الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465
ويقال أنَّ الذي قتل دُريد بن الصِّمة هو الزبير بن العوام - رضي الله عنه - (1).
وعَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ سُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ حُنَينٍ بَعَثَ جَيشًا إلى أَوْطَاسَ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ الله عزّ وجلّ في ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَت عِدَّتُهُنَّ (2).
31 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية الطفيل بن عمرو الدَّوسي لهدم الصنم ذي الكفَّين، فأشعل فيه النار.
الشرح:
قال ابن سعد رحمه الله:
لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى الطائف، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين- صنم عمرو بن حمحمة الدوسي- يهدمه وأمره أن يستمدَّ قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعًا إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشُّ (3) النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفَّين لستُ مِنْ عبادكا ... ميلادنا أقدم مِنْ ميلادكا
أنا حششتُ النار في فؤادكا (4)
(1) "فتح الباري" 7/ 638، وقال ابن حجر: رواه البزار في مسند أنس بإسناد حسن.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1456)، كتاب: الرضاع، باب: جواز وطء المسبيِّة بعد الاستبراء.
(3) يحشُّ: يوقد.
(4) "الطبقات الكبرى" 2/ 157.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466
* * *
32 - وفي شوَّال من هذه السنة: وفي طريقه - صلى الله عليه وسلم - لحصار الطائف مَرَّ ببُحرة الرُّغاء فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف.
الشرح:
سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فمر من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم علي المليح، ثم على بُحرة الرُّغاء من لبَّة، فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه (1).
33 - وفي شوَّال من هذه السنة: في بُحرةَ أيضًا قتل رجلاً من بني ليث قصاصًا برجل من هُذيل، وهو أوَّل قصاص في الإسلام.
الشرح:
فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم -وهو أول دم أقيد به في الإِسلام- رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (2).
34 - وفي شوَّال من هذه السنة: كانت غزوة الطائف.
الشرح:
بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس، اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوزان.
وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلًا من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 50، "سيرة ابن هشام" 4/ 67.
(2) المصدر السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467
* * *
التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع.
وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة.
كما في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، وحددت رواية عن عروة أيضًا المدة بنصف شهر، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة، فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها (1).
وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاول اقتحام الحصين بالدبابات (2)، والمنجنيق (3)، فلم يستطع المسلمون اقتحام الحصين، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برميهم بالسهام، وشجع المسلمين على ذلك.
فعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِحِصنِ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله عَزّ وجَلّ فَلَهُ دَرَجَةٌ" (4).
ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بفك الحصار.
عَنْ عبد الله بن عُمَرَو - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيئًا، فقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ الله، قال أصحابه: نرجِع ولم نفتحه، فَقَالَ لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا عليه، فَأصَابَهُم جِرَاحٌ،
(1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 507.
(2) الدبابات: آلات تصنع من خشب وتغطى بجلود ثم يدخل فيها الرجال، لتحميهم من سهام الأعداء.
(3) يتكون المنجنيق من عمود طويل قوي موضوع على عربة ذات عجلتين في رأسها حلقة أو بكرة، يمر بها حبل متين، في طرفه الأعلى شبكة في هيئة كيس، توضع حجارة أو مواد محترقة في الشبكة، ثم تحرك بواسطة العمود والحبل، فيندفع ما وضع في الشبكة من القذائف ويسقط على الأسوار فيقتل أو يحرق ما يسقط عليه.
"الرسول القائد" (254) محمود شيت خطاب نقلاً عن "السيرة النبوية الصحيحة".
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3965)، كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1756).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468
* * *
فَقَالَ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا"، قال: فَأَعْجَبَهُمْ ذلك، فَضَحِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
35 - وفي شوَّال من هذه السنة: في حصار الطائف نزل نفر من رقيق الطائف، فأعتقهم رسول الله منهم أبو بكرة - رضي الله عنه -.
الشرح:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ (2).
وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف، فخرج إليه عبدان، أحدهما: أبو بكرة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعتق العبيد إذا خرجوا إليه (3).
36 - وفي أواخر شوَّال من هذه السنة: رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار عن الطائف، ثم رجع إلى الجُعرانة، فقدم عليه وفود هوازن قد أسلموا فردّ عليهم أسراهم.
الشرح:
أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وفدُ هوازن وهو بالجعرانة، وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يُدرى ما عدَّته (4).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن وفد هوازن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4325)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، قاله موسى بن عقبة، ومسلم (1778)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الطائف.
(2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (1959)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2176)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(4) "سيرة ابن هشام" 4/ 71.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469
* * *
وهو بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، مَنَّ الله عليك، قال: وقام رجل من هوازن، يقال له: زهير يكنى أبا صُرَد، فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك (1) اللاتي كنَّ يكفُلْنك، ولو أنا مَلَحْنا (2) للحارث بن أبي شِمْر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته (3) علينا، وأنت خير المكفولين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ " فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم"، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم" (4).
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله،
(1) لأنَّ حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سعد وهم من هوازن.
(2) ملحنا: أي أرضعنا.
(3) عائدته: فضله.
(4) حسن: "سيرة ابن هشام" 4/ 71 - 72، عن ابن إسحاق بإسناد حسن.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470
* * *
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، يقول عبد الله بن عمر: فبعثت بها إلى أخوالي من بن جُمح؛ ليُصلحوا لي منها، ويهيئوها، حتى أطوف البيت، ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال فخرجت من المسجد حتى فرغت، فإذا الناس يشتدَّون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردّ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءنا وأبناءنا، فقلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها (1).
وَعن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ" (2)، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أَنْظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غَيرُ رَادٍّ إِلَيهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ"، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ في ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ"، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ (3)، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" بإسناد صحيح.
(2) وقد كنت استأنيت بكم: أي أخرتُ قسم السبي لتحضروا فأبطأتم.
(3) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، وسُمِّي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يُعَرِّف بها مَن فوقه عند الاحتياج "فتح".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471
* * *
فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا (1).
37 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم كثيرًا، ووكَّل المؤمنين إلى إيمانهم، فقام ذو الخويصرة فقال ما قال.
الشرح:
عَنْ رَافِعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قسم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم يوم حنين فأعطى أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بن حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَي عَبَّاسَ بن مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَاكَانَ بَدْرٌ وَلَاحَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ
وما كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً (2)
وعَنْ عبد الله بن زَيْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ الله بِي؟ وَمُتَفَرِّقِيِنَ
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4318، 4319)، كتاب: المغازي، باب {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 26].
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1060)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472
* * *
فَجَمَعَكُمْ الله بِي؟ " وَهم يَقُولُونَ: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُونِي؟ " فَقَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَنَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (1)، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً (2)، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْب بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْبضُ مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِل، قَالَ: "ويلَكَ! وَمَن يَعْدِلُ إِذَاَ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: "مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أصحابي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّة" (4).
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله اعْدِلْ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: يَا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ
(1) الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار: الثوب الذي يكون فوقه، ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس (نووي).
(2) ستلقون بعدي أثرة: أي: ستلقون ناسًا يؤثرون أنفسهم وذويهم على غيرهم.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4330) كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1061)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
والمؤلفة قلوبهم هم أناس قد أسلموا، حديثو عهد بكفر يعطون من الزكاة ليثبتوا على الإِسلام ويحسن إسلامهم، أو كافر يعطى من المال رجاء أن يُسلم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1063)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473
* * *
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (1)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ وَهوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (2)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (3)، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ (4)، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْي الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تتَدَرْدَرُ (5)، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ"، قَالً أبو سَعِيدٍ: فَأشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فوجد، فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرتُ إِلَيهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي نَعَتَ (6).
38 - وفي ذي القعدة من هذه السنة، جيء بالشيماء أُخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أسيرة، فمنَّ عليها وأعطاها وأطلقها.
الشرح:
ذكر ذلك ابن إسحاق رحمه الله، وغير واحد من أهل السيرة، أنه جيء بالشيماء بنت الحارث بن عبد العُزَّى أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الرضاعة، فساقوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعنفوا عليها في السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا
(1) النصل: هو حديد السهم، والرصاف: هو مدخل النصل من السهم.
(2) النضيُّ: عود السهم.
(3) القُذَذُ: هي ريش السهم. فشبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مروقهم وخروجهم من الدين بالسهم الذي يخرج بسرعة شديدة نحو الرميَّة.
(4) الفرث: الروث في الكرش، أي: أن السهم من شدة سرعته خرج من الناحية الأخرى ولم يصبه فرث ولا دم.
(5) البضعة -بفتح الباء-: القطعة عن اللحم، تتدردر: أي: تضطرب وتذهب وتجيء.
(6) متفق عليه. أخرجه البخاري (3610)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام، ومسلم (1064) كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474
* * *
والله إني لأختُ صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (1)، فمنَّ عليها وأعطاها عطايا وأطلقها.
39 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجُعْرانة.
الشرح:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ (2).
40 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت الضَّحَّاك الكُلابية، فاستعاذت منه ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية.
الشرح:
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْكِلَابِيَّةَ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" (3).
41 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: وَلَدَتْ ماريةُ إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيتُهُ
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 49.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهنَّ.
(3) صحيح: أخرجه النسنائي (3417)، كتاب: الطلاق، باب: مواجهة المرأة بالطلاق، وابن ماجة (2050)، كتاب: الطلاق، باب: ما يقع به الطلاق من الكلام، وصححه الألباني في "صحيح السنن".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475
* * *
بِاسْمِ أبي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (1) يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أبي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَينَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا أَبَا سيفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّبيِّ فَضمَّهُ إلَيهِ، وَقَالَ: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ (2).
وكان مولده - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة (3).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ في عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ (4).
42 - وفي هذه السنة: ولَدَتْ زينب بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص بن الربيع ابنتها أُمامة التي كان يحملها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة.
الشرح:
ذكر تاريخ ولادتها - رضي الله عنها - الذهبي رحمه الله في "مغازيه" (5).
وعَنْ أبي قَتَادَةَ الْأَنْصارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بنتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1) القين: الحداد.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2315)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال.
(3) انظر: "أسد الغابة" 1/ 44، "الاستيعاب" 1/ 64، 65، و"الإصابة" 1/ 18، و"عيون الأثر" 2/ 371.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2316)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال.
(5) (621).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476
* * *
وَلِأبي الْعَاصِ بن الربيع: فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (1).
43 - وفي هذه السنة: عُمِل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب عليه، فحنَّ إليه الجذع الذي كان يخطب عليه.
الشرح:
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ"، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إلى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا (2)، وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (3).
44 - وفي هذه السنة: وهبت سودة أم المؤمنين يومها لعائشة - رضي الله عنها -.
الشرح:
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ في مِسْلَاخِهَ (4)، مِنْ سَوْدَةَ بنتِ زَمْعَةَ، مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ (5)، قَالَتْ عائشة: فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (516)، كتاب: الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3584)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام.
(3) (621).
(4) المسلاخ: هو الجلد، ومعناه أن أكون أناهي.
(5) من امرأة فيها حدة, تصفها بقوة النفس.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477
* * *
يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ، يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ (1).
وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (2).
45 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ بالناس عَتَّابُ بن أسيد - رضي الله عنه -، أمير مكَّة.
الشرح:
قال ابن إسحاق رحمه الله:
وحجَّ الناس في تلك السنة على ما كانت العربُ تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عَتَّابُ بن أَسيد، وهي سنة ثمان (3).
46 - وفي هذه السنة: تُوفّي مُغَفَّلُ بن عبد نَهْمٍ المزّنيُّ والدُ الصحابي عبد الله بن مَغَفَّلٍ، وله صُحْبة.
الشرح:
قال ابن عبد البر رحمه الله:
مُغَفَّل بن غَنَم، ويقال: ابن عبد نَهْم بن عفيف بن أُسَيْحم (4)، وكان بن الكلبي يقول في أسيحم: سُحيم بن ربيعة بن عدي المزني، وهو والد
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5212) كتاب: النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، ومسلم (1463)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها.
(2) (621)
(3) "سيرة ابن هشام" 4/ 79.
(4) وفي نُسخة: ابن أَسْحم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478
* * *
عبد الله بن مغفل، مات بطريق مكة قبل أن يدخلها، وذلك سنة ثمان من الهجرة، عام الفتح، وقبل الفتح بقليل، وذكر ذلك الطبري. اهـ (1).
47 - وفي هذه السنة: أسلَم كَعْبُ بن زهير، وقال قصيدته المشهورة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتَ سُعَادُ
الشرح:
عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله فأسمع ما يقول: فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليه الإِسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبًا فقال:
أَلا أَبلِغا عَنَي بُجَيرًا رِسالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيءٍ وَيْحَ غَيْرَكَ دَلَكا
عَلى خُلُقٍ لَم تُلفِ أُمّاً وَلا أَباً ... عَلَيهِ وَلَم تُدرِك عَلَيه أَخاً لَكا
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
فلما بلغت الأبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه، فقال: "من لقي كعبًا فليقتله" فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا قَبِل ذلك, فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم، وأقبل، فأسلم كعب وقال القصيدة التى يمدح فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة
(1) "الاستيعاب" (706)، وانظر: "أسد الغابة" 4/ 178، و"الإصابة" 3/ 1877، 1878.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479
* * *
يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله الأمان يا رسول الله قال: "ومن أنت؟ "، قلت: أنا كعب بن زهير: قال: "أنت الذي تقول" ثم التفت إلى أبي بكر: "كيف قال يا أبا بكر" فأنشده أبو بكر - رضي الله عنه -:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: "وكيف قلت؟ " قال: إنما قلت:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمونُ مَنْهَا وعَلَكَا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مأمون والله" ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها. واملاها على الحجاج بن ذي الرقيبة حتى أتى على آخرها:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ (1)
إلى آخر القصيدة.
48 - وفي هذه السنة: تُوفِّيتْ زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أكبر أولاده، وغسَّلتها أمُّ عطية - رضي الله عنها -.
الشرح:
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لما توفيت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ
(1) الحاكم في "المستدرك " (6477)، ابن هشام في "السيرة" 4/ 80 - 88.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480
* * *
وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ في الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، قالت: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حقْوَهُ (1)، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا (2). إِيَّاهُ".
وفي رواية: قالت أم عطية: أنهن نقضن شعرها ثم غَسَلْنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها.
وفي رواية: عن أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرها أن تغسل ابنته قال لها: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها (3).
قال ابن عبد البر رحمه الله:
كانت زينب أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف أعلمه في ذلك، إلَّا ما لا يصح ولا يُلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين زينب والقاسم أيها وُلد أولاً، وتُوفيِّت في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سنة ثمانٍ من الهجرة (4).
49 - وفي هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعمرو ابني الجَلَنْدي من الأزدْ، فأسلما.
الشرح:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد (5) ابني الجلندى، وهما من الأزد والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى
(1) حِقْوهُ: إزاره.
(2) أشعرنها: أَلْفِفْنها.
(3) متفق عليها: انظر: "صحيح البخاري" (1257، 1258، 1259، 1260، 1261، 1262)، و "صحيح مسلم" (939).
(4) "الاستيعاب" (892)، وانظر: "الإصابة" 4/ 2516، 2517.
(5) في "تاريخ الطبري": عمرو.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481
* * *
الإِسلام، وكتب معه إليهما كتابًا وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك وأنا أُوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، فمكثت أياما ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلَّا أني رأيت أخاه أرقَّ منه، فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، قال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إذا ملَّكتُ رجلاً ما في يديَّ، قلتُ: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإِسلام هو وأخوه جميعًا وصدَّقا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، فلم أزل مقيمًا فيهم حتى بلغنا وفاة رسول الله" (1).
50 - وفي هذه السنة: غلا السِّعر، فقالوا: يا سول الله سَعَّر لنا، فقال: "إنَّ الله هو المسَّعِّر والقابض الباسط الرَّزَّاق".
الشرح:
عَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: "إنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ وَلَا مَالٍ" (2).
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 262، 263.
(2) صحيح: أخرجه الترمذي (1314)، كتاب: البيوع، باب ما جاء في التسعير، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "صحيح السنن"، وراجع "شذرات الذهب" 1/ 23.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482
* * *
51 - وفي هذه السنة: نزلت سورة النصر.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
فلما افتُتحت مكة، ودانت لها قريش، ودوَّخها الإِسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عدواته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل: أفواجا يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]. أي: فأحمد الله على ما أظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا. اهـ (1).
52 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثعلبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه لما قدم رسول الله من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه أربعة نفر وقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مُقرُون بالإِسلام، فأمر لنا بضيافة وأقمنا أيامًا (2).
53 - وفي هذه السنة: جاء وفد سُلَيم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني سُلَيم يقال له: قيس بن نُسيبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 117.
(2) "الطبقات الكبرى" 1/ 298.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483
* * *
الإِسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سُليم فقال: قد سمعت ترجمة الروم، وهينمة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمَّد شيئًا من كلامهم، فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -, فلقوه بقُديد وهم تسعمائة، ويقال: كانوا ألفًا، فيهم العباس بن مرداس وأنس بن عياض بن رعل وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدم، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينًا (1).
54 - وفي هذه السنة: جاء وفد ربيعة: عبد القيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا الندامى"، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحُرُم، حدثنا بِجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة، وندعوا من وراءنا، قال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعْطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدُّبَّاء والنقير والمزفَّت" (2).
(1) "الطبقات" 1/ 307.
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (4368)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (17)، كتاب: الإيمان, باب: الإيمان بالله ورسوله.
و (المزفَّت): أوعية مطلية بالزفت، و (الدباء): القرع اليابس يُفَرَّغ ويُجعل إناء، و (الحنتم): آنية كبيرة مدهونة خُضْر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، و (النقير): النخل ينقرونه ثم يضعون فيه الخمر، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأنواع خاصة، قيل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484
* * *
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
وعن أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيها وَعِنْدِها نِسْوَةٌ مِنْ بني حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فصلى ركعتين، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَة، فقلت: قُومِي إلى جَنْبِهِ فَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَت عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "يَا بنتَ أبي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عبد الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَينِ اللتين بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ" (1).
55 - وفي هذه السنة: جاء وفد صُدَاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
لما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صُدَاء فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وقدم رجل من صداء فسأل عن ذلك البعث فَأُخْبر بهم فخرج سريعا حتى ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال جئتك وافدًا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
= لأنها كثيفة تُصَيّر النبيذ مسكرًا, ولا يعلم صاحبها، ثم نُسخ هذا؛ حيث أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - الشراب في كل الآنية، فقال: "اشْرَبُوا في كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا"، (مسلم) (977).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4370)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (834) كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللَّتين بعد العصر.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485
* * *
خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من وراءهم من قومهم ورجعوا إلى بلادهم ففشا فيهم الإِسلام فوافى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائةُ رجل منهم في حجة الوداع (1).
56 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثمالة والحُدَّان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم عبد الله بن عَلَس الثُّمالي، ومُسيلمة بن هِزَّان الحُدَّاني على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في رهط من قومهما بعد فتح مكة فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومهم، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بما فُرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة (2).
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 326.
(2) "الطبقات" 1/ 353، 354.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486
* * *
السنة التاسعة من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487
* * *
السنة التاسعة من الهجرة
وفيها تسعة وأربعون حدثًا:
1 - في المحرَّم من هذه السنة: كانت سرية عُيينة بن حصن - رضي الله عنه - إلى بني تميم، فَسَبَوا منهم سبيًا، فجاء رؤساؤهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوه من وراء الباب: يا محمد، فنزلت فيهم صدر سورة الحجرات.
الشرح:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عُيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسًا من العرب، ليس فيهم مهاجريٌ ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوا، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة إحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيًا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحُبسوا في دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عِدَّة من رؤسائهم؛ عطارد بن حاجب، والزِّبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري فعجلوا وجاءوا إلى باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوا: يا محمَّد اخرج إلينا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام بلال الصلاة وتعلَّقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فقدَّموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم، ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489
* * *
يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، فرَّد عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأسرى والسبي (1).
2 - وفي صفر من هذه السنة: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عوسجة - رضي الله عنه - إلى بني حارثة بن عمرو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا.
الشرح:
قيل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى بني حارثة بن- عمرو بن قُريط، يدعوهم إلى الإِسلام، فأخذوا الصحيفة فغسلوها، ورقعوا بها أسفل دَلْوهم، فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية قُطْبة بن عامر - رضي الله عنه - إلى خثعم بناحية بيشة فغنموا وأسروا, ولكن قُطبة قتِل.
الشرح:
قال ابن سعد رحمه الله:
قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُطبة في عشرين رجلاً إلى حي من خثعم، بناحية تَبالة، وأمره أن يشنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلاً فسألوه، فاستعجم (3) عليهم، فجعل يصيح بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر، فشنُّوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى كثرت الجرحى في الفريقين جميعًا، وقُتِل قطبة بن عامر فيمن قُتل،
(1) "الطبقات" 2/ 160، 161، وأخرجه أحمد (27081) عن الأقرع بن حابس، بسند صحيح، مختصرًا، وفيه قال الأقرع: يا محمَّد إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال رسول الله: "ذمكم الله".
(2) انظر: "الإصابة" 2/ 1106.
(3) استعجم: سكت.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490
ويقال أنَّ الذي قتل دُريد بن الصِّمة هو الزبير بن العوام - رضي الله عنه - (1).
وعَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ سُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ حُنَينٍ بَعَثَ جَيشًا إلى أَوْطَاسَ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ الله عزّ وجلّ في ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَت عِدَّتُهُنَّ (2).
31 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية الطفيل بن عمرو الدَّوسي لهدم الصنم ذي الكفَّين، فأشعل فيه النار.
الشرح:
قال ابن سعد رحمه الله:
لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى الطائف، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين- صنم عمرو بن حمحمة الدوسي- يهدمه وأمره أن يستمدَّ قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعًا إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشُّ (3) النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفَّين لستُ مِنْ عبادكا ... ميلادنا أقدم مِنْ ميلادكا
أنا حششتُ النار في فؤادكا (4)
(1) "فتح الباري" 7/ 638، وقال ابن حجر: رواه البزار في مسند أنس بإسناد حسن.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1456)، كتاب: الرضاع، باب: جواز وطء المسبيِّة بعد الاستبراء.
(3) يحشُّ: يوقد.
(4) "الطبقات الكبرى" 2/ 157.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466
* * *
32 - وفي شوَّال من هذه السنة: وفي طريقه - صلى الله عليه وسلم - لحصار الطائف مَرَّ ببُحرة الرُّغاء فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف.
الشرح:
سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فمر من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم علي المليح، ثم على بُحرة الرُّغاء من لبَّة، فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه (1).
33 - وفي شوَّال من هذه السنة: في بُحرةَ أيضًا قتل رجلاً من بني ليث قصاصًا برجل من هُذيل، وهو أوَّل قصاص في الإسلام.
الشرح:
فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم -وهو أول دم أقيد به في الإِسلام- رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (2).
34 - وفي شوَّال من هذه السنة: كانت غزوة الطائف.
الشرح:
بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس، اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوزان.
وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلًا من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 50، "سيرة ابن هشام" 4/ 67.
(2) المصدر السابق.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467
* * *
التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع.
وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة.
كما في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، وحددت رواية عن عروة أيضًا المدة بنصف شهر، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة، فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها (1).
وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاول اقتحام الحصين بالدبابات (2)، والمنجنيق (3)، فلم يستطع المسلمون اقتحام الحصين، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برميهم بالسهام، وشجع المسلمين على ذلك.
فعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِحِصنِ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله عَزّ وجَلّ فَلَهُ دَرَجَةٌ" (4).
ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بفك الحصار.
عَنْ عبد الله بن عُمَرَو - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيئًا، فقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ الله، قال أصحابه: نرجِع ولم نفتحه، فَقَالَ لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا عليه، فَأصَابَهُم جِرَاحٌ،
(1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 507.
(2) الدبابات: آلات تصنع من خشب وتغطى بجلود ثم يدخل فيها الرجال، لتحميهم من سهام الأعداء.
(3) يتكون المنجنيق من عمود طويل قوي موضوع على عربة ذات عجلتين في رأسها حلقة أو بكرة، يمر بها حبل متين، في طرفه الأعلى شبكة في هيئة كيس، توضع حجارة أو مواد محترقة في الشبكة، ثم تحرك بواسطة العمود والحبل، فيندفع ما وضع في الشبكة من القذائف ويسقط على الأسوار فيقتل أو يحرق ما يسقط عليه.
"الرسول القائد" (254) محمود شيت خطاب نقلاً عن "السيرة النبوية الصحيحة".
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3965)، كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1756).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468
* * *
فَقَالَ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا"، قال: فَأَعْجَبَهُمْ ذلك، فَضَحِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
35 - وفي شوَّال من هذه السنة: في حصار الطائف نزل نفر من رقيق الطائف، فأعتقهم رسول الله منهم أبو بكرة - رضي الله عنه -.
الشرح:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ (2).
وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف، فخرج إليه عبدان، أحدهما: أبو بكرة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعتق العبيد إذا خرجوا إليه (3).
36 - وفي أواخر شوَّال من هذه السنة: رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار عن الطائف، ثم رجع إلى الجُعرانة، فقدم عليه وفود هوازن قد أسلموا فردّ عليهم أسراهم.
الشرح:
أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وفدُ هوازن وهو بالجعرانة، وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يُدرى ما عدَّته (4).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن وفد هوازن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4325)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، قاله موسى بن عقبة، ومسلم (1778)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الطائف.
(2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (1959)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2176)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(4) "سيرة ابن هشام" 4/ 71.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469
* * *
وهو بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، مَنَّ الله عليك، قال: وقام رجل من هوازن، يقال له: زهير يكنى أبا صُرَد، فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك (1) اللاتي كنَّ يكفُلْنك، ولو أنا مَلَحْنا (2) للحارث بن أبي شِمْر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته (3) علينا، وأنت خير المكفولين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ " فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم"، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم" (4).
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله،
(1) لأنَّ حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سعد وهم من هوازن.
(2) ملحنا: أي أرضعنا.
(3) عائدته: فضله.
(4) حسن: "سيرة ابن هشام" 4/ 71 - 72، عن ابن إسحاق بإسناد حسن.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470
* * *
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، يقول عبد الله بن عمر: فبعثت بها إلى أخوالي من بن جُمح؛ ليُصلحوا لي منها، ويهيئوها، حتى أطوف البيت، ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال فخرجت من المسجد حتى فرغت، فإذا الناس يشتدَّون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردّ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءنا وأبناءنا، فقلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها (1).
وَعن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ" (2)، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أَنْظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غَيرُ رَادٍّ إِلَيهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ"، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ في ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ"، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ (3)، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" بإسناد صحيح.
(2) وقد كنت استأنيت بكم: أي أخرتُ قسم السبي لتحضروا فأبطأتم.
(3) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، وسُمِّي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يُعَرِّف بها مَن فوقه عند الاحتياج "فتح".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471
* * *
فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا (1).
37 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم كثيرًا، ووكَّل المؤمنين إلى إيمانهم، فقام ذو الخويصرة فقال ما قال.
الشرح:
عَنْ رَافِعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قسم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم يوم حنين فأعطى أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بن حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَي عَبَّاسَ بن مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَاكَانَ بَدْرٌ وَلَاحَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ
وما كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً (2)
وعَنْ عبد الله بن زَيْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ الله بِي؟ وَمُتَفَرِّقِيِنَ
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4318، 4319)، كتاب: المغازي، باب {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 26].
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1060)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472
* * *
فَجَمَعَكُمْ الله بِي؟ " وَهم يَقُولُونَ: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُونِي؟ " فَقَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَنَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (1)، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً (2)، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْب بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْبضُ مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِل، قَالَ: "ويلَكَ! وَمَن يَعْدِلُ إِذَاَ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: "مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أصحابي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّة" (4).
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله اعْدِلْ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: يَا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ
(1) الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار: الثوب الذي يكون فوقه، ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس (نووي).
(2) ستلقون بعدي أثرة: أي: ستلقون ناسًا يؤثرون أنفسهم وذويهم على غيرهم.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4330) كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1061)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
والمؤلفة قلوبهم هم أناس قد أسلموا، حديثو عهد بكفر يعطون من الزكاة ليثبتوا على الإِسلام ويحسن إسلامهم، أو كافر يعطى من المال رجاء أن يُسلم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1063)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473
* * *
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (1)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ وَهوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (2)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (3)، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ (4)، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْي الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تتَدَرْدَرُ (5)، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ"، قَالً أبو سَعِيدٍ: فَأشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فوجد، فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرتُ إِلَيهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي نَعَتَ (6).
38 - وفي ذي القعدة من هذه السنة، جيء بالشيماء أُخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أسيرة، فمنَّ عليها وأعطاها وأطلقها.
الشرح:
ذكر ذلك ابن إسحاق رحمه الله، وغير واحد من أهل السيرة، أنه جيء بالشيماء بنت الحارث بن عبد العُزَّى أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الرضاعة، فساقوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعنفوا عليها في السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا
(1) النصل: هو حديد السهم، والرصاف: هو مدخل النصل من السهم.
(2) النضيُّ: عود السهم.
(3) القُذَذُ: هي ريش السهم. فشبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مروقهم وخروجهم من الدين بالسهم الذي يخرج بسرعة شديدة نحو الرميَّة.
(4) الفرث: الروث في الكرش، أي: أن السهم من شدة سرعته خرج من الناحية الأخرى ولم يصبه فرث ولا دم.
(5) البضعة -بفتح الباء-: القطعة عن اللحم، تتدردر: أي: تضطرب وتذهب وتجيء.
(6) متفق عليه. أخرجه البخاري (3610)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام، ومسلم (1064) كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474
* * *
والله إني لأختُ صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (1)، فمنَّ عليها وأعطاها عطايا وأطلقها.
39 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجُعْرانة.
الشرح:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ (2).
40 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت الضَّحَّاك الكُلابية، فاستعاذت منه ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية.
الشرح:
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْكِلَابِيَّةَ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" (3).
41 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: وَلَدَتْ ماريةُ إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيتُهُ
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 49.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهنَّ.
(3) صحيح: أخرجه النسنائي (3417)، كتاب: الطلاق، باب: مواجهة المرأة بالطلاق، وابن ماجة (2050)، كتاب: الطلاق، باب: ما يقع به الطلاق من الكلام، وصححه الألباني في "صحيح السنن".
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475
* * *
بِاسْمِ أبي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (1) يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أبي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَينَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا أَبَا سيفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّبيِّ فَضمَّهُ إلَيهِ، وَقَالَ: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ (2).
وكان مولده - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة (3).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ في عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ (4).
42 - وفي هذه السنة: ولَدَتْ زينب بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص بن الربيع ابنتها أُمامة التي كان يحملها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة.
الشرح:
ذكر تاريخ ولادتها - رضي الله عنها - الذهبي رحمه الله في "مغازيه" (5).
وعَنْ أبي قَتَادَةَ الْأَنْصارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بنتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1) القين: الحداد.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2315)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال.
(3) انظر: "أسد الغابة" 1/ 44، "الاستيعاب" 1/ 64، 65، و"الإصابة" 1/ 18، و"عيون الأثر" 2/ 371.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2316)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال.
(5) (621).
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476
* * *
وَلِأبي الْعَاصِ بن الربيع: فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (1).
43 - وفي هذه السنة: عُمِل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب عليه، فحنَّ إليه الجذع الذي كان يخطب عليه.
الشرح:
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ"، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إلى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا (2)، وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (3).
44 - وفي هذه السنة: وهبت سودة أم المؤمنين يومها لعائشة - رضي الله عنها -.
الشرح:
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ في مِسْلَاخِهَ (4)، مِنْ سَوْدَةَ بنتِ زَمْعَةَ، مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ (5)، قَالَتْ عائشة: فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (516)، كتاب: الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3584)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام.
(3) (621).
(4) المسلاخ: هو الجلد، ومعناه أن أكون أناهي.
(5) من امرأة فيها حدة, تصفها بقوة النفس.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477
* * *
يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ، يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ (1).
وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (2).
45 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ بالناس عَتَّابُ بن أسيد - رضي الله عنه -، أمير مكَّة.
الشرح:
قال ابن إسحاق رحمه الله:
وحجَّ الناس في تلك السنة على ما كانت العربُ تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عَتَّابُ بن أَسيد، وهي سنة ثمان (3).
46 - وفي هذه السنة: تُوفّي مُغَفَّلُ بن عبد نَهْمٍ المزّنيُّ والدُ الصحابي عبد الله بن مَغَفَّلٍ، وله صُحْبة.
الشرح:
قال ابن عبد البر رحمه الله:
مُغَفَّل بن غَنَم، ويقال: ابن عبد نَهْم بن عفيف بن أُسَيْحم (4)، وكان بن الكلبي يقول في أسيحم: سُحيم بن ربيعة بن عدي المزني، وهو والد
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5212) كتاب: النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، ومسلم (1463)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها.
(2) (621)
(3) "سيرة ابن هشام" 4/ 79.
(4) وفي نُسخة: ابن أَسْحم.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478
* * *
عبد الله بن مغفل، مات بطريق مكة قبل أن يدخلها، وذلك سنة ثمان من الهجرة، عام الفتح، وقبل الفتح بقليل، وذكر ذلك الطبري. اهـ (1).
47 - وفي هذه السنة: أسلَم كَعْبُ بن زهير، وقال قصيدته المشهورة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتَ سُعَادُ
الشرح:
عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله فأسمع ما يقول: فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليه الإِسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبًا فقال:
أَلا أَبلِغا عَنَي بُجَيرًا رِسالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيءٍ وَيْحَ غَيْرَكَ دَلَكا
عَلى خُلُقٍ لَم تُلفِ أُمّاً وَلا أَباً ... عَلَيهِ وَلَم تُدرِك عَلَيه أَخاً لَكا
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
فلما بلغت الأبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه، فقال: "من لقي كعبًا فليقتله" فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا قَبِل ذلك, فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم، وأقبل، فأسلم كعب وقال القصيدة التى يمدح فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة
(1) "الاستيعاب" (706)، وانظر: "أسد الغابة" 4/ 178، و"الإصابة" 3/ 1877، 1878.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479
* * *
يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله الأمان يا رسول الله قال: "ومن أنت؟ "، قلت: أنا كعب بن زهير: قال: "أنت الذي تقول" ثم التفت إلى أبي بكر: "كيف قال يا أبا بكر" فأنشده أبو بكر - رضي الله عنه -:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: "وكيف قلت؟ " قال: إنما قلت:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمونُ مَنْهَا وعَلَكَا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مأمون والله" ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها. واملاها على الحجاج بن ذي الرقيبة حتى أتى على آخرها:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ (1)
إلى آخر القصيدة.
48 - وفي هذه السنة: تُوفِّيتْ زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أكبر أولاده، وغسَّلتها أمُّ عطية - رضي الله عنها -.
الشرح:
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لما توفيت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ
(1) الحاكم في "المستدرك " (6477)، ابن هشام في "السيرة" 4/ 80 - 88.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480
* * *
وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ في الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، قالت: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حقْوَهُ (1)، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا (2). إِيَّاهُ".
وفي رواية: قالت أم عطية: أنهن نقضن شعرها ثم غَسَلْنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها.
وفي رواية: عن أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرها أن تغسل ابنته قال لها: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها (3).
قال ابن عبد البر رحمه الله:
كانت زينب أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف أعلمه في ذلك، إلَّا ما لا يصح ولا يُلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين زينب والقاسم أيها وُلد أولاً، وتُوفيِّت في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سنة ثمانٍ من الهجرة (4).
49 - وفي هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعمرو ابني الجَلَنْدي من الأزدْ، فأسلما.
الشرح:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد (5) ابني الجلندى، وهما من الأزد والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى
(1) حِقْوهُ: إزاره.
(2) أشعرنها: أَلْفِفْنها.
(3) متفق عليها: انظر: "صحيح البخاري" (1257، 1258، 1259، 1260، 1261، 1262)، و "صحيح مسلم" (939).
(4) "الاستيعاب" (892)، وانظر: "الإصابة" 4/ 2516، 2517.
(5) في "تاريخ الطبري": عمرو.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481
* * *
الإِسلام، وكتب معه إليهما كتابًا وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك وأنا أُوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، فمكثت أياما ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلَّا أني رأيت أخاه أرقَّ منه، فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، قال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إذا ملَّكتُ رجلاً ما في يديَّ، قلتُ: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإِسلام هو وأخوه جميعًا وصدَّقا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، فلم أزل مقيمًا فيهم حتى بلغنا وفاة رسول الله" (1).
50 - وفي هذه السنة: غلا السِّعر، فقالوا: يا سول الله سَعَّر لنا، فقال: "إنَّ الله هو المسَّعِّر والقابض الباسط الرَّزَّاق".
الشرح:
عَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: "إنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ وَلَا مَالٍ" (2).
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 262، 263.
(2) صحيح: أخرجه الترمذي (1314)، كتاب: البيوع، باب ما جاء في التسعير، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "صحيح السنن"، وراجع "شذرات الذهب" 1/ 23.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482
* * *
51 - وفي هذه السنة: نزلت سورة النصر.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
فلما افتُتحت مكة، ودانت لها قريش، ودوَّخها الإِسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عدواته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل: أفواجا يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]. أي: فأحمد الله على ما أظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا. اهـ (1).
52 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثعلبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه لما قدم رسول الله من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه أربعة نفر وقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مُقرُون بالإِسلام، فأمر لنا بضيافة وأقمنا أيامًا (2).
53 - وفي هذه السنة: جاء وفد سُلَيم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني سُلَيم يقال له: قيس بن نُسيبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
(1) "سيرة ابن هشام" 4/ 117.
(2) "الطبقات الكبرى" 1/ 298.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483
* * *
الإِسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سُليم فقال: قد سمعت ترجمة الروم، وهينمة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمَّد شيئًا من كلامهم، فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -, فلقوه بقُديد وهم تسعمائة، ويقال: كانوا ألفًا، فيهم العباس بن مرداس وأنس بن عياض بن رعل وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدم، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينًا (1).
54 - وفي هذه السنة: جاء وفد ربيعة: عبد القيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا الندامى"، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحُرُم، حدثنا بِجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة، وندعوا من وراءنا، قال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعْطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدُّبَّاء والنقير والمزفَّت" (2).
(1) "الطبقات" 1/ 307.
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (4368)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (17)، كتاب: الإيمان, باب: الإيمان بالله ورسوله.
و (المزفَّت): أوعية مطلية بالزفت، و (الدباء): القرع اليابس يُفَرَّغ ويُجعل إناء، و (الحنتم): آنية كبيرة مدهونة خُضْر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، و (النقير): النخل ينقرونه ثم يضعون فيه الخمر، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأنواع خاصة، قيل =
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484
* * *
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
وعن أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيها وَعِنْدِها نِسْوَةٌ مِنْ بني حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فصلى ركعتين، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَة، فقلت: قُومِي إلى جَنْبِهِ فَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَت عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "يَا بنتَ أبي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عبد الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَينِ اللتين بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ" (1).
55 - وفي هذه السنة: جاء وفد صُدَاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
لما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صُدَاء فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وقدم رجل من صداء فسأل عن ذلك البعث فَأُخْبر بهم فخرج سريعا حتى ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال جئتك وافدًا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
= لأنها كثيفة تُصَيّر النبيذ مسكرًا, ولا يعلم صاحبها، ثم نُسخ هذا؛ حيث أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - الشراب في كل الآنية، فقال: "اشْرَبُوا في كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا"، (مسلم) (977).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4370)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (834) كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللَّتين بعد العصر.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485
* * *
خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من وراءهم من قومهم ورجعوا إلى بلادهم ففشا فيهم الإِسلام فوافى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائةُ رجل منهم في حجة الوداع (1).
56 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثمالة والحُدَّان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
قدم عبد الله بن عَلَس الثُّمالي، ومُسيلمة بن هِزَّان الحُدَّاني على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في رهط من قومهما بعد فتح مكة فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومهم، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بما فُرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة (2).
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 326.
(2) "الطبقات" 1/ 353، 354.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486
* * *
السنة التاسعة من الهجرة
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487
* * *
السنة التاسعة من الهجرة
وفيها تسعة وأربعون حدثًا:
1 - في المحرَّم من هذه السنة: كانت سرية عُيينة بن حصن - رضي الله عنه - إلى بني تميم، فَسَبَوا منهم سبيًا، فجاء رؤساؤهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوه من وراء الباب: يا محمد، فنزلت فيهم صدر سورة الحجرات.
الشرح:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عُيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسًا من العرب، ليس فيهم مهاجريٌ ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوا، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة إحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيًا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحُبسوا في دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عِدَّة من رؤسائهم؛ عطارد بن حاجب، والزِّبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري فعجلوا وجاءوا إلى باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوا: يا محمَّد اخرج إلينا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام بلال الصلاة وتعلَّقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فقدَّموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم، ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489
* * *
يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، فرَّد عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأسرى والسبي (1).
2 - وفي صفر من هذه السنة: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عوسجة - رضي الله عنه - إلى بني حارثة بن عمرو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا.
الشرح:
قيل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى بني حارثة بن- عمرو بن قُريط، يدعوهم إلى الإِسلام، فأخذوا الصحيفة فغسلوها، ورقعوا بها أسفل دَلْوهم، فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية قُطْبة بن عامر - رضي الله عنه - إلى خثعم بناحية بيشة فغنموا وأسروا, ولكن قُطبة قتِل.
الشرح:
قال ابن سعد رحمه الله:
قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُطبة في عشرين رجلاً إلى حي من خثعم، بناحية تَبالة، وأمره أن يشنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلاً فسألوه، فاستعجم (3) عليهم، فجعل يصيح بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر، فشنُّوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى كثرت الجرحى في الفريقين جميعًا، وقُتِل قطبة بن عامر فيمن قُتل،
(1) "الطبقات" 2/ 160، 161، وأخرجه أحمد (27081) عن الأقرع بن حابس، بسند صحيح، مختصرًا، وفيه قال الأقرع: يا محمَّد إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال رسول الله: "ذمكم الله".
(2) انظر: "الإصابة" 2/ 1106.
(3) استعجم: سكت.
* * *
الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق