروا أن بلادهم مجدبة، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مَطَرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
44 - وفي هذه السنة: قدم وفد كلاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد بني كلاب في سنة تسع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثة عشر رجلاً، فيهم لَبيد بن ربيعة، وجَبَّار بن سَلْمى، فأنزلهم دار رَمْلَة بنت الحارث، وكان بين جبار وكعب بن مالك خُلَّة، فبلغ كعبًا قدومهم، فرحَّب بهم وأهدى لجبار وأكرمه، وخرجوا مع كعب فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّموا عليه بسلام الإسلام، وقالوا: إنَّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله وبسنتك التي أمرته، وإنه دعانا إلى الله فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصدقة من أغنيائنا فردَّها على فقرائنا (2).
45 - وفي هذه السنة: قدم وفد كنانة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
وَفِدَ واثلة بن الأسقع الليثي على رسول الله، فقدم المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك، فصلَّى معه الصبح، فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى أهله فأخبرهم، فقال له أبوه: والله لا أكلمك كلمة أبدًا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهزته، فخرج راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجده قد صار إلى
(1) "الطبقات" 1/ 297، 298، بتصرف.
(2) "الطبقات" 1/ 300.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530
* * *
تبوك، فقال: من يحملني عُقبه وله سهمي؟ فحمله كعب بن عُجرة - رضي الله عنه - حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه تبوك، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فغنم فجاء بسهمه إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله، وسوَّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله (1).
46 - وفي هذه السنة: قدم وفد تُجيبٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد تُجيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلًا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وأمر بلالًا أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما يُجيز به الوفد، ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم بمنى سنة عشر (2).
47 - وفي هذه السنة: آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا.
الشرح:
عن عبد الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: "لَا وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنِّ شَهْرًا" فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ
(1) "الطبقات" 1/ 305 - 306.
(2) "الطبقات" 1/ 323، باختصار.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531
* * *
دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ (1).
فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسائه قيل له: يا رسول الله آليت منهنَّ شهرًا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشهر تسع وعشرون" (2).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةٌ وَعَائِشَةُ قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أأتمره إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا بنيِّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ الله وَغَضَبَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بنيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5203)، كتاب: النكاح، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه في غير بيوتهنَّ.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5201)، كتاب: النكاح، باب: قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} [النساء: 34].
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532
* * *
دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ: رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلَامٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (1) مغبورًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبًا مُعَلَّقَةٌ (2) فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله، فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ" (3).
وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى
(1) القرظ: ورق السَّلَم، مضبورًا: مجموعًا.
(2) أهُبًا: جمع إهاب وهو الجلد قبل الدبغ.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4913)، كتاب: التفسير، باب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} [التحريم: 1]، ومسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533
* * *
عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا بنتَ أبي بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَا يُحِبُّكِ وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: هُوَ في خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْحَدِرُ، فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ" قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا" قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى في وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ الله مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأبو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ الله- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534
* * *
يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4] وَكَانَتْ عَائِشَةُ بنتُ أبي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَطَلَّقْتَهُنَّ، قَالَ: "لَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِنْ شِئْتَ" فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ وَكَانَ مِنْ أَحسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ" فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ (1).
سبب إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه:
عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عَسَلًا، قَالَتْ: فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ (2) أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَت ذَلِكَ لَهُ،
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء.
(2) المغافير: صمغ حلو ينضحه شجر يقال له: العُرفُط، له رائحة كريهة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535
* * *
فَقَالَ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا} [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا (1).
فكان هذا هو تظاهر عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب غضبه وإيلائه من نسائه - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (2).
48 - وفي هذه السنة: لاعن عُوَيْمر العَجْلاني امرأته.
الشرح:
عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِى جَاءَ إلى عَاصِمِ بن عَدِيٍّ الْأَنْصارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِم أَرَأَيتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إلى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَم تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4912)، كتاب: التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق.
(2) "عيون الأثر" 2/ 374.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536
* * *
رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا" قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ الله إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ" (1).
وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (2).
49 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن.
الشرح:
الذي في "الإصابة" (3)، و"الاستيعاب" (4)، و"أُسْد الغابة" (5). أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه عاملًا على صدقات اليمن، وليست سرية. والله أعلم.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4854)، كتاب: الحدود، باب: من أظهر الفاحشة والتهمة بغير بيِّنة، ومسلم (1492)، كتاب: اللعان.
(2) "عيون الأثر" 2/ 374.
(3) 1/ 461.
(4) (229).
(5) 2/ 87، 88.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537
* * *
السنة العاشرة من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539
* * *
السنة العاشرة من الهجرة
وفيها ثمانية وثلاثون حدثًا:
1 - في ربيع الأوَّل من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني عبد المدان بنجران.
الشرح:
أرسل -عليه الصلاة والسلام - خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المدان بنجران من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإِسلام ثلاث مرات، فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإِسلام، ويقولون: أسْلِموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، فأقام خالد بينهم يعلمهم الإِسلام والقرآن، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل (1).
وذكر ابن إسحاق هذه السرية وقال: سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر (2).
2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: جاء وفد الحارث بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
فأقبل خالد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب،
(1) "نور اليقين" ص 181، 182، والسرية ذكرها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 154، والطبري في "التاريخ" 2/ 194.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 139.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541
* * *
منهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله بن قُراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القَناني، وعمرو بن عبد الله الضِّبابي، وأمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني الحارث بن كعب قيسَ بن الحصين، فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة (1).
3 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم عدي بن حاتم الطائي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم.
الشرح:
عَنْ عَدِيِّ بن حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا عَدِيُّ بن حَاتِمٍ وَجِئْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلا كِتَابٍ فَلَمَّا دُفِعْتُ إِلَيْهِ أَخَذَ بِيَدِي وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ الله يَدَهُ فِي يَدِي" قَالَ: فَقَامَ فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ مَعَهَا، فَقَالَا: إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَامَ مَعَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُمَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَى بِي دَارَهُ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا يُضرُّكَ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى الله؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ الله أَكْبَرُ وَتَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكبَرُ مِنْ الله؟ "، قَال: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيهِمْ وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَعَلْتُ أَغْشَاهُ آتِيهِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ عَشِيَّةً إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ في ثِيَابٍ مِنْ الصُّوفِ مِنْ هَذِهِ النِّمَارِ، قَالَ: فَصَلَّى وَقَامَ فَحَثَّ عَلَيْهِمْ، ثُم قَالَ:
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 139، 140، "الطبقات" 1/ 339، مختصرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542
* * *
"وَلَوْ صَاعٌ وَلَوْ بنصْفِ صَاعٍ وَلَوْ بِقَبْضَةٍ وَلَوْ بِبَعْضِ قَبْضَةٍ يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَوْ النَّارِ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَاقِي الله وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَبَعْدَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَقِي بِهِ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ فَإنِّي لَا أَخَافُ عَلَيكُمْ الْفَاقَةَ فَإنَّ الله نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يثْرِبَ وَالْحِيرَةِ أَوْ أكثَرَ مَا تَخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقَ"، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ في نَفْسِي: فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيّىءٍ؟ (1).
وذكره الطبري (2)، ضمن أحداث السنة العاشرة.
4 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم وفد خولان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين مُصَدِّقين.
الشرح:
قدم وفد خولان في شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن صنمهم الذي يقال له: عَمُّ أَنَس، فقالوا: أُبدلنا به خيرًا منه، ولو قد رجعنا لهدمناه، وتعلَّموا القرآن والسنة، فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله (3).
(1) حسن: أخرجه الترمذي (2953)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، وحسنه الألباني "صحيح السنن".
(2) "التاريخ" 2/ 200.
(3) "الطبقات" 1/ 324، مختصرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543
* * *
5 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان، وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فسلَّموا عليه وأقرُّوا بالإِسلام، وكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كتابًا فيه شرائع الإِسلام، وأتوا أبي بن كعب فعلَّمهم قرآنًا، وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يجيز الوفد وانصرفوا (1).
6 - وفي رمضان من هذه السنة: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين يومًا، وعارضه جبريل -عليه السلام- بالقرآن مرَّتين.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ (2).
7 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غسَّان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن عدي بن بكير الغساني عن قومه غسان قالوا: قدمنا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر، المدينة، ونحن ثلاث نفر، فنزلنا دار رملة بنت
(1) "الطبقات" 1/ 345.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4998) كتاب: فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (1769)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الاعتكاف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544
* * *
الحارث، فإذا وفود العرب كلهم مصدقون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمنا وصدقنا، وشهدنا أن ما جاء به الحق، ولا ندري أيتبعنا قومنا أم لا، فأجاز لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين وأدرك واحد منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة فخبَّره بإسلامه فكان يكرمه (1).
8 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأسلمت على يده هَمْدان كلُّها في يوم واحد.
الشرح:
عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإِسلام، قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإِسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث عليَّ بن أبي طالب، وأمره أن يُقفل خالدًا، إلا رجلاً كان ممن مع خالد فأحبَّ أن يُعَقب مع عليٍّ فَلْيُعَقِب معه، قال البراء: فكنت فيمن عَقَّب مع عليِّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلَّى بنا عليٌّ، ثم صفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلمت همدان جميعًا، فكتب عليٌّ إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الكتاب خَرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همْدان، السلام على همْدان" (2).
(1) "الطبقات" 1/ 338 - 339.
(2) أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 396، وقال: رواه البخاري مختصرًا من وجه آخر، عن إبراهيم بن يوسف، قلت: الحديث رقم (4349)، وهو شاهد لرواية البيهقي المذكورة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545
* * *
9 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم جرير بن عبد الله البَجَليُّ - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الخلصة فهدمها.
الشرح:
عن جَرِير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَنَخْتُ رَاحِلَتِي، ثُمَّ حَلَلْتُ عَيْبَتِي، ثُمَّ لَبِسْتُ حُلَّتِي، ثُمَّ دَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ (1)، فَقُلْتُ: لِجَلِيسِي. يَا عبد الله ذَكَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعَمْ ذَكَرَكَ آنِفًا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ عَرَضَ لَهُ في خُطْبَتِهِ، وَقَالَ: "يدخلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ- أَوْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ- مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ إِلَّا أَنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ" (2).
قَالَ جَرِيرٌ: فَحَمِدْتُ الله -عز وجل- عَلَى مَا أَبْلَانِي (3).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
جزم الواقديُّ بأنه وَفِدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر ....
وفيه عندي نظر؛ لأنَّ شريكًا حدَّث عن الشيباني، عن الشعبي، عن جرير؛ قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ ... " الحديث.
أخرجه الطبراني (4)، فهذا يدل علئ أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن
(1) أي: نظروا إليَّ بأعينهم.
(2) حيث كان جرير - رضي الله عنه - جميل الوجه.
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد، وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 372: رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" ورجاله رجال الصحيح.
(4) الطبراني في "المعجم الكبير" (5983، 8525).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546
* * *
النجاشي مات قبل ذلك. اهـ (1).
قَالَ جَرِيرٌ - رضي الله عنه - قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " وَكَانَ بَيْتًا في خَثْعَمَ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمانِيَةَ فَانْطَلَقْتُ في خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ (2)، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ في صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ في صدْرِي، وَقَالَ: "اللهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، فَانْطَلَقَ إِلَيهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَارَكَ في خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ (3).
10 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن المرة الثانية.
الشرح:
قال ابن سعد -رحمه الله-:
يقال مرتين: إحداهما في رمضان سنة عشر من مهاجره - صلى الله عليه وسلم -، وعقد له لواءً وعمَّمه بيده، وقال: "امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك"، فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانت أوَّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهي بلاد مَذْحج، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإِسلام فأبوا، ورموا بالنبل
(1) "الإصابة" 1/ 266.
(2) أَحْمس: رهط جرير؛ ينتسبون إلى أَحْمَس بن الغوث بن أنمار.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4356)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذي الخلصة، ومسلم (2475)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547
* * *
والحجارة، فصفَّ أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السَّلِمي، ثم حمل عليهم عليٌّ بأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرَّقوا وانهزموا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإِسلام فأسرعوا وأجابوا، وتابعه نفر من رؤسائهم على الإِسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا, فخذ منها حقَّ الله، ثم قفل عليٌّ فوافى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وقد قدمها للحج سنة عشر (1).
11 - وفي شوال من هذه السنة: قدم وفد سلامان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد سلامان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ثم جلس بين المنبر وبيته، فتقدم الوفد فسألوه عن أمر الصلاة وشرائع الإِسلام، وعن الرُّقى، وأسلموا، وأعطى كل رجل منهم خمس أواق، ثم رجعوا إلى بلادهم (2).
12 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع.
الشرح:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حاجُّ هذا العام، فقدم المدينة بشر كثير- وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم- فتدارك الناس ليخرجوا معه، كلهم يلتمس أن يأْتمَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -ويعمل مثله عمله.
(1) "الطبقات" 2/ 119، 170، بتصرف.
(2) "الطبقات" 1/ 332، 333، بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548
أي: مكافأة له لما صنع حيث ألبس العباس - رضي الله عنه - قميصه حين قدم العباس المدينة فلم يجدوا قميصًا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أُبيٍّ.
29 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - أميرًا على الحج في شهر ذي الحجة سنة تسع؛ ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - ومن معه من المسلمين (1).
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ في الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (2).
30 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - إلى الحج ليقرأ على الناس (براءة) ففعل ذلك يوم النحر عند الجمرة.
الشرح:
ثُمَّ بعث النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لَا
(1) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 16.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1622)، كتاب: الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، ومسلم (1347)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522
* * *
يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (1).
عَنْ زَيْدِ بن أُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةْ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يدخلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا (2).
31 - وفي هذه السنة: توفِّيت أُم كلثوم - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قال ابن سعد -رحمه الله-:
خرجت أم كلثوم إلى المدينة لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع فاطمة وغيرها من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها عثمان بعد وفاة أختها رقية، في ربيع الأول سنة ثلاث، وماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له. اهـ (3).
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنَا بنتَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: "هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ (4) اللَّيْلَةَ؟ " فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: "فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا" (5).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4656)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3].
(2) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 579، والترمذي (3092)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "الإرواء" (1101).
(3) "الطبقات" 8/ 25.
(4) يقارف: يجامع.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1342)، كتاب: الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة؟
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523
* * *
قال ابن حجر -رحمه الله-:
هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"، في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في "الذرية الطاهرة"، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط"، والحاكم في "المستدرك". قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر لم يشهدها، قلت (ابن حجر): وَهِمَ حماد في تسميتها فقط. اهـ (1).
32 - وفي هذه السنة: تُوفّيّ سهيل بن بيضاء الفهريُّ وصلَّي عليه سوله الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
الشرح:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
خرج سهيل مهاجرًا إلى أرض الحبشة، حتى فشا الإسلام وظهر، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأقام معه حتى هاجر، وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعًا، ثم شهد بدرًا، ومات بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد.
روى الدراورديُّ عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد. اهـ (2).
(1) "فتح الباري" 3/ 188 - 189.
(2) "الاستيعاب" (343).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524
* * *
33 - وفي هذه السنة: قُتِل مَلِكُ الفُرْس، ومَلَّكوا ابنته (بوران) عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة".
الشرح:
عَنْ أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً" (1).
34 - وفي هذه السنة: فُرضَت الصدقات، وفرَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّاله على الصدقات.
الشرح:
قال ابن إسحاق -رحمه الله-:
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أُمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإِسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنَسْي وهو بها، وبعث زيد بن لبيد، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيِّئ، وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه- إلى أهل نجران، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم (2).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (7099)، كتاب: الفتن، باب رقم (18)، وانظر: "شذارت الذهب" 1/ 24.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 144.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525
* * *
35 - وفي هذه السنة: قدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ثم عاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، فما أمسي ذلك اليوم في حاضره رجله ولا امرأة إلاَّ مسلمًا.
الشرح:
عن أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ فَقَالَ: لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتّكئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، قُلْنَا لَهُ: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَجَبْتُكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي سَائِلُكَ يَا مُحَمَّدُ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: "سَلْ مَا بَدَا لَكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: نَشَدْتُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ الله أَرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بن ثَعْلَبَةَ أَخُو بني سَعْدِ بن بَكْرٍ (1)، فانطلق ضمام فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال بئست اللات والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون؟ قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد
(1) صحيح: أخرجه البخاري (63)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في العلم، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526
* * *
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلاَّ مسلمًا.
يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (1).
36 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأَزْوَر، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القايف، وسلمة بن حبيش، وطلحة بن خويلد، ونقادة بن عبد الله بن خلف (2).
37 - وفي هذه السنة: قدم وفد الداريين مِن لَخْمٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد الداريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من تبوك، وهم عشرة نفر، فيهم تميم ونُعيم ابنا أوس بني خارجة بن سواد بن جُذيمة بن درَّاع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نُمارة بن لخم، ويزيد بن قيس بن خارجة، والفاكهة بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند والطيب ابنا ذرٍّ، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومُرَّة ابنا مالك بن سياد، فأسلموا (3).
(1) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 4/ 127، 128. عن ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالتحديث، وفيه: محمَّد بن الوليد بن نُويفع، مقبول قد وُثِّق.
(2) "الطبقات" 1/ 292.
(3) "الطبقات" 1/ 343.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527
* * *
38 - وفي هذه السنة: قدم وفد بَهْراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد بَهْراء من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببني جُديلة، فخرج إليهم المقداد فرحب بهم، وأنزلهم في منزل من الدار، وأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسلموا وتعلَّموا الفرائض وأقاموا أيامًا، ثم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُودعونه، فأمر بجوائزهم وانصرفوا إلى أهلهم (1).
39 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
وَفِدَ من بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثلاثة نفر: معاوية بن ثور بن عبادة بن البَكَّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له: بشر، والفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو البكائي، وهو الأصم، فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزل وضيافة وأجازهم ورجعوا إلى أهلهم (2).
40 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني فزارة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان ذلك سنة تسع، قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجة بن حصن، والحُرُّ بن قيس بن حصن وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مُقرِّين بالإِسلام، وسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) "الطبقات" 1/ 331.
(2) "الطبقات" 1/ 304.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528
* * *
عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فدعا لهم فمطرت (1).
41 - وفي هذه السنة: قدم وفد ثعلبة بن مُنْقِذٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
ذكر قدوم وفد ثعلبة بن مُنقذ، ابن جرير الطبري في "تاريخه"، ضمن حوادث سنة تسع (2).
42 - وفي هذه السنة: قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتوا المسجد، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على جنازة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنتم؟ " قالوا: من بني سعد هُذيم فأسلموا وبايعوا، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُنزلوا وضُيِّفوا ثلاثًا، ثم جاءوا ليودعوه فقال: "أَمِّروا عليكم أحدكم"، وأمر بلالًا فأجازهم بأواق من فضة، ورجعوا إلى قومهم، فرزقهم الله الإِسلام (3).
43 - وفي هذه السنة: قدم وفدُ مرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر
(1) "الطبقات" 1/ 297، مختصرًا.
(2) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 191.
(3) "الطبقات" 1/ 329، 330، بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529
* * *
نفرًا، رأسهم الحارث بن عوف، فأجازهم، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف ثنتي عشرة أُوقَيَّة، وذكروا أن بلادهم مجدبة، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مَطَرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
44 - وفي هذه السنة: قدم وفد كلاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد بني كلاب في سنة تسع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثة عشر رجلاً، فيهم لَبيد بن ربيعة، وجَبَّار بن سَلْمى، فأنزلهم دار رَمْلَة بنت الحارث، وكان بين جبار وكعب بن مالك خُلَّة، فبلغ كعبًا قدومهم، فرحَّب بهم وأهدى لجبار وأكرمه، وخرجوا مع كعب فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّموا عليه بسلام الإسلام، وقالوا: إنَّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله وبسنتك التي أمرته، وإنه دعانا إلى الله فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصدقة من أغنيائنا فردَّها على فقرائنا (2).
45 - وفي هذه السنة: قدم وفد كنانة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
وَفِدَ واثلة بن الأسقع الليثي على رسول الله، فقدم المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك، فصلَّى معه الصبح، فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى أهله فأخبرهم، فقال له أبوه: والله لا أكلمك كلمة أبدًا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهزته، فخرج راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجده قد صار إلى
(1) "الطبقات" 1/ 297، 298، بتصرف.
(2) "الطبقات" 1/ 300.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530
* * *
تبوك، فقال: من يحملني عُقبه وله سهمي؟ فحمله كعب بن عُجرة - رضي الله عنه - حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه تبوك، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فغنم فجاء بسهمه إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله، وسوَّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله (1).
46 - وفي هذه السنة: قدم وفد تُجيبٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد تُجيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلًا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وأمر بلالًا أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما يُجيز به الوفد، ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم بمنى سنة عشر (2).
47 - وفي هذه السنة: آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا.
الشرح:
عن عبد الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: "لَا وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنِّ شَهْرًا" فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ
(1) "الطبقات" 1/ 305 - 306.
(2) "الطبقات" 1/ 323، باختصار.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531
* * *
دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ (1).
فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسائه قيل له: يا رسول الله آليت منهنَّ شهرًا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشهر تسع وعشرون" (2).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةٌ وَعَائِشَةُ قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أأتمره إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا بنيِّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ الله وَغَضَبَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بنيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5203)، كتاب: النكاح، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه في غير بيوتهنَّ.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5201)، كتاب: النكاح، باب: قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} [النساء: 34].
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532
* * *
دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ: رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلَامٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (1) مغبورًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبًا مُعَلَّقَةٌ (2) فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله، فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ" (3).
وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى
(1) القرظ: ورق السَّلَم، مضبورًا: مجموعًا.
(2) أهُبًا: جمع إهاب وهو الجلد قبل الدبغ.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4913)، كتاب: التفسير، باب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} [التحريم: 1]، ومسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533
* * *
عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا بنتَ أبي بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَا يُحِبُّكِ وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: هُوَ في خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْحَدِرُ، فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ" قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا" قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى في وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ الله مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأبو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ الله- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534
* * *
يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4] وَكَانَتْ عَائِشَةُ بنتُ أبي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَطَلَّقْتَهُنَّ، قَالَ: "لَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِنْ شِئْتَ" فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ وَكَانَ مِنْ أَحسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ" فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ (1).
سبب إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه:
عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عَسَلًا، قَالَتْ: فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ (2) أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَت ذَلِكَ لَهُ،
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء.
(2) المغافير: صمغ حلو ينضحه شجر يقال له: العُرفُط، له رائحة كريهة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535
* * *
فَقَالَ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا} [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا (1).
فكان هذا هو تظاهر عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب غضبه وإيلائه من نسائه - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (2).
48 - وفي هذه السنة: لاعن عُوَيْمر العَجْلاني امرأته.
الشرح:
عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِى جَاءَ إلى عَاصِمِ بن عَدِيٍّ الْأَنْصارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِم أَرَأَيتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إلى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَم تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4912)، كتاب: التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق.
(2) "عيون الأثر" 2/ 374.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536
* * *
رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا" قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ الله إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ" (1).
وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (2).
49 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن.
الشرح:
الذي في "الإصابة" (3)، و"الاستيعاب" (4)، و"أُسْد الغابة" (5). أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه عاملًا على صدقات اليمن، وليست سرية. والله أعلم.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4854)، كتاب: الحدود، باب: من أظهر الفاحشة والتهمة بغير بيِّنة، ومسلم (1492)، كتاب: اللعان.
(2) "عيون الأثر" 2/ 374.
(3) 1/ 461.
(4) (229).
(5) 2/ 87، 88.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537
* * *
السنة العاشرة من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539
* * *
السنة العاشرة من الهجرة
وفيها ثمانية وثلاثون حدثًا:
1 - في ربيع الأوَّل من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني عبد المدان بنجران.
الشرح:
أرسل -عليه الصلاة والسلام - خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المدان بنجران من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإِسلام ثلاث مرات، فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإِسلام، ويقولون: أسْلِموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، فأقام خالد بينهم يعلمهم الإِسلام والقرآن، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل (1).
وذكر ابن إسحاق هذه السرية وقال: سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر (2).
2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: جاء وفد الحارث بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
فأقبل خالد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب،
(1) "نور اليقين" ص 181، 182، والسرية ذكرها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 154، والطبري في "التاريخ" 2/ 194.
(2) "سيرة ابن هشام" 4/ 139.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541
* * *
منهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله بن قُراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القَناني، وعمرو بن عبد الله الضِّبابي، وأمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني الحارث بن كعب قيسَ بن الحصين، فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة (1).
3 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم عدي بن حاتم الطائي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم.
الشرح:
عَنْ عَدِيِّ بن حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا عَدِيُّ بن حَاتِمٍ وَجِئْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلا كِتَابٍ فَلَمَّا دُفِعْتُ إِلَيْهِ أَخَذَ بِيَدِي وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ الله يَدَهُ فِي يَدِي" قَالَ: فَقَامَ فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ مَعَهَا، فَقَالَا: إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَامَ مَعَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُمَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَى بِي دَارَهُ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا يُضرُّكَ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى الله؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ الله أَكْبَرُ وَتَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكبَرُ مِنْ الله؟ "، قَال: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيهِمْ وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَعَلْتُ أَغْشَاهُ آتِيهِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ عَشِيَّةً إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ في ثِيَابٍ مِنْ الصُّوفِ مِنْ هَذِهِ النِّمَارِ، قَالَ: فَصَلَّى وَقَامَ فَحَثَّ عَلَيْهِمْ، ثُم قَالَ:
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 139، 140، "الطبقات" 1/ 339، مختصرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542
* * *
"وَلَوْ صَاعٌ وَلَوْ بنصْفِ صَاعٍ وَلَوْ بِقَبْضَةٍ وَلَوْ بِبَعْضِ قَبْضَةٍ يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَوْ النَّارِ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَاقِي الله وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَبَعْدَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَقِي بِهِ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ فَإنِّي لَا أَخَافُ عَلَيكُمْ الْفَاقَةَ فَإنَّ الله نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يثْرِبَ وَالْحِيرَةِ أَوْ أكثَرَ مَا تَخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقَ"، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ في نَفْسِي: فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيّىءٍ؟ (1).
وذكره الطبري (2)، ضمن أحداث السنة العاشرة.
4 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم وفد خولان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين مُصَدِّقين.
الشرح:
قدم وفد خولان في شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن صنمهم الذي يقال له: عَمُّ أَنَس، فقالوا: أُبدلنا به خيرًا منه، ولو قد رجعنا لهدمناه، وتعلَّموا القرآن والسنة، فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله (3).
(1) حسن: أخرجه الترمذي (2953)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، وحسنه الألباني "صحيح السنن".
(2) "التاريخ" 2/ 200.
(3) "الطبقات" 1/ 324، مختصرًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543
* * *
5 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان، وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فسلَّموا عليه وأقرُّوا بالإِسلام، وكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كتابًا فيه شرائع الإِسلام، وأتوا أبي بن كعب فعلَّمهم قرآنًا، وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يجيز الوفد وانصرفوا (1).
6 - وفي رمضان من هذه السنة: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين يومًا، وعارضه جبريل -عليه السلام- بالقرآن مرَّتين.
الشرح:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ (2).
7 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غسَّان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن عدي بن بكير الغساني عن قومه غسان قالوا: قدمنا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر، المدينة، ونحن ثلاث نفر، فنزلنا دار رملة بنت
(1) "الطبقات" 1/ 345.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4998) كتاب: فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (1769)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الاعتكاف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544
* * *
الحارث، فإذا وفود العرب كلهم مصدقون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمنا وصدقنا، وشهدنا أن ما جاء به الحق، ولا ندري أيتبعنا قومنا أم لا، فأجاز لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين وأدرك واحد منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة فخبَّره بإسلامه فكان يكرمه (1).
8 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأسلمت على يده هَمْدان كلُّها في يوم واحد.
الشرح:
عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإِسلام، قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإِسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث عليَّ بن أبي طالب، وأمره أن يُقفل خالدًا، إلا رجلاً كان ممن مع خالد فأحبَّ أن يُعَقب مع عليٍّ فَلْيُعَقِب معه، قال البراء: فكنت فيمن عَقَّب مع عليِّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلَّى بنا عليٌّ، ثم صفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلمت همدان جميعًا، فكتب عليٌّ إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الكتاب خَرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همْدان، السلام على همْدان" (2).
(1) "الطبقات" 1/ 338 - 339.
(2) أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 396، وقال: رواه البخاري مختصرًا من وجه آخر، عن إبراهيم بن يوسف، قلت: الحديث رقم (4349)، وهو شاهد لرواية البيهقي المذكورة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545
* * *
9 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم جرير بن عبد الله البَجَليُّ - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الخلصة فهدمها.
الشرح:
عن جَرِير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَنَخْتُ رَاحِلَتِي، ثُمَّ حَلَلْتُ عَيْبَتِي، ثُمَّ لَبِسْتُ حُلَّتِي، ثُمَّ دَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ (1)، فَقُلْتُ: لِجَلِيسِي. يَا عبد الله ذَكَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعَمْ ذَكَرَكَ آنِفًا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ عَرَضَ لَهُ في خُطْبَتِهِ، وَقَالَ: "يدخلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ- أَوْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ- مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ إِلَّا أَنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ" (2).
قَالَ جَرِيرٌ: فَحَمِدْتُ الله -عز وجل- عَلَى مَا أَبْلَانِي (3).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
جزم الواقديُّ بأنه وَفِدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر ....
وفيه عندي نظر؛ لأنَّ شريكًا حدَّث عن الشيباني، عن الشعبي، عن جرير؛ قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ ... " الحديث.
أخرجه الطبراني (4)، فهذا يدل علئ أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن
(1) أي: نظروا إليَّ بأعينهم.
(2) حيث كان جرير - رضي الله عنه - جميل الوجه.
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد، وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 372: رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" ورجاله رجال الصحيح.
(4) الطبراني في "المعجم الكبير" (5983، 8525).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546
* * *
النجاشي مات قبل ذلك. اهـ (1).
قَالَ جَرِيرٌ - رضي الله عنه - قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " وَكَانَ بَيْتًا في خَثْعَمَ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمانِيَةَ فَانْطَلَقْتُ في خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ (2)، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ في صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ في صدْرِي، وَقَالَ: "اللهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، فَانْطَلَقَ إِلَيهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَارَكَ في خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ (3).
10 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن المرة الثانية.
الشرح:
قال ابن سعد -رحمه الله-:
يقال مرتين: إحداهما في رمضان سنة عشر من مهاجره - صلى الله عليه وسلم -، وعقد له لواءً وعمَّمه بيده، وقال: "امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك"، فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانت أوَّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهي بلاد مَذْحج، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإِسلام فأبوا، ورموا بالنبل
(1) "الإصابة" 1/ 266.
(2) أَحْمس: رهط جرير؛ ينتسبون إلى أَحْمَس بن الغوث بن أنمار.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4356)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذي الخلصة، ومسلم (2475)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547
* * *
والحجارة، فصفَّ أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السَّلِمي، ثم حمل عليهم عليٌّ بأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرَّقوا وانهزموا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإِسلام فأسرعوا وأجابوا، وتابعه نفر من رؤسائهم على الإِسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا, فخذ منها حقَّ الله، ثم قفل عليٌّ فوافى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وقد قدمها للحج سنة عشر (1).
11 - وفي شوال من هذه السنة: قدم وفد سلامان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم وفد سلامان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ثم جلس بين المنبر وبيته، فتقدم الوفد فسألوه عن أمر الصلاة وشرائع الإِسلام، وعن الرُّقى، وأسلموا، وأعطى كل رجل منهم خمس أواق، ثم رجعوا إلى بلادهم (2).
12 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع.
الشرح:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حاجُّ هذا العام، فقدم المدينة بشر كثير- وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم- فتدارك الناس ليخرجوا معه، كلهم يلتمس أن يأْتمَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -ويعمل مثله عمله.
(1) "الطبقات" 2/ 119، 170، بتصرف.
(2) "الطبقات" 1/ 332، 333، بتصرف.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق