...............................................................................................................

الثلاثاء، 8 مايو 2018

الأغصان الندية من 209 الي ص 235.----.



الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209
* * *
بني قينقاع (1).
وقد يكون كلاهما حدث. والله أعلم.
20 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: وقعت غزوة السَّويق.
الشرح:
كان أبو سفيان بن حرب نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فخرج في مئتي راكبٍ من قريش، لِيبرَّ يمينه، فسلك النجدية، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثَيْب، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُييَّ بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلاَّم بن مِشْكَم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحا كنزهم (2)، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه (3) وسقاه وبطن له من خبر الناس (4)، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها، يقال لها: العُريض، فحرقوا فيه أصوار (5) من نخل بها، ووجدوا بها رجلاً من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس (6)، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم حتى بلغ قَرْقَرُة الكُدْر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزوادًا من أزواد القوم قد طرحوها في
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 239.
(2) يريد بالكنز المال الذي يجمعونه للطوارئ ويعدونه للنوائب التي تنوبهم وتعرض لهم.
(3) فقراه: أي صنع له القِرَى، وهو الطعام الذي يُقدَّم للضيف.
(4) أي: أعلمه من سرهم.
(5) الأصوار: جمع صور، وهي الجماعة من النخل.
(6) نذر بهم: أي علم بهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210
* * *
الحرث يتخففون منها للنجاء (1) فقال المسلمون، حين رجع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: "نعم".
واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة بَشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة.
وإنما سُمِّيتْ غزوة السَّويق (2) , لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسُميتْ غزوة السويق (3).
21 - وفي ذي الحجة أيضًا من هذه السنة: تُوفِّي عثمان بن مظعون رضى الله عنه ودُفن بالبقيع، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة.
الشرح:
هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جُمح الجُمحىُّ (4).
قال ابن حجر:
توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم (5).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بن مَظعُونٍ، قَالَتْ امْرَأَةٌ - وفي رواية: امرأته-: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَيهَا نَظَرَ غَضْبَانَ، فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكِ؟))، قَالَت: يَا رَسُولَ الله، فَارِسُكَ وَصَاحِبُكَ، فَقَالَ
(1) النجاء: السرعة.
(2) السَّويق: أن تحمص الحنطة أو الشَّعير ثم تُطحن ثم يسافر بها، وقد تمزج باللبن والعسل والسمن تُلَتُّ به.
(3) "سيرة ابن هشام" 2/ 236، 237. بتصرف.
(4) "الإصابة" 2/ 1240.
(5) "الإصابة" 2/ 1241.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211
* * *
رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ إِنِّي رَسُولُ الله وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي"، فَأَشْفَقَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ الْخَيْرِ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ"، فَبَكَتْ النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ وَقَالَ: "مَهْلًا يَا عُمَرُ"، ثُمَّ قَالَ: ((ابْكِينَ وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ))، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ مَهمَا كَانَ مِنْ الْعَينِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ الله عزوجل وَمِنْ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ" (1).
22 - وفي هذه السنة: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقل، فكان مُعَلَّقًا بسيفه.
الشرح:
قال ابن جرير رضى الله عنه:
وفيها - أي: في السنة الثانية - كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقل, وكانت مُعلقة بسيفه (2).
والمعاقل أي: الديات، وتسمى الدية بالعقل، وأهل ذلك أن القاتل كان إذا
(1) صحيح الإسناد: أخرجه أحمد (2127)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وورد عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يُقَبِّل عثمان بن مطعون، وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيلُ. أخرجه أبو داود (3163)، الترمذي (989)، ابن ماجه (1456)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، ثم تراجع عن تصحيحة أخيرًا، وقال في الضعيفة: منكر، وصرح بتراجعه عن التصحيح.
وفيه: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال فيه البخاري وغيره- كما في "التقريب"-: منكر الحديث.
(2) "البداية والنهاية" 3/ 371.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212
* * *
قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي: شدها بعقُلها لتسليمها إليهم، يقال: عَقَلْت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته (1).
وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - الديات في النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي ألْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا: مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ (2): ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ (3): مِثْلُهَا، وَفِي الْعَيْنِ: خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ: خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ: خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ (4) خَمْسٌ (5).
23 - وفي عيد الأضحى من هذه السنة: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أحدهما عن أمته والآخر عن محمد وآله.
الشرح:
قال ابن سيد الناس رحمه الله:
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين (6)، فإذا
(1) "الوجيز" (459).
(2) المأمومة: التي لا يبقى بينها وبين الدماغ إلا جلدة رقيقة.
(3) كل ما يصل إلى الجوف، كبطن، وظهر، وحلق، وصدر.
(4) الموضحة: التي تبرز إلى العظم وتوضحه وتبرزه.
(5) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 849، قال الألباني في "الإرواء" 7/ 300: وهو مرسل صحيح الإسناد، قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد" 14/ 185: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روى مسندًا من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقى الناس له بالقبول والمعرفة. اهـ.
(6) الأملح: هو الذي يكون بياضه أكثر من سواده.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213
* * *
صلى وخطب أُتى بأحدهما وهو قائم في الصلاة، فيذبحه بيده بالمُدية، ثم يقول:"هذا عن أمتي جميعًا، ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ"، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه هو عن نفسه، ثم يقول:"هذا عن محمد وآل محمد" فيأكل هو وأهله منه، ويُطعم المساكين، وكان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية (1).
(1) "عيون الأثر" 1/ 374.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214
* * *
السنة الثالثة من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215
* * *
السنة الثالثة من الهجرة
وفيها ثلاثة عشر حدثاً:
1 - في المحرم من هذه السنة: وقعتْ غَزْوَةُ نَجدٍ عند ماءٍ يقَالُ له (ذو أمَرّ).
الشرح:
مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد رجوعه مِن غزوة السويق، فأقام بقية ذى الحجة، ثم غزا نجدًا يريد غطفان، حيث تجمعوا عند مَاءٍ يقالُ له (ذو أمَرّ) بناحية نجدٍ، واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأقام بنجدٍ صفرًا كلَّه أو قريباً مِن ذلك، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا (1).
2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: قتل كعبُ بن الأشرف اليهودىُّ بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين على الإِسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طيء، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده على المسلمين، حتى انتصر المسلمون على المشركين في موقعة بدر، وجاء الخير، فلم يستطع كتم مَا بداخله من حقد وغيظ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الإسلام والمسلمين، حتى إنه قال حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
(1) انظر:"سيرة ابن هشام" 2/ 237 - 238.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217
* * *
فلما تيقن عدوُّ الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضُبيرة السهمىَّ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته وجعل يحرَّض على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبَّبَ بنساء المسلمين (1) حتى آذاهم (2) فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لِكَعْبِ بن الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله وَرَسُولَهُ؟ "، فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَمُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: ((قُلْ))، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً - يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ قَدْ عزَّانا (3)، وإنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى أَيِّ شَئءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، قَالَ: نَعَمِ ارْهَنُونِي، قَالُوا: أَيَّ شَئءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرهَنُكَ اللَّأْمَةَ- يَعْنِي السّلَاحَ- فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا (4) وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وأبو عيسى بن جبر، والحارث بن أوس وعباد بن بشر.
ومشى معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بقيع الغرْقد، ثم وجههم، فقال: "انطلقوا
(1) شبب بنساء المسلمين: أي تغزل فيهنَّ وذكرهن في شعره.
(2) من "سيرة ابن هشام" بتصرف.
(3) أي: أتعبنا.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4037)، كتاب: المغازي، باب: قتل كعب بن الأشرف، ومسلم (1801)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218
* * *
على اسم الله اللهم أعنهم" ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب في مِلحفته، فأخذت امرأته بناصيتها، وقالت: إنك امرؤ محارَب، وإنَّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شامَ يده في فود رأسه (1)، ثم شمَّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأنَّ، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذكرتُ مغولاً (2) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حِصن إلا وقد أوقدت عليه نارٌ قال: فوضعته في ثُنَّته (3)، ثم تحاملتُ عليه حتى بلغتُ عانته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتى سلكنا علي بني أمية بن زيد، ثم علي بني قُريظة، ثم على بُعاث حتى أسْندْنا (4) في حرة العريض (5) وقد أبطأ علينا صاحبنا
(1) شام يده: أي أدخل يده، وفود رأسه: أي جانبه من جهة الأذن، ومعناه أدخل يده في رأسه.
(2) المغول: السكين.
(3) الثُنَّة: ما بين السرة والعانة.
(4) أسندنا: ارتفعنا.
(5) حرة العريض: مكان بالمدينة.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219
* * *
الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتْبعُ آثارنا، قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جُرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه (1).
3 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: عقد عثمان بن عفان رضى الله عنه على أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة أختها رقيه، وبنى بها في جمادى الآخرة.
الشرح:
قال ابن كثير رحمه الله:
وفيها - أي: في السنة الثالثة- عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة أختها رُقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها (2).
4 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: وقعت غزوة الفرع من بُحران.
الشرح:
وفي ربيع الآخر من السنة الثالثة غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يريد قريشًا، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، حتى بلغ بُحران (3) من ناحية الفرع، فأقام بها شهر
(1) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/ 244، 245، عن ابن إسحاق بسند صحيح عن ابن عباس رضى الله عنه.
(2) "البداية والنهاية" 4/ 71.
(3) قيده جماعة بفتح الباء، وقيده آخرون بضمها.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220
* * *
ربيع الآخر وجمادى الأولى؛ ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا (1).
5 - وفي جمادى الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى القَرَدَةِ، فغنموا عيرًا ومالاً لقريش.
الشرح:
وسرية زيد بن حارثة التي بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان بن حرب على القَرَدَة، ماء من مياه نجد، وكان من حديثها: أنَّ قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تُجار فيهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي عُظْم تجارتهم، واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل، يقال له: فرات بن حيَّان يدُلُّهم على الطريق.
فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، فقدم بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
6 - وفي شعبان من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما -.
الشرح:
عن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بنتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بن حُذَافَةَ السَّهْمِيّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ في أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ
(1) "سيرة ابن هشام" 2/ 238.
(2) "سيرة ابن هشام" 2/ 240.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221
* * *
يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بنتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أبو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا فَلَم أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبِلْتُهَا (1).
7 - وفي رمضان من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خزيمة أم المساكين - رضي الله عنها -.
الشرح:
ذكر ابن حجر - رحمه الله -: أن زينب بنت خزيمة - رضي الله عنها - كانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: كانت تحت الطفيل ابن الحارث، ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث، فقتل عنها ببدر، فخطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها في رمضان سنة ثلاث، ثم لم تلبث إلا شهرين أو ثلاثة، وماتت وقيل: ثمانية أشهر.
وكانت تُسمى أم المساكين, لأنها كانت تطعمهم، وتتصدق عليهم (2).
8 - وفي رمضان من هذه السنة: ولد الحسنُ بن علي - رضي الله عنهما -.
الشرح:
قال ابن حجر - رحمه الله-:
الحسن بن عليِّ، أمير المؤمنين، أبو محمد، ولد في نصف شهر رمضان
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5122)، كتاب: النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير.
(2) "الإصابة" 4/ 2520.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222
* * *
سنة ثلاث من الهجرة وقيل: في شعبان منها، وقيل: ولد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت (1).
9 - وفي شوال من هذه السنة: وقعتْ غزوة أحد.
الشرح:
لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بالٌ منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلتْ في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِلَ زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعتْ هيبتُها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالبون بالثأر واسترداد الكرامة.
فأخذوا يعدودن لذلك منذ رجوعهم من بدر.
بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجتْ من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر (2).
وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل (3)، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، وخرج معهم من أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة (4).
وقد رَأى النَّبيُ - صلى الله عليه وسلم - هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه- رضوان الله عليهم- فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:"رَأَيْتُ في رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُه فَإذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى
(1) "الإصابة" 1/ 374. بتصرف.
(2) ذكر ذلك ابن هشام في سيرته 3/ 3، عن ابن إسحاق عن بعض التابعين مرسلاً.
(3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.
(4) السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223
* * *
فَعَادَ أَحْسَنَ ممَا كَانَ، فَإذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الله مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ" (1) أي: هم المؤمنون الذين قتلوا يوم أُحُد.
وفي رواية: "وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَاَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ" (2).
ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فَقَالَ لهم: "لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا في الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شَأْنكُمْ إِذًا"، ولَبِسَ - صلى الله عليه وسلم - لَأْمَتَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ" (3).
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط, ومائة دارع (4).
ولَبِسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَيْنِ (5).
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس (6).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4081)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (14723)، الدارمي 2/ 55، الحاكم 2/ 129، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
(3) التخريج السابق.
(4) "تاريخ الطبري" 3/ 504، "الطبقات" 3/ 44.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2590)، كتاب: الجهاد، باب: في لبس الدروع، والترمذي (1692)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
(6) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224
* * *
ثم سار بالجيش متوجهًا إلى أُحُد (1) حتى إذا كانوا بالشَّوْط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني (2) ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال (3).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 167,166].
وما جعل الله ذلك إلا ليميز الخبيث من الطيب.
يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وكاد بنو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ أنْ يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أنْ ثبتهم الله.
(1) يقع جبل أحد في شمال المدينة، وكان يرتفع 128 مترًا أما الآن فيرتفع 121 مترًا فقط بسب عوامل التعرية، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 5.5 كيلو مترًا، بدءًا من باب المجيد أحد أبواب المسجد النبوي. "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 378.
(2) أي: أطاعهم في الخروج والقتال خارج المدينة، وعصاه حيث كان يرى القتال بداخل المدينة.
(3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225
* * *
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122] (1).
ولما رجع المنافقون وتركوا الجيش قال فريق من أصحاب النبيِ - صلى الله عليه وسلم -: نُقَاتِلُهُمْ، وقال فريق آخر: لَا نُقَاتِلُهُمْ، فأنزل الله عزوجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ" (2).
وفي الطريق استعرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجيش فردَّ صغار السن, ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان عمره أربعة عشر سنة (3).
وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سيفاً وقال: "مَن يأخذ هذا السيف بحقه" فقام إليه رجال كلٌ يقول: أنا، أنا، فامسكه عنهم وقال: "من يأخذه بحقه" فقام أبو دُجانة سماكُ بن خَرَشة وقال: وما حقه يا رسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني" فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إيَّاه، وكان أبو دُجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أُعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيُقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عصابته تلك،
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4051)،كتاب المغازي باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} , مسلم (2505)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل الأنصار - رضي الله عنهم -.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4050):كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد, ومسلم (2776)، كتاب: صفات المنافقين وأحوالهم.
ومعنى أركسهم: أي ردهم.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4097)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226
* * *
فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى أبا دُجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" (1).
وتقدم الجيش الإِسلامي إلى ميدان أحد وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجه جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أحد لحماية ظهر المسلمين من أن يُداهمهم أَحدٌ من خلفهم، ثم عزَّز ذلك بخمسين راميًا بقيادة عبدلله بن جبير - رضي الله عنه - أوقفهم على جبل عَيْنَيْن (2) - الذي يقع خلف جبل أُحُد- حتى إذا فكَّر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابلٍ من النبال فمنعوه من ذلك، وشدد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم" (3).
وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أحد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي - صلى الله عليه وسلم - القائد.
وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة - رضي الله عنه - وبين رجل من المشركين يقال له سِباع، حيث خرج سِباع هذا من بين الصفوف - لما اصطف الفريقان للقتال-
(1) "سيرة بن هشام" 3/ 3، وأصل الحديث عند مسلم (2470)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة - رضي الله عنه -.
(2) الذي سُمِّي بعد أحُدٍ بجبل الرماة.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، أبو داود (2662)، كتاب: الجهاد، باب: في الكُمناء، وأحمد (18501)، واللفظ لهما.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227
* * *
فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة - رضي الله عنه - فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مُقطّعة البظور (1) أَتُحادُّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة - رضي الله عنه - فقتله (2)، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان, والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم، وقاتل أبو دُجانة بسيف النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فلق به هام المشركين (3)، حتى قتل في أول النهار من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة (4).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] (5) أي: ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون الذي وعدكم إياه إن أطعتم الله ورسوله، أن لكم النصر على الأعداء.
وفي وسط المعركة جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: "في الْجَنَّةِ"، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (6).
(1) مُقطِّعة البظور: أي التي تختن النساء، فهي تقطع بظر المرأة عند ختنها.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -.
(3) سبق تخريجه. هام المشركين: أي رؤوس المشركين.
(4) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
(5) الحسُّ: القتل، أي: إذ تقتلونهم بإذنه.
(6) متفق عليه أخرجه البخاري (4046)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، مسلم (1899)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. وهذا الرجل غير عُمير بن الحُمام الذي استشهد يوم بدر، حيث جاء في رواية: (قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ...).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228
* * *
مخالفة الرماة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -:
فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فَقَالَ لهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه -: عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا (1).
فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط (2)، واستغل إِبْلِيسُ عليه لَعْنَةُ الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أَيْ عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ مع أُخْرَاهُمْ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حُذَيْفَةَ بن اليمان - رضي الله عنهما - رأى أباه الْيَمَانِ- رضي الله عنه - يضربه المسلمون، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ الله أَبِي، أَبِي، فمَا احْتَجَزُوا عنه حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ الله لَكُمْ (3).
وفي وسط المعركة قُتل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - سفير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قبل الهجرة- الذي قيل أنه كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أسيد بن حضير الذي كان يحمل لواء الأوس، والخُباب ابن المنذر الذي كان يحمل لواء الخزرج (4) قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجع
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أُحُد.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4065)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122].
(4) جاء ذكر الألوية في "مغازي الواقدي" 1/ 33.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229
* * *
إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قتل مصعب - رضي الله عنه - أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (1).
وَصَاحَ الشَّيْطَانُ وسط الميدان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُشَكَّ أحد أَنَّهُ حَقٌّ (2).
فلما انتشر الخبر وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوى بعض المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر - رضي الله عنه - عم أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال لهم ما يُجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (3).
وكان أنس بن النضر - رضي الله عنه - لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة بَدْر، فقَالَ: غِبْتُ عَنْ أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرينَّ الله مَا أَصْنَعُ، فلما رأى ذلك من المسلمين يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين- وأبرأُ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقيَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فما عرف حتى عرفته أُخْتُهُ بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنَزَلَتْ فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] (4).
وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفرَّ آخرون بين الشعاب
(1) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم في "المستدرك" 2/ 296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر.
(3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3، والحديث في "الصحيحين" بلفظ مختلف، انظر الذي بعده.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4048)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230
* * *
بعدما شاع بينهم خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أمَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أولُ من عرف بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ هو كعب بن مالك - رضي الله عنه - فنادى في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت لئلا يفطن له المشركون (1).
وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقاتل وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم صمدوا معه يدافعون عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تفطن المشركون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌ لم يُقتلْ فتكاثروا عليه يريدون قتله.
وكان حول النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة من الصحابة سَبْعَةٌ مِنْ الْأَنصَارِ، واثنان من المهاجرين، فَلَمَّا رَهِقُوهُ (2) قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ من الأنصار، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِصاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" (3).
(1) صحيح: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 201، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: صحيح.
(2) أي: قربوا منه - صلى الله عليه وسلم -.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1789)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أُحُد.
وكان هذا الدفاع من هؤلاء الأنصاريين السبعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لحبهم الشديد له - صلى الله عليه وسلم - أولاً وايثاره على أنفسهم، ثم لما عاهدوه عليه الصلاة والسلام عند بيعة العقبة وأنهم يمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" قال النووي رحمه الله: الرواية المشهورة فيه (ما أنصفنا) بإسكان الفاء، و (أصحابنا) منصوب مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء=
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231
* * *
وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ (1) وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ (2) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: والرسول يناديكم من خلفكم، إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله (3).
وكان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودافع عنه حتى شُلَّتْ يده - رضي الله عنه - كان يقي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - (4).
وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تُخطئ، فنثل له النبي - صلى الله عليه وسلم - كنانته (5) وجعل يقول له: "ارْمِ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي" (6).
= من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريش الأنصار، لكون القريشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه (ما أنصفَنا) بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فرُّوا من القتال، فإنهم لم ينصفوا لفرارهم. اهـ "شرح مسلم" 6/ 329، 330.
(1) أي: تهربون في بطون الأوديه والشعاب.
(2) أي: ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربًا من عدوكم.
(3) "تفسير الطبري" 4/ 139 وفي قراءة: {إذ تصعدون} بفتح التاء وتسكين الصاد وفتح العين، ومعناه: إذ تصعدون إلى جبل أحد حيث قيل إنهم صعدوا إلى الجبل هربًا من القوم.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4063)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122].
(5) نثل كنانته: أي نثر كنانته واستخرج ما بها من السهام، والكنانة: جُعبة السهام.
(6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4055)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]، ومسلم=
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232
* * *
وممن ثبت مع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يدافع عنه أبو طَلْحَةَ زيد بن سهل الأنصاري - رضي الله عنه - فكان مُجَوِّبٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بِحَجَفَةٍ لَهُ (1)، وَكَانَ أبو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ (2) كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: انْثُزهَا لِأبي طَلْحَةَ، وكان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يشرف برأسه ليَنْظُرَ إلى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ له أبو طَلْحَةَ: بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ (3).
وكان يتترس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بترس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم (4).
ورغم استبسال الصحابة- رضوان الله عليهم- في الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث
= (2411)، كتاب: فضائل الصحابة باب: في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع أبويه لأحدٍ غير سعد. (متفق عليه).
وقال سعد - رضي الله عنه -: جمع لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أُحُد. (متفق عليه).
(1) مُجوِّبٌ عليه بحَجَفَة: أي مُتترس عليه بترس، ليقيه من ضربات المشركين، فالحجفة: الترس.
(2) شديد النزع: أي شديد رمي السهم.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. ومعنى نحري دون نحرك: أي: أفديك بنفسي.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2902)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجنِّ ومن يتَّرس بترس واحد، وأحمد 3/ 286، 287.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233
* * *
جُرح وجهه - صلى الله عليه وسلم -، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ (1) وهشمت الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ (2).
جبريل وميكائيل ينزلان للدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لما حدث هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكاد المشركون أن يقتلوه، وقد تكفل الله تعالى بعصمته من الناس، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أنزل الله تعالى جبريل وميكائيل -عليهما السلام - يدافعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعانه من المشركين.
عَنْ سَعْد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لقد رَأَيْتُ يوم أحد عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن يساره رَجُلَيْنِ عَلَيهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ -يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام - (3).
مقتل أسد الله حمزة - رضي الله عنه -:
وفي تلك المعمعة كان هناك رجلٌ له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، ولا يهمه ذلك الأمر كثيرًا، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرق وأن ينفك من قيود العبودية.
وهذا الرجل هو وحشيٌ - رضي الله عنه - الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
(1) هي السنُّ التي تلي الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات. "شرح مسلم" للنووي
6/ 330.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب غزوة أحد.
والبيضة: واقي الرأس الذي يلبسه المحارب.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (5826)، كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306)، كتاب: الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234
* * *
ولنتركه يقصُّ علينا تفاصيل ما حدث بنفسه - رضي الله عنه -.
يقول وحشيٌ - رضي الله عنه -: إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ ابْنَ عَدِيّ بن الْخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلَايَ جُبَيْرُ بن مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ - وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إلى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنْ اصطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بن عبد الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ الله وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ (1) قَالَ: وَمَكنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا في ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيهِ (2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت الملائكة تغسل حمزة بن عبد المطلب" (3).
(1) كأمس الذاهب: كناية عن قتله، أي: صيَّره عدمًا.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - , يقول وحشيٌ - رضي الله عنه -: فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ فَأَقَمْتُ بمَكَّةَ حَتَّى فَشا فِيهَا الْإِسْلَامُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إلى الطَّائِفِ فَأرْسَلُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لَا يَهِيجُ الرُّسُلَ - أي: لا ينالهم منه إزعاج - قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "آنتَ وَحْشِي؟ "، قُلْتُ: نَعَم، قَالَ: "أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟ "، قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ مَا بَلَغَكَ قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَن تُغيّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟ "، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا قُبض رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، قُلْتُ: لأخْرُجَنَّ إلى مُسَيْلِمَةَ لَعَلّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بهِ حَمْزَة, قَالَ: فخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في ثَلْمةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
يقول عبد الله بن عُمَرَ -رضي الله عنهما-: فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُ الْعبد الْأَسْوَدُ.
قوله: (في ثلمة جدار) أي: في خلل جدار.
قوله: (كأنه جمل أورق) الجمل الأورق الذي لونه رمادي وكان لون مسيلمة كذلك من غبار الحرب.
قوله: (ثائر الرأس) أي: شعره مُنتفش.
(3) حسن: سيأتي تخريجه.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق