الاثنين، 23 أبريل 2018

ارشاد الفحول للشوكاني 4

الشرط الثالث: العدالة
قال الرازي في "المحصول": هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا حتى يحصل ثقة النفس بصدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة، وسرقة باقة من البقل، وعن المباحات القادحة في المروءة، كالأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح، والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن "معه"* جراءته على الكذب يرد الرواية وما لا فلا، انتهى.
وأصل العدالة في اللغة: الاستقامة، يقال: طريق عدل أي مستقيم، وتطلق على استقامة السيرة والدين، قال الزركشي في "البحر": واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق. وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة.
قال ابن القشيري: والذي صح عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها.
__________
* في "أ": من.
__________
1 واسمه: "بيان الوهم والإيهام في الحديث" للشيخ أبي الحسن، علي بن محمد بن عبد الملك المعروف بابن القطان، الفاسي، الفقيه، الأصولي، المحدث المتوفى سنة ثمان وعشرين وستمائة هـ، وهو غير ابن القطان المتقدم في الصفحة "110"، صحح في كتابه هذا عدة أحاديث. ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 213"، كشف الظنون "1/ 262".
2 هو سليمان بن خلف، الإمام العلامة الحافظ، القاضي، أبو الوليد، ولد سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "الاستيفاء" "الإيماء في الفقه" وغيرهما، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، ا. هـ. أعلام النبلاء "18/ 535"، تذكرة الحفاظ "3/ 1178"، معجم الأدباء "11/ 246".
 ......................
قال ابن السمعاني: لا بد في العدل من أربع شرائط: المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية، وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض، وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم، وأن لا يعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع.
قال الجويني: الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل.
وقال ابن الحاجب في حد العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة، وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا.
والأولى أن يقال في تعريف العدالة: إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلًاوتركا فهو العدل المرضي، ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه، كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل، وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة.
نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفًا لا شرعًا فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية.
وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد؟
فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر، ويدل على ذلك قوله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} 1 وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} 2، ويدل عليه ما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواترًا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر.
وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق، والجويني وابن فورك، ومن تابعهم قالوا: إن المعاصي كلها كبائر. وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر.
قالوا: ومعنى قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه} : إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيئاتكم التي هي دون الكفر، والقول الأول راجح.
__________
1 جزء من الآية 31 من سورة النساء.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحجرات.
 ...........................
وههنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي1 فقال: إن المعاصي "تنقسم"* إلى ثلاثة أقسام:
صغيرة، وكبيرة، وفاحشة؛ فقتل النفس بغير حق كبيرة، فإن قتل ذا رحم له ففاحشة، فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا.
ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد، فقال الجمهور: إنها تعرف بالحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد. وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد. وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين. وقيل: ما كان فيه مفسدة.
وقال الجويني: ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه حد، وقيل: ما ورد الوعيد عليه مع الحد، أو لفظ يفيد الكبر.
وقال جماعة: إنها لا تعرف إلا بالعدد، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا؟ فقيل: هي سبع، وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: اثنتا عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: ست وثلاثون، وقيل: سبعون. وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي2 في "جزء صنفه" في ذلك.
وقد جمع ابن حجر الهيتمي3 فيها مصنفًا حافلًا سماه الزواجر في الكبائر" وذكر فيه نحو أربعمائة معصية.
وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين، ومن المنصوص عليه منها: القتل، والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور،
__________
* في "أ": تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام.
__________
1 هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، القاضي العلامة، رئيس المحدثين، أبو عبد الله البخاري الشافعي، أحد الأذكياء الموصوفين، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "منهاج الدين في شعب الإيمان". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 231"، هدية العارفين "1/ 308"، تذكرة الحفاظ "3/ 1030"، شذرات الذهب "3/ 165".
2 هو محمد بن أحمد بن عثمان، شمس الدين، أبو عبد الله، الحافظ المؤرخ، العلامة المحقق، ولد في دمشق سنة ثلاث وسبعين وستمائة هـ، وأقام في دمشق وغوطتها، وأقام مدة في قرية كفر بطنا من قرى الغوطة وهي قرية هادئة غناء ألف فيها خيرة كتبه، توفي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "سير أعلام النبلاء" "الكبائر" "تذكرة الحفاظ" وغيرها كثير من الكتب. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 153"، ذيل تذكرة الحفاظ "34"، سير أعلام النبلاء "المقدمة"، الأعلام "5/ 326".
3 هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر التميمي، السعدي، الأنصاري، شهاب الدين، أبو العباس، فقيه، مصري، باحث، ولد بمحلة أبي الهيتم بمصر سنة تسع وتسعمائة هـ، وتوفي سنة أربع وسبعين وتسعمائة هـ، من آثاره: "الخيرات الحسان" "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" "الزواجر عن اقتراب الكبائر". ا. هـ. الأعلام "1/ 224"، خلاصة الأثر "2/ 166". 
.................... 
واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق والفرار من الزحف، وأخذ مال اليتيم، وخيانة الكيل، والوزن، والكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة1، ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة وأمن المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب.
وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار. وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثًا ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق.
وقد حكى مسلم في "صحيحه"2 الإجماع على رد خبر الفاسق فقال: إنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. قال الجويني: والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم "يبوحوا"* بقبول روايته، فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع.
قال الرازي في "المحصول": إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقًا لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقًا فإما أن يكون مظنونا، أو مقطوعًا فإن كان مظنونًا قبلت روايته بالاتفاق، قال وإن كان مقطوعًا به قبلت أيضا.
لنا: أن ظن صدقه راجح، والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتفٍ فوجب العمل به.
احتج الخصم: بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب: أنه جهل فسقه، لكن جهله بفسقه فسق آخر، فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع.
والجواب: أنه إذا علم كونه فسقًا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلاف إذا لم يعلم ذلك.
__________
* في "أ": يوجبوا.
__________
1 الدياثة: القيادة "إدخال الرجال على الحرم للزنا"، والديوث هو الذي لا يغار على أهله.
2 صحيح مسلم شرح النووي "1/ 62". 
................................... 
ويجاب عن هذا الجواب: أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته.
واختلف أهل العلم في رواية المجهول، أي: مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه، فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم: أن روايته غير مقبولة، وقال أبو حنيفة1: تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهرًا، وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا، وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهرًا ولا باطنًا، وأما من كان عدلًا في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن. فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح.
وقال الشافعي: لا يقبل ما لم تعلم العدالة، وحكاه إلكيا عن الأكثرين، وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام، بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك، قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد.
وقال الجويني: بالوقف -إذا روى التحريم- إلى ظهور حاله، "وأما"* مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام.
وقال ابن عبد البر: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان2 فإنه "يكفي"** وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا.
وقال أبو الحسين بن القطان: إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل، مع روايته، عنه وعمله بما رواه قبل، وإلا فلا، وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في "ثقاته" فإنه يحكم برفع الجهالة برواية واحدة.
__________
* في "أ": ولنا.
** في "أ": تنتفي.
__________
1 هو النعمان بن ثابت، الإمام الفقيه، عالم العراق، ولد سنة ثمانين هـ، ورأى أنس بن مالك، وعامر بن الطفيل، وسهل بن سعد الساعدي من الصحابة، كان يسمى بالوتد لكثرة صلاته، توفي في السجن ببغداد سنة خمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 390"، شذرات الذهب "1/ 237"، تذكرة الحفاظ "1/ 168".
2 هو يحيى بن سعيد بن فروخ، الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد، التميمي، ولد سنة عشرين ومائة هـ، توفي سنة تسعين ومائة هـ، كان عشرين سنة يختم كل ليلة، قال عنه ابن مهدي: لا ترى بعينك مثل يحيى القطان. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 175"، تهذيب التهذيب "11/ 216"، شذرات الذهب "1/ 355". 
............................. 
وحكي ذلك عن النسائي1 أيضًا قال أبو الوليد الباجي: ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعدًا انتفت عنه الجهالة، وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئًا من أمره ويحدثون بما رووا عنه "ولا يخرجه روايتهم عنه"* "عن"** على الجهالة؛ إذ لم يعرفوا عدالته؛ انتهى.
وفيه نظر؛ لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعدًا عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق.
والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال؛ لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلًا وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2 وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} 3؛ وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم، فبقي من ليس بعدل داخلًا تحت العمومات وأيضًا قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقًا وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضًا وجود الفسق مانع من قبول روايته فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع.
وأما استدلال من قال بالقبول بما يروونه من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن نحكم بالظاهر"4. فقال
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": على.
__________
1 هو أحمد بن شعيب الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن، صاحب السنن، ولد في نسا سنة خمس عشرة ومائتين هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج شهيدًا بعد أن امتحن بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 125"، شذرات الذهب "2/ 239"، تذكرة الحفاظ "2/ 698".
2 جزء من الآية "28" من سورة النجم.
3 جزء من الآية "36" من سورة الإسراء.
4 قال السخاوي في المقاصد الحسنة "178": اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، ولا وجود له في كتب الحديث المشهور ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره، وتبعه على ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/ 192"، وزاد نقله على الزركشي، فقد قال: لا يعرف بهذا اللفظ، وابن كثير قال: لم أقف له على سند، وأنكره القاري والحافظ ابن الملقن.
انظر المصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم "38" بتحقيق مولانا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فقد نبه فيه على غلط وقع للسخاوي وتبعه بعض العلماء
........................... 
الذهبي والمزي1 وغيرهما من الحفاظ لا أصل له، وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلًا لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر، بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما أقضي بنحو ما أسمع" 2 وهو في الصحيح وبما روي من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال: "كان ظاهرك علينا" 3، وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه: "إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم" 4.
الشرط الرابع: الضبط
فلا بد أن يكون الراوي ضابطًا لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه، فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه، وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه، كذا قال ابن السمعاني وغيره، قال أبو بكر الصيرفي: من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره، ولم يسقط لذلك حديثه، ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية.
قال الترمذي5 في "العلل"6: كل من كان متهمًا في الحديث بالكذب، أو كان مغفلًا
__________
1 هو يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي، الكلبي الحلبي الدمشقي، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج، محدث، حافظ، مشارك في الأصول والفقه والنحو، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "أطراف الكتب الستة" خمس مجلدات "تهذيب الكمال في أسماء الرجال". ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 308"، هدية العارفين "1/ 556"، الأعلام "8/ 236"، شذرات الذهب "6/ 136".
2 أخرجه البخاري: من حديث أم سلمة، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه "2458" ومسلم، كتاب الأقضية باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن "1713" وابن ماجة كتاب الأحكام، باب قضية الحاكم لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا "2317". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في التشديد على من يُقضى له بشيء ليس له أن يأخذه "1339" بنحوه وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه "5070"، والبيهقي في السنن، كتاب آداب القاضي، باب من قال: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه "10/ 143". والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب الحكم بالظاهر "5416" 8/ 233.
3 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة بلفظ: "فأما ظاهرًا منك كان علينا فافد نفسك" "3/ 142" وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 299" بلفظ: "أما ظاهرك فكان علينا والله أعلم بإسلامك" .
4 أخرجه البخاري، كتاب الشهادات باب الشهداء العدول "2641" وذكره الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة موقوفًا على سيدنا عمر ر ضي الله عنه "178". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير عن عمر رضي الله عنه قال: "إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري "2100".
5 هو محمد بن عيسى بن سورة، الترمذي، الحافظ، الإمام البارع، الضرير، ولد سنة عشر ومائتين هـ، وحدث عن إسحاق بن راهويه، ومحمود بن غيلان، وغيرهم، توفي في ترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين هـ.
ا. هـ. تذكرة الحافظ "2/ 635"، شذرات الذهب "2/ 174"، سير أعلام النبلاء "13/ 273".
6 واسمه: "العلل في الحديث"، وهو مطبوع. انظر كشف الظنون "2/ 1440".
 000000000
يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى.
والحاصل أن الأحوال ثلاثة: إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف، قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه، وقال الشيخ أبو إسحاق: إنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسرًا وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة، ففي الرواية أولى، وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث: أن الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح، وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن، وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف، ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيما رواه.
قال إلكيا الطبري: ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه، وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي1.
الشرط الخامس: أن لا يكون الراوي مدلسًا
وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد.
أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع:
أحدها: أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب.
وثانيهما: أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهورًا باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهامًا للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل، فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك
__________
1 انظر صفحة: "158".
 0000000000000000000000000
الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفًا وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف. فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي، وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلًا على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعان،ي وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح.
وثالثهما: أن يكون التدليس باطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه، فإن كان المتروك ضعيفًا فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة، وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحًا في عدالة الراوي، لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول: قال فلان أو رُوي عن فلان أو نحو ذلك، أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته. والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله.
أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر:
فالأول:
منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد.
الشرط الثاني:
أن لا يكون مخالفًا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال.
الشرط الثالث:
أن لا يكون مخالفًا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية. وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور: إنه مقدم على القياس. وقيل: إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر، وإليه ذهب أبو بكر الأبهري1، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنهما متساويان، وقال عيسى بن أبان2: إن كان الراوي ضابطًا عالمًا قدم خبره وإلا محل اجتهاد، وقال أبو الحسين البصري: إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصل مقطوعًا به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح
__________
1 هو محمد بن عبد الله التميمي، الأبهري المالكي، أبو بكر، الإمام العلامة، القاضي المحدث شيخ المالكية، ولد سنة تسعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "شرح مختصر عبد الله بن الحكيم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 332"، هدية العارفين "2/ 50"، شذرات الذهب "3/ 85".
2 هو عيسى بن أبان بن صدقة، القاضي، أبو موسى البغدادي، الحنفي توفي بالبصرة سنة عشرين ومائتين هـ، من آثاره: "إثبات القياس" "اجتهاد الرأي"، وغيرها، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 440"، هدية العارفين "1/ 806"، الفوائد البهية "151".
 00000000000000000000000000000
أحدهما فيعمل به، وإلا فالخبر مقدم.
وقال أبو الحسين الصيمري1: لا خلاف في العلة المنصوص عليها، وإنما الخلاف في المستنبطة قال إلكيا: قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى.
والحق: تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقًا، إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، كحديث المصراة2 وحديث العرايا3 فإنهما مقدمان على القياس، وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه، وما روي عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح، وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه.
ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ4 فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده.
ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين: وهما دلالته، عدالة الراوي ودلالة الخبر، والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور: حكم الأصل وتعليله في الجملة، وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرًا، فإن كان خبرًا كان النظر في ثمانية
__________
1 هو أبو الحسين البصري: وقد سبق ترجمته، ونسبه هنا إلى نهر صيمر في البصرة.
2 وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر" . والبخاري عن أبي هريرة، كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يجعل الإبل والغنم والبقر "2150"، وأخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه "1515"، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة فكرهها "3443". ومالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما ينهى عن المساومة والمبايعة "2/ 683"، والبيهقي، كتاب البيوع، باب الحكم فيمن اشترى مصراة "5/ 318". وعبد الرزاق في مصنفه "14858"، وأحمد في مسنده "2/ 259"، وابن حبان في صحيحه "4970".
3 أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت بلفظ: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر". كتاب البيوع، باب بيع المزابنة "2188". ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا العرايا "1539". والطبراني "4767". وعبد الرزاق، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل "14486"، وأحمد في مسنده "5/ 182" وابن حبان في صحيحه "5001".
4 ولفظه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" ، قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا في كتاب الله؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله" .
أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "3592". الترمذي، كتاب الأحكام، باب ماجاء في القاضي كيف يقضي "1227". وأخرجه أحمد "5/ 530". الطبراني في معجمه "20/ 170" برقم "362". والدارمي في سننه، في المقدمة برقم "168".

(1/152)

أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها.
واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة.
ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافًا لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر.
ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافًا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها، وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر1.
ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافًا للحنفية وأبي عبد الله البصري2 لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك.
ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافًا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات"3 باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها.
ولا يضره أيضًا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافًا للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخًا لا يقبل.
والحق: القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد، فكانت مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة،
__________
1 انظر صفحة: "165".
2 هو الحسين بن علي بن إبراهيم البصري، الفقية المتكلم، أبو عبد الله، الحنفي المعروف بالجعل، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "تحريم المتعة":شرح مختصر الكرخي في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 224"، شذرات الذهب "3/ 38"، الفوائد البهية "67"، هدية العارفين "1/ 307".
3 أخرجه الحاكم بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم..." إلخ، كتاب الحدود "4/ 384"، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات "8/ 238". والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود "1424".
وأما لفظ: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فقد ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير وقال: فيه يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ورواه وكيع عنه موقوفًا، وهو أصح قاله الترمذي والبيهقي في سننه، ورواية وكيع أقرب إلى الصواب. وروي عن عدة من الصحابة كما ذكره الترمذي موقوفًا انظر التخليص الحبير "4/ 56" "1755".

(1/153)

وهكذا إذا ورد الخبر مخصصًا للعام من كتاب أو سنة فإنه مقبول ويبنى العام على الخاص خلافًا لبعض الحنفية، وهكذا إذا ورد مقيدًا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية. وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار: يقبل لأن الصحابة رفعت كثيرًا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا؟ قال: وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصًا مقبولًا أولى من حمله على كونه ناسخًا مردودًا.
الثاني: أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون.
الثالث: أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. لم يقبله؛ لأنه لو قبله لقبل ناسخًا وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى. وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق1.
حكم زيادة الثقة:
ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلًا فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد. أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد، وقيل: لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة "بزيادة عليها"* وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحدًا وكانت الجماعة بحيث لا "تجوز"** عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق.
ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه؛ لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه.
ولا يضره أيضًا كونه خارجًا مخرج ضرب الأمثال. وروي عن إمام الحرمين أنه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** "أ": لا يجوز.
__________
1 انظر صفحة: "354".

(1/154)

موضع تجوز، فأجيب عنه: بأنه وإن كان موضع تجوز، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقول إلا حقًّا لمكان العصمة.
وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر:
"فاعلم"* أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالا:
الحال الأولى:
أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها، ولكنه إذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله جوابًا عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنيًا عن ذكر السؤال كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 1 فالراوي مخير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغنٍ عن ذكر السؤال كما في سؤاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص إذا جف" : فقيل: نعم. فقال: "فلا إذًا" 2، فلا بد من ذكر السؤال، وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين، فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمرًا واحدًا فلا بد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال "والسبب"** مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال.
الحال الثانية:
أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه، وفيه ثمانية مذاهب:
الأول منها: أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ، لا إذا لم يكن عارفًا. فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى. قال القاضي في "التقريب": بالإجماع، ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف، كالجلوس مكان القعود أو العكس، ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويًا للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان
__________
* في "أ": فإنه علم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة باب الطهور للوضوء "1/ 22"، وأبو داود كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر "83" والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "69"، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي كتاب الطهارة، باب ماء البحر "59" "1/ 50"، وابن ماجه كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر رقم "386"، وابن حبان في صحيحه "1243"، وابن خزيمة "111"، والحاكم في المستدرك "1/ 140"، كتاب الطهارة وصححه ووافقه الذهبي.
2 أخرج ابن ماجه بنحوه من حديث سعد بن أبي وقاص في كتاب التجارات باب بيع الرطب بالتمر "2264".
والنسائي، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب "4559". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة "1225". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر "3359". والحاكم في المستدرك بلفظ "إذا جف" كتاب البيوع "2/ 38" ووافقه الذهبي. وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر "2/ 624". وابن حبان في صحيحه "5003".

(1/155)

المطلق بالمقيد، ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه، كألفاظ الاستفتاح، والتشهد، وهذا الشرط لا بد منه، وقد قيل إنه مجمع عليه.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه، كأحاديث الصفات. وحكى إلكيا الطبري الإجماع على هذا؛ لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي، ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم، فإن كان من جوامع الكلم، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 1 "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" 2، "الحرب خدعة" 3، "الخراج بالضمان" 4، "العجماء جبار" 5، "البينة على المدعي" 6: لم تجز روايته بالمعنى.
__________
1 رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب كيفية كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم1، ومسلم بزيادة: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" ، رقم "1907" كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" . ورواه النسائي بلفظ: "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى" برقم "75" باب النية في الوضوء، كتاب الطهارة.
2 أخرجه مالك في الموطأ من حديث على بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقال: إنه حديث حسن بل صحيح، في كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق "2/ 903"، والطبراني في الأوسط "8397"، والترمذي من حديث أبي هريرة، كتاب الزهد "2317". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة" "3967". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الآداب، باب حفظ اللسان "3769".
3 أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة من حديث جابر بن عبد الله "3030" ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب "1739". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب من حرم عليه من خائنة الأعين دون المكيدة في الحرب "7/ 40"، والترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب "1675"، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب المكر في الحرب "2636"، وأحمد في مسنده "3/ 308"، وابن حبان في صحيحه "4763".
4 أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، في البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد يستغله ثم يجد به عيبًا "1285" وقال حسن صحيح، وأبو داود كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا "3508". وابن ماجه في التجارات، باب الخراج بالضمان "2242". والحاكم، كتاب البيوع "2/ 15". وابن حبان في صحيحه "4927".
5 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الشرب والمساقاة، باب من حفر بئرًا في ملكه لم يضمن "2355". ومسلم، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار "1710". والنسائي، كتاب الزكاة، باب المعدن "2494" 5/ 45. والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب زكاة الركاز "4/ 155".
والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في العجماء جرحها جبار "1377". وابن ماجه كتاب الديات، باب الجبار "2673". وابن حبان في صحيحه "6005".
6 أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه "1341". والدارقطني، كتاب الأقضية، باب في المرأة تقتل إذا ارتدت "51". والبيهقي، كتاب الدعوى بنحوه، باب المتداعيين يتداعيان "10/ 256"، وذكره البغوي في المصابيح "2838".

(1/156)

وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال. وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا. قال الأبياري1 في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور:
أحدها: أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود "فهذا"*وهذا جائز بلا خلاف.
وثانيها: أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل.
ثالثها: أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف. والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستندًا إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف.
المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقًا بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره. هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث. وقال إنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين. وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين2 وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني. ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ والمخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تراه في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة "من الصحابة"** فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في "رواية"*** وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه
__________
* في "أ": وهذا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "ب": الرواية.
__________
1 هو علي بن إسماعيل بن علي بن حسن الأبياري، شمس الدين، أبو الحسن، فقيه، أصولي، متكلم، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ، من آثاره: "شرح البرهان للجويني" "سفينة النجاة على طريقة الإحياء". ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 37".
2 هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري، أبو بكر، إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، نشأ بزازًا في أذنه صمم، اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، توفي سنة عشر ومائة هـ، من آثاره: "تعبير الرؤيا" "منتخب الكلام في تفسير الأحلام". ا. هـ. تهذيب التهذيب "9/ 214"، الأعلام "6/ 154".

(1/157)

المذهب الثالث: الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها، وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز: النقل بالمعنى في الأول دون الثاني، حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي، واختاره إلكيا الطبري.
المذهب الرابع: التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا، فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره؛ لأن في كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى، وبهذا جزم الماوردي والروياني.
المذهب الخامس: التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار، فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني، قال الماوردي والروياني: أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى، كقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب" 1 وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب2، وقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقتلوا الأسودين في الصلاة" 3، وروى أنه "أمر بقتل الأسودين في الصلاة"4؛ قال: هذا جائز بلا خلاف لأن افعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما. "وإن كان اللفظ خفي المعنى محتملًا كقوله: "لا طلاق في إغلاق" 5* وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره.
__________
* في "أ": إن كان اللفظ في المعنى محتملًا لا طلاق في إغلاق.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب البيوع، باب الفضة بالفضة "177". ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا "1584". والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب "4584" "7/ 278". وابن الجارود "649". وابن حبان في صحيحه "5016".
2 أخرجه مسلم، من حديث عبادة، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "1587". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3349"، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "4454". والبيهقي في السنن، كتاب البيوع، باب الاجناس التي ورد النص بجريان الربا فيها "5/ 277"، وابن حبان في صحيحه "5015".
3 أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة، كتاب جماع أبواب الأفعال المباحة في الصلاة، باب الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة "869". والنسائي كتاب السهو، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "1201" "3/ 10". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة "1245". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة "921". والحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة "1/ 256"، ووافقه الذهبي عليه. وابن حبان في صحيحه "2352".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 233". وعبد الرزاق في مصنفه "1754". الدارمي "1/ 354"، وأخرجه ابن الجارود "213" والبيهقي، كتاب الطهارة، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "2/ 266"، وابن ماجه بنفس رقم الحديث المتقدم.
5 أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب الطلاق، باب الطلاق على غلط "2193". والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق "2/ 198"، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "2046". والدارقطني، كتاب الصلاق "4/ 36"، والبيهقي، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/ 357". وأبو يعلي في مسنده "4444". والإغلاق: قال أبو داود: أظنه الغضب، وفسره أحمد أيضًا بالغضب، وقال الزيلعي في نصب الراية: قال شيخنا: والصواب والإكراه والجنون وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده. ا. هـ. نصب الراية "3/ 233".

(1/158)

المذهب السادس: التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر.
المذهب السابع: أن يكون المعنى مودعًا في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها، كذا قال أبو بكر الصيرفي.
المذهب الثامن: التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية "فتجوز"* الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني. فهذه ثمانية مذاهب. ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل المذاهب الأُوَل مذاهب غير هذه المذاهب.
الحال الثالثة:
أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقًا بالمحذوف منه تعلقًا لفظيًّا أو معنويًّا لم يجز بالاتفاق. حكاه الصفي الهندي وابن الأبياري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ، ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقًا سواء تعلق بعضه ببعض أم لا، وفي هذا ضعف. فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقًا به تعلقًا لفظيًّا خيانة في الرواية. وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال:
أحدها: إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز، كذا قال القاضي في "التقريب"1 والشيخ الشيرازي في "اللمع"2
__________
* في "أ": فيجوز.
__________
1 هو القاضي أبو بكر الباقلاني، واسم الكتاب "التقريب والإرشاد في أصول الفقه" وهو أجل كتاب مصنف في الأصول كما قال ابن السبكي: اختصر في التقريب والإرشاد الأوسط والصغير. ا. هـ. تبين كذب المفترى "217" الديباج المذهب "267"، وفيات الأعيان: "3/ 400".
2 وهو "اللمع في أصول الفقه"، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، وله شرح عليه، وعليه شرحان أيضًا الأول: لعثمان بن عيسى الهمذاني في مجلدين: والثاني: لعبد الله بن أحمد البغدادي ولم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1562".

(1/159)

ثانيها: أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي.
وثالثها: أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيهًا جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز. قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان.
ورابعها: إن كان الخبر مشهورًا بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا، قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق.
وخامسها: المنع مطلقًا.
وسادسها: التفصيل بين أن يكون المحذوف حكمًا متميزًا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز* فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال إلكيا الطبري: وهذا التفصيل هو المختار. قال الماوردي والروياني: لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلًّا بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 1 فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهومًا ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك" 2 فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس.
هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيرًا من "الصحابة و"** التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3 ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم
__________
* في "أ": التميز.
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
2 أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب، كتاب الأضاحي، باب قول النبي صلى اله عليه وسلم لأبي بردة "ضح بالجذع من المعز ولن تجزي عن أحد بعدك" "5557". ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقت الأضاحي "1961".
والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة "1508". والنسائي، كتاب الضحايا، باب ذبح الضحية قبل الإمام "406" 7/ 222. وأبو داود، كتاب الضحايا،باب ما يجوز في الضحايا من السن "2800".
3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1218"، وهو طويل. وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1905". كتاب المناسك، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3074".
وابن خزيمة "2755". وأحمد في مسنده "3/ 320". وعبد بن حميد "1135".

(1/160)

في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البعض مفسدة.
الحال الرابع: أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي.
قال المارودي والروياني: يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهدًا للحال ولا يجوز من التابعي.
وأما تفسير المعنى: فيجوز منهما، ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث، فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع.
الحال الخامس: إذا كان الخبر محتملًا لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد، وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره، بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه، والظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ، بل لا بد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد، فقد كانوا يسألونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا، وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي: أن الصحابي إذا ذكر خبرًا وأوله وذكر المراد منه فذلك مقبول، قال ابن القشيري: إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان؛ لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل.
الحال السادس: أن يكون الخبر ظاهرًا في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته "إلى مجازه"*، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله. وهذا هو الحق لأنا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/161)

متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم1.
وذهب أكثر الحنفية: إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي؛ لأنه أخبر بمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله "على"* على ذلك على خلاف ظاهره اجتهادًا منه، والحجة إنما هي روايته لا في رأيه، وقد يحمله "على ذلك"** وهمًا منه.
وقال بعض المالكية: إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن المقتضية لذلك، وليس للاجتهاد فيه مساغ كان العمل بما حمله عليه متعينًا، وإن كان صرفه عن ظاهره يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد، كان الرجوع إلى الظاهر متعينًا لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقًا لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل.
ويجاب عنه: بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهمًا، فلا يجوز اتباعه على الغلط، بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع، فكان "الحمل"*** عليه أرجح.
وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر، وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك.
وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا2 الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه "يحتمل أنه"**** قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضًا "ربما"***** ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك
__________
* في "أ": يحمله على ذلك على خلاف.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": العمل.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": فربما.
__________
1 انظر صفحة: "154".
2 انظر صفحة: "155".

(1/162)

في ألفاظ الرواية
مدخل
...
فصل: في ألفاظ الرواية
اعلم أن الصحابي إذا قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أخبرني، أو حدثني، فذلك لا يحتمل

(1/162)

الواسطة بينه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان مرويًّا بهذه الألفاظ "أو ما يؤدي معناها"1 كشافهني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف، وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأن يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا، فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى تقدير أن ثَمَّ واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق وخالف في ذلك داود الظاهري فقال: إنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا؛ فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب، وقد أنكر هذه الرواية عن داود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة "الفعل"2 المبني للمفعول، فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة. وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي3 والجويني والكرخي وكثير من المالكية إنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء "أو"4 الأمراء.
ويجاب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور.
وحكى ابن السمعاني قولًا ثالثًا وهو الوقف ولا وجه له؛ لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما.
وحكى ابن الأثير في "جامع الأصول"5 قولًا رابعًا، وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك
__________
1 ما بين قوسين ساقط "أ".
2 ما بين قوسين ساقط من "أ".
3 هو الإمام، أحمد بن إبراهيم، الجرجاني الإسماعيلي، الشافعي، شيخ الإسلام أبو بكر، الحافظ الحجة، شيخ الشافعية، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 292"، تذكرة الحافظ "3/ 947"، شذرات الذهب "3/ 72".
4 في "أ": والأمراء.
5 هو المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري، أبو السعادات، مجد الدين المحدث، اللغوي، الأصولي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ست وستمائة هـ، من آثاره: "الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف" "المختار في مناقب الأخيار"، ومن مؤلفاته "جامع الأصول لأحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وهو كتاب بناه على ثلاثة أركان، الأول: في المبادئ والثاني: في المقاصد والثالث: في الخواتيم، ولهذا الكتاب مختصرات كثيرة، منها: مختصر لهبة الله ابن البارزي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 488"، كشف الظنون "1/ 535"، شذرات الذهب "5/ 22"، الأعلام "5/ 272".

(1/163)

هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصيغة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر "أو"1 الناهي غير صاحب الشريعة.
وذكر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"2 قولًا خامسًا وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضًا تقدم، وأيضًا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة.
ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظاهر وإن جاز خلافه. وقال في الجديد: يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها. فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون؟ قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع، وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له. وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه "أراد"3 مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر، فإن
__________
1 في "أ": والناهي.
2 واسمه: "الإمام في شرح الإلمام في أحاديث الأحكام"، للإمام محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، قيل: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الاستنباطات والفوائد. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158".
3 ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/164)

إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة.
قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم سنة العمرين، ونحو ذلك.
فإن قال الصحابي: كنا نفعل في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة، ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون الحجة في التقرير، وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا، فقد يضاف فعل البعض إلى الكل.
وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج1 من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم، قال القاضي أبو محمد2 والوجه التفصيل بين أن يكون شرعًا "مستقرًا"3 كقول أبي سعيد: كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير. الحديث4، فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ذلك5 ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وقيل إن "ذكر الصحابي ذلك"6 في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا، وأما لو قال الصحابي: كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تقوم بمثل هذه الحجة؛ لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا هو حكاية للإجماع، "وقالت الحنفية والحنابلة: إنه إجماع، قال الغزالي: إذا قال التابعي: كانوا يفعلون كذا فلا يدل على فعل جميع الأمة، ولا حجة فيه، إلا أن يصرح بنقل الإجماع"7.
__________
1 انظر ترجمته في الصفحة "175" حيث هو نفسه أبو الفرج المالكي.
2 هو القاضي عبد الوهاب بن علي الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "142"
3 في "أ": مستقلًّا.
4 أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر "985". وأبو داود، كتاب الزكاة، باب كم يؤدي في صدقة الفطر "1616". والنسائي، كتاب الزكاة، باب الزبيب "2512" "5/ 51". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من قال لا يخرج من الحنطة في صدقة الفطر إلا صاعًا "4/ 165". والدارقطني "2/ 146". وأحمد في مسنده "3/ 98". وابن خزيمة "2418". وابن حبان "3305".
5 أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب كراء الأرض "1543". والنسائي، بنحوه في كتاب الأيمان، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض "3909" "7/ 44". وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع "2450". وأحمد في مسنده "2/ 463". والحميدي في مسنده "405". وذكره البغوي في المصابيح "2188". والمخابرة هي مزارعة الأرض على الثلث أو الربع أو بعض ما يخرج منها.
6 ما بين قوسين ساقط من "أ".
7 في "أ": ذكره الصحابي.

(1/165)

وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي:
فلها مراتب بعضها أقوى من بعض
المرتبة الأولى:
أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ، وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل لأنها طريقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه وهم يسمعون وهي أبعد من الخطأ والسهو.
وقال أبو حنيفة: إن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده، وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين، قال الماوردي والرويان:ي ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد أو اتفاقًا أو مذاكرة ويجوز أن يكون الشيخ أعمى "يملي من"* حفظه، ويجوز أن يكون أصم ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ولا يجوز أن يكون أصمَّ، وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقًا به ذاكرًا لوقت سماعه له.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجوز الرواية من الكتاب ولا وجه لذلك فإن يستلزم بطلان فائدة الكتاب ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه.
وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا، إذا كان الشيخ قاصدًا لإسماعه وحده أو مع جماعة فإن لم يقصد ذلك فيقول: سمعته يحدث.
المرتبة الثانية:
أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع وأكثر المحدثين يسمعون هذا عرضًا وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ. كأنه يعرض عليه ما يقرؤه، ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ورواية معمول بها، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه.
قال الجويني: وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالمًا بما يقرؤه التلميذ عليه ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه. وإلا لم "تصح"** الرواية عنه.
قال: وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتًا وأجراسًا ولا يأمن تدليسًا وإلباسًا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه
__________
* في "أ": على ما حفظه.
** في "أ": لم يصح.

(1/166)

قال أبو نصر القشيري: وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي، فإنه صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل وإن لم يعرف معناه. وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث، وكيف لا وفي الحديث: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 1. ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه وينسد بذلك باب "الحديث"*.
قال: وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها، وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز، وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره إلكيا الطبري والمازري.
ويقول التلميذ في هذه الطريقة: قرأت على فلان، أو أخبرني أو حدثني قراءة عليه، وأما إطلاق أخبرني أو حدثني بدون "تقييد"** تقييده بقوله: قراءة عليه فمنع من ذلك جماعة منهم ابن المبارك2 ويحيى بن يحيى3، وأحمد بن حنبل والنسائي؛ لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه.
وقال الزهري4 ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة5 ويحيى بن سعيد القطان،
__________
* في "أ": الحديث.
** في "أ": تقييده.
__________
1 أخرجه أبو داود عن زيد بن ثابت، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم "3660". الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع "2656". وأحمد في مسنده "5/ 183". والدارمي في سننه "1/ 175". وابن حبان في صحيحه "67". والطبراني "4890". وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 39".
2 هو عبد الله بن المبارك، أبو عبد الرحمن، المروزي، الحنظلي، تليمذ الإمام أبي حنيفة، وعد جماعة من أصحابه خصاله فقالوا: العلم والفقه والأدب واللغة والنحو والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 378"، الجواهر المضية "2/ 324"، الفوائد البهية "103".
3 هو ابن بكير "أبو بكر" بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، عالم خراسان، أبو زكريا التميمي الحافظ، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائة هـ، وأدرك صغار التابعين وروى عن بعضهم، وتوفي سنة ست وعشرين ومئتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 512"، تهذيب التهذيب "11/ 396"، تذكرة الحافظ "2 / 415" تدريب الراوي: "2/ 16".
4 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله، الزهري، المدني، نزيل الشام، المشهور بابن شهاب، ولد سنة ثمانٍ وخمسين هـ، وهو أول من دون الحديث، وأحد أكابر الحفاظ الفقهاء، توفي سنة أربع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 326"، شذرات الذهب "1/ 162"، الأعلام "7/ 97".
5 هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون، الإمام الكبير، حافظ العصر شيخ الإسلام، ولد بالكوفة سنة سبع ومائة هـ، قال عنه يحيى بن آدم: ما رأيت أحدًا يختبر الحديث إلا ويخطئ إلا سفيان بن عيينة، توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 454". تذكرة الحفاظ "1/ 262"، تهذيب التهذيب "4/ 117".

(1/167)

والبخاري أنه يجوز لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي. وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ولا يجوز أن يقول حدثنا.
قال الربيع1: قال الشافعي: إذا قرأت على العالم فقل: أخبرنا. وإذا قرأ عليك فقل: حدثنا.
قال ابن دقيق العيد: وهو باصطلاح المحدثين في الآخر والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين.
قال ابن فورك: بين حدثني وأخبرني فرق لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه وحدثني لا يحتمل "غير"* السماع.
المرتبة الثالثة:
الكتابة المقترنة بالإجازة نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا وقد أجزت لك أن ترويه عني وكان خط الشيخ معروفًا، فإن تجردت الكتابة عن الإجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني: إنها أقوى من مجرد الإجازة. وقال إلكيا الطبري: إنها بمنزلة السماع قال لأن الكتابة أحد اللسانين. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغ بالكتابة "للغائبين"** كما يبلغ بالخطاب للحاضرين. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى. قال البيهقي في "المدخل"2: الآثار في هذا كثيرة من التابعين فمن بعدهم وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم وكتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إلى عماله بالأحكام"*** شاهدة لقوله، قال: إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه "أو قرئ"**** عليه وأقر به أولى بالقبول مما كتب به إليه،
__________
* في "أ": إلا.
** في "أ": إلى الغائبين.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": وقرأ.
__________
1 هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، الإمام المحدث، الفقيه الكبير، صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، ولد سنة أربع وسبعين ومائة هـ، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 587"، تذكرة الحفاظ "2/ 586"، تهذيب التهذيب "3/ 245".
2 هو أحمد بن الحسين بن علي، الخسروجردي، الخراساني، الحافظ العلامة، الثبت، الفقيه، شيخ الإسلام، أبو بكر، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، من تآليفه: "السنن" في عشر مجلدات، وكتاب "المدخل"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 163"، كشف الظنون "2/ 1007-1644".

(1/168)

لما يخاف على الكتاب من التغيير.
وكيفية الرواية أن يقول: كتب إلي، أو أخبرني كتابة، فإن كان "الكاتب"* قد ذكر الأخبار في كتابه فلا بأس بقوله أخبرنا، وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجردًا عن قوله كتابة.
قال ابن دقيق العيد: وأما تقييده بقوله كتابة فينبغي أن يكون هذا أدبًا. لأن القول إذا كان مطابقًا جاز إطلاقه ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين، وجوز الليث بن سعد1 إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالكتابة.
قال القاضي عياض: إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة، ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند، وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها، ومنع قوم من الرواية بها، منهم المازري والروياني، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني2 والآمدي.
المرتبة الرابعة:
المناولة وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة، وهي على وجهين:
" الوجه "** الأول:
أن تقترن بالإجازة، وذلك بأن يدفع أصله أو فرعًا مقابلًا عليه ويقول هذا سماعي فاروه عني، أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه فيعرضه على الشيخ ثم يعيده إليه ويقول هو من مروياتي فاروه عني.
قال القاضي عياض في "الإلماع"3: أنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع.
قال المازري: لا شك في وجوب العمل بذلك، ولا معنى للخلاف "فيه"***.
قال الصيرفي: ولا نقول حدثنا ولا أخبرنا في كل حديث.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": في ذلك.
__________
1 الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، عالم الديار المصرية، أبو الحارث، ولد بقلقشنده، قرية من أعمال مصر سنة أربع وتسعين هـ، كان فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، توفي سنة خمس وسبعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 136"، الأعلام "5/ 248".
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، الدارقطني، الحافظ الكبير، شيخ الإسلام إليه النهاية في معرفة الحديث، ولد سنة ست وثلاثمائة هـ، في محلة دار قطن ببغداد، وهو أول من صنف القراءات وعقد لها بابا، من تصانيفه "كتاب السنن"، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة هـ ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 449"، شذرات الذهب "3/ 116"، الأعلام "4/ 314".
3 واسمه "الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. ا. هـ كشف الظنون "1/ 158".

(1/169)

وروي عن أحمد وإسحاق1 ومالك: أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة2.
الوجه الثاني:
أن لا تقترن بالإجازة. بل يناوله الكتاب ويقتصر على قوله: هذا سماعي من فلان ولا يقول: أروه عني، فقال ابن الصلاح والنووي: لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء، وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها وبه، قال ابن الصباغ والرازي،
قال البخاري: واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث كتب لأمير السرية كتابًا وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ "مكان" * كذا وكذا" ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك. قال العبدري4: لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول أجزت لك أن تروي عني، وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة.
المرتبة الخامسة:
الإجازة "وهي"** أن يقول: أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه، أو هذا الكتاب، أو هذه الكتب، فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ومنع ذلك الجماعة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وهو.
__________
1 هو إسحاق بن راهوية، الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، أبو يعقوب، وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، ولكنه غلب عليه اسم ابن راهويه، ولد سنة إحدى وستين ومائة هـ، قال عن نفسه: أحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، توفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 358"، شذرات الذهب "2/ 89"، تهذيب التذيب "1/ 216".
2 هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، الحافظ، الحجة، الفقية، شيخ الإسلام، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين هـ، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، رحل إلى العراق والشام والجزيرة ومصر، تزيد مصنفاته على "140" مصنفًا منها: "التوحيد وإثبات صفة الرب" "صحيح ابن خزيمة" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 365" شذرات الذهب "2/ 286"، الأعلام "6/ 29".
3 ذكره البخاري تعليقًا في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة. وذكره ابن هشام في سيرته "2/ 601" تحت سرية عبد الله بن جحش. وقد ذكر ابن حجر أن ابن إسحاق خرجها مرسلة، انظر فتح الباري "1/ 155".
وأخرجه الطبراني في الكبير "1670". وقال ابن حجر في فتح الباري: أخرجه الطبراني من طريق جندب البجلي بإسناد حسن، ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا.
4 لعله رزين بن معاوية عمار، الإمام المحدث الشهير، أبو الحسن العبدري الأندلسي، توفي بمكة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة هـ، من تآليفه: كتاب "تجريد الصحاح" قال الذهبي عنه: أدخل في كتابه زيادات لو تنزه عنها لأجاد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 204"، تذكرة الحفاظ "4/ 1281"، كشف الظنون "1/ 345".

(1/170)

قال شعبة1: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة.
وقال أبو زرعة الرازي2 لو صحت الإجازة لذهب العلم.
ومن المانعين إبراهيم الحربي3، وأبو الشيخ الأصفهاني4، والقاضي حسين، والماوردي، والروياني، من الشافعية، وأبو طاهر الدباس5 من الحنفية، وقال: من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال: أجزت لك أن تكذب علي.
ويجاب عمن قال هؤلاء المانعون: بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة، وأيضًا المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية وقد حصلت بالإجازة ولا تستلزم ذهاب العلم غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية وهي طريقة السماع والكل طرق للرواية والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى.
وأما قول الدباس: إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه: أجزت لك أن تكذب علي فهذا خلف من القول، وباطل من الكلام، فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر وهي هنا حاصلة وإذا تحقق سماع الشيخ وتحقق إذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية "جملة، وبين الطريق المقتضية
__________
1 هو شعبة بن الحجاج، الإمام، الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، أبو بسطام الأزدي، قيل إنه ولد سنة ثمانين هـ، قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين، فلما توفي شعبة قال سفيان: مات الحديث، كانت وفاته ستين ومائة هـ. بالبصرة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 202"، تذكر الحفاظ "1/ 193"، تهذيب التهذيب "4/ 338".
2 هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، سيد الحفاظ، محدث الري، ولد سنة نيف ومائتين هـ، حدث عنه كبار أئمة الحديث منهم الإمام مسلم. قال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة، وتوفي سنة ستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 65"، تهذيب التهذيب "7/ 30"، شذرات الذهب "2/ 148".
3 هو إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي، الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام أبو إسحاق، ولد سنة ثمانٍ وتسعين ومائة وتوفي سنة خمس وثمانين ومائتين هـ، من آثاره: "غريب الحديث" في اللغة. ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "13/ 356"، شذرات الذهب "2/ 190"، تذكرة الحفاظ "2/ 584".
4 هو عبد الله بن محمد بن جعفر، المعروف بأبي الشيخ، محدث أصبهان، أبو محمد، ولد سنة أربع وسبعين ومائتين هـ، من آثاره: كتاب "ثواب الأعمال" الذي عرضه على الطبراني فاستحسنه، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، وله مصنفات كثيرة في الأحكام والتفسير. ا. هـ. سير أعلام النبلا "16/ 276"، هدية العارفين "1/ 447"، تذكرة الحفاظ "3/ 945".
5 هو محمد بن محمد بن سفيان، الفقيه، إمام أهل الرأي بالعراق، أخذ عن القاضي أبي حازم، وكان يوصف بالحفظ، ومعرفة الروايات، ولي القضاء بالشام، وخرج منها إلى مكة فمات بها، ولم نجد في تراجمه من ذكر له سنة وفاة. ا. هـ. تاج التراجم "336"، الجواهر المضية "3/ 323".

(1/171)

للرواية"* تفصيلًا في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق، وإن كان بعضها أقوى من بعض.
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الأحكام أنه بدعة غير جائزة.
واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة حدثني أو أخبرني أو حدثنا أو أخبرنا من غير تقييد بكون ذلك إجازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور وهو أن يقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة. قال ابن دقيق العيد وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا "قيل"**: ويجوز أن يقول أنبأني بالاتفاق.
وهذه الطريقة على أنواع:
النوع الأول: أن يجيز في معين لمعين، نحو أن يقول: أجزت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني عني؛ وهذه الطريقة أعلى "أنواع"*** الإجازة.
النوع الثاني: أن يجيز "لمعين"**** في غير معين، نحو أن يقول: أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي، فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني.
النوع الثالث: أن يجيز غير معين بغير معين "لغير"***** معين نحو أن يقول: أجزت للمسلمين، أو لمن أدرك حياتي، جميع مروياتي، وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الطيب الطبري، ومنعه آخرون وهذا فيما إذا كان المجاز له أهلًا للرواية. وأما إذا لم يكن أهلًا لها كالصبي فجوز ذلك قوم ومنعه آخرون.
واحتج الخطيب للجواز: بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يرو ي عنه، والإباحة تصح للمكلف وغيره، ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلًا لها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وقيل يجوز.
*** في "أ": طرق.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": بغير.

(1/172)

فصل: الحديث الصحيح والمرسل
الصحيح من الحديث: هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة قادحة.
فما لم يكن متصلًا ليس بصحيح، ولا تقوم به الحجة. ومن ذلك المرسل، وهو أن يترك التابعي.

(1/172)

الواسطة بينه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويقول قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا اصطلاح جمهور أهل الحديث.
وأما جمهور أهل الأصول فقالوا: المرسل، قول من لم يلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان من التابعين أو من تابعي التابعين أو ممن بعدهم.
وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحا،ً ولا مشاحة فيه لكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث فذهب الجمهور إلى ضعفه، وعدم قيام الحجة به لاحتمال أن يكون التابعي سمعه من بعض التابعين فلم يتعين أن الواسطة صحابي لا غير حتى يقال قد تقرر أن الصحابة عدول فلا يضر حذف الصحابي، وأيضًا يحتمل أنه سمعه من مدع يدعي أن له صحبة ولم تصح صحبته.
وذهب جماعة منهم أبو حنيفة، وجمهور المعتزلة، واختاره الآمدي إلى قبوله وقيام الحجة به، حتى قال بعض القائلين بقبول المرسل: إنه أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته ولهذا أرسله وهذا غلو خارج عن الإنصاف.
والحق عدم القبول لما "ذكرنا"* من الاحتمال.
قال الآمدي: وفصل عيسى بن أبان، فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين دون من عداهم ولعله يستدل على هذا بحديث "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" 1، وقيل هذا من قال به بأن يكون "ذلك"** الراوي من أئمة النقل، واختاره ابن الحاجب فإنه قال: فإن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا.
قال ابن عبد البر: لا خلاف "في"*** أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز، يرسل عن غير الثقات، قال: وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار2 أو أبو أمامة بن سهل بن حنيف3، أو
__________
* في "أ": ذكرت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ "خير الناس قرني" : في الأيمان باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله "6658" ومسلم في الفضائل باب فضل الصحابة "2533" وأحمد في مسنده "1/ 434"، والترمذي في المناقب، باب ما جاء في فضل من رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه "3859" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في الأحكام باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد "2362" وابن حبان في صحيحه "4330".
2 ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أبوه من الطلقاء، حدث عن عمر، وعثمان، وعلي، وكعب، وطائفة، كان من فقهاء قريش وعلمائهم، وهو ثقة، قليل الحديث مات في خلافة الوليد بن عبد الملك. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 514"، تهذيب التهذيب "7/ 36"، الجرح والتعديل "5/ 329".
3 الأنصاري الأوسي المدني، الفقيه، المعمر، الحجة، واسمه أسعد باسم جده لأمه، ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه فيما قيل، توفي سنة مائة هـ، على ما اتفقوا عليه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 517"، تهذيب التهذيب "1/ 263".

(1/173)

عبد الله بن عامر بن ربيعة1 ومن كان مثلهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب2 وسالم بن عبد الله3 وأبي سلمة بن عبد الرحمن4 والقاسم بن محمد5 ومن كان مثلهم وكذلك علقمة6 ومسروق بن الأجدع7 والحسن8 وابن سيرين والشعبي9
__________
1 هو أبو عبد الرحمن الأموي، الذي افتتح إقليم خراسان، رأى سيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ابن خال سيدنا عثمان، ولي البصرة لعثمان، تزوج بهند بنت معاوية، توفي سنة تسع وخمسين هـ، فقال معاوية: بمن نفاخر وبمن نباهي بعده. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 18"، تهذيب التهذيب "5/ 272".
2 هو ابن حزن بن أبي وهب المخرومي، القرشي، أبو محمد، سيدنا التابعين، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب، وأقضيته، حتى سمي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 217"، تهذيب التهذيب "4/ 84"، الأعلام "3/ 102".
3 هو ابن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، الإمام الزاهد، الحافظ، مفتي المدينة، أبو عمر، وأبو عبد الله، القرشي العدوي المدني، توفي بالمدينة سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 457"، الأعلام "3/ 71"، تهذيب التهذيب "3/ 436"، شذرات الذهب "1/ 133".
4 القرشي الزهري، الحافظ، أحد الأعلام بالمدينة، قيل: اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، ولد سنة بضع وعشرين هـ، وتوفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ، في خلافة الوليد، كان قاضيًا في إمارة سعيد بن العاص على المدينة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 287"، تهذيب التهذيب "12/ 115"، تذكرة الحفاظ "1/ 59".
5 حفيد أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الإمام القدوة، الحافظ الحجة، ولد في خلافه علي رضي الله عنه، واختلف في وفاته، فقيل سنة خمس ومائة هـ، وقيل سبع وقيل اثنتي عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 53"، تهذيب التهذيب "8/ 333"، شذرات الذهب "1/ 135".
6 هو ابن قيس بن عبد الله، فقيه الكوفة، وعالمها ومقرئها، الإمام، الحافظ المجود، المجتهد الكبير، أبو شبل، ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وعداده في المخضرمين، وتوفي سنة اثنتين وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 53"، تهذيب التهذيب "7/ 276"، شذرات الذهب "1/ 70".
7 هو ابن مالك بن أمية الإمام، القدوة، العلم، أبو عائشة الوداعي الهمذاني، عداده في كبار التابعين والمخضرمين الذين أسلموا في حياة سيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي سنة اثنتين وستين وقيل ثلاث وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 63"، تذكرة الحفاظ "1/ 49"، شذرات الذهب "1/ 71".
8 هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، مولى زيد بن ثابت، له كتاب في "فضائل مكة"، توفي بالبصرة سنة عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 563"، الأعلام "2/ 226"، شذرات الذهب "1/ 136"، تهذيب التهذيب "2/ 236".
9 هو عامر بن شراحيل الشعبي، علامة عصره، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد سنة تسع عشرة هـ، في الكوفة، وتوفي فيها سنة ثلاث ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "4/ 294"، الأعلام "3/ 251"، تذكرة الحفاظ "1/ 79"، شذرات الذهب "1/ 126".

(1/174)

وسعيد بن جبير1 ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة، ومجالستهم ونحوه مرسل من دونهم كحديث الزهري وقتادة2، وأبي حازم3، ويحيى بن سعيد4 عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسمى مرسلًا، كمرسل كبار التابعين، وقال آخرون: حديث هؤلاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمى منقطعًا؛ لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين انتهى.
وفي هذا التمثيل نظر فأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر معدودان في الصحابة.
وأيضًا قوله في آخر كلامه: أن الزهري، ومن ذكر معه لم يلقوا إلا الواحد والاثنين من الصحابة غير صحيح فقد لقي الزهري أحد عشر رجلًا من الصحابة.
قال ابن عبد البر أيضًا، وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة يجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء، قال طائفة من أصحابنا: مراسيل الثقات مقبولة بطريق أولى واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته.
قال: والمشهور أنهما سواء في الحجة؛ لأن السلف فعلوا الأمرين قال وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي5 وأبو بكر الأبهري وهو قول أبي جعفر الطبري، وزعم
__________
1 الكوفي المقرئ الفقيه، أحد الأعلام، المفسر، الحافظ، الشهيد، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ولد في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه، توفي سنة خمس وتسعين شيهدًا على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 231"، تذكرة الحفاظ "1/ 76"، شذرات الذهب "1/ 108".
2 هو قتادة بن دعامة، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه، ولد سنة ستين هـ، جاء إلى سعيد بن المسيب ومكث عنده ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتحل يا أعمى فقد أنزفتني "أي أخذت علمي كله". توفي سنة ثماني عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 269"، شذرات الذهب "1/ 153".
3 هو سلمة بن دينار، المخزومي، المديني، الإمام القدوة، الأعرج، ولد في أيام الزبير، روى عن سعيد بن المسيب، ووثقه ابن معين، وروى عنه ابن عيينة، وتوفي سنة أربعين ومائة، وكانت أمه رومية وهو فارسي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 96"، تذكرة الحفاظ "1/ 133".
4 هو ابن قيس بن عمرو، الإمام، العلامة المجود، عالم المدينة في زمانه، تلميذ الفقهاء السبعة، سمع من أنس بن مالك، وأبي أمامة بن سهل، توفي سنة ثلاث وأربعين هـ، ولي قضاء المنصور، ومات بالهاشمية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 468"، تهذيب التهذيب "11/ 221"، شذرات الذهب "1/ 212".
5 هو عمر "أبو عمرو" بن محمد الليثي، البغدادي "أبو الفرج"، لغوي فقيه، أصولي، أصله من البصرة نشأ ببغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هـ وقيل إحدى وثلاثين هـ، من آثاره: "الحاوي في مذهب مالك". "اللمع في أصول الفقه" اهـ. معجم المؤلفين "8/ 12".

(1/175)

الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين انتهى.
ويجاب عن قوله من أرسل مع علمه ودينه
وثقته فقد قطع لك بصحته أن الثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة عملًا بالظاهر ويعلم غيره من حاله ما يقدح فيه والجرح مقدم على التعديل ويجاب عن قول الطبري إنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة "صحيحه" عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة محتجًا به في الصحيحين وبما نقله مسلم أيضًا عن ابن سيرين أنه قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ عنهم وإلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم.
ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم1: أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب، وعن مالك بن أنس، وجماعة من أهل الحديث، ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي. وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره.
قال الخطيب: لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه كرواية سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير2 ومحمد بن المنكدر3 والحسن البصري وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه قيل: هو مقبول إذا كان المرسل ثقة عدلًا، وهو قول مالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق وغيرهم.
وقال الشافعي: لا يجب العمل وعليه أكثر الأئمة.
واختلف مسقطو العمل بالمرسل في قبول رواية الصحابة خبرًا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمعه
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الإمام الحافظ، العلامة النيسابوري الناقد، شيخ المحدثين، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعمائة هـ، له تآليف تبلغ نحو "1500" مؤلفًا، منها: "تاريخ نيسابور" "المستدرك على الصحيحين" "الإكليل" "المدخل". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 162"، معجم المؤلفين "10/ 238"، الأعلام "6/ 227".
2 هو ابن حواري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمته صفية: ابن الزبير بن العوام. عالم المدينة، أبو عبد الله القرشي، أحد الفقهاء السبعة، ولد سنة ثلاث وعشرين وتوفي سنة ثلاث وتسعين هـ، من كلامه: رب كلمة ذل احتملتها فأورثتني عزًّا طويلًا ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 421"، تهذيب التهذيب "7/ 180"، شذرات الذهب "1/ 103".
3 هو ابن عبد الله، الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبد الله القرشي التيمي المدني، ولد سنة بضع وثلاثين هـ، حدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلمان وعائشة وغيرهم، وتوفي سنة ثلاثين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 353"، شذرات الذهب "1/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 127".

(1/176)

منه، كقول أنس بن مالك ذكر لي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمعاذ: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة" الحديث1، فقال بعض من لا يقبل مراسيل الصحابة: لا نشك في عدالتهم، ولكنه قد يروي الراوي عن تابعي أو عن أعرابي لاتعرف صحبته ولو قال: لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي لوجب علينا قبول مرسله.
وقال آخرون: مراسيل الصحابة كلهم مقبولة، لكون جميعهم عدولًا، وأن الظاهر فيما أرسلوه أنهم سمعوه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من صحابي سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأما ما رووه عن التابعين فقد بينوه، وهو أيضًا قليل نادر لا اعتبار به، قال: وهذا هو الأشبه بالصواب ثم رجح عدم قبول مراسيل غير الصحابة فقال: والذي نختاره سقوط فرض الله بالمرسل بجهالة راويه ولا يجوز قبول الخبر إلا عمن عرفت عدالته ولو قال المرسِل: حدثني العدل الثقة عندي بكذا لم يقبل حتى يذكر اسمه.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك في كتاب العلم باب من خص بالعلم قومًا دون قوم برقم "129". ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه في الإيمان باب من مات لا يشرك بالله دخل الجنة "93". وأحمد في مسنده 3/ 344. وعبد بن حميد في مسنده برقم "1063" "1060".

(1/177)

حكم الحديث المنقطع والمعضل:
مسألة: ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع، وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة ولا بالمعضل، وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات، ولا عبرة بكون الراوي لما هذا حال ثقة متثبتًا؛ لأنه قد يخفى عليه من حال من يظنه ثقة ما هو جرح فيه.
ولا تقوم الحجة أيضًا بحديث يقول فيه بعض رجال إسناده: عن رجل، أو عن شيخ، أو عن ثقة أو نحو ذلك، لما ذكرنا من العلة، وهذا مما لا ينبغي أن يخالف فيه أحد من أهل الحديث ولا اعتبار بخلاف غيرهم؛ لأن من لم يكن من أهل الفن لا يعرف ما يجب اعتباره.

(1/177)

فصل: طرق ثبوت العدالة
مدخل
...
فصل: طرق ثبوت العدالة
وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها، وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها: الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاشرة والمعاملة، فإذا لم يعثر عليه "على"* فعل كبيرة، ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/177)

فهو ثقة، وإلا فلا.
ثم التزكية، وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب، ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله، ويكفي أن يقول: هو عدل.
قال القرطبي: لا بد أن يقول "هو"* عدل رضي، ولا يكفي الاقتصار على أحدهما، ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال، وأما التعديل من واحد فقط، فقيل: لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة، وحكاه القاضي أبو بكر، عن أكثر الفقهاء، قال الأبياري: وهو قياس مذهب مالك، وقيل: يقبل.
قال القاضي: والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي، ذكرًا أو أنثى، حرًا أو عبدًا، شاهدًا أو مخبرًا، وقيل: يشترط في الشهادة اثنان، ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل، وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح: وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره؛ لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة، وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول "قولها"** لها فيهما كما "تقبل"***روايتها وشهادتها انتهى.
ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن "يتمكن"**** من اختيار أحوال من زكته، كأن تكون ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له "امرأة"***** مثلها، ويدل على هذا سؤاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة1.
وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته، كذا قال الجويني، والقاضي أبو بكر، وغيرهما، قال القاضي: وهو أقوى من تزكيته باللفظ. وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا،
__________
* في "أ": هذا.
** في "أ": قومه لها.
*** في "أ": يقبل.
**** في "أ": تمكن.
***** في "أ": له مثلها.
__________
1 أخرجه البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا "2661". ومسلم في التوبة، باب حديث الإفك "2770". وأبو يعلى في مسنده "4927". وعبد الرزاق في المصنف "9748". وابن حبان في صحيحه "4212". والطبراني في المعجم الكبير "23/ 134".

(1/178)

قال: لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده، وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد: وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعمله بالشهادة ظاهرًا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنًا.
ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي.
قال ابن الصلاح: وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في أصول الفقه، وممن ذكره من المحدثين الخطيب "ونقله عن"* مالك، وشعبة، والسفيانين1، وأحمد، وابن معين، وابن المديني2 وغيرهم قال القاضي أبو بكر: الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة "الرضا"** وكأن أمرهما متشكلًا ملتبسًا، وصرح بأن الاستفاضة أقوى من "تزكية"*** الواحد والاثنين.
قال ابن عبد البر: كل حامل علم معروف العناية به، فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" 3، وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة، وهذا الحديث رواه العقيلي في "ضعفائه"4 من جهة ابن رفاعة السلامي5 عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري6 وقال: لا
__________
* في "أ": ومثله بنحو مالك.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": تقويه.
__________
1 وهما سفيان الثوري الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "141"، وسفيان بن عيينة الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "167".
2 وهو الإمام علي بن المدني بن عبد الله، أبو الحسن، أحد الأعلام، الحافظ، سمع من حماد بن زيد، قال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وقال ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 41"، شذرات الذهب "2/ 81"، تهذيب التهذيب "7/ 349".
3 أخرجه البزار في كتاب العلم برقم "86" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما "601".
4 هو محمد بن عمرو بن موسى، العقيلي، الإمام الحافظ، الناقد، أبو جعفر، كان جليل القدر، عظيم الخطر، كان كثير التصانيف، من آثاره:"كتاب الضعفاء"، توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 236"، تذكرة الحفاظ "3/ 833".
5 هو معان بن رفاعة، السلامي، الدمشقي، وقيل الحمصي، وثقه ابن المديني، وقال الجوزجاني: ليس بحجة، وهو صاحب حديث ليس بمتقن. ا. هـ. روى عن إبراهيم العذري وعن الخراساني. ا. هـ. تهذيب التهذيب "10/ 182"، الكامل في الضعفاء "6/ 328"، ميزان الاعتدال "4/ 134".
6 تابعي مقل في الرواية، قال صاحب لسان الميزان: ما علمته واهيًا، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وذكره باسم العبدي. ا. هـ. ميزان الاعتدال "1/ 45".

(1/179)

يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب "العلل"1: سئل أحمد عن هذا الحديث. فقيل له: ترى أنه موضوع؟ فقال: لا هو صحيح. قال ابن الصلاح: وفيما قاله اتساع غير مرضي.
ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي في "التقريب"* والغزالي في المنخول.
وقال الجويني فيه أقوال:
أحدها: أنه تعديل له.
والثاني: أن ليس بتعديل.
والثالث: قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر. ووافق "عمله"** الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل، واختار هذا القاضي في التقريب.
قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا "عمل"*** بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر، وقال الغزالي: إن أمكن حمله عمله"**** على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل، وكذا قال إلكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر، فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لاعتضاده بذلك فليس بتعديل.
ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": عليه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": حمله على.
__________
1 هو أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر البغدادي الخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الجامع في الفقه" "العلل" "السنة وألفاظ أحمد والدليل على ذلك من الأحاديث"، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، وهو شيخ الحنابلة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 297"، شذرات الذهب "2/ 261"، الأعلام "1/ 206".

(1/180)

سعيد القطان، وشعبة، ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني، وابن القشيري والغزالي، والآمدي والصفي الهندي، وغيرهم. قال الماوردي: هو قول "الحذاق"*، ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورًا بينًا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهورًا بينًا فليس بتعديل فإن كثيرًا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها، ومن هذه الطريقة قولهم: رجاله رجال الصحيح وقولهم: روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما.
__________
* في "أ": الحذق.

(1/181)

فرع: الخلاف في عدالة المبهم
اختلف أهل العلم في تعديل المبهم، كقولهم: حدثني الثقة أو حدثني العدل، فذهب جماعة إلى عدم قبوله، ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ والماوردي، والروياني، وقال أبو حنيفة: يقبل، والأول أرجح لأنه وإن كان عدلًا عنده فربما لو سماه "لكان"* مجروحًا عند غيره، قال الخطيب: لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمعه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضي مقبول الحديث، كان هذا القول تعديلًا لكل من روى عنه وسماه كما سبق. انتهى.
ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة: حدثني الثقة، وكذا كان يقول مالك، وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه، أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه.
قال أبو حاتم: إذا قال الشافعي: أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب1، فهو ابن أبي فديك2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان3 وإذا قال: أخبرني الثقة عن
__________
* في "أ": كان.
__________
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، شيخ الإسلام، أبو الحارث القرشي العامري، المدني، الفقيه، من آثاره: كتاب كبير في "السنن"، توفي سنة وثمان وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 139"، شذرات الذهب "1/ 245"، تهذيب التهذيب "9/ 303".
2 هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، واسمه دينار الديلي، الإمام الثقة، المحدث، توفي سنة مائتين هـ، وقيل سنة تسع ومائتين هـ، له أحاديث بأسانيد عالية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 486"، شذرات الذهب "1/ 359" تهذيب التهذيب "9/ 61".
3 هو يحيى بن حسان، الإمام الحافظ، القدوة، أبو زكريا، البصري، وقيل المصري، أصله من دمشق، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما، توفي سنة ثمانٍ ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 127"، تهذيب التهذيب "11/ 197"، والجرح والتعديل "9/ 135".

(1/181)

الوليد بن كثير1، فهو [أبو أسامة2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الأوزاعي فهو]* عمرو بن أبي سلمة3، وإذا قال: أخبرني الثقة عن ابن جريح4، فهو مسلم بن خالد الزنجي5، وإذا قال: أخبرني الثقة عن صالح مولى التوءمة6، فهو إبراهيم بن أبي يحيى7.
__________
* زيادة ضرورية استدركناها عن هامش النسخة "ب".
__________
1 أبو محمد المخزومي، المدني، الحافظ، كان أخباريًّا، علامة، ثقة، بصيرًا بالمغازي، حدث عن الأعرج وبشير بن يسار وغيرهما، وحدث عنه ابن عيينة والواقدي وجماعة، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 63"، تهذيب التهديب "11/ 148"، شذرات الذهب "1/ 231".
2 هو حماد بن أسامة بن زيد، الكوفي، الحافظ، الثبت، كان من أئمة العلم، توفي سنة إحدى ومائتين هـ، وهو ابن ثمانين سنة فيما قبل. وحديثه في جميع الصحاح والدواوين. انظر: الجرح والتعديل: "2/ 132"، ميزان الاعتدال: "1/ 588"، سير أعلام النبلاء "9/ 277".
3 أبو حفص التنيسي الإمام، الحافظ، الصدوق، دمشقي سكن تنيس فنسب إليها، حدث عن الأوزاعي ومالك بن أنس وجماعة، وحدث عنه أبو عبد الله الشافي وابن محمد المسندي وجماعة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع عشرة ومائتين هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "10/ 213"، الجرح والتعديل "6/ 235".
4 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام، العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو خالد صاحب التصانيف، أول من دون العلم بمكة، توفي سنة خمسين ومائة هـ، ولد هو وأبو حنيفة في عام واحد وماتا في عام واحد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 325"، الجرح والتعديل "5/ 356"، تهذيب التهذيب "6/ 402".
5 هو الإمام الفقيه، أبو خالد، فقيه مكة، المخزومي، ولد سنة مائة هـ، حدث عن الزهري، وعمرو بن دينار وجماعة، وحدث عنه الحميدي، ومسدد وجماعة، توفي سنة ثمانين ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "8/ 177"، الجرح والتعديل "8/ 183"، تهذيب التهذيب "10/ 128".
6 هو صالح مولى التوءمة، المدني، وقد توفي سنة خمس وعشرين ومائة هـ، بعد أن هرم وخرف، لقيس أبا هريرة وجماعة. ا.هـ شذرات الذهب "1/ 166"، تهذيب التهذيب "4/ 408".
7 هو أبو إسحاق الأسلمي، الشيخ، العالم، المحدث، أحد الأعلام المشاهير، الفقيه ولد سنة مائة هـ، من آثاره: "الموطأ" وهو كتاب كبير أضعاف موطأ الإمام مالك، له أحاديث في مسند الشافعي، وتوفي سنة أربع وثمانين ومائة هـ, ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 450"، الجرح والتعديل "2/ 125"، تهذيب التهذيب "1/ 158.

(1/182)

فرع آخر: الخلاف في قبول الجرح والتعديل من دون ذكر السبب
هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا؟

(1/182)

فذهب جماعة إلى أنه لا بد من ذكر السبب فيهما، وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما، إذا كان بصيرًا بالجرح والتعديل، واختار هذا القاضي أبو بكر، وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح "فلا يقبل إلا بذكر السبب؛ لأن أسباب التعديل كثيرة فيشق ذكرها"* بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد، وأيضًا سبب الجرح مختلف فيه، بخلاف سبب التعديل، وإلى هذا ذهب الشافعي.
قال القرطبي: وهو الأكثر من قول مالك، قال الخطيب: وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم، وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب، ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب، قالوا: لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة؛ لتسارع الناس إلى الظاهر، والحق أنه لا بد من ذكر السبب في الجرح والتعديل؛ لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحًا وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلًا، ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع، فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه، وعلى خلاف ما يعتقده، وإن كان حقًّا وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه، وعلى ما يعتقده، وإن كان في الواقع مخالفًا للحق كما وقع ذلك كثيرًا.
وعندي: أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين. والتعديل المعمول به: هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه، وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف.
فإن قلت: إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح: ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف، فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا؟ قلت: يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن "كتهذيب الكمال" للمزي1 وفروعه وكذا "تاريخ الإسلام"2،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "تهذيب الكمال في معرفة الرجال" للحافظ يوسف بن الزكي المزي، و"الكمال في معرفة الرجال"، للإمام محب الدين بن النجار محمد بن محمود البغدادي.
2 وهو المعروف بـ"تاريخ الذهبي"، للإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الدمشقي، وهو تاريخ كبير، على السنوات، جمع فيه بين الحوادث والوفيات وانتهى إلى آخر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة هـ، ا. هـ. كشف الظنون "1/ 294".

(1/183)

و"تاريخ النبلاء"1، و"الميزان" للذهبي2.
__________
1 وهو "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، وهو من جملة ما اختصره من تاريخه الكبير، مرتبًا على التراجم بحسب الوفيات، وله عليه ذيل، وسماه صلاح الدين الصفدي وابن دقماق "بتاريخ النبلاء"، وابن شاكر الكتبي "بتاريخ العلماء النبلاء" وتاج الدين السبكي "كتاب النبلاء" أما "سير أعلام النبلاء" فقد جاء مخطوطًا على طرر المجلدات. ا. هـ.
كشف الظنون "2/ 1015"، سير أعلام النبلاء المقدمة 91.
2 واسمه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الحافظ الذهبي، وهو مجلدان، وهو كتاب جليل في إيضاح نقله العلم، وألفه كتابه "المغني" وزاد عليه زيادات حسنة من الرواة المذكورين في الكتاب المذيل على الكامل لابن عدي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1917".

(1/184)

فرع ثالث: تعارض الجرح والتعديل والجمع بينهما
وفيه أقوال:
القول الأول:
أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي، ونقل القاضي فيه الإجماع، قال الرازي والآمدي وابن الصلاح: إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل، قال ابن دقيق العيد: وهذا إنما يصح على قول من قال إن الجرح لا يقبل إلا مفسرًا. وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أنه قد تاب منها، فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل؛ لأن معه زيادة علم.
القول الثاني:
أنه يقدم التعديل على الجرح؛ لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا، والمعدل إذا كان عدلًا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحًا، حكى هذا الطحاوي1 عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولا بد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل؛ إذ لو كان الجرح مفسرًا لم يتم ما علل به من أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا إلخ.
القول الثالث:
أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين.
قال في "المحصول": وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد.
القول الرابع:
أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول
__________
1 أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، أبو جعفر، فقيه، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين هـ، في طحا بمصر، وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "مشكل الآثار" "بيان السنة".ا. هـ. الجواهر المضية "1/ 102"، معجم المؤلفين "2/ 107".

(1/184)

ابن الحاجب وقد جعل القاضي في "التقريب" محل الخلاف فيما إذا كان "عدد"* المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في "الكفاية"1 وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري فقال: محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال: فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل: العدالة في هذه الصورة أولى انتهى.
والحق الحقيق بالقبول: أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لا بد من التفسير في الجرح والتعديل، فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح، وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل؛ لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضًا حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل
__________
* في: "أ" عدم وهو تحريف.
__________
1 واسمه: "الكفاية في معرفة أصول الرواية"، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1499".

(1/185)

فصل: عدالة الصحابة
القول الأول:
اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي، إنما هو في غير الصحابة، فأما فيهم فلا؛ لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين، قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف، وقال الجويني بالإجماع.
ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابًا وسنة، كقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 2 أي: عدولا وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين} 3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} 4*، وقوله:
__________
* في "أ": و{وَالسَّابِقُونَ} فقط.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "143" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "18" من سورة الفتح.
4 جزء من الآية "100" من سورة التوبة.

(1/185)

{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير القرون قرني" 2، وقوله في حقهم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه" 3 وهما في الصحيح، وقوله: "أصحابي كالنجوم" 4 على مقال فيه معروف.
قال الجويني: ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت التوقف في روايتهم، لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار.
قال إلكيا الطبري: وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد، والمخطئ معذور بل مأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز5: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا.
القول الثاني:
أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم، فيبحث عنها، قال أبو الحسين بن القطان: فوحشي قتل حمزة وله صحبة، والوليد6 شرب الخمر، فمن ظهر عليه خلاف العدالة
__________
1 جزء من الآية "29" من سورة الفتح.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "173".
3 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري في فضائل الصحابة، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنت متخذًا خليلًا" "3637". ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة "2541"، وأحمد في المسند "3/ 54". والترمذي، كتاب المناقب،باب "59" برقم "3861". والنسائي، كتاب فضائل الصحابة "203". وابن حبان في صحيحه "7255". والبغوي في شرح السنة "3859". والطيالسي "2183".
4 أخرجه ابن عدي في الكامل، "2/ 376"، وعبد بن حميد في المسند "المنتخب ص250" وابن عبد البر في جامع بيان العلم "2/ 90"، وحكم عليه الحافظ الذهبي بالوضع واتهم بعض رواة الأسانيد انظر الميزان "1/ 413"، "2/ 102". ووهن الحافظ ابن حجر، جميع طرقه، ونقل عن ابن حزم قوله: هذا خبر مكذوب موضع باطل. وعن البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا. هـ. التلخيص الحبير "4/ 191". ويغني عنه ما في مسلم: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال: صلينا المغرب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء... فقال: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رقمه "2531".
5 هو ابن مروان بن الحكم، كان من أئمة الاجتهاد، وبعد خامس الخلفاء الراشدين، ولي إمارة المدينة في عهد الوليد، دامت خلافته سنتين وستة أشهر وأيام. كخلافة الصديق، توفي سنة إحدى ومائة هـ، ودفن بدير سمعان من أرض المعرة ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 114"، شذرات الذهب "1/ 119".
6 هو الخليفة، أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي، الذي أنشأ جامع بني أمية، بويع بعهد من أبيه، فتح بوابة الأندلس وبلاد الترك، قيل: كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة، توفي سنة ست وتسعين هـ.ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 347"، شذرات الذهب "1/ 111".

(1/186)

لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي؛ لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة. انتهى.
وهذا كلام ساقط جدًّا فوحشي قتل حمزة، وهو كافر ثم أسلم، وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله، بلا خلاف.
وأما قوله: والوليد ليس بصحابي إلخ، فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابيًّا عن صحبته.
قال الرازي في "المحصول": وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم، على ما نقله "الجاحظ"* عنه في كتاب "الفتيا"1، ونحن نذكر ذلك مجملًا ومفصلًا، أما مجملًا فإنه روى من طعن بعضهم في بعضٍ أخبارًا كثيرة يأتي تفصيلها، وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبًا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا.
والجواب مجملًا: أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة، وبراءتهم عن المطاعن، وإذا كان كذلك، وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه.
القول الثالث:
أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا أي: من الطرفين؛ لأن الفاسق من الفريقين غير معين، وبه قال عمرو بن عبيد2 من المعتزلة، وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وأيضًا فيه أن الباغي من الفريقين غير معي وهو معين بالدليل الصحيح وأيضًا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين.
القول الرابع:
أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليًّا، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة،
__________
* في "أ": الحافظ: وهو الصواب لأننا لم نعثر على كتاب اسمه الفتيا للجاحظ.
__________
1 انتشرت مقدمة رسالة "الفتيا" للجاحظ في الجزء الأول من مجموعة رسائله التي حققها عبد السلام هارون، أما الرسالة نفسها فتعتبر بحكم المفقودة.
2 هو الزاهد، العابد، القدري، شيخ المعتزلة، وأولهم، أبو عثمان البصري، قال حفص بن غياث: ما رأيت أزهد منه وانتحل ما انتحل. وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه، مات بطريقه إلى مكة سنة ثلاث وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 104"، تهذيب التهذيب "8/ 30"، شذرات الذهب "1/ 210".

(1/187)

ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جرأة على الله وتهاونًا بدينه، وجناب الصحابة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب، ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلًا عامًّا بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء "على..."* والتأويل لما يقتضي خلافه.
القول الخامس: أن من كان مشتهرًا منهم بالصحبة، والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته، دون من قلت صحبته، ولم يلازم، وإن كانت له رواية، كذا قال الماوردي، وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليلًا ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم، قال المزي: إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق، وقال الأبياري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم، وإنما المراد: قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح، وما "صح"** فله تأويل صحيح. انتهى.
وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة، علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم.
__________
* في هامش "أ" قال كذا بالأصل وظاهره سقوطه ولعل الأصل على عموم التعديل.
** في "أ": يصح.

(1/188)

فرع: التعريف بالصحابي
إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول، فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة، وقد اختلفوا في ذلك.
فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ولو ساعة، سواء روى عنه أم لا.
وقيل: هو من طالت صحبته، وروى عنه، فلا يستحق اسم الصحبة إلا من "جمع"* بينهما.
وقيل: هو من ثبت له أحدهما إما طول الصحبة أو الرواية.
والحق ما ذهب إليه الجمهور، وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته.
__________
* في "أ": يجمع.

(1/188)

فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل أو الرؤية ولو مرة.
وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة فصاعدًا، أو الغزو معه، روي ذلك عن سعيد بن المسيب.
وقيل: ستة أشهر، ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة، الذين رووا عنه ولم يبقوا لديه إلا دون ذلك.
وأيضًا: لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع.
وحكى القاضي عياض عن الواقدي1 أنه يشترط أن يكون بالغًا، وهو ضعيف لاستلزامه "خروج"* كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبلغوا إلا بعد موته.
ولا تشترط الرؤية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة.
وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي، ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم لا يطلب تعديل أحد منهم، ومن اشترط في شروط الصحبة شرطًا لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي.
__________
* في "أ": لخروج.
__________
1 هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، العلامة، أبو عبد الله، أحد أوعية العلم، ولد بعد سنة عشرين ومائة هـ، سمع من صغار التابعين، قال عنه الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، توفي سنة سبع ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 454"، شذرات الذهب "2/ 18"، تهذيب التهذيب "9/ 363".

(1/189)

فرع آخر: طرق معرفة الصحابي
...
فرع آخر: طريق معرفة الصحابي
ويعرف كون الصحابي صحابيًّا بالتواتر، والاستفاضة، وبكونه من المهاجرين، أو من الأنصار، وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة.
واختلفوا هل يقبل قوله: إنه صحابي أم لا؟
فقال القاضي، أبو بكر: يقبل؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب، إذا لم يروَ عن غيره ما

(1/189)

يعارض قوله، وبه قال ابن الصلاح، والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي، وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول. فقال: ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره. انتهى.
واعلم: أنه لا بد من تقييد قول من قال بقبول خبره إنه صحابي، بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة.

(1/190)

المقصد الثالث: الإجماع
الفصل الأول: في مسماه لغة واصطلاحا
...
المقصد الثالث: الإجماع
البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا
قال في "المحصول": الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين:
أحدهما: العزم. قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 1.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" 2.
وثانيهما: الاتفاق. يقال: أجمع القوم على كذا أي صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن، وأتمر إذا صار ذا لبن، وذا تمر. انتهى.
واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى، والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى، وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في "المقاييس"3 فإنه قال: يقال: أجمعت على الأمر إجماعًا وأجمعته.
وقد جزم بكونه مشتركًا بين المعنيين أيضًا الغزالي.
وقال القاضي: العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه.
وقال ابن برهان وابن السمعاني: الأول أي: العزم أشبه باللغة، والثاني أي: الاتفاق أشبه بالشرع. انتهى.
ويجاب عنه: بأن الثاني وإن كان أشبه بالشرع فذلك لا ينافي كونه معنى لغويا، وكون اللفظ مشتركًا بينه وبين العزم قال أبو علي الفارسي: يقال: أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال: ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر. وأما في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور.
__________
1 جزء من الآية "71" من سورة يونس.
2 أخرجه النسائي من حديث حفصة رضي الله عنها في كتاب الصيام باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك "2334" 4/ 197. والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل "730". وأبو داود كتاب الصيام باب النية في الصيام "2454". وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في فرض الصوم من الليل والخيار في الصوم "1700". والدارمي في سننه في كتاب الصيام باب من لم يجمع الصيام من الليل "1650". وابن خزيمة في صحيحه برقم "1933".
3 واسمه: "مقاييس اللغة"، لأحمد بن فارس بين زكريا، وهو كتاب كما وصفه ياقوت الحموي: كتاب جليل، لم يصنف مثله، ويعني ابن فارس بكلمة مقاييسه "الاشتقاق الكبير"، الذي يرجع مفردات كل مادة إلى معنى أو معانٍ تشترك فيها هذه المفردات. ا. هـ. مقاييس اللغة مقدمة النشر.

(1/193)

والمراد بالاتفاق الاشتراك: إما في الاعتقاد أو في القول، أو في الفعل.
ويخرج بقوله: مجتهدي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتفاق العوام، فإنه لا عبرة بوفاتهم ولا بخلافهم. ويخرج منه أيضًا اتفاق بعض المجتهدين.
وبالإضافة إلى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج اتفاق الأمم السابقة.
ويخرج بقوله بعد وفاته الإجماع في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا اعتبار به.
ويخرج بقوله في عصر من الأعصار ما يتوهم من أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة فإن هذا توهم باطل؛ لأنه يؤدي إلى عدم ثبوت الإجماع؛ إذ لا إجماع يوم القيامة وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع.
والمراد بالعصر عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهدًا بعد حدوثها وإن كان المجتهدون فيها أحياء.
وقوله: على أمر من الأمور يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات، واللغويات.
ومن اشترط في حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد الانقراض.
ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر، زاد في الحد قيد عدم كونه مسبوقًا بخلاف.
ومن اشترط عدالة المتفقين أو بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك.

(1/194)

الفصل الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه
...
البحث الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه
المقام الأول:
فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة: بإحالة إمكان الإجماع.
قالوا: إن اتفاقهم على الحكم الواحد، الذي لا يكون معلومًا بالضرورة محال، كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة، على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال.
وأجيب: بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا ثانيًا: إن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم، وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم.
وأجيب: بمنع كون الانتشار يمنع ذلك من جدهم في الطلب، وبحثهم عن الأدلة، وإنما

(1/194)

يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب.
قالوا ثالثًا: الاتفاق إما عن قاطع أو ظني وكلاهما باطل أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان لنقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد، كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع.
وأما الظني: فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار.
وأجيب: بمنع ما ذكر في القاطع؛ إذ قد يستغني عن نقله بحصول الإجماع، الذي هو أقوى منه.
وأما الظني فقد يكون جليًّا لا تختلف فيه الأفهام ولا تتباين فيه الأنظار، فهذا -أعني منع إمكان الإجماع في نفسه- هو المقام الأول.
المقام الثاني:
على تقدير تسليم إمكانه في نفسه منع إمكان العلم به.
فقالوا: لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيًّا، أو لا يكون وجدانيًّا.
أما الوجداني: فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته، وألمه ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس من هذا الباب.
وأما الذي لا يكون وجدانيًّا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها؛ إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق، ولا مجال أيضًا للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته، فإذًا العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعًا ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلًا عن اختبار أحوالهم، ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم، ومن لم يكن من أهله ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة، فضلًا عن الإقليم الواحد، فضلًا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام، ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلًا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها

(1/195)

وأيضًا: قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة، وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئًا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم.
وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع "عليه"* أهل بلدة أخرى بل لو فرضنا حتمًا اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع؛ لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفًا فيه وسكت تقية وخوفًا على نفسه.
وأما ما قيل: من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أراد الاتفاق باطنًا وظاهرًا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري، وإن أراد ظاهرًا فقط استنادًا إلى الشهرة والاستفاضة، فليس هذا هو المعتبر في الإجماع، بل المعتبر فيه: العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة، وأنه يدين الله بذلك ظاهرًا وباطنًا، ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا، فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذرًا ظاهرًا واضحًا.
ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى "وجود"** الإجماع فهو كاذب.
والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة فإن إنكاره على المنكر هو المنكر.
وفصل الجويني بين كليات الدين، فلا يمتنع الإجماع عليها وبين المسائل المظنونة قلا يتصور الإجماع عليها عادة.
ولا وجه لهذا التفصيل، فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة.
وجعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة، وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة، وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعلم به.
قال: وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة، وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ" وجوب.

(1/196)

الأمور النقلية. قال: والمنصف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبًا في الكتب، ومن البين أنه لا يحصل"الاطلاع"* إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة، وأما من بعدهم فلا. انتهى.
المقام الثالث: النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به
قالوا: لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيل؛ لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد، والعادة تحيل النقل تواترًا لبعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقًا وغربًا "ويسمعون"** ذلك منهم، ثم "ينقلونه"*** إلى عدد متواتر ممن بعدهم، ثم كذلك في كل طبقة إلى أن يتصل "بنا"****.
وأما الآحاد: فغير معمول به في نقل الإجماع كما سيأتي1.
وأجيب: بأنه تشكيك في ضروري للقطع بإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون، ولا يخفاك ما في هذا الجواب من المصادرة على المطلوب وأيضًا كون ذلك معلومًا ليس من جهة نقل الإجماع عليه، بل من جهة كون كل متشرع لا يقدم الدليل الظني على القطعي ولا يجوز منه ذلك لأنه إيثار للحجة الضعيفة على الحجة القوية، وكل عاقل لا يصدر منه ذلك.
المقام الرابع:
اختلف على تقدير تسليم إمكانه في نفسه وإمكان العلم به وإمكان نقله إلينا، هل هو حجة شرعية؟
فذهب الجمهور إلى كونه حجة.
وذهب النظام والإمامية، وبعض الخوارج إلى أنه: ليس بحجة، وإنما الحجة مستندة،
__________
* في "أ": الاطلاع عليه.
** في "أ": يسمعوا.
*** في "أ": ينقلوا.
**** في "أ": به.
__________
1 انظر صفحة: "210".

(1/197)

إن ظهر لنا، وإن لم يظهر لم نقدر للإجماع دليلًا تقوم به الحجة.
واختلف القائلون بالحجية، هل الدليل على حجيته العقل والسمع، أم السمع فقط؟
فذهب أكثرهم إلى أن الدليل على ذلك إنما هو السمع فقط، ومنعوا ثبوته من جهة العقل.
قالوا: لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة.
وقال جماعة منهم أيضًا: إنه لا يصح الاستدلال على ثبوت الإجماع بالإجماع، كقولهم: إنهم أجمعوا على تخطئة المخالف للإجماع؛ لأن ذلك إثبات للشيء بنفسه وهو باطل فإن قالوا: إن الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف ففيه إثبات الإجماع بنص يتوقف على الإجماع وهو دور.
وأجيب: بأن ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فلا دور ولا يخفاك ما في هذا الجواب من التعسف الظاهر.
ولا يصح أيضًا الاستدلال عليه بالقياس لأنه مظنون ولا يحتج بالمظنون على القطعي فلم يبق إلا دليل النقل من الكتاب والسنة.
فمن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1.
ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول وأتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحًا لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين "محظورة، ومتابعة غير سبيل المؤمنين"* عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين في الآية هو إجماعهم لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم في متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في مناصرته أو في الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال.
قال في "المحصول": إن المشاقة عبارة عن الكفر بالرسول وتكذيبه، وإذا كان كذلك لزم
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 آية "115" من سورة النساء.

(1/198)

وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول وذلك باطل؛ لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة.
ويجاب: بأن العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفًا بالجمع بين الضدين، وهو محال، ثم قال: لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حرامًا عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين، واجبًا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثًا وهو عدم الاتباع أصلًا.
سلمنا أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة، ولكن لا نسلم أنه ممتنع.
قوله: المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر، وإيجاب العمل عند حصول الكفر محال.
قلنا: لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر، بيانه: أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في الشق الآخر، وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغه.
سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلمَ قلتم: إن حصول الكفر ينافي العمل بالإجماع؟ فإن الكفر بالرسول كما يكون بالجهل بكونه صادقًا فقد يكون أيضًا بأمور أخر كشد الزنار1 ولبس الغيار2 وإلقاء المصحف في القاذورات، والاستخفاف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع الاعتراف بكونه نبيًّا وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيًّا وشيء من هذه الأنواع "كفر"* لا ينافي العلم بوجوب الإجماع.
ثم قال: سلمنا أن الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين، لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى أولًا. بهذا الشرط الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ لأنه ذكر مشاقة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدى شرطًا في التوعد على "اتباع"** غير سبيل المؤمنين "لأن ما كان شرطًا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطًا في المعطوف، واللام في الهدي للاستغراق، فليزم أن لا يحصل التوعد على"*** اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى، ومن جملة
__________
* في "ب": من الكفر.
** في "ب": متابعة.
*** مابين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الزنار: علامة للكفار، وهو خيط رفيع غليظ على أوساطهم خارج الثياب، وليس لهم إبداله بما يلطف كالمنديل "شفاء الغليل: 145".
2 الغيار: هو علامة للكفار كالزنار؛ وفي شرح المهذب: أن يخطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل، والأشبه أن لا تختص بالكتف "شفاء الغليل للخفاجي: 145".

(1/199)

أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة، "وأيضًا"* فالإنسان إذا قال لغيره: إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه، فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله، فكذا هنا وجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء وراء الإجماع، وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع فائدة.
سلمنا أنها تقتضي المنع "من"** متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن هل المراد عن كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك. الأول "ممتنع"*** وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ مفرد فلا يفيد العموم، وأما بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية: أن من اتبع كل ما كان مغايرًا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب، والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله وتكذيب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا التأويل متعين لوجهين:
"أحدهما"****: "أنا"***** إذا قلنا: لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين، ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء حتى الأكل والشرب.
والثاني: أن الآية نزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر.
"سلمنا خطر اتباع"****** غير سبيلهم مطلقًا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكًا ولا بد من صرفه إلى المجاز، وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة.
وأيضًا: فإنه لا يمكن جعله مجازًا عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شيء من الأحكام، وشرط حسن التجوز حصول المناسبة
__________
* في "أ": أيضًا.
** في "أ": عن.
*** في "أ": ممنوع.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": لأنا.
****** في "أ": الثاني أن الآية غير سبيلهم إلخ وهو تحريف كما هو في هامشها.

(1/200)

سلمنا أنه: يجوز جعله مجازًا عن ذلك الاتفاق، لكن يجوز أيضًا جعله مجازًا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشيء فإما أن يكون الإجماع عن استدلال "أو لا عن استدلال فإن كان عن استدلال"* فقد حصل لهم سبيلان: الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال؟ بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم، وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوكة توصل البدن إلى المطلوب هكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل موصلة للذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز.
وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال، بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة.
وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال فالقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع.
ثم قال: سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة، لكنها إما أن تدل على "وجوب"** متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق لأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة، والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين.
فإن قلت: المؤمنون هم المصدقون "وهم"*** والموجودون، وأما الذين لم يوجدوا بعد فليسوا المؤمنين.
قلت: إذا وجد أهل العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حضور أهل العصر الثاني. قولًا لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني.
سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين، لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت، وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

(1/201)

بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى بعد وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع، ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الاجماعات الموجودة في المسائل، بل المعلوم خلافه لأن كثيرًا منهم مات زمان حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسقط الاستدلال بهذه الآية.
ثم قال: سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة، لكن دلالة قطعية أم ظنية؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالأدلة الظنية.
قال: فإن قلت: إنا نجعل هذه المسألة ظنية.
قلت: إن أحدًا من الأئمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني، بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلًا أصلًا، ومنهم من جعله دليلًا قاطعًا فلو اثبتناه دليلًا ظنيًّا لكان هذا تخطئة لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع.
والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه العمومات لا يكفر، ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع، ومخالفه كافر وفاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة.
سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والعقل.
أما الكتاب: فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول "بالباطل"* والفعل الباطل كقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} 1 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلْ} 2؛ والنهي عن الشيء لا يجوز، إلا إذا كان المنهي عنه متصورا.
وأما السنة فكثير، منها: قصة معاذ فإنه لم يجر فيها ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدرجًا شرعيًّا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي" 3.
__________
* في "أ": الباطل.
__________
1 جزء من الآية "169" البقرة والآية "33" من سورة الأعراف.
2 جزء من الآية "188" من سورة البقرة.
3 أجرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، كتاب الإمارة، باب قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" "1924". وأخرجه الطبراني عن عقبة "17/ 870" عن أحمد بن رشدين عن أحمد بن صالح عن ابن وهب وأيضًا من طريق سعيد بن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب "17/ 869". وابن حبان في صحيحه "6836".

(1/202)
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" 1.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 2.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها أول ما ينسى" 3.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل" 4.
وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات.
وأما المعقول فمن وجهين:
--------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق