الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 7.

الفرع التاسع:
الأسماء الموصولة، كالذي، والتي، والذين، واللات، وذو الطائية5،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "34" من سورة إبراهيم.
2 واسمه: "نهاية الوصول إلى علم الأصول"، لصفي الدين محمد بن عبد الرحيم الهندي، وهو كتاب حسن جدًّا، ذكره السبكي، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1991".
3 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
5 وهي خاصة ببني طيئ، والمشهور بناؤها، وقد تعرب، كقوله: فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا. ا. هـ. أوضح المسالك "1/ 159". 
..................
وجمعها، وقد صرح القرافي والقاضي عبد الوهاب بأنها من صيغ العموم.
وقال ابن السمعاني: جميع الأسماء المبهمة تقتضي العموم.
وقال أصحاب الأشعري: إنها تجري في بابها مجرى اسم منكور "كقولنا: رجل، ويمكن أن يكون زيدًا أو عمرًا، فلا يصار إلى أحدهما إلا بدليل، والإبهام لا يقتضى الاستغراق، بل يحتاج إلى قرينة، والحق أنها من صيغ العموم"* كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} 1 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} 2، {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} 3، وما خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي.
الفرع العاشر:
نفي المساواة بين الشيئين كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة} 4، فذهب جمهور الشافعية وطوائف من الأصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم.
وذهبت الحنفية والمعتزلة والغزالي والرازي إلى أنه ليس بعام.
استدل الأولون بأنه نكرة في سياق النفي؛ لأن الجملة نكرة باتفاق النحاة، وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف.
واستدل الرازي في "المحصول" للآخرين بوجهين:
الأول: أن نفي الاستواء مطلقًا -أي: في الجملة- أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه، أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين الأمرين لا أشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما.
الثاني: أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه، أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه، والأول باطل، وإلا لوجوب إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء؛ لأن كل شيئين لا بد أن يستويا في بعض الأمور، من كونهما معلومين، وموجودين، ومذكورين، وفي سلب ما عداهما عنهما، ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي؛ لأنهما في العرف كالمتناقضين، فإن من قال: هذا يساوي ذاك، فمن أراد تكذيبه قال: لا يساويه، والمناقضان لا يصدقان معًا فوجب أن لا يصدق على شيئين ألبتة؛ لأنهما متساويان، وغير متساويين، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "4" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "101" من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية "10" من سورة النساء.
4 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.

(1/305)


وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه؛ لأن نقيض الكلي هو الجزئي، فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه.
وأجيب عن الدليل الأول: بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما هو في طريق الإثبات لا في طريق النفي، فإن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، ولولا ذلك لجاز مثله في كل نفي، فلا يعم نفي أبدًا إذ يقال في لا رجل: رجل أعم من الرجل بصيغة العموم، فلا يشعر به وهو خلاف ما ثبت بالدليل.
وأجيب عن الدليل الثاني: بأنه إذا قيل: لا مساواة فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤها وإن كان ظاهرًا في العموم، وهو من قبيل ما يخصصه العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1 أي خالق كل شيء يخلق.
والحاصل: أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه حتى يكون اللفظ شاملًا أو مدلولها المساواة في بعض الوجوه، حتى يصدق بأي وجه، فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم؛ لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب، وإن قلنا بالثاني كان للعموم؛ لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب.
وخلاصة هذا أن صيغة "لا يستوي"* الاستواء إما لعموم سلب التسوية، أو لسلب عموم التسوية، فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من أفرادها، وعلى الثاني ثبوت البعض، وهذا يقتضى ترجيح المذهب الثاني؛ لأن حرف النفي سابق وهو يفيد سلب العموم لا عموم ا لسلب، وأما الآية التى وقع المثال بها فقد صرح فيها بما يدل على أن النفي باعتبار بعض الأمور وذلك قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2 فإن ذلك يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة، وقد رجح الصفي الهندي بأن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام، وتقدمه إلى ترجيح ا لإجمال إليكا الطبري.
الفرع الحادي عشر:
إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط، فإن كان غير متعد فهل يكون النفي له نفيًا لمصدره، وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا؟ حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم، وقال: إن القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" نص على ذلك، وإن كان متعديًا ولم يصرح بمفعوله نحو: لا أكلت، وإن أكلت، ولا كان له دلالة على مفعول معين، فذهبت الشافعية والمالكية وأبو يوسف وغيرهم إلى أنه يعم.
__________
* في "أ": الاستواء.
__________
1 جزء من الآية "62" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.

(1/306)


وقال أبو حنيفة: لا يعم واختاره القرطبي من المالكية، والرازي من الشافعية، وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو: يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم.
قال الأصفهاني: لا فرق بين المتعدي واللازم، والخلاف فيهما على السواء.
وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني، والغزالي، والآمدي والصفي الهندي، أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي، أو الشرط هل يعم مفاعيله أم لا، لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم.
والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما، فيكون النفي لهما نفيًا لهما، ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق النفي، وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني.
وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولًا على جهة الجمع، بل على جهة البدل. قال: وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة، ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك.
الفرع الثاني عشر:
الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1 عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه، "والدليل على ذلك"* أن السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه وقال: قوموا، فمن تخلف عن القيام منهم استحق الذم، وذلك يدل على أن اللفظ للشمول، فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة.
قال في "المحصول": لأن تلك القرينة إن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا، وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام. انتهى.
وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر وخصوصها يكون باعتبار مرجعها الإمام الرازي في "المحصول"، والصفي الهندي في "النهاية"، وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري، أن قول القائل افعلوا يحمل على الاستغراق، وقال أبو الحسين البصري: الأولى أن يصرف إلى المخاطبين، سواء كانوا ثلاثة أو أكثر، وأطلق سليم الرازي في "التقريب"2 أن المطلقات لا عموم فيها
__________
* في "أ": يدل عليه.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.
2 واسمه "التقريب في الفروع"، للإمام أبي الفتح، سليم بن أيوب الرازي، الذي تقدمت ترجمته "110" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 446".

(1/307)


فائدة: قال إمام الحرمين الجويني وابن القشيري: إن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط، والنكرة في النفي، وادعيا القطع بوضع ذلك للعموم، وصرح الرازي في "المحصول" أن أعلاها أسماء الشرط، والاستفهام ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة لا بالوضع، وعكس الصفي الهندي فقدم النكرة المنفية على الكل، وقال ابن السمعاني: أبين وجوه العموم، وألفاظ "الجموع"* ثم اسم الجنس المعرف باللام، وظاهره أن الإضافة دون ذلك في المرتبة، وعكس الإمام الرازي في "تفسيره"1 فقال: الإضافة أدل على العموم من الألف واللام، والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي والتي بمن أدل من المجردة عنها قال أبو علي الفارسي: إن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة.
وقال إلكيا الطبري في "التلويح"2: ألفاظ العموم أربعة:
أحدها: عام بصيغته ومعناه كالرجال والنساء.
والثاني: عام بمعناه لا بصيغته كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس، قال: وهذا لا خلاف فيه.
والثالث: ألفاظ مبهمة نحو ما ومن، وهذا يعم كل أحد.
والرابع: النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلا، وذلك يعم لضرورة صحة الكلام، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته.
فالعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه، وقد قدمنا3 في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ كل أقوى صيغ العموم.
__________
* في "أ": الجمع.
__________
1 واسمه: "مفاتيح الغيب" للإمام فخر الدين الرازي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "19"، وهو المعروف "بالتفسير الكبير"، قال ابن خلكان: جمع فيه كل غريب، وهو كبير جدًّا، لكنه لم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1756".
2 لم نجد أحدًا ممن ترجم لإلكيا الهراس ذكر له هذا الكتاب.
2 انظر صفحة "296".

(1/308)


المسألة السابعة: في عموم الجمع المنكر للقلة أو للكثرة
قال جمهور أهل الأصول: إن جمع القلة المنكر ليس بعام لظهوره في العشرة، فما دونها؛ وأما "جموع"* الكثرة المنكرة، فذهب جمهور المحققين إلى أنه ليس بعام، وخالف في ذلك
__________
* في "أ": جمع.

(1/308)


الجبائي، وبعض الحنفية، وابن حزم، وحكاه ابن برهان عن المعتزلة، واختاره البزدوي وابن الساعاتي1 وهو أحد وجهي الشافعي، كما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي "وسليم الرازي"*.
احتج الجمهور: بأن الجمع المنكر لا يتبادر منه عند إطلاقه عن قرينة العموم، نحو رأيت رجالًا، استغراق الرجال، كما أن رجلًا عند الإطلاق لا يتبادر منه الاستغراق لإفراد مفهومه، ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك فليس الجمع المنكر عامًّا كما أن رجلًا "كذلك"**.
قال في "المحصول" لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا، فيقال: رجال ثلاثة وأربعة وخمسة، فمفهوم قولك: رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام، والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرًا لكل واحد من تلك الأقسام "وغير مستلزم لها، فاللفظ الدال على ذلك المراد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام"*** فلا يكون دالًّا عليها، وأما الثلاثة فهي مما لا بد فيه فثبت أنه يفيد الثلاث فقط.
احتج القائلون أنه يفيد العموم بأنه قد ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع، فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه، فكان أولى.
وأجيب بمنع إطلاقه على كل مرتبة حقيقة، بل هو القدر المشترك بينها كما تقدم2، ولا دلالة له على الخصوص أصلا.
واحتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يكن للعموم لكان مخصصًا بالبعض، واللازم منتفٍ لعدم المخصص وامتناع التخصيص بلا "مخصص"****.
وأجيب بالنقض برجل ونحوه، مما ليس للعموم ولا مختصًّا بالبعض، بل شائع يصلح للجمع، ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه للعموم، فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة، ومعاندة لما "يفهمه"***** كل عارف بها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": كذا.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": بلا خصوص.
***** في "أ": يعرفه.
__________
1 هو أحمد بن علي بن ثعلب، الحنفي، المعروف بابن الساعاتي، أبو العباس، مظفر الدين، فقيه، أصولي، أديب، ولد في بعلبك، وتوفي سنة أربع وتسعين وستمائة هـ، من آثاره: "بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 235"، الفوائد البهية "27"، معجم المؤلفين "2/ 4".
2 انظر صفحة: "305".

(1/309)


المسألة الثامنة: في أقل الجمع
اختلفوا في أقل الجمع، وليس النزاع في لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين، كما ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني، وإلكيا الهراس، وسليم الرازي، فإن "ج، م، ع" موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء، وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد على ذلك بلا خلاف.
قال سليم الرازي: بل قد يقع على الواحد كما يقال: جمعت الثوب بعضه إلى بعض.
قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: لفظ الجمع في اللغة له معنيان، الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعًا، والجمع الذي هو اللقب، وهو اسم العدد قال: وبعض من لم يهتد إلى الفرق خلط الباب، فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل، فقال: إذا كان الجمع بمعنى الضم، فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما، فوجب أن يكون جمعًا، وثبت أن الاثنين أقل الجمع، وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة وسائر أهل العلم.
وذكر إمام الحرمين الجويني أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، وقول القائل: ضربت رءوس الرجلين، وقطعت بطونهما، بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع، سواء كان للسلامة أو التكسير، وذكر مثل هذا الأستاذ أبو منصور والغزالي.
إذا عرفت هذا ففي أقل الجمع مذاهب:
الأول: أن أقله اثنان، وهو المروي عن عمر، وزيد بن ثابت، وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون2.
قال الباجي: وهو قول القاضي أبي بكر بن العربي، وحكاه ابن خوازمنداد، عن مالك، واختاره الباجي ونقله صاحب "المصادر"3 عن القاضي أبي يوسف، وحكاه الأستاذ أبو منصور
__________
1 جزء من الآية "4" من سورة التحريم.
2 هو عبد الملك بن الإمام عبد العزيز بن الماجشون، التيمي، المدني، المالكي، تلميذ الإمام مالك، أبو مروان، قال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا، دارت عليه الفتيا في زمانه، وعلى أبيه قبله، توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ، وقيل: أربع عشرة ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 359"، تهذيب التهذيب "6/ 408"، الجرح والتعديل "5/ 358".
3 هو محمود بن علي بن محمود الحمصي المعروف بتاج الرازي الحكيم الشيعي المتوفى سنة خمسين وثلاثين وسبعمائة هـ. من آثاره: "الأمالي العراقية" و"المصادر" ا. هـ. هدية العارفين "2/ 408"، إيضاح المكنون "2/ 491".

(1/310)


عن أهل الظاهر، وحكاه ابن الدهان1 النحوي عن محمد بن داود2 وأبي يوسف، والخليل3 ونفطويه4.
قال: وسأل سيبويه الخليل فقال: الاثنان جمع.
وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة، واختاره الغزالي.
واستدلوا بقوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 5 لأنهم طلبوا إلهًا مع الله، ثم قالوا: {كَمَا لَهُمْ آلِهَة} فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة} 6 فأطلق الأخوة والمراد أخوان فما فوقهما إجماعا.
وأجيب: بأنه قد ورد للاثنين مجازًا كما يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال لعثمان: "ليس الأخوان أخوة في لسان قومك"، فقال عثمان: "لا أنقض أمرًا كان قبلي وتوارثه الناس"7، أخرجه ابن خزيمة، والحاكم، وصححه، وابن عبد البر والبيهقي، فلم ينكر ذلك عثمان، بل عدل إلى التأويل، وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع.
وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون} 8، والمراد موسى وهارون
__________
1 هو سعيد بن المبارك بن علي، أبو محمد الأنصاري، المعروف بابن الدهان، النحوي، المولود سنة أربع وتسعين وأبعمائة هـ، كان من أعيان النحاة وأفاضل اللغويين، قال العماد الكاتب: هو سيبويه عصره، ووحيد دهره، توفي سنة تسع وستين وخمسمائة هـ، من آثاره: "تفسير القرآن وشرح الإيضاح والفصول في النحو". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 581" معجم الأدباء "11/ 219"، هدية العارفين "1/ 391".
2 هو ابن داود الظاهري، تقدمت ترجمته في الصفحة "135".
3 هو الخليل بن أحمد بن عمر، أبو عبد الرحمن، الفراهيدي، البصري المولود سنة مائة هـ، وكان رأسًا في لسان العرب، دينًا، ورعًا، وهو منشئ علم العروض، توفي سنة ستين ومائة هـ، وقيل سبعين ومائة هـ، من آثاره: "كتاب العين والإيقاع والجمل" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 429" معجم الأدباء "11/ 72" الجرح والتعديل "3/ 380".
4 هو إبراهيم بن محمد بن عرفة، الأزدي، الواسطي، أبو عبد الله، المشهور بنفطويه، المولود سنة أربع وأربعين ومائتين هـ، كان عالمًا بالعربية واللغة والحديث، وكان فقيها عالما بمذهب داود الأصبهاني، توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "غريب القرآن وكتاب البارع" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 75"، معجم الأدباء "1/ 254"، شذرات الذهب "2/ 298".
5 جزء من الآية "138" من سورة الأعراف.
6 جزء من الآية "11" من سورة النساء.
7 أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض باب فرض الأم "6/ 227". والحاكم في المستدرك "4/ 335" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ولم أهتد إلى حديث في صحيح ابن خزيمة.
8 جزء من الآية "15" من سورة الشعراء.

(1/311)


وأيضاً قد قيل بمنع كون المراد موسى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال «الاثنان فما فوقهما جماعة» فهو استدلال خارج عن محل النزاع لأنه لم يقل الاثنان فما فوقهما جمع بل قال جماعة يعني أنهما تنعقد بهما صلاة الجماعة .
المذهب الثاني : أن أقل الجمع ثلاثة وبه قال الجمهور وحكاه ابن الدهان النحوي عن جمهور النحاة وقال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه أنه مذهب سيبويه وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة والشرع وهو السابق إلى الفهم عند إطلاق الجمع والسبق دليل الحقيقة ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به .
المذهب الثالث : إن أقل الجمع واحد هذا حكاه بعض أهل الأصول وأخذه من كلام إمام الحرمين وقد ذكر ابن فارس في فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ومثله قوله تعالى : {فناظرة بم يرجع المرسلون} المراد بالمرسلين نوح قال القفال

(1/312)


الشاشي في كتابه في "الأصول"1 بعد ذكر الأدلة: وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بديل كالمخاطب للواحد بلفظ الجمع، في قوله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} 2 و{إِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} 3، وقد تقول العرب للواحد: افعلا، افعلوا، وهو ظاهر في أن ذلك مجاز، وظاهر كلام الغزالي أنه مجاز بالاتفاق، وذكر المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز، ولم يأت من ذهب إلى أنه حقيقة بشيء يعتد به أصلًا، بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز وفي كلام العرب خارجة على طريقة المجاز كما تقدم، وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن الواحد أو الاثنين، بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة.
المذهب الرابع: الوقف، حكاه الأصفهاني في "شرح المحصول"4 عن الآمدي، قال الزركشي: وفي ثبوته نظر، وإنما أشعر به كلام الآمدي فإنه قال في آخر المسألة: وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر الاجتهاد في الترجيح، وإلا فالوقف لازم، هذا كلامه، ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبًا. انتهى.
ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف، فإن موطنه إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينها، وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل، فضلًا عن أن يكون صالحًا لموازنة ما يخالفه.
__________
1 هو الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وهو كتاب في أصول الشافعية. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 284".
2 جزء من الآية "99" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "9" من سورة الحجر.
4 هو عبارة عن شرح على كتاب "المحصول" في أصول الفقه" وهو شرح حافل، للإمام شمس الدين، محمد بن محمود الأصفهاني، "الأصبهاني" المتوفى سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة هـ، وعلق عليه بعض العلماء. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1615".

(1/313)


المسألة التاسعة: "الخلاف في عموم الفعل المثبت"
الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه؛ لأنه يقع على صفة وحدة فإن عرف تعين وإلا كان مجملًا يتوقف فيه، مثل قول الراوي: "صلى بعد غيبوبة الشفق"1 فلا يحمل على
__________
1 أخرجه مسلم من حديث بريدة، كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس "613" والترمذي كتاب الصلاة باب "115" منه "أي مواقيت الصلاة" "152" بنحوه وقال: حسن غريب صحيح، وابن ماجه، كتاب الصلاة باب مواقيت الصلاة "667". والنسائي، كتاب المواقيت، باب أول وقت المغرب "518" 1/ 258. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة. باب من قال للمغرب وقتان "1/ 370". وابن حبان في صحيحه "1492" وابن الجارود في المنتقي "151".

(1/313)


الأحمر والأبيض، وكذلك "صلى في الكعبة"1 فلا يعم الفرض والنفل، هكذا قال القاضي "أبو بكر"*، والقفال الشاشي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي وابن السمعاني، وإمام الحرمين الجويني، وابن القشيري. والإمام فخر الدين الرازي واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل، ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه تسمية ذلك الفعل مما لا يمكن استيعاب فعله فلا معنى للعموم في ذلك.
قال الغزالي: وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل، فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص، بل يكون خاصًّا في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يدل دليل من خارج لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 2، وهذا غير مسلم، فإن دليل التأسي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني} 4 ونحو ذلك يدل على أن ما فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسائر أمته مثله، إلا أن يدل دليل على أنه خاص به.
وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه، ثم اختار في نحو قوله: "نهى عن بيع الغرر"5 "وقضى بالشفعة للجار"6 أنه يعم الغرر والجار مطلقا، وقد تقدمه إلى ذلك شيخه الأبياري، والآمدي وهو الحق؛ لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله، بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر، والحكم منه بثبوت الشفعة للجار؛ لأن عبارة الصحابي يجب أن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "1329". وأبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة في الكعبة "2032". وابن ماجة كتاب المناسك، باب دخول الكعبة "3063". والنسائي، كتاب المساجد، باب الصلاة في الكعبة "691" 2/ 33. وابن حبان في صحيحه "3202".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "105".
3 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من سورة آل عمران.
5 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر "1513". وأبو داود، كتاب البيوع، باب بيع الغرر "3376". والنسائي كتاب البيوع، باب بيع الحصاة "4530" "7/ 262". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر "1230" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتبا التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر "2194". وابن حبان في صحيحه "4951".
6 أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم "2214" وأحمد في مسنده "3/ 339" وابن ماجه في الشفعة باب إذا وقعت الحدود فلا شفعة "2497"، وأبو داود في البيوع والإجارات، باب في الشفعة "3515". ومالك في الموطأ في الشفعة باب ما تقع فيه الشفعة "2/ 713". والنسائي في البيوع باب ذكر الشفعة وأحكامها "7/ 321". وابن حبان في صحيحه برقم "5185".

(1/314)


تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته، ووجوب مطابقة الرواية لمسموع.
وبهذا تعرف ضعف ما قاله في "المحصول" من أن قول الصحابي نهى عن بيع الغرر والحكم منه ثبوت الشفعة لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكي، لا في الحكاية، والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصًّا بصورة، واحدة وأن يكون عاما، ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم.
قال: وأيضًا قول الصحابي "قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشاهد واليمين"1 لا يفيد العموم، وكذا "إذا قال"* سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قضيت بالشفعة" لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف، وقوله: قضيت، حكاية عن فعل معين ماضٍ، فأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قضيت بالشفعة" وقول الراوي: أنه قضى بالشفعة للجار، فالاحتمال فيهما قائم، ولكن جانب العموم راجح "انتهى. ولا يخفاك أن جانب العموم راجح"** في الصورتين كليهما. أما في قوله: "نهى عن بيع الغرر" "وقضى بالشاهد واليمين" فرجحان عمومه وضعف دعوى احتمال كونه خاصًّا في غاية الوضوح لما قدمنا، وقد نقل الآمدي عن الأكثرين مثل ما ذكره صاحب "المحصول" وهو خلاف الصواب، وإن قال به الأكثرون؛ لأن الحجة في الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته.
وحكي عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف أن فيكون للعموم، كقوله: "قضى أن الخراج بالضمان"2 وبين أن لا يقترن فيكون خاصًّا نحو "قضى بالشفعة للجار"، وقد حكى هذا القول القاضي في "التقريب"، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق، والقاضي عبد الوهاب، وصححه، وحكاه عن أبي بكر القفال، وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظيًّا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة المذكورة، نحو أمر وقضى، والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي. انتهى.
وأما نحو قول الصحابي: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل كذا فلا يجري فيه الخلاف المتقدم؛ لأن لفظ كان هو الذي دل على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها نحو كان يجمع، وإنما الخلاف في قول الراوي "جمع"*** ونحوه، وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم "صيغة أو صفة" فيفهم أنه بيان فنتبعه.
__________
* في "أ": قول.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، كتاب الأقضية، باب وجوب الحكم بشاهد ويمين "1712"، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد "3608"، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين "2370". والبيهقي في السنن، كتاب الشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد "10/ 167". والإمام أحمد في المسند "1/ 248" "2224".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "156".

(1/315)


المسألة العاشرة: في عموم نحو قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة
...
المسألة العاشرة: في عموم نحو قوله تعالى: خذ من أمولهم صدقة
ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 1 يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال إلا أن يخص بدليل.
قال الشافعي: مخرج هذه الآية عام في الأموال، وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض الأموال دون بعض، فدلت السنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض.
قال في موضع آخر: ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض.
واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن هذه الصيغة من صيغ العموم؛ لأنها جمع مضاف، وقد تقدم أن ذلك من صيغ العموم، فيكون المعنى: خذ من كل واحد واحد من أموالهم صدقة؛ إذ معنى العموم ذلك، وهو المطلوب.
وأجيب عن هذا: بمنع كون معنى العموم ذلك.
وذهب الكرخي من الحنفية وبعض أهل الأصول، ورجحه ابن الحاجب إلى أنه لا يعم، بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم صدقة، وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحوهما، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله.
وأجيب: بأن الجمع لتضعيف المفرد، والمفرد خصوصًا مثل المال والعلم، والمال قد يراد به المفرد فيكون معنى الجمع المعرف باللام أو الإضافة جميع الأفراد وقد يراد به الجنس فيكون معناه جميع الأنواع بالأموال والعلوم والتعويل على القرائن، وقد دل العرف وانعقد الإجماع على أن المراد في مثل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الأنواع لا الأفراد، وأما ما يتوهم من أن معنى الجمع
__________
1 جزء من الآية "103" من سورة التوبة.

(1/316)


العام هو المجموع، من حيث هو مجموع، أو كل واحد من الجموع لا من الآحاد، حتى بنوا عليه أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، فمدفوع بأن اللام والإضافة يهدمان الجمع ويصيرانه للجنس.
وذهب الآمدي إلى الوقف فقال: وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق. انتهى.
وقد اختلف النقل عن الكرخي، فنقل عنه ابن برهان ما تقدم، ونقل عنه أبو بكر الرازي أنه ذهب إلى أنه يقتضي عموم وجوب "الحق"* في سائر أصناف الأموال.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم العموم أن لفظ من الداخلة على الأموال تمنع من العموم.
وأجاب عن ذلك القرافي بأن مِن لا بد من تعلقها بمحذوف، وهو صفة للصدقة، والتقدير كائنة أو مأخوذة من أموالهم، وهذا لا ينافي العموم لأن معنى كائنة أو مأخوذة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه الصدقة.
وقال بعضهم: الجار والمجرور الذي هو {مِنْ أَمْوَالِهِم} إن كان متعلقًا بقوله {خُذ} فالمتجه "قول"** الكرخي؛ لأن التعلق مطلق، والصدقة نكرة في سياق الإثبات فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد، وإن كان متعلقًا بقوله {صَدَقَة} "فالأقوى"*** قول الجمهور؛ لأن الصدقة إنما تكون من أموالهم. إذا كانت من كل نوع من أموالهم.
قال الزركشي: وفيه نظر؛ لأنه إذا كان المعتبر دلالة العموم الكائنة في أموالهم، فإنها كلية، فالواجب حينئذ أخذها من كل نوع من أنواع الأموال، عملًا بمقتضى العموم ولا نظر إلى تنكير صدقة "لأنها مضافة للأموال، سواء قيل إنها متعلقة بخذ وإن اعتبر لفظ صدقة"**** وأنه نكرة في سياق الإثبات فلا عموم له على الوجهين أيضًا. انتهى.
ولا يخفاك أن دخول مِن ههنا على الاموال لا ينافي ما قاله الجمهور، بل هو عين مرادهم؛ لأنها لو حذفت لكانت الآية دالة على أخذ جميع أنواع الأموال، فلما دخلت أفاد ذلك أنه يؤخذ من كل "نوع"***** بعضه، وذلك البعض هو ما ورد تقديره في السنة المطهرة من العشر في بعض، ونصف العشر في بعض آخر، وربع العشر في بعض آخر، ونحو هذه المقادير الثابتة بالشريعة كزكاة المواشي، ثم هذا العموم المستفاد من هذه الآية قد جاءت السنة المطهرة بما يفيد تخصيصه ببعض الأنواع دون بعض، فوجب بناء العام على الخاص
__________
* في "أ": الأخذ.
** في "أ": ما قال الكرخي.
*** في "أ": فالقول.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/317)


المسألة الحادية عشر: الألفاظ الدالة على الجمع
...
المسألة الحادية عشرة: "الألفاظ الدالة على الجمع"
الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام:
الأول: ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال، كرجال للمذكر ونساء للمؤنث، فلا يدخل أحدهما في الآخر بالإجماع إلا بدليل خارج من قياس أو غيره.
الثاني: ما يعم الفريقين بوضعه، وليس لعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخل كالناس، والأنس، والبشر فيدخل فيه كل منهما بالإجماع.
الثالث: ما يشملهما بأصل وضعه، ولا يختص بأحدهما إلا ببيان، وذلك نحو "ما، ومن" فقيل: إنه لا يدخل فيه النساء إلا بدليل، ولا وجه لذلك، بل الظاهر أنه مثل الناس والبشر ونحوهما، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 1 فلولا عمومه لهما لم يحسن التقسيم من بعد ذلك، وممن حكى الخلاف في هذه الصورة من الأصوليين أبو الحسين في المعتمد وإلكيا الهراس في "التلويح" وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية، وأنهم لأجل ذلك قالوا: إن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من بدل دينه فاقتلوه" 2، لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع، وصرح به البزدوي، وشراح كتابه3، وابن الساعاتي وغيرهم؛ إذ نقل الرازي في "المحصول" الإجماع على أنه لو قال: من دخل داري من أرقائي فهو حر، دخل فيه الإماء، وكذلك لو علق بهذا اللفظ وصية، أو توكيلًا، أو إذنًا في أمر، لم يختص بالذكور، وأما إمام الحرمين الجويني فخص الخلاف بما إذا كانت شرطية.
قال الصفي الهندي: والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من الموصولة والاستفهامية، وأن الخلاف جار في الجميع. انتهى.
__________
1 جزء من الآية "124": من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله "3017". والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد "1458". وأبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد "4351". والنسائي، كتاب التحريم، باب الحكم في المرتد "4072" "7/ 104". وابن ماجه، كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه "2535". وابن حبان في صحيحه "4475".
3 واسمه: "أصول الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي"، واشتهر باسم "كشف الأسرار"، وهو كتاب عظيم الشأن، جليل البرهان، محتوٍ على لطائف الاعتبار بأوجز العبارات، تأبى على الطلبة مرامه، واستعصى على العلماء زمامه، فشرحه جمع من الفحول، منهم: أكمل الدين البابرتي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 112".

(1/318)


ولا يخفاك أن دعوى اختصاص من بالذكور لا ينبغي أن ينسب "إلى من يعرف لغة العرب، بل لا ينبغي أن ينسب"* إلى من له أدنى فهم.
الرابع: ما يستعمل بعلامة التأنيث في المؤنث، وبحذفها في المذكر، وذلك الجمع السالم نحو مسلمين للذكور ومسلمات للإناث، ونحو فعلوا وفعلن، فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل النساء فيما هو للذكور إلا بدليل كما لا يدخل الرجال فيما هو النساء إلا بدليل.
قال القفال: وأصل هذا أن الأسماء وضعت للدلالة على المسمى فحصل كل نوع بما يميزه فالألف والتاء جعلتا علمًا لجمع الإناث، والواو والياء والنون لجمع الذكور والمؤمنات غير المؤمنين، وقاتلوا خلاف قاتلن، ثم قد تقوم قرائن تقتضي استواءهما فيعلم بذلك دخول الإناث في الذكور، وقد لا تقوم قرائن فيلحقن بالذكور بالاعتبار والدلائل، كما يلحق المسكوت عنه بالمذكور بدليل.
ومما يدل على هذا إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فلولا أن التسمية للمذكر لم يكن هو الغالب، ولم يكن حظه فيها كحظ المؤنث، ولكن معناه أنهما إذا اجتمعا "استقل"** إفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له، فدل على أن المقصود هو الرجال والنساء توابع. انتهى.
قال الأستاذ أبو المنصور وسليم الرازي: وهذا قول أصحابنا، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن السمعاني، وإلكيا الهراس، ونصره ابن برهان والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ونقله عن معظم الفقهاء، ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة، وذهبت الحنفية كما حكاه عنهم سليم الرازي وابن السمعاني وابن الساعاتي إلى أنه يتناول الذكور والإناث، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي حنيفة، وحكاه الباجي عن ابن خوازمنداد وروى نحوه عن الحنابلة والظاهرية.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور من عدم التناول إلا على طريقة التغليب عند قيام المقتضى لذلك لاختصاص الصيغة لغة ووقوع التصريح بما يختص بالنساء مع ما يختص بالرجال في نحو {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات} 1، وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إن النساء قلن: ما نرى الله سبحانه ذكر إلا الرجال... فنزلت2.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": استثقل.
__________
1 جزء من الآية "35" من سورة الأحزاب.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة "6/ 301، 305". والنسائي في الكبرى "11404". انظر تحفة الأشراف للمزي "13/ 1819"، وابن جرير الطبري في تفسيره "12/ 10".

(1/319)


قال الأبياري: لا خلاف بين الأصوليين، والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال، وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور.
قال الزركشي في "البحر": وحاصلة الإجماع على عدم الدخول حقيقة، وإنما النزاع في ظهوره لاشتهاره عرفا.
قال الصفي الهندي: وكلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه وهي المشاركات في الأحكام الشرعية. قال: واتفق الكل أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترنًا بعلامة التأنيث.
ومن أقوى ما احتج به القائلون بالتعميم: إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} 1 في خطاب آدم وحواء وإبليس.
ويجاب على هذا: بأنه لم يكن ذلك بأصل الوضع، ولا بمقتضى اللغة، بل بطريق التغليب، لقيام الدليل عليه، وذلك خارج عن محل النزاع، ولا يلزم من صحة إرادة الشيء من الشيء إرادته منه. إذا ورد مطلقًا بغير قرينة، ولم يذكر أحد من أهل اللغة ولا من علماء العربية أن صيغة الذكور عند إطلاقها موضوعة لتناول الجميع، وهذا ظاهر واضح لا ينبغي الخلاف في مثله، ولم يأت القائلون بالتناول بدليل يدل على ما قالوه لا من جهة اللغة، ولا من جهة الشرع، ولا من جهة العقل.
__________
1 جزء من الآية "38" من سورة البقرة.

(1/320)


المسألة الثانية عشر: في عموم الخطاب بمثل يا أيها الناس
...
المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب بمثل "يا أيها الناس..."
ذهب الجمهور إلى أن الخطاب بمثل يا أيها الناس، ونحوها من الصيغ يشمل العبيد والإماء.
وذهب جماعة إلى أنه لا يعمهم شرعًا.
وقال أبو بكر الرازي من الحنفية: إن كان الخطاب في حقوق الله تعالى فإنه يعمهم دون حقوق الآدميين فلا يعمهم.
والحق ما ذهب إليه الأولون، ولا ينافي ذلك خروجهم في بعض الأمور الشرعية، فإن ذلك إنما كان "لدليل يدل على رفع"* الخطاب عنهم بها، قال الأستاذ أبو منصور، والقاضي أبو الطيب، وإلكيا الطبري: إن الذي عليه اتباع الأئمة الأربعة، وهو الصحيح من مذهب الشافعي أنهم يدخلون إتباعًا لموجب الصيغة، ولا يخرجون إلا بدليل ولم يأت القائلون بخلاف ما ذهب إليه الجمهور بدليل يدل على ما ذهبوا إليه، فإن ما زعموه من إجماع أهل العلم على عدم وجوب بعض الأمور الشرعية عليهم لا يصلح للاستدلال على محل النزاع؛ لأن عدم وجوب ذلك عليهم لدليل خارجي اقتضى ذلك فكان كالمخصص لعموم الصيغة الشاملة لهم.
__________
* في "ب": لدليل على رفع.

(1/320)


المسألة الثالثة عشرة: "دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين"
ذهب الجمهور إلى دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس} إذا ورد مطلقًا.
وذهب بعض الشافعية إلى اختصاصه بالمسلمين، وقيل: يدخلون في حقوق الله تعالى، لا في حقوق الآدميين.
قال الصفي الهندي: والقائلون بعدم دخول العبيد والكفار إن زعموا أنه لا يتناولهم من حيث اللغة فهو مكابرة، وإن زعموا التناول لكن الكفر والرق في الشرع خصصهم، فهو باطل، للإجماع على أنهما مكلفان في الجملة، وأما الخطاب الخاص بالمسلمين أو المؤمنين فحكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور، وأن المؤمنين والمسلمين "إنما"* خصصوا "بالذكر"** من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1، وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة، قال الزركشي: وفيه نظر؛ لأن الكلام في التناول بالصيغة لا بأمر خارج.
وقال بعضهم: لا يتناولهم لفظًا وإن قلنا إنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "278" من سورة البقرة.

(1/321)


المسألة الرابعة عشرة: "الخطاب الشفاهي"
الخطاب الوارد شفاهًا في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، ويسمى خطاب المواجهة، قال الزركشي: لا خلاف في شموله من بعدهم من المعدومين حال صدوره، لكن هل باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس.
فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه يشملهم باللفظ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يشملهم باللفظ لما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن كل حكم تعلق بأهل زمانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة، كما في قوله سبحانه: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 3، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت إلى الناس كافة" 4، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} 5 منهم إلى قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 6، قال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة، ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين، وإما أن يقال إن المحكم يقصر على المخاطبين إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها، وهذا باطل لما علم قطعًا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص. انتهى.
وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين "باعتبار اللفظ لا إلى المعدومين، ونقطع بأن غير الموجودين"* وإن لم يتناولهم الخطاب، فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام، حيث كان الخطاب مطلقًا، ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة وفي غيرها كثير.
3 جزء من الآية "19" من سورة الأنعام.
4 أخرج مسلم نحوه من حديث جابر، كتاب المساجد "521". والبخاري في التيمم، باب التيمم "335". والنسائي في الغسل، باب التيمم بالصعيد "1/ 210" "430". والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب التيمم بالصعيد الطيب "1/ 212". وابن حبان في صحيحه "6398".
5 جزء من الآية "2" من سورة الجمعة.
6 جزء من الآية "3" من سورة الجمعة.

(1/322)


المسألة الخامسة عشرة: "الخطاب الخاص بالأمة"
الخطاب الخاص بالأمة نحو: يا أيها الأمة، لا يشمل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الصفي الهندي: بلا خلاف، وكذا قال القاضي عبد الوهاب في كتاب "الإفادة": وأما إذا كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2 {يَا عِبَادِي} 3 فذهب الأكثرون إلى أنه يشمله، وقال جماعة لا يشمله، "وقال أبو بكر الصيرفي والحليمي: إن كان يتناوله بالقول نحو قل فلا يشمله"* وإن لم يكن كذلك كان شاملا، له واستنكر هذا التفصيل إمام الحرمين الجويني؛ لأن القول فيهما جميعًا مسند إلى الله سبحانه، والرسول مبلغ خطابه إلينا فلا معنى للتفرقة.
وفصل بعض أهل الأصول بتفصيل آخر فقال: إن كان الخطاب من الكتاب فهو مبلغ عن الله سبحانه، والمبلغ مندرج تحت عموم الخطاب، وإن كان من السنة فإما أن يكون مجتهدًا أو لا، فإن قلنا مجتهد فيرجع إلى أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا، وإن لم يكن مجتهدًا فهو مبلغ والمبلغ "إذن"** داخل تحت الخطاب.
والحق: أن الخطاب بالصيغة التي تشمله يتناوله بمتقضى اللغة العربية لا شك في ذلك، ولا شبهة حيث كان الخطاب من جهة الله سبحانه تعالى. وإن كان الخطاب من جهته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلى الخلاف الآتي في دخول المخاطب في خطابه.
وما قيل: من أنه لا فائدة في الخلاف في هذه المسألة مدفوع بظهور الفائدة في الخطابات العامة "إذا"*** فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخالفها، فإن قلنا: إنه داخل في العموم كان فعله تخصيصًا، وإن قلنا: ليس بداخل لم يكن فعله مخصصًا لذلك العموم، بل يبقى على عمومه. وأما الخطاب المختص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} 4 {يَا أَيُّهَا النَّبِي} 5 فذهب
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": وإذا.
__________
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "53" من سورة الزمر.
4 جزء من الآية "40" من سورة المائدة.
5 جزء من الآية "1" من سورة الطلاق، والآية "1" من سورة التحريم.

(1/323)


الجمهور إلى أنه لا يدخل تحته الأمة إلا بدليل من خارج، وقيل إه يشمل الأمة؛ روى ذلك عن أبي حنيفة وأحمد، واختاره إمام الحرمين، وابن السمعاني.
قال في "المحصول": وهؤلاء إن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة، وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر، وهو قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وما يجري مجرى ذلك فهو "خرج"* عن هذه المسألة؛ لأن الحكم عندنا إنما أوجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، بل بالدليل الآخر. انتهى.
قال الزركشي: وما قالوه بعيد إلا أن يحمل على التعبير بالكبير عن اتباعه فيكون مجازًا لا حقيقة.
وحكى "عن"** إمام الحرمين أنه قال: إما أن ترد الصيغة في التخصيص أو لا، فإن وردت فهو خاص، وإلا فهو عام لأنا لم نجد دليلًا قاطعًا على التخصيص، ولا على التعميم. انتهى.
ولا يخفاك ضعف هذا التفصيل وركاكة مأخذه؛ لأن النزاع إنما هو في نفس الصيغة، وهي خاصة بلا شك فورودها، في محل التخصيص لا يزيدها تخصيصًا باعتبار اللفظ، ورودها في محل التعميم لا يوجب من حيث اللفظ أن تكون عامة، فإن كان ذلك في حكم الدليل "الدال على التعميم"*** فهو غير محل النزاع.
__________
* في "أ": خارج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.

(1/324)


المسألة السادسة عشرة: حكم الخطاب الخاص بواحد من الأمة
الخطاب الخاص بواحد من الأمة أن صرح بالاختصاص به كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك" 1 فلا شك في اختصاصه بذلك المخاطب؛ وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب، فذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب، ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
__________
تقدم تخريجه في الصفحة "160".

(1/324)


وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية: إنه يعم بدليل ما روي من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة"1، وما روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة" 2، ونحو ذلك؛ ولا يخفاك أن الاستدلال بهذا خارج عن محل النزاع، فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه، كان له حكمه بذلك الدليل، وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة، هل تعم بمجردها أم لا؟
فمن قال: إنها تعمها بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب، ولا تقتضيه بوجه من الوجوه.
قال القاضي أبو بكر: هو عام بالشرع لا "بوضع اللغة"* للقطع باختصاصه به لغة.
قال إمام الحرمين الجويني: لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف؛ إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي، وقيل: بل الخلاف معنوي لا لفظي، لأنا نقول: الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرعي أو مقتضى اللغة؟
قال الصفي الهندي: لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي.
قال الزركشي: والحق أن التعميم منتفٍ لغة ثابت شرعًا، والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرب إليها أولًا، فأصحابنا -يعنى الشافعية- يقولون: لا قضاء للعادة في ذلك، كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بذلك. انتهى.
والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه الحق. ويوجبه الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة، بل بالدليل الخارجي، وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاصة بالواحد، أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة، وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدًا لإلحاق غير ذلك المخاطب به في ذلك الحكم عند الإطلاق "إلا"** إلى أن يقوم الدليل الدال على اختصاصه بذلك.
فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص، لا كما قيل: إن الراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم؛ لأنه قد قام كما ذكرناه.
__________
* في "أ": بالوضعي للقطع.
** في "أ": إلى.
__________
1 ذكره في كشف الخفاء قال: ليس له أصل بهذا اللفظ كما قال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. ا. هـ. كشف الخفاء "1/ 364".
2 أخرجه الترمذي من حديث أميمة بنت رقيقة في السير باب ما جاء في بيعة النساء "1597" وقال: حسن صحيح. والنسائي في البيعة، باب بيعة النساء "4192" "7/ 149". ومالك في الموطأ كتاب البيعة باب ما جاء في البيعة "2/ 982". والإمام أحمد في المسند "6/ 357". والحميدي في مسنده "341".

(1/325)


المسألة السابعة عشرة: حكم دخول المخاطِب تحت عموم خطابه
اختلفو ا في المخاطِب -بكسر الطاء- هل يدخل في عموم خطابه، فذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل "يخصصه. وقال أكثر أصحاب الشافعي إنه لا يدخل إلا بدليل"*.
قال الأستاذ أبو منصور: وهو الصحيح من مذهب الشافعي، قال الأستاذ أبو منصور: وفائدة الخلاف فيما إذا ورد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظ عام في إيجاب "حكم"** حكمه أو حظره، أو إباحته، هل يدل ذلك على دخوله فيه أم لا؟ قال ابن برهان في "الأوسط"1: ذهب معظم العلماء إلى أن الآمر لا يدخل تحت الخطاب، ونقل عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله. انتهى.
ونقله لهذا القول عن معظم العلماء يخالف نقل الأستاذ أبي منصور، والرازي في "المحصول" وابن الحاجب في "مختصر المنتهى"2 وغيرهم فإنهم جعلوا دخول المخاطب في خطابه مذهب الأكثرين.
وقال إمام الحرمين الجويني: أن خطابه يتناوله بنفسه، ولكنه خارج عنه عادة؛ فذهب إلى التفصيل، وتابعه على هذا التفصيل إلكيا الهراس. قال الصفي الهندي: هذه المسألة قد تعرض في الأمر مرة، وفي النهي مرة، وفي الخبر مرة، والجمهور على دخوله. انتهى.
والذي ينبغي اعتماده أن يقال: إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعًا، فليس كذلك وإن كان المراد أنه يشمله حكمًا فمسلم إذا دل عليه دليل أو كان الوضع شاملًا له كألفاظ العموم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": حكمه.
__________
1 واسمه: "الأوسط في أصول الفقه"، للشهاب أحمد بن علي، المعروف بابن برهان، الشافعي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "98"، ا. هـ. كشف الظنون "1/ 201".
2 وهو مختصر لكتابه المسمى "منتهى السهول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب المالكي، وهو المشهور: "بمختصر المنتهى، ومختصر ابن الحاجب"، وهو غريب في صنعه، بديع في فنه، لغاية إيجازه يضاهي الألغاز، وبحسن إيراده يحاكي الإعجاز، اعتنى بشأنه الفضلاء فشرحوه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1853".

(1/326)


المسألة الثامنة عشرة: عموم المقتضى
اختلفوا في المقتضي هل هو عام أم لا؟ ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه، فنقول: المقتضِي بكسر الضاد، هو اللفظ الطالب للإضمار، بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء، وهناك مضمرات متعددة فهل تقدر جميعها، أو يكتفي بواحد منها، وذلك التقدير هو المقتضَى بفتح الضاد.
وقد ذكروا لذلك أمثلة، مثل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 و"قدره بعضهم: وقت إحرام الحج أشهر معلومات، وبعضهم قدره: وقت أفعال الحج أشهر معلومات"*، ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2 فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير، لوقوعهما من الأمة، فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة، كالعقوبة، والحساب، والضمان، ونحو ذلك، ونحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" 3 وأمثال ذلك كثيرة، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله؛ لأنه أعم فائدة، وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهذا كله خطأ لأن الحمل على الجميع لا يجوز، وليس هناك لفظ يقتضي العموم، ولا يحمل على موضع الخلاف؛ لأنه ترجيح بلا مرجح انتهى.
وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له، بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادته فإن لم يدل دليل على إرادته، واحد منها بعينه كان مجملًا بينها وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود، وتندفع الحاجة فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه.
وأيضًا قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة، وهذا هو الحق، وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والغزالي، وابن السمعاني وفخر الدين الرازي،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "197" من سورة البقرة.
2 أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "2045". والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق، "2/ 198" وقال: حديث صحيح. والدارقطني في السنن، كتاب النذور "4/ 170". والبيهقي في السنن، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/ 356" وقال: جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات. وابن حبان في صحيحه "7219". وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وغيرهم.
3 تقدم تخريجه في الصفحة "156".

(1/327)


والآمدي، وابن الحاجب.
قال الرازي في "المحصول" مستدلًّا للقائلين بعموم المقتضى: بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر، فإما أن لا يضمر حكم أصلًا وهو غير جائز؛ لأنه تعطيل لدلالة اللفظ، أو يضمر الكل وهو المطلوب.
هكذا استدل لهم ولم يجب عن ذلك.
وأجاب الآمدي عنه: بأن قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين، وليس كذلك، بل إضمار حكم ما، والتعيين إلى "الدليل"*؛ ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال.
وأجاب: بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة "الدليل"** وكل منهما، يعني: الإجمال، وإضمار الكل خلاف الأصل.
قال ابن برهان: وإذا قلنا ليس بمجمل فقيل: يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به، وقيل: يضمر الموضع المختلف فيه؛ لأن المجمع عليه مستغنٍ عن الدليل، حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": إن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل، وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع، أو يضمر حكم من غير تعيين وتعيينه إلى المجتهد، والأول اختيار الغزالي، والثاني اختيار الآمدي، والثالث التوقف. انتهى.
وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد الأمور الصالحة لتقديرها، أما إذا قام الدليل على ذلك فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2 فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل وفي الثانية الوطء
__________
* في "أ": الشارح.
** في "أ": الأصل.
__________
1 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "23" من سورة النساء.

(1/328)


المسألة التاسعة عشرة: عموم المفهوم
اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن له عمومًا، وذهب القاضي أبو بكر الغزالي، وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له.
قال الغزالي: من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عمومًا ويتمسك به، ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ، والمفهوم ليست دلالته لفظية فإذا قال "في سائمة الغنم الزكاة" 1، فنفى الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص.
ورد ذلك صاحب "المحصول" فقال: إن كنت لا تسميه عمومًا لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الإلفاظ، فالنزاع لفظي وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل؛ لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا "فرع على أن المفهوم حجة أم لا؟"*، ومتى ثبت كون المفهوم حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه؛ لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة. انتهى.
قال القرافي: والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية؛ لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى.
قال ابن الحاجب: إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط، بل بواسطته، وهذا مما لا خلاف فيه، وقال: الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة.
قال الأبياري في "شرح البرهان"2: إن القائل بأن للمفهوم عمومًا مستنده أنه إذا قيل له "في سائمة الغنم الزكاة" فقد تضمن ذلك قولًا آخر، وهو لا زكاة في المعلوفة، وهو ولو صرح بذلك لكان عامًّا في المقصود، أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به، فهل نقول بطل المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة، أو نقول يتمسك به فيما وراء ذلك، هذا موضع نظر.
قال: والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا؟ هل هو البحث عن فوائد التخصيص؛ كما هو اختيار الشافعي، فلا يصح أن يكون له عموم، وإن قلنا استناده إلى عرف لغوي فصحيح،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 سيأتي تخريجه في الصفحة "393".
2 وهو للإمام علي بن إسماعيل بن حسن، الأبياري، شرح فيه كتاب "البرهان" للشيخ أبي المعالي الجويني، إمام الحرمين. ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 37".

(1/329)


وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي، وليس الخلاف لفظيًّا كما زعموا. انتهى.
قال العضد1 في "شرحه لمختصر المنتهى": وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف؛ لأنه إن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أول، فالحق "الإثبات، وهو مراد الأكثر والغزالي لا يخالفهم فيه، وإن فرض أن ثبوت الحكم فيهما بالمنطوق أو لا، فالحق"* النفي وهو مراد الغزالي، وهم لا يخالفونه فيه، ولا ثالث ههنا يمكن فرضه محل النزاع.
والحاصل: أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة. انتهى.
قال الزركشي: ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما عدا المنطوق، يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئيًّا، وبيانه أن الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق، والإجماع على أن نقيض الكلي المثبت جزئي سالب ونقيض الجزئي المثبت كلي سالب، ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما كان منطوقه كليًّا سالبًا كان مفهومه جزئيًّا سالبًا، فيجب تأويل قولهم إن المفهوم عام على ما إذا كان المنطوق به خالصًا ليجتمع أطراف الكلام. انتهى.
وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ فقط أم من عوارض الألفاظ والمعاني، وكذلك سيأتي2 إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم ما إذا تأملته زادك بصيرة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد الرحمن بن ركن الدين، أحمد بن عبد الغفار، البكري، القاضي، عضد الدين الإيجي، الحنفي، ولد سنة سبعمائة هـ، وتوفي سنة ست وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره: "جواهر الكلام في مختصر المواقف" "الرسالة العضدية في الوضع" وله "شرح مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب، وهو اعتنى بتصنيفه، وأفرغه في قالب الكمال وألبسه حلة الجمال، وعليه حواش ا. هـ, العارفين "1/ 527"، كشف الظنون "2/ 1853"، معجم المؤلفين "5/ 119".

(1/330)


المسألة الموفية للعشرون: الاستفصال
...
المسألة الموفية للعشرين: الاستفصال
قال الإمام الشافعي: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقام.
قال في "المحصول": مثاله أن ابن غيلان1 أسلم على عشْر نسوة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمسك أربعًا منهن وفارق سائرهن" 2 ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن، في الجمع والترتيب، فكان إطلاقه القول دالًّا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معًا أو على الترتيب.
وهذا فيه نظر، لاحتمال أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف "خصوص الحال"* فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل. انتهى.
ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحًا وليس بمساوٍ فضلًا عن أن يكون راجحًا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هكذا في الأصل: "ابن غيلان"، ولكن صاحب القصة هو غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، أسلم بعد فتح الطائف، روى ابن عباس شيئًا من شعره، وهو ممن وفد على كسرى، كان له معه خبر طريف وظريف، توفي سنة ثلاث وعشرين للهجرة، ا. هـ. الإصابة "3/ 186"، الكامل لابن الأثير "3/ 41".
2 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة "1128". وابن ماجه، كتاب النكاح، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة "1953". والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح "2/ 193". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر والإماء "7/ 149". وابن حبان في صحيحه "4156".

(1/330)


المسألة الحادية والعشرون: حذف المتعلق
...
المسألة الحادية والعشرين: حذف المتعلق
ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم، نحو زيد: يعطي ويمنع، ونحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} 1، فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم، وإن لم يذكره أهل الأصول.
قال الزركشي: وفيه بحث فإن ذلك مما أخذ من القرائن، وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عامًّا فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو لدلالة القرينة على أن المقدر عام، والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم. انتهى.
__________
1 جزء من الآية "25" من سورة يونس.

(1/331)


المسألة الثانية والعشرون: حكم الكلام الوراد في جهة المدح أو الذم
...
المسألة الثانية والعشرين: حكم الكلام الوارد في جهة المدح أو الذم
الكلام العام في طريقه المدح أو الذم نحو: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} 1، ونحو {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} 2، ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرج عن كونه عامًّا حسبما تقضيه الصيغة كونه مدحًا أو ذمًّا، وذهب الشافعي وبعض أصحابه إلى أنه لا يقتضي العموم، وحكى أبو الحسين بن القطان، والأستاذ أبو منصور، وسليم الرازي وابن السمعاني وجهين في ذلك لأصحاب الشافعي وروى القول بعدم عمومه عن القاساني والكرخي، نقله عن الأول أبو بكر الرازي وعن الثاني ابن برهان.
وقال إلكيا الهراس: إنه الصحيح، وبه جزم القفال الشاشي، وقال: لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} 3 على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما، بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة، وكذا لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 4 على ما يحل منها وما لا يحل، وكان فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 5. انتهى.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدم التنافي بين قصد العموم والمدح أو الذم، ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم، ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة.
__________
1 الآيتين "13/ 14" من سورة الانفطار.
2 الآية "5" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "34" من سورة التوبة.
4 جزء من الآيتين "5/ 6" من سورة المؤمنون.
5 جزء من الآية "23" من سورة النساء.

(1/331)


المسألة الثالثة والعشرون: حكم العام الوارد على سبب خاص
ورود العام على سبب خاص: وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وحكوا ذلك إجماعًا كما رواه الزركشي في "البحر".
قال: ولا بد في ذلك من تفصيل، وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابًا لسؤال سائل أو لا، فإن كان جوابًا فإما أن يستقل بنفسه أو لا، فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه، حتى كأن السؤال معاد فيه، فإن كان السؤال عامًّا فعام، وإن كان خاصًّا فخاص.

(1/332)


مثال خصوص السؤال قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَم} 1، وقوله في الحديث: "أينقص الرطب إذا جف" قالوا: نعم. قال: "فلا إذا"2، وكقول القائل: وطأت في نهار رمضان عامدًا فيقول: عليك الكفارة؛ فيجب قصر الحكم على السائل ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين، أو في كل من كان بصفته.
ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال: يعتق رقبة، فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان، وقوله: يعتق وإن كان خاصًّا بالواحد، لكنه لما كان جوابًا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع، كان الجواب كذلك وصار السؤال معادًا في الجواب.
قال الغزالي: وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم3.
وجعل القاضي في "التقريب" من هذا الضرب قوله: أنتوضأ بماء البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه" 4 قال: لأن الضمير لا بد له من أن يتعلق بما قبله ولا يحسن أن يبتدأ به.
قال الزركشي: وفي هذا نظر؛ لأن هذا ضمير شأن، ومن شأنه صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله.
قال: وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني، وهو الصواب، وبه صرح ابن برهان وغيره.
وإن استقل الجواب بنفسه، بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلامًا تامًّا مفيدًا للعموم، فهو على ثلاثة أقسام؛ لأنه إما أن يكون أخصَّ أو مساويًا أو أعمَّ.
الأول: أن يكون الجواب مساويًا له، يزيد عليه ولا ينقص، كما لو سئل عن ماء البحر.
فقال ماء البحر لا ينجسه شيء، فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف، وكذلك قال ابن فورك، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وابن القشيري وغيرهم.
الثاني: أن يكون الجواب أخص من السؤال، مثل أن يسأل عن أحكام المياه فيقول: ماء البحر طهور فيختص ذلك بماء البحر ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما.
الثالث: أن يكون الجواب أعم من السؤال وهما قسمان:
__________
1 جزء من الآية "44" من سورة الأعراف.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
3 انظر التبصرة "144": والمستصفى "2/ 60".
4 تقدم تخريجه في الصفحة: "155" مختصرًا.

(1/333)


أحدهما: أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه، كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر، وجوابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" 1 فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل، ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم، بل يعم حال الضرورة والاختيار، كذا قال ابن فورك، وصاحبا "المعتمد" و"* "المحصول" وغيرهما، وظاهر كلام القاضي أبي الطيب، وابن برهان أنه يجري في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني، وليس بصواب كما لا يخفى.
القسم الثاني: أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن ماء بئر بضاعة: "الماء طهور لا ينجسه شيء" 2، وكقوله لما سئل عمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد فيه عيبًا: "الخراج بالضمان" 3، وهذا القسم محل الخلاف، وفيه مذاهب:
المذهب الأول: الأول أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، وحكاه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وسليم الرازي، وابن برهان، وابن السمعاني، عن المزني4، وأبي ثور القفال، والدقاق، وحكاه أيضًا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري، وحكاه أيضًا بعض المتأخرين عن الشافعي، وحكاه القاضي عبد الوهاب، والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة، وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي، وكذا قال الغزالي في المنخول، وتبعه فخر الدين الرازي في "المحصول". قال الزركشي: والذي في كتب الحنفية، وصح عن الشافعي خلافه ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "155".
2 أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة "67". والنسائي، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة "325" "1/ 174". والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء "66" وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه الدارقطني، كتاب الطهارة باب الماء المتغير "10/ 31". والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب الماء الكثير لا ينجس بنجاسة تحدث فيه ما لم يتغير "1/ 257". ونقل ابن حجر في التلخيص الحبير "1/ 31" أن الإمام أحمد بين حنبل ويحيى بن معين وأبا محمد بن ترم صححوه.
3 تقدم تخريجه في الصفحة: "156".
4 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، تلميذ الإمام الشافعي، ولد سنة خمس وسبعين ومائة، من آثاره: "المختصر" في الفقه، توفي سنة أربع وستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 492" الجرح والتعديل "2/ 204".

(1/334)


المذهب الثاني: أنه يجب حمله على العموم؛ لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم، ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ، وهو يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح معارضًا، وإلى هذا ذهب الجمهور.
قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، وابن برهان: وهو مذهب الشافعي. واختاره أبو بكر الصيرفي، وابن القطان.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن القشيري، وإلكيا الطبري، والغزالي: إنه الصحيح، وبه جزم القفال الشاشي. قال: والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل، والدليل قد اختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه، أو على جنسه فذاك، وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه، وحكا هذا المذهب ابن كج، عن أبي حنيفة، والشافعي، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية، وأكثر الشافعية والمالكية، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين.
قال القاضي في "التقريب": وهو الصحيح؛ لأن الحكم معلق بلفظ الرسول، دون ما وقع عليه السؤال، ولو قال ابتداء وجب حمله على العموم، فكذلك إذا صدر جوابًا. انتهى.
وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع، وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب، ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك، وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله، بل يقصر عليه، ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملًا لها.
المذهب الثالث: الوقف، حكاه القاضي في "التقريب"، ولا وجه له؛ لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف.
المذهب الرابع: التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به، وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم العام واردًا عند حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي"1.
المذهب الخامس: أنه إن عارض هذا العام الوارد على سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب، فإنه يقصر على سببه وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه.
قال الأستاذ أبو منصور: هذا هو الصحيح. انتهى.
وهذا لا يصلح أن يكون مذهبًا مستقلًّا، فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر، ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها.
__________
1 واسمه "كشف الأسرار"، للشيخ الإمام، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي، وهو شرح من أعظم الشروح، وأكثرها إفاده وبيانًا. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 112".

(1/335)


المسألة الرابعة والعشرون: خلاف العلماء فيما إذا ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم
ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، والحاصل: أنه إذا وافق الخاص العام في الحكم فإن كان بمفهومه ينفي الحكم عن غيره، فمن أخذ بمثل ذلك المفهوم خصص به على الخلاف الآتي1 في مسألة التخصيص بالمفهوم.
وأما إذا لم يكن له مفهوم فلا يخصص به.
ومثال ذلك: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 2 مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر في شاة ميمونة: "دباغها طهورها" 3 فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص عموم أيما إهاب دبغ فقد طهر؛ لأنه تنصيص على بعض إفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا مجرد مفهوم اللقب، فمن أخذ به خصص به، ومن لم يأخذ به لم يخصص به، ولا متمسك لمن قال بالأخذ به كما سيأتي4.
ومن أمثلة المسألة قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" 5 وفي لفظ آخر "وتربتها
__________
1 انظر صفحة: "393".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ "366، ومالك في الموطأ، كتاب الصيد، باب ما جاء في جلود الميتة "2/ 498". وأخرجه أبو داود: كتاب اللباس، في أهب الميتة "4123". كتاب الفرع، باب جلود الميتة "4252" "7/ 173". عن ابن عباس بلفظ "أيما إهاب دبغ فقد طهر" . والترمذي بهذا اللفظ، كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت "1728" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت "3609". وابن حبان في صحيحه "1288".
3 أخرجه أبو داود من حديث ميمونة بلفظ "يطهرها الماء والقرظ" "4126". والنسائي، كتاب الفروع والعتيرة "7/ 174". والبيهقي في سننه "1/ 19". أحمد في مسنده "6/ 334". والطحاوي "1/ 471". والدارقطني "1/ 45".
4 انظر صفحة: "393".
5 جزء من حديث تقدم تخريجه في الصفحة: "322".

(1/336)


ظهورًا"1 وقوله: "الطعام بالطعام" 2 مع قوله في حديث آخر "البر بالبر" 3 إلخ، وقد احتج الجمهور على عدم التخصيص بالمواقف للعام "بأن المخصص لا بد أن يكون منافيا للعام"* وذكر الحكم على بعض الأفراد التي شملها العام ليس بمنافٍ فلا يكون ذكره مخصصًا، وقد أنكر بعض أهل العلم وقوع الخلاف في هذه المسألة. وقال لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص وليس كذلك.
قال الزركشي: فإن قلت: فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام؟
قلت: يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه أو التفخيم له أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد، قال ابن دقيق العيد: إن كان أبو ثور نص على هذه القاعدة فذاك، وإن كان أخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب فلا يدل على ذلك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث جابر، باب التيمم "335"، ومسلم، كتاب المساجد، "521". والنسائي في الغسل، باب التيمم بالصعيد "1/ 209". وابن حبان في صحيحه "6398". وأحمد في مسنده "3/ 304" وابن أبي شيبة "11/ 432". والدارمي "1/ 322". والبيهقي في السنن "1/ 212".
2 أخرجه مسلم من حديث معمر بن عبد الله، كتاب المساقاة، باب الربا "1592". والطبراني في الكبير "2/ 447"، "1094". والبيهقي في السنن، كتاب البيوع، باب جواز التفاضل بالجنسين "5/ 283". والإمام أحمد في المسند "6/ 401". وابن حبان في صحيحه "5011".
3 أخرجه البخاري من حديث عمر، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام "2134". ومسلم كتاب المساقاة باب الربا "1586". وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2253". والنسائي، في السنن كتاب البيوع، باب بيع التمر بالتمر متفاضلًا "4572" "7/ 233". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3348". وابن حبان في صحيحه "5013".

(1/337)


المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم
إذا علق الشارع حكمًا على علة هل تعم تلك العلة حتى يوجد الحكم بوجودها في كل صورة، فقال الجمهور بالعموم في جميع صور وجود العلة، وقال القاضي أبو بكر: لا يعم، ثم اختلف القائلون بالعموم هل العموم باللغة أو بالشرع، والظاهر أن ذلك العموم بالشرع لا باللغة فإنه لم يكن في الصيغة ما يقتضي ذلك، بل اقتضى ذلك القياس، وقد ثبت التعبد به كما سيأتي1.
واحتج من قال بعدم العموم، بأنه يحتمل أن يكون المذكور جزء علة والجزء الآخر خصوصية المحل.
وأجيب عنه: بأن مجرد الاحتمال لا ينتهض للاستدلال، فلا يترك به ما هو الظاهر، ولكنه ينبغي تقييد هذه المسألة بأن يكون القياس الذي اقتضته العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل، لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل، وسيأتي2 بمعونة الله إيضاح ذلك مستوفى.
__________
1 انظر صفحة: "91جـ2".
2 انظر صفحة: "105 جـ2".

(1/337)


المسألة السادسة والعشرون: العام المخصوص هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز
اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازًا، فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقا، سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل، وسواء كان بلفظ أو بغيره واختاره البيضاوي، وابن الحاجب، والصفي الهندي.
قال ابن برهان في "الأوسط": وهو المذهب الصحيح، ونسبه إلكيا الطبري إلى المحققين ووجهه أنه موضوع للمجموع، فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له، وذلك هو المجاز.
وأيضًا لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركًا فيكون حقيقة في معنيين مختلفين، والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد.
وأيضًا قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك كما تقدم1، فيكون مقدمًا عليه.
وذهب جماعة عن أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقًا، قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية.
وقال إمام الحرمين: هو مذهب جماعة الفقهاء وحكاه ابن الحاجب عن الحنابلة.
قالوا: ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولًا حقيقة باتفاق فالتناول باقٍ على ما كان عليه، ولا يضره طرد عدم تناول الغير.
وأجيب: بأنه كان يتناوله مع غيره، والآن يتناوله وحده وهما متغايران.
وقالوا أيضًا: إنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة.
__________
1 انظر صفحة: "241".

(1/338)


وأجيب: بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة؛ إذ السابق مع عدمها هو العموم، وهذا دليل المجاز.
قال العضد: وقد يقال إرادة الباقي معلومة دون القرينة، إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج. انتهى.
ويجاب عنه: بأن إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة.
وذهب جماعة: إلى أنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة، وإن خص بمنفصل فمجاز، حكاه الشيخ أبو حامد، وابن برهان وعبد الوهاب عن الكرخي وغيره من الحنفية، قال عبد الوهاب: هو قول أكثرهم. قال ابن برهان: وإليه مال القاضي، ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع".
واحتجوا بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد.
ويجاب: بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كانت سببا لفهم ارادة الباقي من لفظ العموم وهو معنى المجاز، ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة متصلة أو منفصلة.
وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول، حكى ذلك عنه ابن برهان في "الأوسط" ولا وجه له، وحكى الآمدي أنه إن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي، سواء كان ذلك المخصص اللفظ متصلًا أو منفصلًا، وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازًا، ولا وجه لهذا أيضًا؛ لأن القرينة قد تكون لفظية وقد تكون غير لفظية، وحكى أبو الحسين في "المعتمد" عن عبد الجبار أنه: إن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز، ولا وجه له أيضًا، وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع.
وقال أبو الحسين البصري: إن كان المخصص مستقلًّا فهو مجاز، سواء كان عقليًّا أو لفظيًّا، وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج، وإن لم يكن مستقلًا فهو حقيقة، كالاستثناء والشرط، والصفة.
واختار هذا فخر الدين الرازي، فإنه قال في "المحصول": والمختار قول أبي الحسين، وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازًا وإلا فلا، وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان: عقلية ولفظية، أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني، وفي هذين القسمين يكون العام مجازا، والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق، فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملًا في غير مسماه لقرينة مخصصة، وذلك هو المجاز.
فإن قلت: لِمَ لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق، ومع القرينة

(1/339)


المخصصة حقيقة في الخصوص.
قلت: فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجازًا أصلًا؛ لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا، ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازًا عنه، والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا. انتهى.
ويجاب عنه بمنع كونه يفضي إلى ذلك، ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به، بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقًا، فضلًا عن سد باب مجرد المجاز.
وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه إن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز، واختاره الباجي من المالكية، وهذا لا ينبغي أن يعد مذهبًا مستقلًّا لأنه لا بد "من"* أن يبقى أقل الجمع، وهو محل الخلاف، ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي: إن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع، فأما إذا بقي واحد أو اثنان، كما لو قال لو تكلم الناس، ثم قال أردت زيدًا خاصة، فإنه يصير مجازًا بل خلاف؛ لأنه اسم جمع، والواحد والاثنان ليسا بجمع. انتهى.
وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهبًا مستقلًّا ما اختاره إمام الحرمين، من أنه يكون حقيقة فيما بقي ومجازًا فيما أخرج؛ لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط، هل يكون العام فيه حقيقة أم لا؟
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/340)


المسألة السابعة والعشرون: حجية العام بعد التخصيص
اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا، ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين، أما إذا خص بمبهم كما لو قال تعالى: "اقتلوا المشركين إلا بعضهم"1، فلا يحتج به على شيء من الإفراد، بلا خلاف؛ إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج، وأيضًا إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولًا، وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والأصفهاني.
قال الزركشي في "البحر": وما نقلوه من الاتفاق فليس بصحيح.
__________
1 إشارة إلى الآية "5" من سورة التوبة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} التي جاءت عامة المشركين بدون استثناء أو تخصيص.

(1/340)


وقد حكى ابن برهان في "الوجيز" الخلاف في هذه الحالة، وبالغ فصحح العمل به مع "الإبهام"*، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج والأصل عدمه، فيبقى على الأصل، ونعمل به إلى أن "نعلم"** بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام، وإنما يكون معارضًا عند العلم به.
قال الزركشي: وهو صريح في الإضراب عن المخصص، والعمل بالعام في جميع أفراده، وهو بعيد، وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ولا قائل به. انتهى.
وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجًّا بأن البيان لا يتأخر، وهذا يؤدي إلى تأخره.
وأما إذا كان التخصيص بمبين، فقد اختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول: أنه حجة في الباقي، وإليه ذهب الجمهور، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما من محققي المتأخرين، وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن اللفظ العام كان متناولًا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي، ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور، وهو محال.
وأيضًا المقتضى للعمل به فيما بقي موجود، وهو دلالة اللفظ عليه، والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع، فوجب ثبوت الحكم. وأيضًا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة، وشاع ذلك وذاع.
وأيضًا قد قيل: إنه ما من عموم إلا وقد خص، وأن لا يوجد عام غير مخصص، فلو قلنا إنه غير حجة فما بقي للزم إبطال كل عموم، ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما ثبتت بعمومات.
القول الثاني: أنه ليس بحجة فيما بقي، وإليه ذهب عيسى بن أبان وأبو ثور، كما حكاه عنهما صاحب "المحصول"، وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق وحكاه الغزالي عن القدرية، قال: ثم منهم من قال: يبقى أقل الجمع؛ لأنه المتيقن.
قال إمام الحرمين: ذهب كثير من الفقهاء الشافعية، والمالكية، والحنفية، والجبائي،
__________
* في "أ": الإبهام.
** في "أ": نعمل.

(1/341)


وابنه1 إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل، كسائر المجازات، وإليه مال عيسى بن أبان. انتهى.
واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازات، وإذا كانت الحقيقة غير مرادة، وتعددت المجازات، كان اللفظ مجملًا فيها، فلا يحمل على شيء منها "والباقي أحد المجازات فلا يحمل على شيء منها"*.
وأجيب: بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية، ولا دليل على تعين أحدها، وما قدمنا من الأدلة فقد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه.
القول الثالث: أنه إن خص بمتصل كالشرط و"الاستثناء"** والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خص بمنفصل فلا، بل يصير مجملًا، حكاه الأستاذ أبو منصور، عن الكرخي، ومحمد بن شجاع الثلجي، بالمثلثة والجيم.
قال أبو بكر الرازي: كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول: في العام إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ، وصار حكمه موقوفًا على دلالة أخرى من غيره، فيكون بمنزلة اللفظ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ، فيقول: إن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى. انتهى.
ولا يخفاك أن قوله سقط الاستدلال باللفظ مجرد دعوى، ليس عليها دليل، وقوله: وصار حكمه...إلخ ضم دعوى إلى دعوى، والأصل بقاء الدلالة، والظاهر يقتضي ذلك، فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولا دليل أصلًا.
القول الرابع: إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به، كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2؛ لأن القيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به، كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3؛ لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز، وكون
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، الجبائي، أبو الهاشم، تقدمت ترجمته ص"141".
2 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
3 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.

(1/342)


المسروق لا شبهة للسارق فيه يمنع من تعلق الحكم، وهو القطع بعموم اسم السارق، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ، وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص، وهي كائنة في الموضعين، والاختلاف بكون الدلالة في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلًا وظاهرًا.
القول الخامس:
إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص، ولا يحتاج إليه كـ {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} فهو حجة؛ لأن مراده بين قبل إخراج الذمي، وإن كان يتوقف على البيان، ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1 فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها، وإليه ذهب عبد الجبار، وليس هو بشيء ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل.
القول السادس:
أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع؛ لأنه المتعين، ولا يجوز فيما زاد عليه، هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر، والغزالي، وابن القشيري، وقال إنه تحكم، وقال الصفي الهندي: لعله قول من لا يجوِّز "التخصيص ألبته"*.
وقد استدل لهذا القائل: بأن أقل الجمع هو المتيقن، والباقي مشكوك فيه، ورد بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة.
القول السابع:
أنه يتمسك به في واحد فقط، حكاه في "المنخول" عن أبي هاشم، وهو أشد تحكمًا مما قبله.
القول الثامن:
الوقف، فلا يعمل به إلا بدليل، حكاه أبو الحسين بن القطان، وجعله مغايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة، وليس هناك شيء من ذلك.
__________
* في "أ": تخصيص التثنية وهو خطأ.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.

(1/343)


المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعض أفراد العام عليه
إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1، فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم
__________
1 جزء من الآية "238" من سورة البقرة.

(1/343)


لا؟ وقد حكى الروياني في "البحر" عن والده في "كتاب الوصية" أنه حكى اختلاف العلماء في هذه المسألة فقال بعضهم: هذا المخصوص "بالذكر"* لا يدخل تحت العام؛ لأنا لو جعلناه داخلًا تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة.
قال الزركشي في "البحر": وعلى هذا جرى أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وظاهر كلام الشافعي يدل عليه، فإنه قال في حديث عائشة في الصلاة الوسطى، وصلاة العصر1 إنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر لأن العطف يقتضي المغايرة.
قال الروياني أيضًا: وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل تحت العموم، وفائدته التأكيد، وكأنه ذكر مرة بالعموم، ومرة بالخصوص وهذا هو الظاهر، وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في "شرحنا للمنتقى".
وإذا كان المعطوف خاصًّا فاختلفوا: هل يقتضي تخصيص المعطوف عليه أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه، وقالت الحنفية يوجبه، وقيل بالوقف.
ومثال هذه المسألة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" 2 فقال الأولون: لا يقتل المسلم بالذمي، لقوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" ، وهو عام في الحربي والذمي؛ لأنه نكرة في سياق النفي.
وقالت الحنفية بل هو خاص، والمراد به الكافر الحربي، بقرينة عطف الخاص عليه، وهو قوله: "ولا ذو عهد في عهده" فيكون التقدير: ولا ذو عهد في عهده بكافر قالوا: والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع؛ لأن المعاهد يقتل بالمعاهد، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال الأولون: وهذا التقدير ضعيف لوجوه:
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم كتاب المساجد، باب دليل من قال الصلاة هي الصلاة الوسطى هي صلاة العصر "269". ومالك في الموطأ. كتاب صلاة الجماعة، باب الصلاة الوسطى "1/ 138". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر "410". والنسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على صلاة العصر "471" "1/ 236". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة "2982". وقال: حسن صحيح. والإمام أحمد في المسند "6/ 72".
2 أخرج بنحوه أبو داود، كتاب الديات، باب أيقاد المسلم بالكافر من حديث علي "4530" والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس "4748" "8/ 19". وابن حبان عن أبن عمر، في صحيحه "5996".

(1/344)


أحدها: أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه.
الثاني: أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلام تام، فلا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر لأن الإضمار خلاف الأصل، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل، وقد صرح أبو عبيد في "غريب الحديث"1 بذلك، فقال: إن قوله: "ولا ذو عهد" جملة مستأنفة وإنما قيده بقوله: "في عهده" لأنه لو اقتصر على قوله: "ولا ذو عهد" لتوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج منه لا يقتل، فلما قال: "في عهده" علمنا اختصاص النهي بحالة العهد.
الثالث: أن حمل الكافر المذكور على الحرب لا يحسن؛ لأن إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة، فلا يتوهم أحد قتل مسلم به.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة، وليس هناك ما يقتضي التطويل.
وقد قيل -على ما ذهب إليه الأولون-: ما وجه الارتباط بين الجملتين؟ إذ لا يظهر مناسبة لقوله: "ولا ذو عهد في عهده" مطلقًا مع قوله: "لا يقتل مسلم بكافر" .
وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق المروزي2: بأن عداوة الصحابة رضي الله عنهم للكفار كانت شديدة جدًّا فلما قال عليه الصلاة والسلام: "لا يقتل مسلم بكافر" "خشي"* أن ينجرد هذا الكلام فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره، فعقبه بقوله:
"ولا ذو عهد في عهده" .
__________
* في "أ": حتى.
__________
1 واسمه "الغريب المصنف"، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو مجلدان، ألفه في نحو أربعين سنة، وهو أول من صنف في هذا الفن. ا. هـ. الأعلام "5/ 176"، كشف الظنون "2/ 1204".
2 وهو إبراهيم بن أحمد المروزي: الإمام الكبير، شيخ الشافعية، فقيه بغداد من آثاره: "كتاب في السنة" و"شرح مختصر المزني"، توفي سنة أربعين وثلاثمائة هـ، ودفن عند ضريح الإمام الشافعي، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 429"، شذرات الذهب "2/ 355"، الأعلام "1/ 28".

(1/345)


المسألة التاسعة والعشرون: هل يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص؟
نقل الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث على المخصص.
واختلفوا في قدر البحث، والأكثرون قالوا إلى أن يغلب الظن بعدمه، وقال القاضي أبو بكر

(1/345)


الباقلاني إلى القطع به، وهو ضعيف؛ إذ القطع لا سبيل إليه واشتراطه يفضي إلى عدم العمل بكل عموم.
واعلم: أن في حكاية الإجماع نظرًا، فقد قال في "المحصول": قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص، فإذا لم يوجد بعد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم.
وقال الصيرفي: يجوز التمسك به ابتداء، ما لم يظهر دلالة مخصصة.
واحتج الصيرفي بأمرين:
أحدهما: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لم يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وهذا باطل فذاك مثله.
بيان الملازمة: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخص، لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل، وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم، وبيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز، هو أن ذلك غير واجب في العرف، بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظاهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا؟، وإذا وجب ذلك في العرف، وجب أيضًا في الشرع، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" 1.
والأمر الثاني: أن الأصل عدم التخصيص، وهذا يوجب ظن عدم التخصيص، فيكفي في إثبات ظن الحكم.
واحتج ابن سريج أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص، فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة، وأن لا يكون، والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل.
الجواب: أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة؛ لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص.
ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت. انتهى كلام "المحصول".
__________
1 هو موقوف على ابن مسعود. أما مرفوعًا فلا يصح.
والموقوف رواه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة "3/ 78" وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير 9/ 113 "8583". والإمام أحمد في المسند "1/ 379". والبغوي في شرح السنة "105". وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي "959" فإنه قال: موقوف حسن وأخرجه البزار والطيالسي.

(1/346)


وما ذكره من أن ما وجب في العرف وجب في الشرع ممنوع.
وما استدل به زاعمًا أنه من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، فإن ذلك ليس من قوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يثبت من وجه معتبر، ولا شك أن الأصل عدم التخصيص، فيجوز التمسك بالدليل العام لمن كان من أهل الاجتهاد الممارسين لأدلة الكتاب والسنة العارفين بها، فإن عدم وجود المخصص لمن كان كذلك يسوغ له التمسك بالعام، بل هو فرضه الذي تعبده الله به، ولا ينافي ذلك تقدير وجود المخصص فإن مجرد هذا التقدير لا يسقط قيام الحجة بالعام، ولا يعارض أصالة عدم الوجود وظهوره.

(1/347)


المسألة الموفية للثلاثين: في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
...
المسألة الموفية ثلاثين: في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
قال الشيخ أبو حامد في "تعليقه"1 في كتاب البيع: والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل، وما ليس بمراد هو الأكثر، وقال أبو علي بن أبي هريرة: العام المخصوص المراد به هو الأكثر، وما ليس بمراد هو الأقل. قال: ويفترقان أن العام الذي أريد به الخصوص "لا يصح الاحتجاج بظاهره، والعام المخصوص يصح الاحتجاج بظاهره اعتبارًا بالأكثر. وقال المرودي في "الحاوي"2: الفرق بينهما في وجهين:
أحدهما: أن العام المخصوص ما يكون المراد باللفظ أكثره، وما ليس المراد باللفظ أقل، والعام الذي أريد به الخصوص"*. ما يكون المراد باللفظ أقل، وما ليس بمراد باللفظ أكثر.
والثاني: أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ، وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان"3: يجب أن يتنبه للفرق بين قولنا: هذا عام أريد به
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمها: "التعليقة الكبرى في الفروع"، لأبي حامد، محمد بن أحمد، الغزالي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "33". ا. هـ. كشف الظنون "424".
2 واسمه: "الحاوي في الفروع"، للقاضي أبي الحسن، علي بن محمد الماوردي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "135".
3 "عنوان الوصول في الأصول" وشرحه للشيخ تقي الدين، ابن دقيق العيد. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1176".

(1/347)


الخصوص، وبين قولنا: هذا عام مخصوص، فإن الثاني أعم من الأول، ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر العموم، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ، كان عامًّا مخصوصًا، ولم يكن عامًّا أريد به الخصوص،ثم ويقال: إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج، وهذا متوجه إذا قصد العموم، بخلاف ما إذا نطق بالعام مريدًا به بعض ما يتناوله.
قال الزركشي: وفرق بعض الحنابلة بينهما بوجهين آخرين:
أحدهما: أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام فإن أراد به بعضًا معينًا، فهو العام الذي أريد به الخصوص، وإن إراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص.
مثاله: قام الناس، فإذا أردت به إثبات القيام لزيد مثلًا لا غير، فهو عام أريد به الخصوص، وإن أردت به سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص.
والثاني: أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج إلى دليل معنوي يمنع إرادة الجميع، فيتعين له البعض، والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ غالبًا، كالشرط والاستثناء والغاية.
قال: وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص: هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله، وهو مجاز قطعًا؛ لأنه استعمال اللفظ في بعض مدلوله، وبعض الشيء غيره، قال: وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكفي طردها في أثنائه؛ لأن المقصود منها نقل اللفظ من معناه إلى غيره، واستعماله في غير موضعه، وليست الإرادة فيه إخراجًا لبعض المدلول، بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر غير موضعه، كما يراد باللفظ مجازه.
وأما العام المخصوص، فهو العام الذي أريد به معناه مخرجًا منه بعض أفراده فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ، ولا تأخرها عنه بل يكفي كونها في أثنائه كالمشيئة في الطلاق.
وهذا موضع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة.
ومنشأ التردد: أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مرادًا به الباقي أو لا؟ وهو يقوي كونه حقيقة، لكن الجمهور على المجاز، والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره.
وقال علي بن عيسى1 النحوي: إذا أتى بصورة العموم والمراد به الخصوص، فهو مجاز
__________
1 الرماني، النحوي، المعتزلي، العلامة، أبو الحسن، له نحو مائة مصنف، منها: "شرح كتاب سيبويه، الجمل، صنعة الاستدلال، المعلوم والمجهول"، توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 533" شذرات الذهب.

(1/348)


إلا في بعض المواضع، إذا صار الأظهر الخصوص، كقولهم: غسلت ثيابي وصرمت1 نخلي، وجاءت بنو تميم، وجاءت الأزد2. انتهى.
قال الزركشي: وظن بعضهم أن الكلام في الفرق بينهما مما أثاره المتأخرون، وليس وكذلك، فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الشافعي، وجماعة من أصحابنا، في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 3 هل هو عام مخصوص، أو عام أريد به الخصوص. انتهى.
ولا يخفاك أن العام الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوبًا بالقرينة عند التكلم به على إرادة المتكلم به بعض ما يتناوله بعمومه، وهذا لا شك في كونه مجازًا لا حقيقة لأنه استعمال اللفظ في بعض ما وضع له سواء كان المراد منه أكثره أو أقله، فإنه لا مدخل للتفرقة بما قيل من إرادة الأقل في العام الذي أريد به الخصوص، وإرادة الأكثر في العام المخصوص.
وبهذا يظهر لك أن العام الذي أريد به الخصوص مجاز على كل تقدير، وأما العام المخصوص، فهو الذي لا تقوم قرينة عند تكلم المتكلم به على أنه أراد بعض أفراده، فيبقى متناولًا لأفراده على العموم، وهو عند هذا التناول حقيقة فإذا جاء المتكلم بما يدل على إخراج البعض منه، كان على الخلاف المتقدم هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز؟
__________
1 الصرم: القطع البائن، قال الجوهري: صرمت الشيء صرما: قطعته ا. هـ. لسان العرب مادة صرم.
2 لغة في الأسد، وهي أيضًا تجمع قبائل وعمائر كثيرة في اليمن. ا. هـ. لسان العرب مادة أزد.
3 جزء من الآية "275" من سورة البقرة.

(1/349)
الفصل الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
...
الباب الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
--------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق