الأحد، 25 أبريل 2021

نماذج من المقحمات بخط رقيع وصغير

نماذج من المقحمات

https://itislinkes.blogspot.com/

https://altfrehaintalak.blogspot.com/
========/======= سليمان والخيل
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
قال الحسن البصري: والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن [كله] (1) ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل. رواه ابن أبي حاتم .
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ (33) }
يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود سليمان، أي: نبيا كما قال: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي: في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر.
وقوله: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ثناء على سليمان، عليه السلام، بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل.
قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا (3) مكحول قال: لما وهب الله لداود سليمان عليه (4) السلام قال له: يا بني ما أحسن؟ قال: سكينة الله وإيمان. قال: فما أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان. قال: فما أحلى؟ قال: روح الله بين عباده. قال: فما أبرد؟ قال: عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض. قال داود عليه السلام: فأنت نبي.
وقوله: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } أي: إذ عرض على سليمان في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات.
قال مجاهد: وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد: السراع. وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال (5) ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا مُؤمَّل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } قال: كانت عشرين فرسا ذات أجنحة. كذا رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق (6) عن إبراهيم التيمي قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان، عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس، فعقرها وهذا أشبه (7) والله أعلم.
وقال (8) أبو داود: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني عُمَارة بن غَزيَّة: أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (9) عن عائشة
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.
(2) في ت: "روى".
(3) في ت: "بإسناده".
(4) في ت، س: "عليهما".
(5) في ت: "روى".
(6) في ت: "بإسناده".
(7) في أ: "الأشبه".
(8) في ت: "وروى".
(9) في ت: "بإسناده".
(7/64)
رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك -أو خيبر-وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة -لُعَب-فقال: "ما هذا يا عائشة؟" قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسا له (1) جناحان من رقاع فقال: "ما هذا (2) الذي أرى وسطهن؟" قالت: فرس. قال: "وما هذا الذي عليه؟" قالت: جناحان قال: "فرس له جناحان؟!" قالت: أما سمعت أن لسليمان خيل لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم (3)
وقوله: { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } (4) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت (5) صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب (6) وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه، من ذلك عن جابر قال: جاء عمر، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها" فقال: (7) فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا (8) لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب (9)
ويحتمل أنه كان (10) سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال. والخيل تراد للقتال. وقد ادعى طائفة (11) من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب؛ لأنه قال بعدها: { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }
قال الحسن البصري. قال: لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما (12) عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذا قال قتادة.
وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها. وهذا القول اختاره ابن جرير قال: لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه
__________
(1) في أ: "لها".
(2) في أ: "ما هذا يا عائشة".
(3) سنن أبي داود برقم (4932).
(4) في ت، س: "قال".
(5) في ت، أ: "عن وقت".
(6) في أ: "المغرب".
(7) في ت: "قال".
(8) في ت: "فتوضأنا".
(9) صحيح البخاري برقم (4112) وصحيح مسلم برقم (631).
(10) في أ: "ادعى هذا طائفة".
(11) في س، أ: "أنه قد كان".
(12) في أ: "أحر ما".
(7/65)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40


اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى (1) عوضه الله تعالى ما (2) هو خير منها وهي (3) الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل (4)
وقال (5) الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال (6) عن أبي قتادة وأبي الدهماء -وكانا يكثران السفر نحو البيت-قالا أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال: "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله (7) -عز وجل-إلا أعطاك الله خيرا منه" (8)
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) }
يقول تعالى: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي: اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانا. { ثُمَّ أَنَابَ } أي: (9) رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته.
قال ابن جرير: وكان اسم ذلك الشيطان صخرا. قاله ابن عباس، وقتادة. وقيل: آصف. قاله مجاهد وقيل: آصروا. قاله مجاهد أيضا. وقيل: حبقيق. قاله السدي. وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة.
وقد قال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة: قال أمر سليمان، عليه السلام ببناء بيت المقدس فقيل له: ابنه ولا يُسمَعُ فيه صوت حديد. فقال: فطلب ذلك فلم يقدر عليه. فقيل له: إن شيطانا في البحر يقال له: "صخر" شبه المارد. قال: فطلبه وكانت عين في البحر يَردهُا في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجعل فيها خمر، فجاء يوم ورْده فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها (10) فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم شربها حتى غلبت على عقله، قال: فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فَذَلَّ. قال: وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان فقال: إنه
__________
(1) في ت، س: "عز وجل".
(2) في ت، س: "بما".
(3) في ت، س، أ: "وهو".
(4) وهذا هو الصواب، وانظر كلام القرطبي في: الجامع لأحكام القرآن (15/195، 196).
(5) في ت: "وروى".
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(7) في أ: "لله".
(8) المسند (5/78) وقال الهيثمي في المجمع (10/296): "رجاله رجال الصحيح".
(9) في ت، س: "ثم".
(10) في أ: "أتاه".
(7/66)
قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا: لا يسمعن فيه صوت حديد. قال: فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه. فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة. وكان سليمان [عليه السلام] (1) إذا أراد أن يدخل الخلاء -أو: الحمام-لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه، وذلك عند مقارفة قارف فيه (2) بعض نسائه. قال: فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة، ونزع مُلك سليمان منه وألقي على الشيطان شَبَه سليمان. قال: فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسُلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه. قال: فجعل يقضي بينهم، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن نبي الله. وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: والله لأجربنه. قال: فقال: يا نبي (3) الله -وهو لا يرى إلا أنه نبي الله-أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى (4) عليه بأسا؟ فقال: (5) لا. قال: فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال: هو الشيطان صخر (6)
وقال السدي: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي: ابتلينا سليمان، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال: جلس الشيطان على كرسيه أربعين يوما. قال: وكان لسليمان عليه السلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها: "جرادة"، وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة (7) نزع خاتمه ولم يأتمن (8) عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فقال: هاتي الخاتم. فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا. وخرج مكانه تائها. قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما، قال: فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوا (9) فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوا. قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه. ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي (10) البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه. فاستطعمهم من صيدهم وقال: إني أنا سليمان. فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته. قال: إنه
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "فيها".
(3) في أ: "أنبي".
(4) في ت: "ترى".
(5) في ت، س: "قال".
(6) تفسير الطبري (23/101).
(7) في أ: "حاجته".
(8) في ت: "يأمن".
(9) في أ: "أتوه".
(10) في ت، س، أ: "صيادين".
(7/67)
زعم أنه سليمان. قال: فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شط البحر فشق بطونهما فجعل يغسل [دمه] (1) فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه السلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا [به] (2) فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. قال: فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة. وكان اسمه حبقيق قال: وسخر (3) له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: { وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } (4)
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال: شيطانا يقال له: آصف. فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن -ولم يقربنه وأنكرنه. قال: فكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه، حتى أعطته امرأة يوما حوتا فجعل يطيب بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر فارا.
وهذه كلها من الإسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (5) { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه -وكانت الجرادة (6) امرأته وكانت أحب نسائه إليه-فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأعطته إياه. فلما لبسه دانت له الإنس والجن (7) والشياطين فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها: هاتي خاتمي. قالت: قد أعطيته سليمان. قال: أنا سليمان. قالت: كذبت لست سليمان (8) فجعل لا يأتي أحدا يقول له: "أنا سليمان"، إلا كذبه حتي جعل (9) الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى ذلك عَرَف أنه من أمر الله عز وجل. قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان. قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك. فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له (10) ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس. وقالوا:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت، أ: "وسخرت".
(4) تفسير الطبري (23/101).
(5) زيادة من أ.
(6) في ت: "جرادة".
(7) في أ: "والجن والطير".
(8) في ت: "بسليمان".
(9) في أ: "جاء".
(10) في ت: "أنه فطن له". (7/68)

بهذا كان يظهر سليمان على الناس [ويغلبهم] (1) فأكفر الناس سليمان عليه السلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطانُ بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته. وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ فقال: نعم. قال: بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك. قال: فحمل سليمان عليه السلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه. قال: فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وَهَرب الشيطان حتى دخل جزيرة (2) من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص قال: فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان، فأمر به فنقر (3) له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } قال: يعني الشيطان الذي كان سلط عليه.
إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس -إن صح عنه-من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور أن (4) ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفاً وتكريماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متُلقًّاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب.
وقال يحيى بن أبي عمرو السيباني: وجد سليمان خاتمه في عسقلان، فمشى في خرقة (5) إلى بيت المقدس تواضعا لله عز وجل، رواه ابن أبي حاتم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال: حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار؛ أنه لما فرغ من حديث "إرم ذات العماد" قال له معاوية: يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه؛ ومن أي شيء هو؟ فقال: كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مُفَصّصاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ. وقد جُعل له درجة منها مُفَصّصة بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحُفّ من جانبيه بالنخل، نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ. وجعل على رءوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب، ثم جعل على رءوس النخل التي على يسار الكرسي نسور من ذهب مقابلة الطواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "لحق بجزيرة".
(3) في ت: "فثقب".
(4) في أ: "فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من السلف أن".
(5) في أ: "بحرقة".
(7/69)

شجرتا صنوبر من ذهب، وعن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودان من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر. ثم جُعل فوق دَرَج الكرسي أسَدَان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا. فإذا أراد سليمان أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان (1) فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه السلام، ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان. ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد، فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه، ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد [سليمان] (2) على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة. فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحاق؟ قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسْدُ والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان [ابن داود] (3) عليه (4) السلام وهو جالس ثم ينضحن جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان عليه السلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراةَ فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان على الناس.
وذكر تمام الخبر (5) وهو غريب جدا .
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } قال بعضهم: معناه: لا ينبغي لأحد من بعدي أي: لا يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية (6) الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس. والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه (7) وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال (8) البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة -أو كلمة نحوها-ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي }
__________
(1) في ت: "يقفان".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "عليهما".
(5) في ت: "الحديث".
(6) في ت: "في قصة"، وفي أ: "من قصة".
(7) في ت، س، أ: "وبذلك".
(8) في ت: "فروى".
(9) في ت: "بإسناده". /(7/70)

قال روح: فرده خاسئا (1)
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به (2)
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن سلمة المُرَادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يَزيد عن أبي إدريس الخولاني (3) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك". ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" -ثلاثا-وبسط يَدَه كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك؟ قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك -ثلاث مرات-ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخْذَه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان (4) أهل المدينة" (5)
وقال (6) الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال (7) حدثني (8) أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي (9) صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين -الإبهام والتي تليها-ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح (10) مربوطا بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل".
وقد روى أبو داود منه: "من استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" عن أحمد بن أبي سُرَيج عن أبي أحمد الزبيري به (11)
وقال (12) الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد (13) عن عبد الله الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، وهو في حائط له بالطائف يقال له: "الوهط"، وهو مُخَاصر فتى من قريش يُزَنّ بشُرْب الخمر، فقلت: بلغني عنك حديث أنه "من شرب شربة خَمْر لم يقبل الله -عز وجل-له تَوبَةً أربعين صباحًا، وإن الشقي من شقي في بطن أمه وإنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزه إلا الصلاة فيه، خرج
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4808).
(2) صحيح مسلم برقم (541) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11440).
(3) في ت: "بإسناده".
(4) في ت، س، أ: "ولدان".
(5) صحيح مسلم برقم (542).
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "بإسناده".
(8) في ت: "عن".
(9) في ت: "فصلى".
(10) في ت: "أصبح".
(11) المسند (3/83) وسنن أبي داود برقم (699).
(12) في ت: "وروى".
(13) في ت: "بإسناده". /(7/71)

من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق. فقال عبد الله بن عمرو (1) إني لا أحل لأحد أن يقول عَلَيّ ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن (2) عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد -قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة-فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من رَدْغَة الخبال يوم القيامة" قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك (3) أقول جف القلم على علم الله عز وجل" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سليمان سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم (4) ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله تعالى (5) قد أعطانا إياها" (6)
وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا ... " وذكره (7)
وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه، بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني:
حدثنا محمد بن الحسن بن قُتَيْبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سُوَيْد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن أبي الزاهرية (8) عن رافع بن عمير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل لداود عليه السلام: ابن لي بيتًا في الأرض. فبنى داود (9) بيتًا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه: يا داود نصبت بيتك قبل بيتي؟ قال: يا رب هكذا قضيت (10) من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال: يا داود (11) إنك لا تصلح أن تبني لي بيتًا قال: ولم يا رب؟ قال: لما جرى على يديك من الدماء. قال: يا رب أو ما كان (12) ذلك في هواك ومحبتك؟ قال: بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه: لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان. فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه: قد أرى سرورَك ببنيان بيتي فسلني أعطك. قال: أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتي هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه
__________

(1) في أ: "عمرو رضي الله عنهما".
(2) في أ: "وإن".
(3) في أ: "ولذلك".
(4) في ت، س، أ: "مثل يوم".
(5) في ت، س، أ: "عز وجل".
(6) المسند (2/176).
(7) سنن النسائي (2/43) وسنن ابن ماجة برقم (1408).
(8) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(9) في ت: "داود عليه السلام".
(10) في ت، س، أ: "هكذا قلت فيما قضيت".
(11) في ت، أ: "فأوحى الله إليه"
(12) في ت، س، أ: "أو لم يكن". /(7/72)

خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" (1)
وقال (2) الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عُمَر بن راشد اليمامي، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً إلا استفتحه بـ "سبحان الله ربي الأعلى العلي الوهاب" (3)
وقد قال (4) أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن بَرْقان عن صالح بن مسمار قال: لما مات نبي الله داود أوحى الله إلى ابنه سليمان عليهما (5) السلام: أن سلني حاجتك. قال: أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي. فقال الله: أرسلت إلى عبدي وسألته (6) حاجته فكانت [حاجته] (7) أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لأهَبَنّ له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال الله تعالى: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } والتي بعدها، قال: فأعطاه [الله] (8) ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه.
هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام في تاريخه (9)
وروي عن بعض السلف أنه قال: بلغني عن داود [عليه السلام] (10) أنه قال: "إلهي كن لسليمان كما كنت لي": فأوحى الله إليه: أن قل لسليمان: يكون لي كما كنت لي، أكون له كما كنتُ لك.
وقوله: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } قال الحسن البصري رحمه الله: لما عقر سليمان الخيل غضبا لله، عز وجل عوضه الله ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
وقوله: { حَيْثُ أَصَابَ } أي: حيث أراد من البلاد .
وقوله: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } أي: منهم من هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما (11) فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } أي: موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تَمَرّد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى .
__________
(1) المعجم الكبير (5/24) قال الهيثمي في المجمع (4/8): "فيه محمد بن أيوب بن سويد الرملي وهو متهم بالوضع".
(2) في ت: "وروى".
(3) المسند (4/54) قال الهيثمي في المجمع (10/156): "فيه عمر بن راشد اليمامي وثقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت، أ: "عليه".
(6) في ت، س: "أسأله".
(7) زيادة من ت، س.
(8) زيادة من أ.
(9) تاريخ دمشق (7/569) "القسم المخطوط".
(10) زيادة من ت، س، أ.
(11) في ت: "ما". / (7/73)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
وقوله: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي: مهما فعلتَ فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولا -وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به-وبين أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له: تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان في الدنيا نبه على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا، فقال: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي: في الدار الآخرة.
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
__________
(1) في أ: "الصحيح".

===========/====
* حادثة داود عليه السلام
=======/=======

تفسير قصة داود المذكورة في سورة ص
يقول الله تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 17 - 26].
تَفسيرُ الآياتِ:
﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾:
أي: اصبِر يا محمد على ما يقول مشركو قومك من التكذيب بالحق والاستهزاء بك، واذكر عبدنا داود ذا القوة على عبادة الله وجهاد أعدائه.
إن نبينا داودَ كان كثيرَ التوبة والدعاء، والرجوع إلى الله في جميع أموره، واقفًا عند حدوده.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 40، 42)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 158)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 57)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 487)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 227).
آية وحديثان فيها ما يتعلق بتفسير الآية:
من قوة داود ما ذكره الله في قوله تعالى: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((أحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ عليه السلام، وأحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثُلُثَه، وينام سُدُسه، ويصوم يومًا، ويُفطِر يومًا))؛ رواه البخاري (1131) واللفظ له، ومسلم (1159).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النبي داود عليه الصلاة والسلام: ((كان أعبدَ الناس))؛ رواه مسلم (1159).
﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾:
أي: إنا سخرنا الجبال يُسبِّحْنَ الله وينزِّهْنَه عمَّا لا يليق به بصوت يسمعه منهُنَّ داود كلما سبَّح الله وقت العصر إلى الغروب، ووقت الضُّحَى حين تَبْيَض الشمس ويصفو شعاعُها بعد طلوعها.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 43)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 159)، و((تفسير البيضاوي)) (5/ 26)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 57)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 487)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 228).
آيات كريمة تتعلق بتفسير الآية:
قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 79].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10].
وقال عز وجل: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44].
﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾:
أي: وسخرنا الطير مجموعة لداود يُسبِّحْنَ الله معه، كلٌّ من الجبال والطير رجاع إلى عبادة الله، وامتثال أمره بالتسبيح مع داود، وكلُّ الطيور تُكثِر الرجوع إلى داود، وتأتيه من أماكن بعيدة للتسبيح معه.
يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 45)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 161)، و((تفسير البيضاوي)) (5/ 26)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 58)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 488)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 229).
آية كريمة تتعلق بتفسير الآية:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10].
﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾:
أي: وقوينا ملك داود بالهيبة وكثرة الجنود والنصر حتى ثبت ملكه طوال مدة حكمه، وأعطينا داود النبوَّة، وعلم كتاب الله والسنن، والفهم، والعمل بالصواب في جميع الأمور، وأعطينا داود قطعَ المخاطبة بالكلام البليغ الفاصل بين الحق والباطل، والحكم بالصواب في الخصومات بين الناس، ومن ذلك سؤال المدَّعي البيِّنةَ والمنكِر اليمينَ.
يُنظَر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 639)، و((تفسير ابن جرير)) (20/ 48، 52)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 161، 162)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 58، 59)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 488)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 229).
آية كريمة وآثار عن السلف تتعلق بتفسير الآية:
قال تعالى: ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251].
وعن مجاهد في قوله: ﴿ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾، قال: "إصابة القضاء وفهمه"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 49).
وعن ابن زيد في قوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ قال: "الخصومات التي يُخاصِم الناسُ إليه؛ فصلُ ذلك الخطاب: الكلامُ الفَهْم، وإصابةُ القضاء والبيِّنات"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 49).
وعن قتادة في قوله: ﴿ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ قال: "البينة على الطالب، واليمين على المطلوب؛ هذا فصل الخطاب"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 51).
وعن الشعبي في قوله: ﴿ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ قال: "قول الرجل: أما بعد"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 51).
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾:
أي: وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وأمرهما العجيب مع داود، حين تسلَّق الخَصْمان جِدارَ المحراب - وهو مقدم البيت وأشرفه - ونزلا من الجدار حتى دخلا على داود وهو في مكان عبادته؟!
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 52، 53)، و((تفسير ابن عطية)) (4/ 497)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 165)، و((تفسير الخازن)) (4/ 35)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((تفسير الألوسي)) (12/ 171)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711).
قال البغوي: "إنما جمَعَ الفعلَ وهما اثنان؛ لأن الخَصْم اسمٌ يصلُح للواحد والاثنين، والجمع والمذكر والمؤنث، ومعنى الجمع في الاثنين موجود؛ لأن معنى الجَمْع ضمُّ شيء إلى شيء؛ هذا كما قال الله تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]"؛ ((تفسير البغوي)) (4/ 60).
وقال ابن عطية: "تحتمل هذه الآية أن يكون المتسوِّر للمحراب اثنين فقط؛ لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: ﴿ تَسَوَّرُوا ﴾ و﴿ دَخَلُوا ﴾ و﴿ قَالُوا ﴾ على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كلٍّ فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة"؛ ((تفسير ابن عطية)) (4/ 498).
قال ابن كثير: "ذكر المفسِّرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبُت فيها عن المعصوم حديث يجب اتِّباعه، فالأولى أن يُقتصَر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يُردَّ علمُها إلى الله عز وجل؛ فإن القرآن حقٌّ، وما تضمَّن فهو حقٌّ أيضًا"؛ ((تفسير ابن كثير)) (7/ 60).
قلت: وسنذكر لاحقًا أقوال أشهر المفسِّرين في هذه القصة، والله الموفِّق للصواب.
﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾:
أي: اذكر حين دخل الخَصْمان على داود بغتةً من غير باب المحراب بلا استئذان؛ فخاف منهما. قال الخصمان لداود حين رأياه فزع من دخولهما عليه: لا تخف، نحن خَصْمان، تعدَّى أحدُنا على الآخر وظلمه بغير حق، فاقض يا داود بيننا بالعدل، ولا تجُرْ في القضاء فتتجاوز الحدَّ بالميل مع أحدنا على صاحبه، وأرشدنا بحكمك العادل بيننا إلى قصد الطريق المستقيم، ولا تخالف بنا إلى غير الحق.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 53 -56)، و((الوسيط)) للواحدي (3/ 547)، و((تفسير العليمي)) (6/ 15)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 233، 234).
﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾:
أي: قال أحد الخَصْمين لداود: إن هذا أخي له تسع وتسعون شاة أنثى من الضأن، ولي شاة واحدة، لا أملك غيرها، فقال لي أخي: أعطني شاتَكَ وضُمَّها إليَّ لأتملكها وتكمل عدد نعاجي مائة، وظلمني أخي في مخاطبته إيَّاي، وغلبني وقهرني حين رأى مني تمنُّعًا ليأخذ نعجتي من غير طيب نفسٍ مني!
يُنظر: ((الفصل))؛ لابن حزم (4/ 14)، و((تفسير أبي حيان)) (9/ 149)، و((إعلام الموقعين))؛ لابن القيم (3/ 169)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((تفسير النيسابوري)) (5/ 588)، و((تفسير ابن عجيبة)) (5/ 17)، و((تفسير القاسمي)) (8/ 247)، و((تفسير المراغي)) (23/ 109)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 235)، و((التفسير المنير))؛ للزحيلي (23/ 186).
قال أبو حيان: "الظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضَّأْن، ولا يُكنَّى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن ذلك الإخبار كان صادرًا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة والفرض لها، من غير تلبُّس بشيء منها، فمثَّلُوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمَّة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وأراد انتزاعها منه، وحاجَّه في ذلك مُحاجَّة حريصٍ على بلوغ مراده"؛ ((تفسير أبي حيان)) (9/ 149).
وقد ذهب أكثر المفسرين - ومنهم ابن جرير والواحدي والزمخشري والقرطبي والشوكاني - إلى أن المراد بالنعجة هنا المرأة، والمعنى: ولي امرأة واحدة، فقال لي أخي: انزل عنها لي وضُمَّها إليَّ حتى أكفُلَها، وأصيرُ بَعْلًا لها، وذكروا أن هذا مَثَلٌ ضربَه الخَصْم لداود؛ لأن داود - كما قيل - كان له تسع وتسعون امرأة، فرغب أن يتزوَّج امرأة رجل من قومه.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 53، 59)، و((الوسيط)) للواحدي (3/ 547)، و((تفسير الزمخشري)) (4/ 83)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 174)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 489).
وقال البغوي: "قال الحسين بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم؛ لأنه لم يكن هناك نِعاجٌ ولا بَغْيٌ، فهو كقولهم: ضرب زيدٌ عَمْرًا، أو اشترى بكرٌ دارًا، ولا ضَرْب هُنالك ولا شِراء"؛ ((تفسير البغوي)) (4/ 60).
وقال ابن القيم: "تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتَّى؛ وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال؛ أي: إذا كان كذلك فكيف الحُكْم بيننا؟ ونظير هذا قول الملك للثلاثة الذين أراد الله أن يبتليهم: (مسكين وغريب وعابر سبيل، وقد تقطعت بي الحبال، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرًا أتبلَّغُ به في سفري هذا)، وهذا ليس بتعريض؛ وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال، وإيهام أني أنا صاحب هذه القضية، كما أوهم الملكان داودَ أنهما صاحبا القصة؛ ليتمَّ الامتحان"؛ ((إعلام الموقعين)) (3/ 169).
فائدة: قال ابن عاشور: "ليس في قول الخَصْمين: ﴿ هَذَا أَخِي ﴾ ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكاب الكذب؛ لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبِر بها أن يظُنَّ المخْبَر (بالفتح) وقوعَها إلَّا ريثما يحصُل الغرض من العِبْرة بها، ثم ينكشف له باطنُها فيعلم أنها لم تقع، وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقعة؛ فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى نية المشابهة"؛ ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 238).
﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ﴾:
أي: قال داود للخَصْم المتظلِّم من صاحبه: لقد ظلمك أخوك بسؤاله إيَّاكَ أن تُعطيَه نعجتَكَ الوحيدة ليضُمَّها إلى نِعاجه الكثيرة.
وإن عادة أكثر الشركاء في الأموال أن يتعدَّى بعضُهم على بعض بالظلم، إلا الذين آمنوا بالله وعملوا الطاعات ولم يتجاوزوا أمر الله ونهيه، وقليل الصالحون الذين لا يظلمون أحدًا.
وعلم داود بعد قضائه بين الخَصْمين أنما ابتليناه وامتحنَّاه ليتنبَّه، فطلب من ربِّه أن يغفرَ له ذنبه، وسقط ساجدًا، ورجع إلى الله تائبًا.
يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 641)، و((تفسير ابن جرير)) (20/ 62 - 64)، و((تفسير السمعاني)) (4/ 436)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 179، 182، 183)، و((مجموع الفتاوى))؛ لابن تيمية (13/ 342)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((تفسير النيسابوري)) (5/ 589)، و((تفسير الألوسي)) (12/ 174)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 235، 236).
آية وأحاديث تتعلق بتفسير الآية:
قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشَزَّنَ الناس للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي توبةُ نبيٍّ؛ ولكني رأيتُكم تشزَّنْتُم للسجود))، فنزل فسجد وسجدوا؛ رواه أبو داود (1410)، وصحَّحه البيهقي في السنن الكبرى (3740)، وابن كثير في تفسيره (7/ 62)، وكذا صحَّحه الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص"، وقال: ((سجَدَها داودُ توبةً، ونسجُدُها شُكْرًا))، رواه النسائي (957)، وصحَّحه الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال في السجود في "ص": "ليست من عزائم السجود، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجُدُ فيها"؛ رواه أحمد (3387)، وصحَّحه الأرناؤوط.
وعن ابن عباس في قوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ قال: "اختبرناه"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 63).
فائدة: قال ابن تيمية: "المراد هنا: السجود، بالسنة واتفاق العلماء، فالمراد: خرَّ ساجدًا، وسمَّاه ركوعًا؛ لأن كل ساجد راكع، لا سيَّما إذا كان قائمًا، وسجود التلاوة من قيام أفضل، ولعلَّ داود سجَدَ من قيام، وقيل: خرَّ راكعًا؛ ليُبيِّن أن سجوده كان من قيام، وهو أكمل، ولفظ ﴿ خَرَّ ﴾ يدل على أنه وصل إلى الأرض، فجمع له معنى السجود والركوع"؛ ((جامع الرسائل)) (1/ 36).
وقال ابن عاشور: "قال ابن العربي: لا خلاف في أن الركوع ها هنا السجود، قلت: الخلاف موجود، والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإسلام كانت خاصة بالأنبياء"؛ ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 240)، وينظر: ((أحكام القرآن))؛ لابن العربي (4/ 57)، و((الإجماع في التفسير))؛ للخضيري، (ص 379 -382).
﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾:
أي: فسترنا لداود ذلك الذنب، وعفونا عنه ولم نؤاخذه بخطيئته، وإن لداود عندنا قُرْبة منا ومنزلة عالية يوم القيامة، وحُسْن مرجع في الجنة يرجع إليه في الآخرة.
يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 76)، و((تفسير ابن عطية)) (4/ 502)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60، 62)، و((تفسير السعدي)) (ص: 712).
حديث يتعلق بتفسير الآية:
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))؛ رواه مسلم (1827).
أقوال المفسرين في ذنب داود عليه الصلاة والسلام:
قال السعدي: "هذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرُّض له من باب التكلُّف، وإنما الفائدة ما قصَّه الله علينا من لطفه به، وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها"؛ ((تفسير السعدي)) (ص: 712).
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بالفتنة ما جرى لداود من رغبته في تزوُّج امرأة رجل من قوادِه، وذكروا قصة طويلة لا تصحُّ؛ يُنظَر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 639، 640)، و((تفسير ابن جرير)) (20/ 71، 74، 75)، و((الوسيط))؛ للواحدي (3/ 547، 548)، و((تفسير ابن عطية)) (4/ 498، 499)، و((زاد المسير))؛ لابن الجوزي (3/ 564 -566).
وقد أبطل تلك القصة كثيرٌ من المحقِّقين؛ كابن حزم، والقاضي عياض، وابن كثير، والشنقيطي، ومحمد أبو شهبة، والألباني؛ يُنظر: ((الفصل))؛ لابن حزم (4/ 14)، ((الشفا))؛ للقاضي عياض (2/ 371 -373)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((أضواء البيان))؛ للشنقيطي (6/ 339)، و((الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير))؛ لمحمد أبو شهبة (ص: 268 -270)، و((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة))؛ للألباني (1/ 484، 485).
وذهب بعض المفسرين - كالنحاس، والبغوي، والبيضاوي، وابن القيم، والشوكاني، والألوسي، وابن عاشور - إلى صحَّة أصل القصة بما لا يتنافى مع مقام نبوة داود عليه الصلاة والسلام، وإليك أقوالهم:
قال أبو جعفر النحاس: "قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود صلى الله عليه وسلم وأوريا وأكثرُها لا يصحُّ، ولا يتَّصِل إسنادُه، ولا ينبغي أن يجترَّأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحَّتها، وأصحُّ ما رُوي في ذلك ما رواه مسروق، عن عبدالله بن مسعود، قال: "ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال: ﴿ أَكْفِلْنِيهَا ﴾؛ أي: انزل لي عنها"، وروى المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "ما زاد داود على أن قال: ﴿ أَكْفِلْنِيهَا ﴾؛ أي: تحوَّل لي عنها وضُمَّها إليَّ"، قال أبو جعفر: فهذا أجل ما روي في هذا، والمعنى عليه: أن داود عليه السلام سأل "أُوريَّا" أن يُطلِّق له امرأته كما يسأل الرجل الرجلَ أن يبيعه جاريته، فنبَّهَه الله جل وعز على ذلك وعاتبَه لمَّا كان نبيًّا، وكان له تسع وتسعون، أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا وبالتزيُّد منها، فأمَّا غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه"؛ ((معاني القرآن)) (6/ 98 - 101).
وقال البغوي: "قال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنَّى أن تكون امرأة "أُوريَّا" حلالًا له، فاتَّفق غزو "أُوريَّا" وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوَّج امرأته، فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغُرت، فهي عظيمة عند الله"؛ ((تفسير البغوي)) (4/ 61).
وقال البيضاوي: "﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ ابتليناه بالذنب، أو امتحنَّاه بتلك الحكومة، هل يتنبَّه بها؟ وأقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ودَّ أن يكون له ما لغيره، وكان له أمثاله، فنبَّهَه اللهُ بهذه القصة، فاستغفر وأناب عنه، وما رُوي أن بصره وقع على امرأة فعشقها، وسعى حتى تزوَّجها وولدت منه سليمان، إن صحَّ فلعلَّه خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته، وكان ذلك معتادًا فيما بينهم، وقد واسى الأنصارُ المهاجرين بهذا المعنى، وما قيل: إنه أرسل "أُوريَّا" إلى الجهاد مرارًا، وأمر أن يُقدَّم حتى قُتِل فتزوَّجها، هزء وافتراء"؛ ((تفسير البيضاوي)) (5/ 27)، ويُنظَر: ((معاني القرآن))؛ للزجاج (4/ 328)، و((تفسير الزمخشري)) (4/ 80، 81).
وقال ابن القيم: "نكاح المعشوقة هو دواء العشق الذي جعله الله دواءً شرعًا، وقد تداوى به داود عليه السلام، ولم يرتكب نبيُّ الله مُحرَّمًا؛ وإنما تزوَّج المرأة وضَمَّها إلى نسائه لمحبَّته لها، وكانت توبتُه بحسب منزلته عند الله وعلوِّ مرتبته، ولا يليق بنا المزيد على هذا"؛ ((الجواب الكافي))؛ لابن القيم، (ص: 237)، ويُنظَر: ((تفسير القاسمي)) (8/ 251).
وقال الشوكاني: "الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضًا لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها، ويضُمُّها إلى نسائه، ولا يُنافي هذا العِصْمة الكائنة للأنبياء، فقد نبَّهَه الله على ذلك، وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه؛ فاستغفر وتاب"؛ ((تفسير الشوكاني)) (4/ 490).
وقال الألوسي: "عندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصِفُ، نعم لا يُقبَل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوَّة، ولا يقبل تأويلًا يندفع معه ذلك، ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلَّا ترك ما هو الأولى"؛ ((تفسير الألوسي)) (12/ 178).
وقال ابن عاشور: "قد حُكِيت هذه القصة في سِفْر صمويل الثاني في الإصحاح الحادي عشر على خلاف ما في القرآن، وعلى خلاف ما تقتضيه العِصْمة لنبوَّة داود عليه السلام فاحذروه، والذي في القرآن هو الحق، والمنتظم مع المعتاد، وهو المهيمن عليه، ولو حُكي ذلك بخبر آحاد في المسلمين لوجب ردُّه، والجزم بوضْعِه؛ لمعارضته المقطوع به من عِصْمة الأنبياء ... أي: علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليُشعِره بحال فعلته مع "أُوريَّا"، وقد أشعره بذلك ما دلَّه عليه انصراف الخَصْمين بصورة غير معتادة، فعلم أنهما ملكان، وأن الخصومة صورية؛ فعلم أن الله بعثهما إليه عتبًا له على متابعة نفسه زوجة "أُوريَّا"، وطلبه التنازُل عنها، وعبَّر عن علمه ذلك بالظن؛ لأنه علم نظري، اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة، وكثيرًا ما يُعبَّر عن العلم النظري بالظَّنِّ لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردُّد في أول النظر"؛ ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 239).
وذهب بعض المفسرين - كأبي حيان والمراغي وطنطاوي ووهبة الزحيلي - إلى أن ذنب داود هو سوء ظنه بالخَصْمين؛ حيث ظن أنهما أتيا لاغتياله، فلما تبيَّنَ له أنهما جاءا في خصومة استغفر ربَّه من سوء ظنِّه بهما؛ يُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (9/ 151)، و((تفسير المراغي)) (23/ 109، 110)، و((الوسيط))؛ لطنطاوي (12/ 148)، و((التفسير المنير))؛ للزحيلي (23/ 186).
وذهب بعض المفسرين إلى أن ذنب داود أنه حكم بين الخَصْمين بعد سماعه من أحدهما بلا بيِّنة، ولم يسمع من الخَصْم الآخر؛ ليعرف إقراره أو إنكاره، وهذا القول شاذٌّ كما قال مكي بن أبي طالب، ومع هذا رجَّحه بعض المفسرين؛ كأبي بكر الجزائري؛ يُنظَر: ((الهداية))؛ لمكي بن أبي طالب (10/ 6233)، و((أيسر التفاسير))؛ للجزائري (4/ 444).
وذهب ابن عثيمين إلى أن ذنب داود عليه السلام أنه اشتغل بالعبادة الخاصة عن الحكم بين الناس، فأغلق الباب دونهم، وأيضًا حكم للخَصْم دون أن يسمَع حجَّة خَصْمه، وتعجَّل بالحكم قبل سؤال الخَصْم من أجل أن يرجع إلى عبادته، فعلم عليه الصلاة والسلام أن الله اختبره بهذا فخرَّ راكعًا، وأناب تائبًا إلى الله عز وجل؛ هذا النقل موجود في موقع الشيخ ابن عثيمين في الإنترنت.
﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾: أي: يا داود، إنا استخلفناك في أرض الشام بعد من كان قبلك من الأنبياء والصالحين لتأمُرَ بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتُدبِّر أمور أهلها الدينية والدنيوية بأمرنا، فاحكم بين الناس بالعَدْل الذي شرعته، ولا تتبع هوى نفسك المخالف لأمر الله في القضاء بين الناس وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، فيضلك الهوى عن دين الله، فتترك الحق والعمل بالعدل، إن الذين يميلون عن العمل بدين الله لهم في النار عذاب شديد بسبب ضلالهم في الدنيا عن العمل بالحق والقضاء بالعدل، وبسبب نسيانهم يوم القيامة وتركهم الإيمان به والاستعداد له بالأعمال الصالحة.
يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 77)، و((تفسير السمرقندي)) (3/ 165)، و((الهداية))؛ لمكي بن أبي طالب (10/ 6237)، و((تفسير البغوي)) (4/ 66)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 188، 189)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 62، 63)، و((تفسير أبي السعود)) (7/ 223)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 493)، و((تفسير السعدي)) (ص: 712)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 242، 244).
تنبيه: قال ابن عطية: "لا يُقال: خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوُّز وغلوٌّ"؛ ((تفسير ابن عطية)) (4/ 502).
وقال ابن تيمية: "سُمِّي الخليفة خليفة؛ لأنه يخلف من قبله، والله تعالى جعله يخلفه، كما جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، ليس المراد أنه خليفة عن الله، كما ظنَّه بعض الناس"؛ ((منهاج السنة النبوية))؛ لابن تيمية (5/ 525).
فائدة: قال الشنقيطي: "معلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتَّبِع الهوى فيضله عن سبيل الله؛ ولكن الله تعالى يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم ليشرع لأممهم"؛ ((أضواء البيان)) (6/ 340).
فائدة أخرى: لا يتمكن الإنسان من إقامة العدل إلا بالعلم بالواجب، والعلم بالواقع، والقدرة على تنفيذ الحق؛ يُنظَر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712).
من فوائد الآيات وهداياتها:
ذكر السعدي في تفسيره بعض الفوائد والحكم في قصة داود، فقال:
"منها: أن الله تعالى يقصُّ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم أخبار مَنْ قبلَه؛ ليُثبِّت فؤادَه وتطمئن نفسه، ويذكر له من عباداتهم وشدَّة صبرهم وإنابتهم، ما يُشوِّقه إلى منافستهم، والتقرُّب إلى الله الذي تقرَّبوا له، والصبر على أذى قومه؛ ولهذا - في هذا الموضع - لما ذكر الله ما ذكر من أذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به، أمره بالصبر، وأن يذكر عبده داود فيتسلَّى به.
ومنها: أن الله تعالى يمدح ويحبُّ القوَّة في طاعته؛ قوة القلب والبدن، فإنه يحصل منها من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوَّة، وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلَّة بالقوى المضعفة للنفس.
ومنها: أن الرجوع إلى الله في جميع الأمور من أوصاف أنبياء الله وخواصِّ خلقه، كما أثنى الله على داود وسليمان بذلك، فليقتدِ بهما المقتدون، وليهتدِ بهُداهم السالكون ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
ومنها: ما أكرم الله به نبيَّه داودَ عليه السلام، من حسن الصوت العظيم الذي جعل الله بسببه الجبال الصُّمَّ، والطيور البُهْم، يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح، ويُسبِّحْنَ معه بالعشيِّ والإشراق.
ومنها: أن من أكبر نِعَم الله على عبده أن يرزقه العلمَ النافعَ، ويعرف الحُكْمَ والفَصْلَ بين الناس، كما امتنَّ الله به على عبده داود عليه السلام.
ومنها: اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخَلَل بفتنته إيَّاهم وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذورُ، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى، كما جرى لداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما يُبلِّغُون عن الله تعالى؛ لأن مقصود الرسالة لا يحصُل إلا بذلك، وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي؛ ولكن الله يتداركهم ويُبادرهم بلُطْفه.
ومنها: أن داود عليه السلام، كان في أغلب أحواله ملازمًا محرابَه لخدمة ربِّه؛ ولهذا تسوَّر الخَصْمان عليه المحراب؛ لأنه كان إذا خلا في محرابه لا يأتيه أحدٌ، فلم يجعل كلَّ وقته للناس، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام؛ بل جعل له وقتًا يخلُو فيه بربِّه، وتقرُّ عينُه بعبادته، وتُعينه على الإخلاص في جميع أموره.
ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكَّام وغيرهم، فإن الخَصْمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود، فزع منهم واشتدَّ عليه ذلك، ورآه غير لائق بالحال.
ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سُوءُ أدبِ الخَصْم وفعله ما لا ينبغي.
ومنها: كمال حلم داود عليه السلام، فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان، وهو الملك، ولا انتهرهما، ولا وبَّخَهُما.
ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه: أنت ظلمتني أو يا ظالم ونحو ذلك أو باغ عليَّ لقولهما: ﴿ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ص: 22].
ومنها: أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر، جليل العلم، إذا نصحه أحد، أو وعظه، لا يغضب، ولا يشمئزُّ؛ بل يبادره بالقبول والشكر، فإن الخَصْمين نصَحا داودَ فلم يشمئزَّ ولم يغضب، ولم يُثْنِه ذلك عن الحق؛ بل حكم بالحق الصرف.
ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة التعلُّقات الدنيوية المالية، مُوجِبة للتعادي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يردُّ عن ذلك إلا استعمال تقوى الله، والصبر على الأمور، بالإيمان والعمل الصالح، وأن هذا من أقل شيء في الناس.
ومنها: أن الاستغفار والعبادة، خصوصًا الصلاة، من مكفِّرات الذنوب، فإن الله رتَّب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده.
ومنها: إكرام الله لعبده داود وسليمان بالقرب منه، وحسن الثواب، وألَّا يُظنَّ أن ما جرى لهما منقصٌ لدرجتهما عند الله تعالى، وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين، أنه إذا غفر لهم وأزال أثر ذنوبهم، أزال الآثار المترتبة عليه كلها، حتى ما يقع في قلوب الخلق، فإنهم إذا علموا ببعض ذنوبهم، وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى، فأزال الله تعالى هذه الآثار، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار.
ومنها: أن الحكم بين الناس مرتبة دينية، تولَّاها رُسُل الله وخواصُّ خَلْقه، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له الإقدام عليه.
ومنها: أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بالٍ، فإن النفوس لا تخلُو منه؛ بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده، وأن يُلقي عنه وقت الحكم كلَّ محبَّة أو بُغْض لأحد الخَصْمين"؛ ((تفسير السعدي))، (ص: 713).
============/==
= حادثة ابن ام مكتوم والنبي صلي الله عليه وسلم ونزول سورة عبس وتولي 

 
قصة «7» مواقف عاتب الله فيها الرسول    
وخلال السطور التالية نعرض بعض الآيات التي عاتب الله في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1- قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (52) الأنعام.
وذلك عندما قال المشركون للرسول –صلى الله عليه وسلم- اجعل لنا يوما ولهم يوم يقصدون الفقراء- لأنهم استكبروا أن يجلسوا معهم فهم النبي أن يفعل ذلك لعلهم يؤمنون فأنزل الله هذه الآية.
2- {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) الأنفال.
وذلك حينما أطلق النبي سراح أسرى بدر مقابل الفدية ولكن عمربن الخطاب اعترض على ذلك فنزلت الآية موافقة لرأي الفاروق.
3- {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)}
عندما جاءه عبدالله بن أم مكتوم، وكان رجلًا أعمى يريد أن يستفسر منه عن شيء في العبادات فتولى عنه النبي ليجادل المشركين حتى يؤمنوا بما نزل عليه من الحق.
4- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1)} التحريم.
وذلك عندما كان النبي يمكث عند زينب بنت جحش - رضي الله عنها- ويشرب عندها عسلا، فاتفقت «عائشة» و«حفصة» أن من يدخل عليها رسول الله منهما أن تقول له: «إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟»، فدخل على السيدة حفصة فقالت له ذلك فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وأمرها ألا تخبر أحدًا بذلك ولكنها أفشت السر، (المغافير): هو طعام حلو المذاق كريه الرائحة.
5- {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (43) التوبة.
وذلك بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، وقدّم الله تعالى لفظ العفو قبل ذكر العتاب تكريمًا لرسول الله.
6- {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا} (24) الكهف.
وذلك عندما سأل كفّار قريش النّبي الكريم ثلاث أسئلة وهي عن فتيةٍ كانوا في الزّمن الغابر حصلت لهم قصّة عجيب، وعن ملكٍ طوّاف في الأرض بلغ مشارقها ومغاربها، والسّؤال الثّالث والأخير عن الرّوح.
وبعدما سمع النّبي - عليه الصّلاة والسّلام- أسئلة كفّار قريش قال إنّه سوف يخبرهم بجواب هذه الأسئلة في الغد، وعندما جاء الغد ولم ينزل عليه جبريل عليه السلام وسأله الكفار قال: «أجيبكم غدًا»، وفي اليوم الثالث قال: «أجيبكم غدًا»، وانقطع الوحي عن رسول الله مدّةً يسيرة حتّى شقّ ذلك عليه.
7- {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (37) الأحزاب
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدًا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلمَّا تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: "اتق الله في قولك، وأمسك عليك زوجك" وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يُرد أن يأمره بالطلاق؛ لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدْر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: "أمسك" مع علمه بأنه يطلِّق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية.
==========/========
= حادثة الأسري وعتاب الله الواحد للنبي والمؤمنين
= ادثة يوم حنين
==========*===
وافقت أحداث هذه الغزوة السابع من شهر شوال، من السنة الثامنة من هجرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. ودارت رحاها في وادي حنين، وهو وادٍ إلى جنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة سبعة وعشرون كيلو مترًا تقريبًا، من جهة عرفات‏. وكان عدد المسلمين الذين اجتمعوا في هذه المعركة اثنا عشر ألفًا؛ عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة .
سبب الغزوة :
لقد كان فتح مكة كما قال ابن القيم ‏:‏ " الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين. وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء...ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجًا " .
وكان لهذا الفتح الأعظم رد فعل معاكس لدى القبائل العربية الكبيرة القريبة من مكة، وفي مقدمتها قبيلتا ( هوزان ) و( ثقيف ). فقد اجتمع رؤساء هذه القبائل، وسلموا قياد أمرهم، إلى مالك بن عوف سيد ( هوزان ). وأجمعوا أمرهم على المسير لقتال المسلمين، قبل أن تتوطد دعائم نصرهم، وتنتشر طلائع فتحهم .
مجريات الغزوة ووقائعها :
وكان مالك بن عوف رجلاً شجاعًا ومقدامًا، إلا أنه كان سقيم الرأي، وسيء المشورة؛ فقد خرج بقومه أجمعين، رجالاً ونساء وأطفالاً وأموالاً؛ ليُشعر كل رجل وهو يقاتل أن ثروته وحرمته وراءه فلا يفر عنها. وقد اعترضه في موقفه هذا دريد بن الصمة - وكان فارسًا مجربًا محنكًا، قد صقلته السنون، وخبرته الأحداث - قائلاً له: وهل يرد المنهزم شيء؟ إن كانت الدائرة لك، لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك: فضُحْتَ في أهلك ومالك. فسفَّه مالك رأيه، وركب رأسه، وأصر على المضي في خطته، لا يثنيه عن ذلك شيء .
وانتهى خبر مالك وما عزم عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يجهز جيشه، ويعد عدته لمواجهة هذا الموقف. وكان مالك بن عوف قد استبق زمام المبادرة وتوجه إلى حنين، وأدخل جيشه بالليل في مضائق من ذلك الوادي، وفرق أتباعه في الطرق والمداخل، وأصدر إليهم أمره، بأن يرشقوا المسلمين عند أول ظهور لهم، ثم يشدوا عليهم شدة رجل واحد ‏.‏
وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد عبأ جيشه بالسَّحَر، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وقبل أن يبزغ فجر ذلك اليوم، استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بما كان قد دُبِّر لهم بليل. وبينما هم ينحطون على ذلك الوادي، إذا بالنبال تمطر عليهم من كل حدب وصوب، وإذا بكتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانهزم المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة لذلك الجمع الكبير ‏.‏
وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وهو يقول‏:‏ ( إلي يا عباد الله، ‏أنــا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ‏)‏ ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار ‏.‏
وقد روى لنا العباس رضي الله عنه هذا الموقف العصيب، وصوَّره لنا أدق تصوير، فقال: ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، فلما التقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ الكفار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس ! نادِ أصحاب السَّمُرَة - أي: أصحاب بيعة العقبة - فقال عباس : أين أصحاب السمرة ؟ قال: فوالله لكأَن عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي، عَطْفة البقر على أولادها - أي: أجابوا مسرعين - فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار...فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: حمي الوطيس ، قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد ، قال: فذهبت أنظر، فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً، وأمرهم مدبرًا - يعني قوتهم ضعيفة، وأمرهم في تراجع وهزيمة - ) هذه رواية مسلم في "صحيحه". وقد فرَّ مالك بن عوف ومن معه من رجالات قومه، والتجؤوا إلى الطائف، وتحصنوا بها، وقد تركوا وراءهم مغانم كثيرة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم فريقًا من الصحابة، حاصروهم، وقاتلوهم حتى حسموا الأمر معهم .
وهذا الحدث وما رافقه من مجريات ووقائع، هو الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، بقوله‏:‏ ‏{‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين }‏ (‏التوبة‏:‏25-26) .
لقد كان موقف رسول الله وثباته في هذه المعركة مع قلة من الصحابة دليلاً ناصعًا، وبرهانًا ساطعًا على عمق إيمانه بالله، وثقته بنصره وتأييده، وتحققه بأن نتيجة المعركة سوف تكون إلى جانب الحق. وإنك لتبصر صورة نادرة، وجرأة غير معهودة في مثل هذه المواقف؛ فقد تفرقت عنه صلى الله عليه وسلم الجموع، وولوا الأدبار، لا يلوي واحد منهم على أحد، ولم يبق إلا رسول الله وسط ساحات الوغى، حيث تحفُّ به كمائن العدو من كل جانب، فثبت ثباتًا عجيبًا، امتد أثره إلى نفوس أولئك الفارين، فعادت إليهم من ذلك المشهد رباطة الجأش، وقوة العزيمة .
موقف أم سليم :
ومن المواقف المشرفة في هذه المعركة موقف الصحابية أم سُليم رضي الله عنها، وكانت مع زوجها أبي طلحة رضي الله عنه. وقد روت كتب الحديث والسِّيَر بسند صحيح وقائع خبرها، فعن أنس رضي الله عنه، أن أم سليم رضي الله عنها اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها فرآها أبو طلحة ، فقال: يا رسول الله ! هذه أم سليم ، معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر ؟ قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء، انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أم سليم! إن الله قد كفى وأحسن ) .
تداعيات هذه الغزوة :
ثم إن من تداعيات هذه المعركة، ما كان من مسألة تقسيم الغنائم - وقد غنم المسلمون مغانم كثيرة في هذه المعركة - وكانت هذه القسمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتى بالاعتراض‏، والقيل والقال .
وحاصل خبر تداعيات تقسيم الغنائم، ما رواه ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال‏:‏ لما أعطى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القَالَةُ - يعني كثرة الكلام بين الناس - حتى قال قائلهم‏:‏ لقي - واللّه - رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء‏.‏ قال‏:‏ ‏( ‏فأين أنت من ذلك يا سعد‏ ؟ ‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي‏.‏ قال‏:‏ ‏( ‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‏ )‏‏.‏ فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا‏.‏ وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال‏:‏ لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏( ‏يا معشر الأنصار، ما قَالَة بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم‏؟‏ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه‏؟‏ وعالة فأغناكم اللّه‏؟‏ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلى، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفضل. ثم قال‏:‏ ‏( ‏ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بماذا نجيبك يا رسول اللّه‏؟‏ للّه ورسوله المن والفضل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ‏:‏ أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك. ‏أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم فيَّ لَعَاعَةٍ من الدنيا - يعني شيئًا تافهًا - تَألفَّتُ بها قومًا ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم‏؟‏ ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم‏؟‏ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكتُ شِعب الأنصار. وإنكم ستلقون أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض. اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ‏) فبكي القوم حتى اخضلت - تبللت - لحاهم، وقالوا‏:‏ رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتفرق الجمع‏ .
الدروس والعبر المستفادة :
لقد كانت غزوة حنين هذه درسًا عظيمًا في العقيدة الإسلامية، وممارسة عملية لفهم قانون الأسباب والمسببات؛ فإذا كانت وقعة بدر قد علَّمت الجماعة المسلمة أن القلة إذا كانت مؤمنة بالله حق الإيمان، وآخذة بأسباب النصر، لا تضر شيئًا في جنب كثرة الأعداء؛ فإن غزوة حنين قد علمت تلك الجماعة درسًا جديدًا، حاصله أن الكثرة الكاثرة لا تغني شيئًا، ولا تجدي نفعًا في ساحات المعركة، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان، وإذا لم تكن قد أخذت بأسباب النصر وقوانينه. فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة، وإنما ثمة أمور أخر ورائها، لا تقل شأنًا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارًا، لتقرير نتيجة أي معركة .
فكانت حنين بهذا درساً، استفاد منه المسلمون غاية الفائدة، وتعلموا منه قواعد النصر وقوانينه، قال تعالى: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } (محمد:7) .
ويدل موقف أم سليم في هذه المعركة على مدى حرص الصحابيات رضي الله عنهن على مشاركتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، وتبليغ رسالته، ومواجهة أعدائه .
ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة، والعبر المستخلصة منها، حكمة سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الغنائم وتوزيعها، فقد اختص في هذه المعركة الذين أسلموا عام الفتح بمزيد من الغنائم عن غيرهم، ولم يراع في تلك القسمة قاعدة المساواة بين المقاتلين. وفي هذا دلالة على أن لإمام المسلمين أن يتصرف بما يراه الأنسب والأوفق لمصلحة الأمة دينًا ودنيا .
ويستفاد من بعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، أن الدافع الأول وراء مشروعية الجهاد، هو دعوة الناس إلى دين الإسلام، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، وإرشادهم إلى الدين القويم، وهو الهدف الأساس الذي جاءت شريعة الإسلام لأجله؛ ولم يكن الهدف من مشروعية تلك الغزوات تحقيق أهداف اقتصادية، ولا تحصيل مكاسب سياسية. يشهد لهذا المعنى موقفه صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف - وكان المحرك الأساس، والموجه الأول لمعركة حنين - فقد سأل صلى الله عليه وسلم أصحابه عن مالكٍ، فقالوا: إنه بالطائف مع ثقيف، فقال لهم: أخبروه، أنه إن أتى مسلمًا رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مئة من الإبل، فأُخبر مالك بذلك، فجاء يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه، فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مئة من الأبل، وأسلم فحسن إسلامه. والخبر ذكره ابن إسحاق .
كل هذا - وغيره كثير - يدل دلالة واضحة على أن الجهاد في أصله ليس إلا ممارسة لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الوظيفة الأساس من الجهاد، والهدف المرام من تشريعه، دعوة الناس إلى الدين الحق، وضمان حريتهم في اعتناق هذا الدين .
====***=========
= حادثة ترك الرماة الجبل ومخالفة النبي صلي الله عليه وسلم
===========/=========
غلطة الرماة الفادحة عندما بدأ جيش الكفار بالتفرق والهرب، وظهرت بلبلة كبيرة في جيشهم، عندها أدرك الكفار أنَّ أمامهم حل واحد فقط وهو الهروب والنجاة بأنفسهم. غلطة الرماة الفادحة ظهرت قوة وشجاعة الجيش الإسلامي في القتال داخل أرض المعركة، وكانوا على مقربة من هزيمة جيش قريش والانتصار عليهم انتصاراً ساحقاً كبيراً، ويكون ذلك النصر هو الثاني على التوالي بعد نصر غزوة بدر، لكنَّه حدث أمر كبير قد غير من مجريات ما حدث في أرض المعركة، وهو الحدث الذي قلب الأمور على رأسها. عندما وقع بعض من فصيلة الرّماة بغلطة كبيراً والتي كانت سبباً في تغيير تلك المجريات، عندما خالف مجموعة من الرماة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم والذي أمرهم بعد ترك أماكنهم من الجبل في حالة النصر أو الهزيمة حتى يبعث النبي إليهم رسولاً يأمرهم بترك الأماكن، ولكنَّ هذه المجموعة عندما رأت أنَّ جيش المسلمين يحصلون على غنائم جيش قريش، عندها ثارت في نفوسهم شيء من حب الدنيا، وتركوا أماكنهم حتى يتمكنوا من الحصول عى تلك الغائم، وكان قائدهم حينها وهو عبد الله بن جبير يذكر هذه المجموعة التي تركت أمكانها بالأوامر المشددة التي أصدرها النبي. ولكنَّ هذه المجموعة التي تركت أماكنها والتي كانت تشكل أغلبية كبيرة من تلك الفصيلة لم تهتم لما قال لها، وكان كل همها الوصول للغنائم وأخذ النصيب منها، وقد غادر أكثر من أربعين رجلاً من الرّماة أماكنهم من الجبل، ليلحقوا بالجيش والمشاركة في جمع الأسلحة والغنائم، حينها لم يبق إلّا الصحابي عبد الله بن جبير ومعه تسعة رجال أو حتى أقل من أصحابه الذين التزموا بكلام وقرارات النبي بعدم النزول عن الجبل وترك أماكنهم مهما حدث حتى يؤذَن لهم. وكانت مخالفة تلك المجموعة التي كان همها شيء من حب الدنيا أن تسبب في قلب كل مجريات غزوة أحد، وقامت بمخالف كلام النبي وأوامره المشددة والقرارات التي طلبت منهم، وأدت مخالفتهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم إلى إلحاق الخسائر الكبيرة جداً بجيش المسلمين، وكانت أن تكون سبباً في قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
===========/====
= تحريم النبي المغافير علي نفسه صلي الله عليه وسلم ظنا منه أنها وجودها وعدم أكلها سواءا وجائزة  ونزول الآية { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) /التحريم}
=============/=====
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
تفسير سورة التحريم
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل: نزلت في شأن مارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها، فنزل قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد، حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها، فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية (1) .
وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي (2) حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت: أي رسول الله، في بيتي وعلى فراشي؟! فجعلها عليه حرامًا فقالت: أيْ رسول الله، كيف يَحْرُم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها. فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد: بن أسلم فقوله: أنت عليَّ حرام لغو (3) .
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه.
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال: قل لها: "أنت عليَّ حرام، ووالله لا أطؤك".
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11607).
(2) في أ: "الرقي".
(3) تفسير الطبري (28/100). / (8/158)
وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم، فعُوتِبَ في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين. رواه ابن جرير. وكذا روي عن قتادة، وغيره، عن الشعبي، نفسه. وكذا قال غير واحد من السلف، منهم الضحاك، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وروى العوفي، عن ابن عباس القصة مطولة.
وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عُبَيْد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان؟ قال: عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها (1) فَوَجَدت حفصة، فقالت: يا نبي الله، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك، في يومي، وفي دوري، وعلى فراشي. قال: "ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟". قالت: بلى. فحَرَّمها وقال: "لا تذكري ذلك لأحد". فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات (2) فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [عن] (3) يمينه، وأصاب جاريته (4) .
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام". فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: "فوالله لا أقربها". قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال فأنزل الله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج (5) .
وقال ابن جرير: أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال: كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس كان يقول في الحرام: يمين تكفرها، وقال ابن عباس: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه، فصير الحرام يمينًا (6) .
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة، عن هشام -هو الدستوائي-عن يحيى -هو ابن كثير-عن ابن حكيم -وهو يعلى-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الحرام: يمين تُكَفر. وقال
__________
(1) في أ: "في يومها".
(2) في م، أ: "الآيات كلها".
(3) زيادة من أ.
(4) تفسير الطبري (28/102) وأصله في الصحيح وسيأتي.
(5) المختارة للضياء المقدسي برقم (189).
(6) تفسير الطبري (28/101).
(8/159)
ابن عباس: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] (1) .
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به (2) .
وقال النسائي: أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي، حدثنا مَخْلد -هو ابن يزيد-حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما؟ قال: كذبتَ ليس عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات، عتق رقبة.
تفرد به النسائي من هذا الوجه، بهذا اللفظ (3) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكَريا، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته (4) .
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الظهراني (5) أخبرنا حفص بن عمر العَدَني، أخبرنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل، كما قال البخاري عند هذه الآية:
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن عبيد (6) بن عمير، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على: أيتُنا دخلَ عليها، فلتقل له: أكلتَ مَغَافير؟ إني أجد منك ريح مغافير. قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا"، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } (7) .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ، وقال في كتاب "الأيمان والنذور": حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول: سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب
__________
(1) صحيح البخاري برقم(4911).
(2) صحيح مسلم برقم (1473).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11609).
(4) المعجم الكبير (11/86).
(5) في م: "الطبراني".
(6) في أ: "عن عبد".
(7) صحيح البخاري برقم (4912).
(8/160)
عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إني أجد منك ريح مغافير؛ أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له، فقال: "لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش، ولن أعود له". فنزلت: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله: "بل شربت عسلا". وقال إبراهيم بن موسى، عن هشام: "ولن أعود له، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدًا" (1) .
وهكذا رواه في كتاب "الطلاق" بهذا الإسناد، ولفظه قريب منه (2) . ثم قال: المغافير: شبيه بالصمغ، يكون في الرّمث فيه حلاوة، أغفر الرّمث: إذا ظهر فيه. واحدها مغفور، ويقال: مغافير. وهكذا قال الجوهري، قال: وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح. قال: والّرمث، بالكسر: مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحَمْض. قال: والعرفط: شجر من العضاه ينضَح المغفُور [منه] (3) .
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب "الطلاق" من صحيحه، عن محمد بن حاتم، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن عائشة، (4) به، ولفظه كما أورده البخاري في "الأيمان والنذور".
ثم قال البخاري في كتاب "الطلاق" : حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهَر، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن. فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالَن له. فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغَافير؟ فإنه سيقول ذلك (5) لا. فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل. فقولي: جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ. وسأقول ذلك، وقولي أنت له يا صفية ذلك، قالت -تقول سودة-: والله (6) ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا ". قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شَربة عسل". قالت: جَرَسَت نَحلُه العرفطَ. فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: "لا حاجةَ لي فيه". قالت -تقول سودة-: والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي (7) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6691).
(2) صحيح البخاري برقم (5267).
(3) زيادة من الصحاح، مادة "عرفط" 3/1142.
(4) صحيح مسلم برقم (1474).
(5) في م: "سيقول لك".
(6) في م: "فوالله".
(7) صحيح البخاري برقم (5268).
(8/161)
هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد، عن علي بن مُسْهِر، به. وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبي أسامة، حماد بن أسامة، عن هشام بن عروة، به (1) وعنده قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني: الريح الخبيثة؛ ولهذا قلن له: أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء. فلما قال: "بل شربت عسلا ". قلن: جَرَسَت نحلُه العرفطَ، أي: رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته.
قال الجوهري: جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس: إذا أكلته، ومنه قيل للنحل: جوارس، قال الشاعر:
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ ...
وقال: الجَرْس والجِرْس: الصوت الخفي. ويقال: سمعت جرس الطير: إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله، وفي الحديث: "فيسمعون جَرْس طير الجنة". قال الأصمعي: كنت في مجلس شُعبة قال: "فيسمعون جَرْشَ طير الجنة" بالشين [المعجمة] (2) فقلت: "جرس"؟! فنظر إلي فقال: خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا (3) .
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن خالته عن عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فالله أعلم. وقد يقال: إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.
ومما يدل على أن عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتان قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس -قال الزهري: كره-والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال: هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث. قال: كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي. قال: فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تُرَاجِعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي (4)
===========/======
= { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) /سورة عبس}
===/==

عبس - تفسير ابن كثير

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
تفسير سورة عبس
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) }
ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم-وكان ممن أسلم قديما-فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته. وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عز وجل: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) أي: يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي: أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) ؟ أي: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ) أي: يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي: تتشاغل. ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
قال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد-هو ابن مهدي-حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة [عن أنس] (1) في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه.
قال قتادة: وأخبرني أنس بن مالك قال: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء-
__________
(1) تنبيه: ما بين المعقوفين ليس في أصل مسند أبي يعلى وتفسير عبد الرزاق. وهل من النسخ، وأظنه مقحما. والله أعلم.
(8/319)
يعني ابن أم مكتوم (1) .
وقال أبو يعلى وابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: أنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني. قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين. قالت: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: "أترى بما أقول بأسا؟". فيقول: لا. ففي هذا أنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (2) .
وقد روى الترمذي هذا الحديث، عن سعيد بن يحيى الأموي، بإسناده، مثله، ثم قال: وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أنزلَت (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم، ولم يذكر فيه عن عائشة (3) .
قلت: كذلك هو في الموطأ (4) .
ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي، عن ابن عباس قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) قال: بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبةَ بن ربيعة، وأبا جهل بنَ هشام، والعباس بن عبد المطلب-وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص (5) عليهم أن يؤمنوا-فأقبل إليه رجل أعمى-يقال له عبد الله بن أم مكتوم-يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمنى مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه، وتولى وكَرهَ كَلامَه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ " وإذا ذهب من عنده قال: "هل لك حاجة في شيء؟ ". وذلك لما أنزل الله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) (6) .
فيه غرابة ونكارة، وقد تُكُلّم في إسناده.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرّمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر:
__________
(1) مسند أبي يعلى (5/431)، وتفسير عبد الرزاق (2/282).
(2) مسند أبي يعلى (8/261)، وتفسير الطبري (30/32).
(3) سنن الترمذي برقم (3328).
(4) الموطأ (1/203)
(5) في أ: "ويجعل".
(6) تفسير الطبري (30/32)، ووجه غرابته ما نقله السهيلي في الروض الأنف عن شيخه ابن العربي قال: "قول المفسرين في الذي شغل النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعباس كله باطل، فإن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما، ولا حضرا معه وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد أمية المدينة قط، ولا حضر عنده مفردا ولا مع آخر" انتهى.
(8/320)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". وهو الأعمى الذي أنزل الله فيه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) وكان يؤذن مع بلال. قال سالم: وكان رَجُلا ضريرَ البصر، فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس-حين ينظرون إلى بزوغ الفجر-: أذَّن (1) .
وهكذا ذكر عروة بن الزبير، ومجاهد، وأبو مالك، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغير واحد من السلف والخلف: أنها نزلت (2) في ابن أم مكتوم. والمشهور أن اسمه عبد الله، ويقال: عمرو. والله أعلم.
وقوله: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) أي: هذه السورة، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من (3) شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسدي: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) يعني: القرآن، (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) أي: فمن شاء ذكر الله في جميع أموره. ويحتمل عود الضمير على الوحي؛ لدلالة الكلام عليه.
وقوله: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) أي: هذه السورة أو العظة، وكلاهما متلازم، بل جميع القرآن (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) أي: معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ ) أي: عالية القدر، (مُطَهَّرَةٍ ) أي: من الدنس والزيادة والنقص .
وقوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: هي الملائكة. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: هم القراء. وقال ابن جريج، عن ابن عباس: السفرة بالنبطية: القراء.
وقال ابن جرير: الصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير، كما قال الشاعر:
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي ... وَما أمْشي بغش إن مَشَيتُ (4)
وقال البخاري: سَفَرةٌ: الملائكة. سَفرت: أصلحت بينهم. وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم (5) .
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي: خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة. ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا هشام، عن قتادة، عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران". أخرجه الجماعة من طريق قتادة، به (6) .
{ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) }
__________
(1) أصل الحديث في صحيح مسلم برقم (1092).
(2) في م: "أنها أنزلت".
(3) في أ: "بين".
(4) تفسير الطبري (30/35).
(5) صحيح البخاري (8/691) "فتح".
(6) المسند (6/48) وصحيح البخاري برقم (4937) وصحيح مسلم برقم (798) وسنن أبي داود برقم (1454) وسنن الترمذي برقم (2904) وسنن النسائي الكبرى برقم (8047) وسنن ابن ماجة برقم (3779).
(8/321)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: (قُتِلَ الإنْسَانُ ) لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالك. وهذا لجنس الإنسان المكذب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جرير (1) (مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره! وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: أي شيء جعله كافرا؟ أي: ما حمله على التكذيب بالمعاد (2) .
وقال قتادة-وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي-: (مَا أَكْفَرَهُ ) ما ألعنه.
ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أي: قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، واختاره ابن جرير (3) .
وقال مجاهد: هذه كقوله: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان: 3] أي: بينا (4) له ووضحناه وسهلنا عليه عمله (5) وهكذا قال الحسن، وابن زيد. وهذا هو الأرجح والله أعلم .
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: إنه بعد خلقه له (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: جعله ذا قبر. والعرب تقول: "قبرت الرجل": إذا ولى ذلك منه، وأقبره الله. وعضبت قرن الثور،
وأعضبه الله، وبترت ذنب البعير وأبتره الله. وطردت عني فلانا، وأطرده الله، أي: جعله طريدا قال الأعشى:
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها (6) عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر (7)
__________
(1) في أ: "ابن جريح"
(2) تفسير الطبري (30/35)، وقد تصرف الحافظ هنا في كلامه
(3) تفسير الطبري (30/36).
(4) في أ: "أي بيناه"
(5) في أ: "عمله".
(6) في م، أ: "إلى صدرها".
(7) البيت في تفسير الطبري (30/36).
(8/322)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه بعد موته، ومنه يقال: البعث والنشور ، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم: 20] ، { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } [البقرة: 259].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أصبغُ بنُ الفَرج، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن دراجا أبا السمح أخبره، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذَنَبه (1) قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: "مثل حبة خردل منه ينشئون" (2) .
وهذا الحديث ثابت في الصحيح من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بدون هذه الزيادة، ولفظه: "كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق وفيه يُركَّب" (3) .
وقوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير: يقول: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول: لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل.
ثم روى-هو وابن أبي حاتم-من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال: لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه. وحكاه البغوي، عن الحسن البصري، بنحو من هذا. ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك-والله أعلم-أن المعنى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) [أي] (4) لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى (5) له أن سيُوجَدُ منهم، ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
وقد روى ابنُ أبي حاتم، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير، عليه السلام: قال الملك الذي جاءني: فإن القبور هي بطنُ الأرض، وإن الأرض هي أم الخلق، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها، انقطعت الدنيا ومات من عليها، ولفظت الأرض ما في جوفها، وأخرجت القبورُ ما فيها، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية، والله -سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال: (6) (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) فيه امتنان، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عَظَاما بالية وترابا متمزقا، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) أي: أنزلناه من السماء على الأرض، (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ) أي: أسكناه فيها فدخل في تُخُومها وتَخَلَّل في
__________
(1) في أ: "إلا عجز الذنب".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (4/609) من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب به، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قلت: دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3) صحيح البخاري برقم (4814)، وصحيح مسلم برقم (2955)
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "ممن كتب الله".
(6) في أ: "وقوله".
(8/323)
أجزاء الحب المودعَ فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) فالحب: كل ما يذكر من الحبوب، والعنب معروف والقضب هو: الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. ويقال لها: القَتّ أيضا قال ذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والسدي.
وقال الحسن البصري: القضب العلف .
(وَزَيْتُونًا ) وهو معروف، وهو أدْمٌ وعصيره أدم، ويستصبح به، ويدهن به. (وَنَخْلا ) يؤكل بلحا بسرا، ورطبا، وتمرا، ونيئا، ومطبوخا، ويعتصر منه رُبٌّ وخل. (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي: بساتين. قال الحسن، وقتادة: (َ غُلْبًا ) نخل غلاظ كرام. وقال ابن عباس، ومجاهد: "الحدائق": كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضا: (غُلْبًا ) (1) الشجر الذي يستظل به. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي: طوال. وقال عكرمة: (غُلْبًا ) أي: غلاظ الأوساط. وفي رواية: غلاظ الرقاب (2) ، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل: والله إنه لأغلب. رواه ابن أبي حاتم، وأنشد ابن جرير للفرزدق :
عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا ... فَويلَ ابن المَراغَة ما استَثَارا (3)
وقوله: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) أما الفاكهة فهو ما يتفكه به من الثمار. قال ابن عباس: الفاكهة: كل ما أكل رطبا. والأبّ ما أنبتت الأرض، مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس-وفي رواية عنه: هو الحشيش للبهائم. وقال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو مالك: الأب: الكلأ . وعن مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد: الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم. وعن عطاء: كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ. وقال الضحاك: كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو أبٌّ .
وقال ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس: الأب: نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق، عن ابن إدريس، ثم قال: حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: عدّ ابن عباس وقال: الأب: ما أنبتت الأرض للأنعام. هذا لفظ أبي كريب، وقال أبو السائب: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.
وقال العوفي، عن ابن عباس: الأب: الكلأ والمرعى. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وغير واحد.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا العوام بن حَوشَب، عن إبراهيم التَّيمي قال: سُئِلَ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عن قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم (4) .
__________
(1) في م: "الغلب".
(2) في م: "الأرقاب".
(3) تفسير الطبري (30/37)
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 227)، وسبق الكلام عليه في مقدمة التفسير.
(8/324)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق. فأما ما رواه ابن جرير حيث قال: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) فلما أتي على هذه الآية: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف (1) .
فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به. وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا )
وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
قال ابن عباس : (الصَّاخَّةُ ) اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحَذّره عباده. قال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور. وقال البَغَويّ: (الصَّاخَّةُ ) يعني صيحة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع، أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها (2) .
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) أي: يراهم، ويفر منهم، ويبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل.
قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أيّ بعل كنتُ لك؟ فتقول: نعم البعل كنتَ! وتثنى بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها (3) لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له : ما أيسر ما طلبتَ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني، أيّ والد كنتُ لك؟ فيثني بخير. فيقولُ له: يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا. يقول الله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
وفي الحديث الصحيح-في أمر الشفاعة-: أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليومَ إلا نفسي، حتى إن عيسى ابن مريم يقول:
__________
(1) تفسير الطبري (30/38)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/180) من طريق يزيد به، وتقدم الكلام عليه في مقدمة التفسير.
(2) في أ: "تصخها".
(3) في أ: "تهبيها".
(8/325)
لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (1) .
قال قتادة: الأحب فالأحبَ، والأقرب فالأقربَ، من هول ذلك اليوم.
وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي: هو في شُغُل شاغل عن غيره.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني، عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة مشاة غُرلا " قال: فقالت زوجته: يا رسول الله، أوَ يرى (2) بعضنا عورة بعض؟ قال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أو قال: "ما أشغله عن النظر".
وقد رواه النسائي منفردا به، عن أبي داود، عن عارم، عن ثابت بن يزيد-وهو أبو زيد الأحول البصري، أحد الثقات-عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به (3) وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن محمد بن الفضل، عن ثابت بن يزيد، عن هلال ابن خَبَّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا". فقالت امرأة: أيبصر-أو: يرى-بعضنا عورة بعض؟ قال: "يا فلانة، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (4) . ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن ابن عباس، رضي الله عنه (5) .
وقال النسائي: أخبرني عمرو بن عثمان، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا الزبيدي، أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا". فقالت عائشة: يا رسول الله، فكيف بالعورات؟ فقال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (6) .
انفرد به النسائي من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أزهر بن حاتم، حدثنا الفضل بن موسى، عن عائد ابن شُرَيح، عن أنس بن مالك قال: سألت عائشة، رضي الله عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنتَ به. فقال: "إن كان عندي منه علم". قالت: يا نبي الله، كيف يُحشر الرجال؟ قال: "حفاة عراة". ثم انتظَرتْ ساعة فقالت: يا نبي الله، كيف يحشر النساء؟ قال: "كذلك حفاة عراة". قالت: واسوأتاه من يوم القيامة! قال: "وعن أي ذلك تسألين؟ إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون".
__________
(1) أحاديث الشفاعة سبقت عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في م: "يا رسول الله، ننظر أو يرى".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11647).
(4) سنن الترمذي برقم (3332).
(5) في أ: "رضي الله تعالى عنهما".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11648).
(8/326)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
.
قالت: أيةُ آية هي يا نبي الله؟ قال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (1) .
وقال البغوي في تفسيره: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشّريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أبي، عن محمد بن أبي عياش، عن عطاء بن يسار، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الناس حفاة عراة غُرلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان". فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: "قد شُغل الناس، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (2) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي، عن الفضل بن موسى، به (3) . ولكن قال أبو حاتم الرازي: عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف (4) .
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي: يكون الناس هنالك فريقين: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) أي: مستنيرة، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي: مسرورة فرحة من سرور قلوبهم، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنة.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي: يعلوها ويغشاها (5) قترة، أي: سواد.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عثمان العسكري، حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يلجم الكافرَ العرقُ ثم تقع الغُبْرة على وجوههم". قال: فهو قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) (6) .
وقال ابن عباس: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي: يغشاها سواد الوجوه.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى: { وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح: 27].
آخر تفسير سورة "عبس" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (30/39)، عن الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى به.
(2) معالم التنزيل للبغوي (8/340)، ورواه الحاكم في المستدرك (2/514) من طريق إسماعيل بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي أويس به نحوه. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ".
(3) تفسير الطبري (30/39)
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/16).
(5) في م: "تعلوها وتغشاها".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/424)، وله شاهد من حديث ابن مسعود: رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2582) "موارد" من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعا: "إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: أرحنى ولو إلى النار".
(8/327)  ===}
= { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) /سورة الأنفال}
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
وروى الحاكم في مستدركه، من حديث أبي عمرو بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } رفع، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1)
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) }
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس، رضي الله عنه، قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس". فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله، عز وجل : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } الآية (2)
وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء (3) الأسارى؟ " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم، لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك، وكذبوك، فقدمهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فأضرم الوادي عليهم نارًا، ثم ألقهم فيه. [قال: فقال العباس: قطعت رحمك] (4) قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا، ثم قام فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، عليه السلام، قال: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌرَحِيمٌ } [إبراهيم: 36]،وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، عليه السلام، قال: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمر مثل موسى
__________
(1) المستدرك (2/239).
(2) المسند (3/243).
(3) في أ: "هذه".
(4) زيادة من د، ك، م، والمسند والطبري.
(4/88)
عليه السلام، قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس: 88]،وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام، قال: { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح: 26]،أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق". قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى آخر الآية.
رواه الإمام أحمد والترمذي، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1) وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه (2) وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري.
وروى ابن مردويه أيضا -واللفظ له -والحاكم في مستدركه، من حديث عبيد الله بن موسى: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لما أسر الأسارى يوم بدر، أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال: وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه" فقال له عمر: فآتهم؟ قال: "نعم" فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس فقالوا: لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى؟ قالوا: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه. فأخذه عمر فلما صار في يده قال له: يا عباس، أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال: فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: عشيرتك. فأرسلهم، فاستشار عمر، فقال: اقتلهم، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ } (3) الآية.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (4)
وقال سفيان الثوري، عن هشام -هو ابن حسان -عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، رضي الله عنه، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خَيِّر أصحابك في الأسارى: إن شاءوا الفداء، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم. قالوا: الفداء ويقتل منا.
رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري، به (5) وهذا حديث غريب
__________
(1) المسند (1/383) وسنن الترمذي برقم (3084) والمستدرك (3/21) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن وأبو عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه".
(2) ذكرهما السيوطي في الدر المنثور (4/104 ، 107).
(3) في ك: "تكون".
(4) المستدرك (2/329) وقال الذهبي: "على شرط مسلم".
(5) سنن الترمذي برقم (1567) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8662) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة".
(4/89)
جدا.
وقال ابن عون [عن محمد بن سيرين] (1) عن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر: "إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم". قال: فكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة، رضي الله عنه (2)
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا (3) فالله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } فقرأ حتى بلغ: { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال: غنائم بدر، قبل أن يحلها لهم، يقول: لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وكذا روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال الأعمش: سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا. وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن جبير، وعطاء.
وقال شعبة، عن أبي هاشم (4) عن مجاهد: { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } أي: لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري، رحمه الله.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال الله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ } الآية. وكذا روى العوفي، عن ابن عباس. وروي مثله عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة والأعمش أيضا: أن المراد { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" (5)
وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تحل
__________
(1) زيادة من المستدرك ودلائل النبوة.
(2) رواه الحاكم في المستدرك (2/140) والبيهقي في دلائل النبوة (3/139) من طريق إبراهيم بن عرعرة قال: أخبرنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد عن عبيدة، عن علي به، وقال ابن عرعرة: "رددت هذا على أزهر فأبى إلا أن يقول: عبيدة عن علي" وصححه الحاكم وقال: "على شرط الشيخين".
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/67) من طريق ابن علية عن ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة به مرسلا.
(4) في د: "هشام".
(5) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(4/90)
الغنائم لسود الرؤوس غيرنا" (1)
ولهذا قال الله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوااللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء.
وقد روى الإمام أبو داود في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة (2)
وقد استقر الحكم في الأسرى (3) عند جمهور العلماء: أن الإمام مخير فيهم: إن شاء قتل -كما فعل ببني قريظة -وإن شاء فادى بمال -كما فعل بأسرى بدر -أو بمن أسر من المسلمين -كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه.
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (3085) من طريق معاوية بن عمرو عن زائدة، عن الأعمش به نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش".
(2) سنن أبي داود برقم (2691).
(3) في د، ك، أ: "الأسارى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق