الثلاثاء، 8 مايو 2018

الأغصان البهية من ص 444 الي ص 465 ..



الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444
* * *
بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حُريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارًا- وكان أشبَّ الرجلين- فقتله، وأما مقيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئًا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص، لا ينجني في البَرِّ غيره، اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوًا كريمًا، فجاء فأسلم، وأما عبد الله بن أبي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إلى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا رسول الله بَايعْ عبد الله، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيهِ ثَلَاثًا- كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى- فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إلى هَذَا حَيثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟! "، فَقَالُوا: ومَا يدْرِينا يَا رَسُولَ الله مَا في نَفْسِكَ؟ هلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَينِكَ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ" (1).
النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبايع أهل مكة:
عن الْأَسْوَدِ بن خلف - رضي الله عنه - أنه رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُبَايعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَصْقَلَةَ (2)، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ (3).
وعن مُجَاشِعِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَخِي بَعْدَ الْفَتْحِ، قُلْتُ: يَا
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2683)، كتاب: الجهاد، باب: قتل الأسير، ولا يُعرض عليه الإِسلام، والنسائي (4067)، كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1723).
(2) مكان في الكعبة.
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (15369)، بإسناد صحيح.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445
* * *
رَسُولَ الله جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ: "ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا"، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ" (1).
حدث في فتح مكة:
عن أُمِّ هَانِئٍ بنتِ أبي طَالِبٍ - رضي الله عنها - قالت: ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ "، قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بنتُ أبي طَالِبٍ، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ"، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرتُهُ فُلَانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" (2).
وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ- المخزومية- الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟ "، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ الله، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا،
(1) متفق عليه أخرجه البخاري (4305، 4306)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ومسلم (1863)، كتاب: الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (357)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، ومسلم (336)، كتاب: الحيض، باب: تستر المغتسل بثوب ونحوه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446
* * *
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعَنْ عَمْرِو بن سَلَمَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بنا الرُّكْبَانُ، فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ أَوْحَى الله بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي (2) قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيّ حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ (3).
وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عبد بن زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3733)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: ذكر أسامة بن زيد، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: النهي عن الشفاعة في الحدود.
(2) بدر أبي: أي سبق.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447
* * *
ابْنُهُ، قَالَ عبد بن زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لَكَ هُوَ أَخُوكَ يَا عبد بن زَمْعَةَ" - مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ- وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، قَالَ رَسُولُ الله "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" (1).
وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: لما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى قال أبو قحافة لأبنة له من أصغر ولده: أي بنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس (2)، قالت: وقد كُفَّ بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: أيْ بنيَّة، ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا، قال: تلك الخيل، قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلاً ومدبرًا، قال: أيْ بنيَّة ذلك الوازع -يعني: الذي يأمر الخيل ويتقدَّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد، قالت: فقال: قد والله إذن دُفِعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيلُ قبل أن يصل إلى بيته، قال: وفي عُنُق الجارية طوق من ورِق (3)، فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، قالت: فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، قالت: فدخل به أبو بكر، وكأن رأسه ثغامة (4)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "غيِّروا هذا
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4303)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ومسلم (1457)، كتاب: الرضاع، باب: الولد للفراش.
(2) اظهري بي: اصعدي وارتفعي، وأبو قُبيس: جبل بمكة.
(3) الطوق: القلادة، والورق: الفضة.
(4) الثَّغامة بفتح أوله: شجرة، ومن شأن هذا النوع من الشجر أنه إذا يبس ابيضت أغصانه، والعرب تشبه الشيب به.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448
* * *
من شعره" ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإِسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد، فقال: أيْ أُخيَّه احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل (1).
22 - وفي رمضان من هذه السنة: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة.
الشرح:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يقصر الصلاة (2).
23 - وفي هذه السنة: كانت سرية أسامة بن زيد - رضي الله عنه - إلى الحرقات.
الشرح:
ذكر البخاري هذه السرية في صحيحه (3)، وفيها قصة الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة بن زيد، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن حجر - رحمه الله -:
وَهَذِهِ السَّرِيَّة يُقَال لَهَا: سَرِيَّة غَالِب بن عُبَيد الله اللَّيْثِيّ، وَكَانَتْ فِي رَمَضَان سَنَة سَبْع فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن سَعْد عَنْ شَيْخه، وَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق فِي "الْمَغَازِي": حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَسْلَمَ عَنْ رِجَال مِنْ قَوْمه، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - غَالِب بن
(1) إسناده حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 4/ 14، 15، بإسناد حسن.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4298)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح.
(3) حديث رقم (4269)، كتاب المغازي، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449
* * *
عُبَيْد الله الْكَلْبِيّ، ثُمَّ اللَّيْثِي إلى أَرْض بني مُرَّة وَبِهَا مِرْدَاس بن نَهِيك حَلِيف لَهُمْ مِنْ بني الْحُرَقَة فَقَتَلَهُ أُسَامَة. اهـ (1).
وعليه؛ فهذه السرية هي هي سرية غالب بن عبيد الله الليثي التي سبق شرحها (2).
24 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لهدم العُزَّى فَهُدِمَتْ.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى العُزَّى، وكانت بنخلة (3)، وكانت بيتًا يعظمة هذا الحيُّ من قريش، وكنانة ومضر كلها، وكانت سدنتها (4) وحُجَّابها بني شيبان من بني سُلَيم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها السُّلَمي بمسير خالد إليها, علَّق عليها سيفه، وأسند (5) في الجبل، الذي هي فيه وهو يقول:
أيَّا عُزَّ شُدّي شدَّة لا شَوَى (6) لها ... على خالدٍ، ألْقي القناعَ وشَمّري
أيا عُزَّ إنْ لم تقتلي المرءَ خالدًا ... فبوئي بإثمٍ عاجلٍ أو تنصّرَي
(1) "فتح الباري" 12/ 202.
(2) انظر: فقرة رقم (24) من السنة السابعة للهجرة.
(3) نخلة: اسم مكان, على بعد يومين من مكة.
(4) سدنتها: جمع سَدَن, وهو خادم بيت .......
(5) أسند: ارتفع وعلا.
(6) لا شوى لها: أي: لا تبقى على شىء.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450
* * *
فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. اهـ (1). وكانت العُزَّى أعظم آلهة قريش.
25 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لهدم سواعٍ فَهُدِمَتْ.
الشرح:
قال ابن سعد - رحمه الله -:
ثم سرية عمرو بن العاص إلى سُواع في شهر رمضان سنة ثمان، وهو صنم لهذيل ليهدمه.
قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن, فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن وأنت على الباطل؟ ويحك وهل يسمع أو يبصر. قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيها شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله تعالى. اهـ (2).
26 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية سعد بن زيد الأشهلي لهدم مَناة فهدمها.
الشرح:
ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان، وكانت بالمُشلَّل، للأوس، والخزرج وغسَّان.
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 35.
(2) "الطبقات" 2/ 146.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451
* * *
فخرج في عشرين فارسًا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة سوداء عُريانة ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة! دُونَكِ بعضَ عُصاتكِ، ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويُقبل إلى الصنم مع أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئَّا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لستٍّ بقيت من شهر رمضان. اهـ (1).
27 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة, فقتل منهم رجالاً بعدما أسلموا, فعنَّفهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عليًا فوداهم وأرضاهم.
الشرح:
عَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بن الْوَلِيدِ إِلَى بني جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أصحابي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ" (2).
ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على بن أبي طالب أن يذهب إلى هؤلاء القوم فودى لها الدماء، وما أصيب لهم من الأموال (3).
(1) "الطبقات" 2/ 147.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (7189)، كتاب: الأحكام، باب: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ.
(3) "سيرة ابن هشام" 4/ 31.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452
* * *
28 - وفي هذه السنة: كانت سرية قيس بن سعد بن عبادة إلى صُدَاءٍ ناحية اليمن.
الشرح:
لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن، وأمره أن يطأ صُداء، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين، وقدم رجل من صُداء فسأل عن ذلك البعث فأُخبر بهم، فخرج سريعًا حتى ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: جئتك وافدًا على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فردَّهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (1).
29 - وفي شوال من هذه السنة: كانت غزوة حنين.
الشرح:
هوازن قبيلة عربية شهيرة من عرب الشمال، فهي مضرية عدنانية، تفرعت منها فروع كثيرة منها: ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة الطائف الحصينة وما حولها.
وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية، منها سوق عكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتُعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها: سوق ذي المجاز قرب عرفات على بُعد فرسخ منها من جهة الطائف، وسوق مِجَنَّة بمر الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة.
ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه
(1) "الطبقات" 1/ 326، وانظر الفقرة رقم (55) من هذه السنة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453
* * *
سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضروات، أوفي رقيهم الأدبي وتفتح مداركهم حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى.
وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكًا وثيقًا بحكم الجوار، فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما 90 كم فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سُمَّيت الطائف (بستان قريش)، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن من صلات نسبية قديمة توثقها المصاهرات المتجددة فكلاهما من مُضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش، تبعًا لاختلاف النسابين.
وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبلتين، ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولاً لقريش إلى المسلمين في الحديبية.
فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإِسلام بعد فتح مكة؛ لتملأ الفراغ إثر سقوط عامة قريش لمعسكر الشرك في الجزيرة العربية.
فمنذ أن لجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يظهروا العداء الصريح، وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة ... إن قريشًا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454
* * *
ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فتح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإِسلامية (1).
سبب الغزوة:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
ولما سمعت هوازن برسول الله -صلى الله عليه وسلم - وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت مُضر وجُشَم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جُشَم دريد بن الصّمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان قد عمي، وكان شيخاً مجربًا، وجماع أمر الناس إلى ملك بن عوف النصري، فلما أجمع المسير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضرس، ولا سهل دَهْس (2)، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي، ويُعار الشاء؟! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، ودعي له، قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟! قال: سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل
(1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 489، 491 باختصار.
(2) الحزن: ما ارتفع من الأرض، والضرس: الذي فيه حجارة محدوب، والدهس: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملًا.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455
* * *
أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، هل يَرُدُّ المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضحت في أهلك ومالك، قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدُّ (1) والجدُّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغلب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر (2) لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
يا لَيتَني فيها جَذَع ... أَخُبُّ فيها وَأَضَع
أَقودُ وَطفاءَ الزَمَع (3) ... كَأَنَّها شاةٌ صَدَع
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فأكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد (4).
(1) الحدُّ: النشاط والسرعة والمضاء في الأمور.
(2) أي: أنهما ضعيفان في العرب بمنزلة الجذع في سنة.
(3) الجذع: الشاب، والوطفاء: طويلة الشعر، والزمع: الشعر فوق مربط قيد الدابة، يريد فرسًا صفتها هكذا، وهو محمود في وصف الخيل.
(4) "سيرة ابن هشام" 4/ 35 - 37 باختصار يسير.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456
* * *
تجهيز جيش المسلمين:
ولما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، فأقبل حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر (1).
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ، وقام - صلى الله عليه وسلم - بتجهيز جيشه المكون من اثنى عشر ألفًا (2)، العشرة آلاف الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء، وهو أكبر جيش للمسلمين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عَتَّاب بن أسيد على مكة (3).
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السّيْرَ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا- وكان صفوان لا يزال مُشْرِكًا، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا صفوان هل عندك سِلَاح؟ قَالَ: عارية أَم غَصْبًا؟ قَالَ: لا بَلْ عَارِيَةٌ، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعًا (4).
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة خامس شوال (5).
ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال (6).
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 37.
(2) "سيرة ابن هشام" (4/ 38.
(3) السابق.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3563)، كتاب: الإجارة، باب: في تضمين العارية, وصححه الألباني في "الصحيحة" (631).
(5) "سيرة ابن هشام" 4/ 39.
(6) السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457
* * *
عن سَهْلِ بن الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ اجْتَمَعُوا إلى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ أَنَسُ بن أبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ الله, قَالَ: فَارْكَبْ، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وجَاءَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ في أَعْلَاهُ، وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ"، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ"، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إلى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ في أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا" (1).
بداية المعركة:
خرج مَالِك بن عَوْف بمن معه إِلَى حُنَيْنٍ، فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّأُوا فِي مَضَايِق الْوَادِي وأجنابه، وَأَقْبَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه حَتَّى
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الحرس في سبيل الله عز وجل، وصححه الألباني.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458
* * *
اِنْحَطَّ بِهِمْ الْوَادِي فِي عِمَايَةِ الصُّبْح (1)، وقد أعجبت بعض المسلمين كثرتهم، فحمل المسلمون على المشركين في أول المعركة فهزموهم، وفرَّ المشركون من الميدان، فانكبَّ المسلمون على الغنائم يجمعونها، فاستقبلهم رماة المشركين بِالسِّهَامِ (2)، فَثَارَتْ في وُجُوه المسلمين الْخَيْل، فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاس مُنْهَزِمِينَ، لا يُقْبِل أَحَد على أحد (3)، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَغْلَته البَيْضَاءَ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والعَبَّاس آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَته، يكُفُّهَا عن الجري، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ (4) "، قَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ في الْأَنْصَارِ، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بني الْحَارِثِ بن الخَزْرَجِ، يَا بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ (5)، وكان الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر لا يتعدون المائة (6)، منهم رهط من أهله، علىُّ بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، والفضل بن العباس- وقيل: الفضيل بن أبي سفيان-، وأيمن بن أم
(1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 376 بإسناد حسن.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4317)، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...} ومسلم (1776)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.
(3) التخريج قبل السابق.
(4) أصحاب السَّمُرَةِ: هم أصحاب البيعة تحت الشجرة, وكانت شجرة سمر.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1775)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.
(6) صحيح الإسناد: أخرجه الترمذي (1689)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الثبات عند القتال، وصحح إسناده الألباني رحمه الله.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459
* * *
أيمن، وأسامة بن زيد، وقُثم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم: أبو بكر وعمر (1)، فلما دعاهم العباس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ويَقُولُ: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عبد الْمُطَّلِبْ، اللهمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ" (2)، فاستجاب الله عز وجل لرسوله، واجتمع المسلمون مرة أخرى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْك تَشَأْ أَنْ لَا تُعبد بعد اليوم" (3)، ويقول: "أين أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الله ... " (4).
واستعاد المسلمون توازنهم، ونظموا صفوفهم، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيهَا إلى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ"، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، يقول العباس - رضي الله عنه -: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، قَالَ العباس: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ (5).
وقد أنزل الله عز وجل جندًا من السماء لإعانة المسلمين على عدوهم.
وعن سَلَمَةَ بن الأكوع - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً، فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ،
(1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 376 بإسناد حسن.
(2) متفق عليه: سبق تخريجه.
(3) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 121.
(4) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 374 بإسناد حسن.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1775)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460
* * *
وَنَظَرْتُ إلى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصحَابَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْهَزِمًا، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا"، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَنْ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: "شَاهَتْ الْوُجُوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمْ الله عزّ وجلّ (1).
وفي غزوة حنين يقول الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} [التوبة: 25 - 27].
حدث في حنين:
عن الْحَارِثِ بن مَالِك - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ، قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضرَاءُ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ، فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سِدْرَةً خَضرَاءَ عَظِيمَةً، قَالَ: فَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ: يَا رَسُولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1777)، كتاب الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461
* * *
مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138] إنّهَا السّنَنُ، لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ منْ كَانَ قَبْلَكُم" (1).
وعن سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: غزَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى (2) مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ (3)، فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضعْفَةٌ وَرِقَّةٌ في الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ.
قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ، فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ في الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ:"مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ "، قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ لَهُ: "سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (4).
وعَنْ رَبَاحِ بن رَبِيعٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيءٍ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: "انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ "، فَجَاءَ، فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ، فَقَالَ: "مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ! "، قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمةِ
(1) صحيح: رواه ابن إسحاق بسند صحيح، "سيرة ابن هشام" 4/ 39، والحديث أخرجه الترمذي (2180)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، عن أبي واقد الليثي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في "صحيح السنن".
(2) نتضحى: نتغذى.
(3) الطَّلَق: هو العقال من الجلد.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1754)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سَلَب القتيل.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462
* * *
خَالِدُ بن الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: "قُلْ لِخَالِدٍ: لَا تقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا" (1).
وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ- يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ -: "مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ"، فَقَتَلَ أبوطَلحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ (2).
وعَنْ أبي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا من الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَال النَّاسِ، قَالَ: أَمْرُ الله عزّ وجلّ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ، فَقُلتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثمَّ قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ، فَقُمْت، فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ "، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "رَجُلٌ صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي"، فَقَال أبو بَكْرٍ: لَاهَا الله إذًا لَا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ (3)، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ فَأَعْطِهِ"، فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا (4) في بني سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُه (5)
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2669)، كتاب: الجهاد، باب.- في قتل النساء، وصححه الألباني.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2719)، كتاب: الجهاد، باب: في السَّلَب يعطى للقاتل.
(3) يريد أبو بكر - رضي الله عنه - أن أبا قتادة معه بنية، فقد يأخذ حق غيره، ولذلك قال: لَا يَعْمِدْ إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن صدق أبي قتادة فَقَالَ: "صَدَقَ فَأَعْطِه".
(4) مخرفًا: أي بستانًا، سُمّي بذلك لأنه يُخترف منه التمر، أي: يُجتنى.
(5) تأثَّلته: أي: أصلته أو تملكته.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463
* * *
في الْإِسْلَامِ (1).
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا، فَرَآهَا أبوطَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟ "، قَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنْ الطُّلَقَاءِ (2) انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أُمَّ سُلَيْمِ إِنَّ الله قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ" (3).
30 - في شوال من هذه السنة: كانت سرية أوطاس بقيادة أبي عامر الأشعري.
الشرح:
وكان سببها أنَّ هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم، فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري فلجئوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وتوجَّه بنو غيرة من ثقيف نحو نخلة، وسارت فرقة فتحصنوا بمكان يقال له: أوطاس، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري، فقاتلوهم
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4321)، كتاب: المغازي، باب: قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...} [التوبة: 25]، ومسلم (1751)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2) اُقْتُلْ مَن بَعْدنَا مِنْ الطُّلَقَاء، هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْل مَكَّة يَوْم الْفَتْح، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ، وَكَانَ في إِسْلَامهمْ ضَعْف، فَاعْتَقَدَتْ أُمّ سَلِيم أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَأَنَّهُمْ اِسْتَحَقُّوا الْقَتْل بِانْهِزَامِهِمْ. (نووي).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1809)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة النساء مع الرجال.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464
* * *
فغلبوهم (1).
وكان قائد المشركين في أوطاس دُريد بن الصّمة.
عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حُنَينٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ الله أَصْحَابَهُ، قَالَ أبو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أبي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أبو عَامِرٍ في رُكْبَتِهِ؛ رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ في رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ! فَأَشَارَ فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِ؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأبي عَامِرٍ: قَتَلَ الله صاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَاسْتَخْلَفَنِي أبو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ (2).
وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أبي عَامِرٍ، وَقَالَ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أبي عَامِرٍ"، قال أبو موسى: وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ" فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِر، فَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِعبد الله بن قَيسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مًدْخَلًا كَرِيمًا" (3).
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 47، "البداية والنهاية" 5/ 22.
(2) سرير مُرْمل: أي معمول بالرمال؛ وهي حبال الحصر التي تُضفر بها الأَسِرَّة "فتح".
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4323)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين - رضي الله عنهما -.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق