الأحد، 22 أبريل 2018

1. السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي 1(من 1-209.)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السيرة النبوية (لأبي الحسن الندوي)
مؤلف : أبو الحسن على الحسنى الندوى
وفاة : 1420 هـ
الناشر : دار ابن كثير - دمشق
سنة النشر : 1425
عدد الأجزاء : 1
تنبيه :
الكتاب : موافق للمطبوع

(1/4)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين يديّ الكتاب
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد خير من افتتحت بذكره الدّعوات ، واستنجحت بالصّلاة عليه الطّلبات ، وعلى آله الذين عظّمهم توقيرا ، وطهّرهم تطهيرا.
وبعد : فإنّنا نسعد بتقديم هذا الكتاب القيّم النفيس إلى القرّاء الكرام ، الذي نال قبولا عظيما ، وحفاوة بالغة عند كبار الدارسين والأساتذة الجامعيّين منذ أوّل يوم لصدوره ، والذين اهتمّوا به دراسة وتدريسا ، فسرعان ما أصبح الكتاب من أهمّ المراجع في السيرة النبوية. ويقدّر بمدى القبول له والإعجاب به لدى الناس أنّه قد نقل حتى الآن إلى أكثر من عشر لغات عالمية ، وأدخل كذلك في المقرّرات الدراسية في مختلف البلاد العربية والإسلامية.
وكيف لا .. فإنّه قد صدر من قلم رجل استقى عرقه من منبع النّبوّة ، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة ، وفقست بيضته من سلالة الطهارة ، وربّي منذ نعومة أظفاره على التعلّق بالسّيرة ، وحبّ صاحبها - عليه ألف ألف سلام - والاهتداء بهديه في الأمور كلّها ، فعاش في السيرة ، وعاشت فيه السيرة «1» وشكّلت عنصرا أساسيا في ثقافته وحياته. جمع في قراءتها بين ما كتب قديما وحديثا بالعربية والفارسية والأردوية وبالإنكليزية كذلك ، بحيث أصبحت (السّيرة) فيما بعد مادّة كتاباته ومحاضراته الأساس بصورة مباشرة أو غير مباشرة «2» ، وأصبح تفكيره متعلّقا بها ، ومنطلقا منها في توجّهاته وتوجيهاته ،
___________
(1) كما قال العلّامة يوسف القرضاوي في تقديمه لهذا الكتاب (في طبعة دار القلم بدمشق).
(1/1)
(2) يجد القارىء أجزاء كثيرة من السيرة النبوية تنتشر في ثنايا كثير من مؤلّفات العلّامة المؤلّف -

(1/5)


ص : 6
وأصبحت موضوعا محوريا في نتاجه الفكري ، تشيع في أرجائه ، وتنير مباحثه ، وما يثيره من أفكار وقضايا.
فلا غرابة إذا بعد هذا ... أن يكون لهذا الكتاب من القبول والتأثير ، والذيوع والانتشار ما لا يكون إلا لكتب كبار المخلصين ، والعلماء العاملين ، والدّعاة المجدّدين إذا كان مؤلّفه متّصفا بما ذكرناه.
قد صدر لهذا الكتاب عدّة طبعات ، ولكن الطبعة الأخيرة التي صدرت من المجمع الإسلامي العلمي بلكهنؤ (عام 1416 ه - 1995 م) ، تشتمل على إضافات قيمة للعلّامة المؤلّف ، فصدرت بعد هذه الطبعة طبعات لم يتناول فيها الناشرون تلك الإضافات «1» ، فراجت وشاعت دونها بين يدي القرّاء.
لذا أردنا في هذه الطبعة أن نعتني أوّلا بإلحاق جميع تلك الإضافات بهذه الطبعة مع العناية بالأمور التالية :
1 - مراجعة الكتاب وتصحيحه بشكل دقيق ، وذلك بالرجوع إلى جميع تلك المصادر والمراجع التي استفاد منها العلّامة المؤلّف - رحمه اللّه - .
2 - استكمال تخريج الأحاديث ، وتخريج ما لم يخرّج منها قبل - وهي كثيرة - بين المعقوفتين ( []).
3 - شرح الألفاظ الغريبة في حواشي الكتاب بين المعقوفتين - والذي رأيناه لزاما ، خاصة بعد ما أصبح الكتاب اليوم مقرّرا في كثير من المعاهد
___________
- رحمه اللّه - ومحاضراته ومقالاته المكتوبة أو المذاعة ، كما استعرضنا ذلك في محاضراته ومقالاته التي جمعناها بعنوان «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» و«مقالات إسلامية في الفكر والدعوة» والتي قد صدرت من دار ابن كثير بدمشق.
(1) استثناء منها ، طبعة دار القلم بدمشق الصادرة عام 1422 ه 2001 م ، وهي مشتملة على جميع الإضافات الجديدة ، ومتميّزة عن الطبقات السابقة علميا وفنيا.
(1/2)

(1/6)


ص : 7
الثانوية الشرعية في البلاد العربية - ليسهل على القارىء فهم واستيعاب الموضوعات دون الرجوع إلى معجم ما.
4 - إضافة (41) خريطة ملوّنة إلى الكتاب «1» ، توضّح للقارىء الكريم أحداث السيرة النبوية ، وتعينه على تصوّر أحداثها أثناء القراءة.
5 - ضبط الأسماء والأعلام قدر الضرورة ، والتعليق على ما دعت الحاجة إليه ، وهو كثير بين المعقوفتين.
6 - إضافة مقدّمة الباحث الإسلامي الكبير : الدكتور عماد الدين خليل إلى الكتاب ، التي كتبها للطبعة السابعة الخاصة بدار الشروق في جدّة (عام 1408 ه - 1987 م) ، ولكنها لم تطبع فيها بسبب ظروف فنية حالت دون ذلك.
7 - إضافة ترجمة مستوفاة للعلّامة المؤلّف إلى الكتاب تعرّف بشخصيته العبقرية ، ومكانته العلمية ومؤلّفاته النفيسة.
8 - إلحاق جداول للغزوات والسّرايا والأحداث التاريخية المتعلّقة بالسيرة ، باخر الكتاب ، مأخوذة من كتاب «رحمة للعالمين» للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري لتكون تسهيلا لمن أراد حفظها.
9 - إعداد الفهارس العامّة في آخر الكتاب.
إنّ المتمعّن في تحقيقنا لهذا الكتاب - خاصة في تخريج أحاديثه - ، والناظر في مجمل التعليقات التي علّقناها عليه يدرك الجهد المضني المبذول ، والوقت الثمين المصروف في خدمته ، ولا نشكّ أنّ العلّامة المؤلّف رحمه اللّه تعالى - كان سيسرّ بهذا العمل ، والدّقّة التي حقّق بها كتابه النفيس
___________
(1) أعدّها الجغرافيّ البارع الدكتور محمد صبحي النشّاوي ببذل وقته الثمين وجهده الحثيث فيه ، جزاه اللّه عن هذه الخدمة خير الجزاء.

(1/7)


ص : 8
المبارك هذا ، كما سرّ - قبل أيام من وفاته - ببعض خدماتنا المتواضعة التي قمنا بها في إخراج كتبه ومؤلّفاته منقّحة ، ونشرها في طباعة أنيقة بين يدي القرّاء.
(1/3)
نسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتقبّل جهدنا المتواضع في خدمة هذا الكتاب خالصا لوجهه ، إنّه سميع مجيب ، وهو على كلّ شيء قدير.
دمشق 18/ جمادى الأولى 1424 ه
17/ تموز (يوليو) 2003 م
كتبه
المعتزّ باللّه تعالى
عبد الماجد الغوري ّ

(1/8)


ص : 9
الشّيخ أبو الحسن النّدوي و«السّيرة النّبويّة»
بقلم الدّكتور عماد الدّين خليل تشكّل المقدّمة التي كتبها الشيخ الندوي للطبعة الأولى من مؤلّفه القيّم عن (السيرة النبوية) مفتاحا ، أو مدخلا ، لا بدّ من التوقّف عنده قليلا لفهم ما الذي أراد أن يقوله أو يفعله وهو يؤلّف كتابه هذا ؟!
ومن أجل ذلك فإنّ من الضّروري - كما يقول النّقّاد البنيويّون - «تفكيك النصّ» في محاولة للتأشير على العناصر الأساسية للمقدّمة باعتبارها مرتكزا للعمل ، ومبرّرا لإخراجه في الوقت نفسه.
إنّ هذه العناصر تمنح القارىء ، حتى قبل مطالعة فصول الكتاب ، القناعة بمبرّر ظهور بحث جديد عن السيرة ، بل بضرورته ، فليس الأمر - كما قد يتوهّم البعض - مجرّد رغبة مخلصة لإضافة كتاب جديد إلى قائمة المؤلّفات الحديثة في سيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وإن كانت هذه الرغبة في حدّ ذاتها تحمل على المستوى الديني ، مبرّراتها ودوافعها المقنعة ، إنما بالنسبة لباحث متمرّس كالأستاذ الندوي ، فإنّ خطوة كهذه ما كان لها أن تكون لو لم يعرف مسبقا أنّها ستقدّم إضافة جديدة إلى مكتبة السّيرة ، إن على مستوى المنهج أو الموضوع ، ويكفي أن يقع الاختيار على كتاب (الندوي) من بين عشرات وربّما مئات من البحوث في السّيرة ، لنقله إلى الإنكليزية ، وعدد من اللغات الحيّة ، ومخاطبة العقل الغربي ، وغير المسلم عموما ، بمفردات هذه السّيرة

(1/9)


ص : 10
(1/4)
ودلالاتها ، مهندسة وفق منهج الندوي وأسلوبه ، لكي يتبيّن أنّ هذا من بين عوامل عديدة متشابكة كالتي سنؤشّر عليها ، ما يجعل الكتاب إضافة جادّة وليس تقليدا أو تكرارا.
ومهما يكن من أمر فإنّنا لو قمنا بإعادة ترتيب العناصر الأساسية للمقدّمة ، في سياقات رئيسية من أجل وضع اليد على قيمة الكتاب ؛ فإنّنا سنجد محاولة (الندوي) هذه تقوم على المحاور التالية :
أولا : بيئة ثقافية ذات توجّه إسلاميّ ، ينشأ فيها المؤلّف ، فيجد نفسه ، منذ تفتّح وعيه على الحياة ، قبالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قراءة ومعايشة وتعلّما ..
وبمرور الوقت فإنه يسعى لتنمية خبراته عن السّيرة بمزيد من القراءة والدراسة في المصادر (القديمة) والمراجع (الحديثة) بالعربية وغيرها من اللغات ، هذه المتابعة الفكرية التي لم تنفصل يوما عن بطانتها الوجدانية ، بسبب من عقيدة الرجل وانتمائه البيئيّ ، وبالتالي فإنّها بصيغتها الشمولية هذه والقائمة على ما يسمّى في العصر الحديث ب (المعايشة التاريخية) ، كانت أقدر على تحقيق المقاربة بين الندوي وبين عالم السيرة الخصب المؤثّر ، المتجذّر في الغيب ، والذي لن يقدر باحث من الخارج ، أو من البعيد ، على فهمه وإدراكه.
ويجب أن نشير هاهنا أنّ الندوي من أجل استكمال أبعاد تجربة المعايشة هذه ، ذهب أكثر من مرّة إلى أرض النّبوّة واجتازها شبرا شبرا ، وكان - وهو يعاين المعالم والمواقع ويدقّقها - يعيش في الوقت ذاته ، المناخ الذي تخلّقت فيه مفردات السيرة ، ونسجت خيوطها ، ويكفي أن نرجع إلى كتاب (الطريق إلى المدينة) «1» لكي نتلمّس طبيعة المعاناة الوجدانية التي حملها الرجل بين جنبيه وهو يتقلّب هناك.
___________
(1) طبع في دار ابن كثير بدمشق.

(1/10)


ص : 11
(1/5)
إنّ هذه الخطوات كافة منحت الندويّ ، كما منحت قلّة محدودة من الباحثين المعاصرين ، السلاح الذي مكّنهم من دخول الساحة ، والقدرة على التعامل مع السيرة بأكبر قدر ممكن من النفاذ والصدق.
ثانيا : لم يقدم الندوي مباشرة على الكتابة في السّيرة ، كمشروع شامل ، قبل أن يمارس البحث في جوانب منها ، كانت أشبه بخطوات على الطريق ..
بتمرينات أولية ، إذا صحّ التعبير ، تمهيدا للعرض الجامع الأخير «1» وكان فضلا عن هذا يمارس التعامل مع السيرة باتجاه مواز آخر : الاستمداد من مادتها الخصبة وتعاليمها الغنية في الكثير من كتاباته ومحاضراته.
ثالثا : بمرور الوقت يتبلور لديه إحساس متزايد بضرورة كتابة مولّف شامل عن السيرة ، وكانت تغريه بذلك ، فضلا عن المؤثّرات الذاتية والثقافية والمنهجية آنفة الذكر ، خصائص ومواصفات كان يرى ، محقّا ، أنّ أيّ دراسة في السيرة لا تستكمل أسبابها بدون حضورها جميعا ، فكيف إن غاب عامل أو أكثر عن رؤية الباحثين ؟ كما حدث ويحدث لدى العديد من الذين تناولوا الموضوع من المستشرقين ، والمنتمين لعالم الإسلام نفسه ؟ كيف إن غاب معظمها أحيانا ؟ ألا يتحتّم في مقابل هذا أن تتعزّز المحاولات المنهجية التي تسعى جهدها لاستكمال الأسباب ، وأن تزيد وتتكاثر ، على الأقلّ لمجابهة هذا السّيل من الأعمال الناقصة وموازنتها ؟
إذا «فالسّيرة» التي ينادي الندويّ بها ، ويسعى إلى تنفيذها في مؤلّفه
___________
(1) انظر بشكل خاص (الطريق إلى المدينة) والفصول الأولى من كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟) ورسالة (دراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية) وكذلك رسالة (النبيّ الخاتم) واللّتان قد نشرتا في مجموعة مقالات العلّامة المؤلّف في السيرة بعنوان «مقالات في السيرة النبوية» في سلسلة «تراث العلامة الندوي» وصدرت في دار ابن كثير بدمشق.
(1/6)

(1/11)


ص : 12
الذي بين أيدينا ، يتحتّم قيامها على الخصائص وصيغ العمل التالية :
1 - أن تبنى بأسلوب عصريّ علميّ ، فما من شكّ في أنّ مناهج البحث المعاصرة ومعطيات العلوم الحديثة تقدّم وسائل جيّدة للمؤرّخ ما كان يملكها الباحثون القدماء ، وبالتالي فإنها تساعد على الاقتراب أكثر من طبيعة الحدث التاريخي وتركيبه وعرضه بالصّيغ الأكثر دقّة ، ويبدو أنّ من فضول القول ، أن نشير هاهنا إلى أنّ هذه المناهج ، وتلك المعطيات العلمية ؛ ترتد في أصولها وبدرجة كبيرة - إلى معطيات الحضارة الإسلامية في هذه المجالات ، وهي مسألة أكّدها الباحثون الغربيون أنفسهم في العديد من مؤلّفاتهم.
وبمقدور المرء أن يلقي نظرة على السياق المنهجي للكتاب وعلى تهميشاته لكي ما يلبث أن يتبيّن له ما يتميّز به مؤلّف الندوي من تركيز ، وتماسك ، ومتابعة للحدث التاريخي الأساسي ، دون خروج إلى تفاصيل جانبية ، وما يلتزم به من توثيق للمعلومات من خلال تثبيت المصادر والمراجع بأجزائها وصفحاتها ، وبشرح المفردات وتحديد الأعلام.
أمّا اللغة فهي سلسة واضحة تسعى إلى التوصيل بأكبر قدر من الوضوح ، وتتجاوز التعقيد والإغماض حتى في تعاملها مع النصوص المستمدّة من المصادر القديمة.
وقد يختلف المرء مع المؤلّف في أمر واحد وهو أنّه لم يعتمد منهج التقسيم الموضوعي لأحداث السيرة ومفرداتها ، وإنّما التزم خطّ التسلسل الزمني للأحداث رغم تقاطعها النوعي من حين لآخر ، وهو منهج اعتمده معظم الباحثين المعاصرين في السّيرة.
2 - أن تعتمد على خير ما كتب في القديم والحديث ، ذلك أنّ البحث الجادّ هو - بشكل من الأشكال - عمل نقديّ انتقائيّ ، لا يستسلم بسهولة

(1/12)


ص : 13
لركام الروايات ، ولا يغريه أحيانا التضخّم في المادة التاريخية ، ومعروف أنّ السيرة قد عانت الكثير بمرور الزمن ، من الإضافات في الخبر التاريخي ، بموازاة ما كان يحدث في «الحديث» النبوي مما هو معروف ، ومن ثم فإن أيّ محاولة لكتابة السيرة ، أو إعادة كتابتها بشكل أدقّ ، يتحتمّ أن تمارس اختيارا - مسؤولا بطبيعة الحال ، وليس مجرّد هوى عشوائيّ - لخير ما قدمته المصادر القديمة عن السيرة من روايات موثقة أصلية ، ولأحسن ما طرحته الدراسات الحديثة من تحاليل ومواقف واستنتاجات ؛ قد تعين على إضاءة أشدّ تركيزا لموضوعات السيرة الخصبة المتشابكة ، ولكن تبقى «المصادر الأولى الأصلية» الأساس الذي يقوم عليه البناء ؛ لأنّ المادة الأولية التي يقام عليها الصرح موجودة هناك ، ويكفي أن نلقي نظرة على قوائم المصادر التي اعتمدها المؤلف لكي يتبيّن لنا أنه لم يكد يترك مصدرا أساسيا إلّا ورجع إليه ، وإن كان اعتماده المحوري كما هو واضح على «سيرة» ابن هشام و«زاد المعاد» لابن قيّم الجوزية ، فضلا عن كتب «الصحاح» «1».
3 - أن تحقّق تطابقا مدروسا بين مفرداتها كافة ، وبين ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة الموثقة ، ذلك أنّ المصدرين الأخيرين يحملان الصدق المطلق في تعاملهما مع الواقعة التاريخية ، سواء بالنسبة للمنظور الإسلامي ، أو حتى بالنسبة للمنظور المنهجي العام الذي أخذ يدرك ، أكثر فأكثر ، مصداقية المعطى التاريخي للقرآن والسنة ، وهذا يعني بالمقابل ، رفض
___________
(1/8)
(1) وانظر على سبيل المثال حديثه عن ميلاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دون تحميله بالمعجزات التي تضخّمت بمرور الوقت دونما توثيق تاريخي كاف. وكذلك نقده وتفنيده لرواية لقاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم أيام رحلته الأولى إلى الشام بالراهب النصراني بحيرى. لكن هذا لا يعني - بداهة - رفض المؤلف لكل الروايات التي تتجاوز المألوف وتستمد مفرداتها من عالم الغيب (انظر مثلا حادثة شق الصدر).

(1/13)


ص : 14
واستبعاد كل ما يتعارض مع هذين المصدرين من مفردات أقحمت على السيرة عبر الزمن فيما أصابها بالتضخّم ، وأضاف إليها الكثير مما لم يكن فيها ابتداء.
ولهذا السبب يدعو الندويّ إلى تجاوز ما يسمّيه «الأسلوب الموسوعي الحاشد للمعلومات في غير نقد وتمحيص» ، فإنّ بعض مؤرّخينا القدماء ، أسوة ببعض أدبائنا القدماء ، كان مغرما في سياق نزعة موسوعية جمّاعة ، إلى أن يضيف ويحشد وينوّع ، مؤثرا الحصيلة الكمية على حساب التركيز الوعي ، مفتقدا - أحيانا - المنهج النقدي ، الانتقائي ، الممحّص ، وهذا المنهج يقتضي أول ما يقتضي الإحالة المنضبطة على كتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فضلا عن اعتماد معطيات المناهج الحديثة لما يمكن اعتباره إعادة للأمور إلى نصابها الحق فيما يتعلّق بنسيج السيرة ، ويكفي أن يلقي المرء نظرة على هوامش الكتاب لكي تتبيّن له المساحات الواسعة التي اعتمد فيها المؤلّف على المعطيات التاريخية عن السيرة في كتاب اللّه وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام.
(1/9)
ومن أجل ألّا يتصوّر أحد ، أو يخطر على باله ، بأنّ دعوة الندويّ هذه قد تقود العمل باتجاه الانسياق وراء الاتجاهات الغربية المعاصرة في دراسة السيرة ، فإنه يدعو إلى رفض تقليد هذه الاتجاهات أو «الخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشكّكين» ، وهاهنا بصدد النقطة الأخيرة فإنّ منهج البحث الغربي ، في حقل السيرة بالذات ، قد يتعامل بصيغ نقدية حادة ومبالغ فيها ، تقود بالضرورة إلى التشكيك بالكثير من أهمّ وقائع السيرة ومرتكزاتها ، خاصة إذا تذكرنا المنظور المادي للرؤية الغربية ، أو العلماني على أحسن الأحوال ، هذا المنظور الذي يرفض البعد الغيبي في تعامله مع

(1/14)


ص : 15
التاريخ ، أو يدفعه إلى الظل ، الأمر الذي يلحق بالسيرة أذى كبيرا.
أمّا الموقف (الإسلامي) الأصيل من السيرة ، «الموقف المتوحّد الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين ، والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها ، فإنه يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة ، تغرّبا عن مسلّماته ، وخروجا صريحا على بداهاته ، وما يمكن اعتباره محاولات متعمّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور ، وهي - لحسن الحظّ - لن تفعل فعلها في يقينه ، إلّا في حالات معيّنة ، بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمها إلى الاشمئزاز والنفور.
(1/10)
هذا مع أنّ معالجة واقعة تمتدّ جذورها إلى عالم الغيب ، وترتبط أسبابها بالسماء ، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين اللّه سبحانه ورسوله الكريم ، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين اللّه ورسوله ليكونوا تعبيرا حيّا عن إيمانهم ، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم .. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرات والعناصر في مختبر للكيمياء ، أو كما تعامل الخطوط والزوايا والمنحنيات والمساحات والكتل على تصاميم المهندسين ، بل ولا حتى كما تعامل الوقائع التاريخية التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل ، إنّنا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص ، وشبكة من العوامل والمؤثرات تندّ عن حدود مملكة العقل الخالص ، وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف ، ومن ثمّ فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا ، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا آخر فحسب ، بل إنّه قد يقوم بما يمكن اعتباره جريمة قتل بشكل من الأشكال ، أو محاولة لتفحّص الجسد

(1/15)


ص : 16
البشريّ كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة.
(1/11)
إنّ الدين ، والغيب ، والروح ، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها ، وليس بمقدور الحس أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلّا بمقدار ، وتبقى المساحات الأكثر عمقا وامتدادا بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق ، إننا - ونحن نتعامل مع هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية - يجب أن ننتبه إلى هذه المسألة مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخي وأصوله ، فإنّه من خلال رؤيته الخارجية ، وتغرّبه ، وعلمانيّته أو ماديته ، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها ، فيصدم الحس الديني ويرتطم بالبداهات الثابتة ، وهو من خلال منظوريه العقلي والوضعي يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة ، على الجدل ، وهو في كلتا الحالتين لا يمكن أن يخدم الموقف الإسلامي الجاد من سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو يحتل موقفا جادّا منها بوجه من الوجوه» «1».
فلم يكن الندويّ مبالغا إذا باعتباره هؤلاء الباحثين «من المشكّكين» الذين يتحتّم أن نحذرهم ، ونحن نسعى للإفادة من أعمالهم واستنتاجاتهم في هذا الموضوع أو ذاك من مواضيع السيرة ، ونحاول - بدلا من ذلك - أن ننطلق من منهج إسلامي أصيل يضع النبوّة والغيب موضعهما الحق.
___________
(1) المستشرقون والسيرة النبوية : بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات ، لكاتب السطور ، جزء 1 ص 116 - 117 من مجلد (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج في إطار الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري (الرياض 1405 ه - 1985 م).

(1/16)


ص : 17
(1/12)
4 - أن يكون النصّ أو الرواية التاريخية ، هو الحكم ، هو مادة البناء الأساسية .. أن يحرّر من أيّة محاولة لتقييده بحكم مسبق ، أو إغراقه بالتعليل والتحليل على حساب الواقعة نفسها .. أن تترك له حرية التعبير عن ذاته لكي ينطق بما كان فعلا لا بما يراد له أن يكون ، وبما أنّ النصوص التاريخية للسيرة على قدر كبير من الاستيعاب للدقائق والتفاصيل ، فيما لم يتهيّأ بهذا الخصب والغنى لأيّ سيرة أخرى في تاريخ البشرية ، وذلك بفضل الروافد العديدة التي قدمت هذه التفاصيل ، وغذّتها ، وحمتها من الضياع في الوقت نفسه (وبخاصة القرآن الكريم ، ومجاميع الحديث ، وكتب السير والشمائل ، فضلا عن كتب المغازي والمدوّنات التاريخية) .. فإنّ النشاط المحوري في كتابة سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومهمّته الأساسية تنصبّ على العرض والترتيب والتركيز ، واعتماد منهج سليم في العمل ، ولغة مناسبة قديرة على التوصيل بشروطه المعاصرة.
وبالتّالي فإنّ التأليف في السيرة لا يجابه بالضرورة - وكما يؤكّد الندويّ - صعوبة وغموضا ولا يقتضي افتراضا ولا قياسا ، كما هو الحال في التراجم الآخرى حيث تشحّ المادة ، وتتضارب الروايات ، وتنتشر الفجوات الزمنية ، وتتناقض الشواهد التاريخية ، ولعلّ هذا هو الذي يفسّر ما يلحظه القارىء في سياق الكتاب من اعتماد متزايد على النصوص (الحرفية) ، ذلك أنّ هذه النصوص إذ تستكمل شرطيها الأساسيين وهما الوضوح في العرض والغنى في التفاصيل ، لا تحتاج في كثير من الأحيان إلى بيان أو إضافة أو تعليل.
ورغم ذلك كلّه فإنّ تقديم صورة مطابقة أمر مستحيل ، لا سيّما وأنّنا نتعامل هاهنا مع ظاهرة النبوّة ذات الارتباطات الغيبية المتشابكة ، فكلّ

(1/17)


ص : 18
ما كتب ، وما سيكتب لا يعدو أن يكون محاولات للمقاربة في نهاية الأمر.
(1/13)
ولعلّ هذه المسألة الأساسية ، إلى جانب عوامل ثانوية أخرى ، هي التي جعلت المؤلّف يتردّد حينا من الزمن في الكتابة عن الموضوع ، لو لا أنّ إلحاح المخلصين ، وإلحاح الحاجة إلى مؤلّف بالعربية يتعامل مع الأجيال الجديدة على مستوى المنهج واللغة دون وقوع في سلبيّات المحاولات المعاصرة ، فضلا عن تمرّس الندوي في كتابة الترجمة التاريخية ، هي التي تغلبت في نهاية الأمر وجعلت الرجل يقدم على تنفيذ المشروع.
5 - هنالك أيضا محاولة لتحقيق توازنات بين ثنائيات شتى وبخاصة :
أ - الموضوعية والوجدان الدينيّ.
ب - العلمية والضرورات التربوية.
ج - التوجّه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم.
فلا يكفي ، بالنسبة للمسألة الأولى أن يكون الباحث في السيرة (موضوعيا) ، أي أن يتعامل معها من الخارج ، بل لا بدّ أن تكون هناك مساهمة على مستوى الذات .. مشاركة وجدانية تقرّب الباحث أكثر فأكثر من صميم حدث تاريخيّ ليس كالأحداث ، وتجعله ينفعل به ويقدّر بالتالي طبيعته التكوينية .. نبضه وإيقاعه .. يلمس ، قدر ما يستطيع ، الخيوط التي نسجتها فيعرف مكوناتها.
وهذا بالنسبة للسيرة بالذات ، ليس نقيض الموضوعية ، بل هو مع الموضوعية ومن شروطها ، فإنّ النبوّة ليست تجربة وضعية الاندماج والتأثّر ، والمعايشة الوجدانية ، بل هي من ضرورات الإدراك والمقاربة ، ومن ثم كان المؤرّخ المسلم ، المتسلّح - طبعا - بسلاح المنهج العلمي ؛ أقدر من غير

(1/18)


ص : 19
المسلم على خوض غمار التجربة وتقديم بحث أكثر أصالة وأعمق تعبيرا عن هذه الواقعة التاريخية المتفردة.
«لنحاول أن نقرّب المسألة أكثر ، إنّ العمل المعماري الكبير إذا أقيم على أسس خاطئة فإنّه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية : التأثير الجمالي الذي يمكنه من أداء وظيفته الوجدانية ، والمقوّمات العلمية التي تمكنه من أداء وظيفته العملية».
(1/14)
«إنّ البحث في (السيرة) بوجه خاصّ ، ليستلزم أكثر من أيّ مسألة أخرى في التاريخ البشري هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفّرهما منهج متماسك سليم ، يقوم على أسس علمية موضوعية لا تخضع لتحزّب أو ميل أو هوى ، ويمتلك عناصر جماليته الخاصة التي تليق بمكانة الرّسول المتفرّدة صلى اللّه عليه وسلم ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يردّ إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون والحياة ، وقد كانت مناهج البحث الغربي (الاستشراقي) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين أو كليهما ، وكانت النتيجة أبحاثا تحمل اسم السيرة وتتحدّث عن حياة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وتحلّل حقائق الرسالة ، ولكنها يقينا - تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدّة من عجينة أخرى غير مادة السيرة ، وروحا أخرى غير روح النبوّة ، ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة.
«إنّ نتائجها تنحرف عن العلم لأنّها تصدر عن الهوى ، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقّق التاريخي ؛ لأنّها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل ، وتزيّف كلّ ما هو أصيل ، وتميل

(1/19)


ص : 20
بالقيم المشعّة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الكلمة ، وقد تؤول إلى البشاعة» «1».
(1/15)
وتكاد المسألة الثانية التي يسعى الندويّ إلى تنفيذها ، أن تكون امتدادا للأولى ، ولكنّ المعنيّ بالتوازن هذه المرّة هو القارىء وليس الموضوع ، فإلى جانب ضرورة التزام الجانب العلمي بالبحث في السيرة ، فإنّ هناك ضرورة لا تقلّ أهمية هي الضرورة التربوية .. أن تقدم السيرة بصيغة عمل ذي رسالة تربوية تملك قدرتها على التأثير في القارىء وكهربته بتيّار الرسالة القادم من السماء ، وهاهنا يمكن أن يكون اعتماد منهج حيوي مؤثّر يجانب الجمود والجفاف ، ويتشكّل بالمؤثّرات التي مرّت بنا عبر الفقرات السابقة ، مسألة ضرورية لتحقيق الهدف ، وها هنا أيضا يرفض الندويّ ما يسمّيه «بالتجميل الخارجي أو التزيين الصناعي» لأنّ هذا في نهاية الأمر نقيض للجمال الباطني ولقوّة التأثير وصدقه.
يبقى التوازن الثالث وهو التوجّه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم ، وهي مسألة محسومة بمجرّد أن نتذكّر إلحاح الندويّ على اعتماد مناهج البحث الحديث وأدوات التوصيل المعاصرة .. فإنّ هذا بحدّ ذاته يعقد جسرا بين مفردات السيرة وبين القارىء الحديث ، مسلما كان أم غير مسلم ، ولعلّ اختيار كتابه هذا لكي يترجم إلى الإنكليزية ، وعدد آخر من اللغات الحية ، إنما كان اقتناعا بقدرته على التواصل مع غير المسلمين «2».
___________
(1) المستشرقون والسيرة النبوية : لكاتب المقدمة ، ج 1 ، ص 117.
(2) وانظر بشكل خاص المحاضرة التي اختتم بها الكتاب بعنوان (فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة) والتي سبق وأن ألقاها في ربيع عام 1975 بمدينة لكهنؤ بالهند ، وحضرها جمّ غفير من المسلمين وغير المسلمين ، للاطلاع على تنفيذ الندوي لهذه المسألة في كتابه.

(1/20)


ص : 21
(1/16)
6 - يرى الندويّ ضرورة تسليط الضّوء عى البيئة التي ظهر فيها الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتشكّلت سيرته على أرضيتها .. البيئة ببعديها التاريخي والجغرافي ، وبامتداديها المحلّي والعام (ويمكن أن تكون الخرائط الدقيقة التي أرفقت بالكتاب امتدادا لهذه الضرورة).
ويكاد يكون مؤلّف الندويّ ، من بين قلّة من المؤلّفات الحديثة ، التي تناولت السيرة ، من أولى اهتماما ملحوظا بهذه المسألة ، وخصّص لها مساحات واسعة في كتابه «1».
ورغم أنّ معطيات السّيرة ، في المنظور الإسلامي ، تتجاوز في نهاية الأمر حدود الزمن المرحليّ والمكان المحدود ، باتّجاه كلّ زمن وكلّ مكان ، ورغم أنها - في هذا المنظور نفسه - تشكّلت في جانبها الخاص بظاهرة النبوّة ، بعلم اللّه اللدني الشامل الذي يعلو على نسبيّات الجغرافية ومتغيرات الحركة التاريخية ، فإنّها - أي السيرة - وفي المنظور الإسلامي كذلك ، ابنة بيئتها ، وليدة زمنها وجغرافيتها ، إذ لا يمكن بحال فصل نسيجها عن ارتباطه المتشابك بالبيئة .. بل إنّنا لو تابعنا مفردات السيرة واحدة واحدة ، لرأيناها لا تكاد تتحوّل إلى «العام» إلّا بعد اجتيازها (الخاص) وتعاملها معه ، وسنكون غير علميّين بالمرّة لو أنّنا أغفلنا هذا الارتباط بحجّة عالمية الرسالة وديمومتها ، وعدم تقيّدها بالنسبيّ أو المحدود ، وسنقع كذلك في المظنّة
___________
(1) انظر مثالا واضحا حيث يفرش المؤلف تحليله للبيئة الجاهلية لدى ظهور الإسلام عبر حلقاتها الثلاث : العالم ، الجزيرة العربية ، ثم مكة ، على هذا المدى الواسع من الكتاب ، وذلك للاطلاع على طبيعة تحليله للبيئة المدنية (في يثرب). ولا ينسى المؤلف أن يعرّف القارىء بالملوك والحكام الذين كتب إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسائله المعروفة يدعوهم فيها إلى الإسلام.

(1/21)


ص : 22
(1/17)
التي أسرت الفكر الغربي ، وهذه النظرة أحادية الجانب تلك التي تتشنج على مساحة محدّدة من الظاهرة ، وتتشبّث بها دون أن تقلبها على وجوهها لمتابعة الجوانب الآخرى ، وهاهنا بصدد السّيرة ، فإنّنا يجب أن نولي اهتماما للوجهين معا : العام والخاص ، المطلق والبيئي ، لأنّ إغفال الجانب الثاني سيجرّنا إلى المثالية بمفهومها التجريدي المنفصل عن الواقع والأرضية.
وإنّنا بمجرّد أن نلقي نظرة ولو سريعة على أسباب النزول في القرآن الكريم ، فلسوف نرى بأمّ أعيننا كيف أنّ كثيرا من التعاليم والقيم القرآنية ، تخلّقت من تفاصيل بيئية صرفة .. من حدث تاريخيّ عابر أو تحدّ جغرافيّ محدود .. من تجربة هذا الرجل أو ذاك ، ومن محنة هذه الجماعة أو تلك .. من سؤال أو اقتراح قد يتقدّم به هذا الصحابيّ أو ذاك فيما يعايشونه يوما بيوم وخطوة بخطوة .. لكنّ هذه التعاليم والقيم لم تأسرها مواصفات البيئة ونسبياتها ، ولا أريد لها أن تكون كذلك ، إذ أنّها سرعان ما تجاوزت ظروف تشكّلها ، الخاصة صوب العام .. صوب المطلق ، بعيدا عن متغيرات الجغرافية والتاريخ لكي نتعامل مع الإنسان في كلّ زمن ومكان.
ولقد شاء علم اللّه - الذي هو سبحانه أعلم بمن خلق - ألّا يصوغ القيم والتعاليم في كتابه الكريم ، وسنّة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام ، في الفراغ أو من الفراغ ، إنما جعلها سبحانه تتشكل في البيئة ، في الجغرافية والتاريخ ، وبتبادل واقعيّ منظور بين الطّرفين لكي تكون أشدّ حضورا ، وأعمق تأثيرا ، وذلك مذهب مهمّ من مذاهب التربية العقيدية عبر التاريخ.
ونحن نعرف ، على سبيل المثال فحسب ، لماذا لم تتنزّل المقاطع

(1/22)


ص : 23
القرآنية الخاصة بمعركة أحد .. المقاطع المترعة بالقيم والتعاليم ، إلّا بعد هزيمة أحد مباشرة ، وليس بعيدا عنها أو بدونها .. وقل مثل ذلك عن حشود كثيفة أخرى من مفردات السيرة.
(1/18)
إذا فإنّ سعي الندويّ لإضاءة البيئة التي تشكّلت فيها هذه المفردات ، وتأكيده على تأثيراتها المتشابكة في الحدث النبويّ ، أمر بالغ الأهمية ، وهو يشكلّ في الواقع واحدة من أهمّ الإضافات التي تقدّمها دراسته إلى حقل السيرة ، بل واحدة من أهمّ مبرّرات إخراجها إلى الوجود.
بقلم الدّكتور عماد الدّين خليل

(1/23)


ص : 25
ترجمة العلّامة المؤلّف
«رحمة اللّه تعالى»
هو المربّي العظيم ، والداعية الحكيم ، والمفكّر المجدّد ، والأديب البارع ، والكاتب القدير ، وعلّامة الهند ، وربّانيّ الأمّة ، ونموذج السّلف ، والعالم العامل ، والحبر الكامل ، والزّاهد المجاهد : الشيخ السيّد أبو الحسن علي الحسني الندوي ، صاحب الكتب الفائقة ، والرّسائل الرائقة ، والمحاضرات النافعة ، «و الذي أجمع عليه السلفيّون والمتصوّفون ، والمذهبيون واللّامذهبيون ، والتقليديون والمعاصرون» «1» ، و«الذي أخلص وجهه للّه تعالى ، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص للّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فدعا إلى الإسلام بالقدوة الحسنة ، ودعا إلى الإسلام بكتبه النقية ، ودعا إلى الإسلام بسياحته التي حاضر فيها ، ووجّه وأرشد» «2» ، و«الذي [كان ] ذخرا للإسلام ودعوته ، وكتبه ومؤلّفاته تتميّز بالدّقة العلمية ، وبالغوص العميق في تفهّم أسرار الشريعة ، وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم الإسلامي ووسائل معالجتها» «3» ، و«الذي عرفته في
___________
(1) قاله فقيه الدعاة ، وداعية الفقهاء : الدكتور يوسف القرضاوي.
(2) قاله شيخ الأزهر الأسبق : الدكتور عبد الحليم محمود - رحمه اللّه - .
(3) قاله الداعية الفقيه ، الصابر المجاهد : الدكتور مصطفى السباعي - رحمه اللّه - .

(1/25)


ص : 26
(1/19)
شخصيته وفي قلمه ، فعرفت فيه قلب المسلم ، والعقل المسلم ، وعرفت فيه الرجل الذي يعيش بالإسلام وللإسلام على فقه جيّد للإسلام .. هذه شهادة للّه أودعها» «1» ، و«الذي [كان ] مدرسة فكرية افتقدها العالم الإسلاميّ برحيله» «2».
اسمه ونسبه وأسرته :
هو عليّ أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني ، ينتهي نسبه إلى عبد اللّه الأشتر بن محمّد ذي النّفس الزكية بن عبد اللّه المحض ، بن الحسن (المثنّى) بن الإمام الحسن السبط الأكبر بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم.
أوّل من استوطن الهند من هذه الأسرة في أوائل القرن السابع الهجري هو الأمير السيّد قطلب الدين المدني (776 ه).
والده مؤرّخ الهند الكبير العلّامة الطبيب السيّد عبد الحيّ الحسني ، الذي استحقّ بجدارة لقب «ابن خلّكان الهند» لمؤلّفه القيم «نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر» في ثماني مجلّدات عن أعلام المسلمين في الهند وعمالقتهم ، طبع أخيرا باسم «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» «3».
أمّا والدته - رحمها اللّه - فكانت من السيّدات الفاضلات ، المربيات النادرات ، المؤلّفات المعدودات ، والحافظات للقرآن الكريم ، تقرض الشعر ، وقد نظمت مجموعة من الأبيات في مدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
___________
(1) قاله الأديب الكبير ، الداعية الشهيد : سيد قطب.
(2) قاله الدكتور عبد اللّه المحسن التركي ، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
(3) في ثلاث مجلّدات ضخمة ، في دار ابن حزم ، بيروت.

(1/26)


ص : 27
ميلاده ونشأته :
أبصر العلّامة أبو الحسن الندوي النور في 6 محرم 1333 ه (الموافق عام 1914 م) بقرية «تكية كلان» الواقعة قرب مديرية «رائي بريلي» في الولاية الشمالية «أترابرديش».
(1/20)
بدأ دراسته الابتدائية من القرآن الكريم في البيت ، ثم دخل في الكتّاب حيث تعلّم مبادىء اللغتين (الأردوية والفارسية) شأن أبناء البيوتات الشريفة في الهند في ذلك العصر ، وكان عمره يتراوح بين التاسعة والعاشرة إذ توفّي والده الجليل عام 1341 ه (1923 م). فتولّى تربيته أمّه الفاضلة ، وأخوه الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني «1» وإليه يرجع الفضل في توجيه وتربية العلامة الندوي.
بدأ دراسته العربية على الشيخ خليل بن محمّد الأنصاري اليماني «2» في أواخر عام 1924 م ، وتخرّج عليه مستفيدا في الأدب العربي ، ثمّ توسّع فيه وتخصّص على الأستاذ الدكتور تقي الدين الهلالي المرّاكشي «3» عند مقدمه إلى ندوة العلماء عام 1930 م.
___________
(1) انظر ما كتب عنه العلّامة الندوي في كتابه «شخصيات وكتب» ص (63) ، طبع دار القلم بدمشق.
(2) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (281) طبع دار ابن كثير ، بدمشق.
(3) هو العلّامة البحّاثة ، وأحد كبار علماء اللغة العربية في هذا العصر ، ولد بسجلماسة في المغرب ، ونشأ نشأة صوفية ، ثم تركها واتخذ السلفية معتقدا ، سافر إلى الهند وقرأ الحديث على كبار محدّثيها يومئذ ، وعيّن أستاذا خلال إقامته فيها في كلية اللغة العربية في دار العلوم - ندوة العلماء ، توفي - رحمه اللّه - بالدار البيضاء عام 1407 ه.

(1/27)


ص : 28
دراسته الجامعيّة :
(1/21)
التحق بجامعة لكهنؤ فرع الأدب العربي عام 1927 م ، ولم يتجاوز عمره آنذاك الأربعة عشر عاما ، وكان أصغر طلبة الجامعة سنا ، ونال منها شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها ، قرأ خلال أيام دراسته في الجامعة كتبا تعتبر في القمّة العربية والأردوية ، ممّا أعانه على القيام بواجب الدعوة وشرح الفكرة الإسلامية الصحيحة ، وإقناع الطبقة المثقّفة بالثقافة العصرية ، وتعلّم الإنجليزية مما مكّنته من قراءة الكتب المؤلّفة بها في التاريخ والأدب والفكر.
ثمّ التحق بدار العلوم - ندوة العلماء عام 1929 م وقرأ الحديث الشريف (صحيح البخاري ، ومسلم ، وسنن أبي داود ، وسنن الترمذي) حرفا حرفا مع شيء من تفسير البيضاوي على العلّامة المحدّث الشيخ حيدر حسن خان الطّونكي «1» ، ودرس التفسير لكامل القرآن الكريم على العلّامة المفسّر المشهور أحمد علي اللّاهوري في لاهور عام 1351 ه/ 1932 م ، وحضر دروس العلّامة المجاهد حسين أحمد المدني «2» في صحيح البخاري وسنن الترمذي خلال إقامته في دار العلوم ديوبند ، واستفاد منه في التفسير وعلوم القرآن أيضا.
في سلك التدريس :
انخرط في سلك التدريس عام 1934 م ، وعيّن أستاذا في دار العلوم ندوة العلماء لمادّتي التفسير والأدب.
___________
(1) انظر ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للعلّامة عبد الحي الحسني ، ج : 3 ، ص : 1218 ، طبع دار ابن حزم ، بيروت.
(2) انظر ترجمته في كتاب «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (239).

(1/28)


ص : 29
واستفاد خلال تدريسه في دار العلوم من الصّحف والمجلّات العربية الصادرة في البلاد العربية ، ممّا عرفه على البلاد العربية وأحوالها ، وعلمائها وأدبائها ومفكّريها عن كثب ، واستفاد أيضا من كتب المعاصرين من الدعاة والمفكّرين العرب وفضلاء الغرب والزعماء السياسيّين.
(1/22)
نشاطاته الدعويّة والإصلاحية :
قام برحلة استطلاعية للمراكز الدينية في الهند عام 1939 م ، تعرّف فيها على الشيخ المربّي العارف باللّه عبد القادر الرّأي فوري «1» ، والداعية إلى اللّه الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي «2» ، وكان هذا التعرّف نقطة تحوّل في حياته ، وبقي على الصلة بهما حتى وافاهما الأجل المحتوم ، وتلقّى التربية الروحية من الشيخ الرأي فوري واستفاد من صحبته ومجالسته ، وتأسّى بالشيخ الكاندهلوي في القيام بواجب الدّعوة وإصلاح المجتمع ، وقضى زمنا طويلا في رحلات وجولات دعوية متتابعة للتربية والإصلاح والتوجيه الديني في الهند وخارجها.
أسّس مركزا للتعليمات الإسلامية لتنظيم حلقات درس القرآن الكريم والسنّة النبوية عام 1943 م ، وأسّس حركة رسالة الإنسانية بين المسلمين والهندوس عام 1951 م ، والمجمع الإسلامي العلمي بدار العلوم - ندوة العلماء في لكهنؤ عام 1959 م.
شارك في تأسيس هيئة التعليم الديني للولاية الشمالية (أترابرديش) عام 1960 م ، وفي تأسيس المجلس الاستشاري الإسلامي لعموم الهند
___________
(1) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (259).
(2) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (233).

(1/29)


ص : 30
عام 1964 م ، وفي تأسيس هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند عام 1972 م.
رحلته مع الكتابة والتأليف :
كتب أوّل مقال بالعربية في مجلّة «المنار» للعلّامة السيّد رشيد رضا المصري عام 1931 م حول شخصية الإمام السيّد أحمد بن عرفان الشهيد ، وكان عمره - آنذاك - أربعة عشر عاما ، ثم نشره العلّامة رشيد رضا ككتاب مستقل لمّا رأى إعجاب كبار كتّاب العرب به.
(1/23)
ظهر له أوّل كتاب بالأردوية عام 1937 م يحمل اسمه «سيرة أحمد شهيد» ونال قبولا عاما في الأوساط الدينية والعلمية في الهند وباكستان ، وصدر له طبعات عديدة فيما بعد.
بدأ سلسلة تأليف الكتب المدرسية بالعربية ، وظهر أوّل كتاب فيها بعنوان «مختارات من أدب العرب» عام 1940 م ، و«قصص النبيّين» للأطفال و«القراءة الراشدة» عام 1944 م ، وقرّر جميع هذه الكتب في مقرّرات المعاهد والجامعات الإسلامية في بلاد العرب وشبه القارة الهندية.
ألّف كتابه المشهور «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟» عام 1944 م ، الذي عدّ من أفضل الكتب التي صدرت في هذا القرن «1».
دعي أستاذا زائرا في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1956 م ، وألقى محاضرات بعنوان «التجديد والمجدّدون في تاريخ الفكر الإسلامي» نشرت بعد ذلك في شكل كتاب مستقلّ في أربع مجلّدات باسم «رجال الفكر والدعوة في الإسلام».
___________
(1) كما قاله المربّي المفكّر ، الداعية الناقد البصير : الأستاذ محمد المبارك - رحمه اللّه - .

(1/30)


ص : 31
ألّف كتابه حول القاديانية بعنوان «القادياني والقاديانية» عام 1958 م ، وكتابه «الصراع بين الفكرة الإسلامية والغربية في الأقطار الإسلامية» عام 1965 م وكتابه «الأركان الأربعة» عام 1967 م ، و«السيرة النبوية» عام 1976 م ، و«العقيدة والعبادة والسلوك» عام 1980 م و«المرتضى» في سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - عام 1988 م.
رئاسته لتحرير المجلّات والجرائد الإسلامية والإشراف عليها :
(1/24)
شارك في تحرير مجلّة «الضياء» العربية الصادرة من دار العلوم - ندوة العلماء عام 1932 م ومجلّة «الندوة» الأردوية الصادرة منها أيضا عام 1940 م ، وأصدر مجلّة باسم «تعمير حيات» بالأردوية عام 1948 م ، وكتب مقالات في الأدب والدعوة والفكر في أمّهات المجلّات العربية الصادرة من مصر ودمشق ك : «الرّسالة» للأستاذ أحمد حسن الزيّات و«الفتح» للأستاذ محب الدين الخطيب و«حضارة الإسلام» للدكتور مصطفى السّباعي و«المسلمون» للدكتور سعيد رمضان المصري.
أشرف على إصدار جريدة «نداي ملّت» بالأردوية عام 1962 م ، وأشرف كذلك على إصدار مجلّة «البعث الإسلامي» العربية الصادرة منذ عام 1955 م ، وجريدة «الرائد» العربية الصادرة منذ عام 1959 م ، ومجلة «تعمير حيات» الأردوية الصادرة منذ عام 1963 م ، وكلّها تصدر من دار العلوم - ندوة العلماء في لكهنؤ ، (الهند).
رحلاته :
سافر إلى الشرق والغرب داعية إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، عاملا على إعلاء كلمة الإسلام بالكلمة المسموعة والمقروءة ، وبالعمل

(1/31)


ص : 32
الإيجابيّ البنّاء في كلّ مجال ، جوّابا للآفاق في سبيل اللّه ، محاضرا ، ومحدّثا ، ومحاورا ، واعظا وهاديا ، ومشاركا بالرأي والفكر في المجالس العلمية ، والمجامع الجامعية والمؤسّسات الإسلامية ، والمؤتمرات والندوات فيها «1».
تقدير وتكريم :
انتخبه مجمع اللغة العربية بدمشق والقاهرة والأردن عضوا مراسلا لما اتّصف به من العلم الجمّ ، والبحث الدقيق في ميادين الثقافة العربية والإسلامية ، ولمساعيه المكثّفة المشكورة في الأدب العربي الإسلامي.
اختير عضوا في المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة منذ تأسيسها عام 1962 م.
اختير عضوا في رابطة الجامعات الإسلامية منذ تأسيسها عام 1971 م.
(1/25)
اختير لاستلام جائزة الملك فيصل العالمية عام 1980 م ، لمؤلّفه القيّم «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟».
منح شهادة الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة كشمير عام 1981 م.
اختير رئيسا لمركز أو كسفورد للدراسات الإسلامية بلندن عام 1983 م.
اختير عضوا في المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلامية وللبحث والتأليف والتحقيق في عمّان (الأردن).
اختير رئيسا عاما لرابطة الأدب الإسلامي العالمية (الرياض) عام 1984 م.
___________
(1) اقرأ للاطلاع على رحلاته الدعويّة في الخافقين كتاب «رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي مشاهداته - محاضراته - انطباعاته - لقاءاته» إعداد المحقّق ، طبع دار ابن كثير بدمشق.

(1/32)


ص : 33
أقيمت ندوة أدبية كبيرة حول حياته ، وجهوده الحثيثة ومساعيه المشكورة ، ومفاخره العظيمة في مجال الدعوة والأدب في إستانبول «تركيا» عام 1999 م ، حضرت فيها كبرى الشخصيات الدينية ، والأدبية من أنحاء العالم العربي والإسلامي.
اختير لاستلام جائزة الشخصية الإسلامية لعام 1419 ه لخدماته الجليلة وماثره العظيمة في مجال الدعوة الإسلامية ، وقدّم إليه الجائزة وليّ العهد لحكومة الإمارات العربية المتحدة سموّ الشيخ محمد بن راشد المكتوم.
منح له سلطان برونائي جائزة لخدماته الإسلامية ، عام 1998 م ، وذلك اعترافا بمكانته العلمية والفكرية الإسلامية العظيمة ، وتقديرا لخدماته المتميزة التي أنجزها في مجال الدعوة الإسلامية العظيمة ، والفكر الإسلامي.
رئاسته وعضويته للجامعات والمجامع :
تولّى العلامة الندوي الرئاسة والعضوية لعدّة جامعات إسلامية ، ومجامع عربية ، ومنظّمات دعوية ، ومراكز دينية في العالم الإسلامي وخارجه ، ومنها على سبيل المثال :
(1/26)
الأمين العام لدار العلوم - ندوة العلماء (الّتي أخذت صفة العالمية منذ ترأس أمانتها ، وتفوّقت على معظم جامعات العالم الّتي تهتمّ بشؤون الدراسات الإسلامية والعربية).
رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية (الرياض).
رئيس المجمع الإسلامي العلمي في لكهنؤ (الهند).
رئيس مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية (إنجلترا).
رئيس هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند.

(1/33)


ص : 34
رئيس هيئة التعليم الدّيني للولاية الشمالية (أترابرديش).
عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
عضو المجلس التأسيسي الأعلى العالمي للدعوة الإسلامية بالقاهرة.
عضو مجمع اللغة العربية بدمشق.
عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
عضو مجمع اللغة العربية الأردني.
عضو المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسّسة آل البيت) بالأردن.
عضو رابطة الجامعات الإسلامية بالرّباط (المغرب).
عضو المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة.
عضو المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد (باكستان).
عضو المجلس الاستشاري بدار العلوم ديوبند الإسلامية (الهند).
وعدا ذلك تولّى العلامة الرئاسة والعضوية لكثير من الجامعات الإسلامية ، والمراكز الدينية والمنظّمات الدعوية ، ولجان التعليم والتربية في العالم الإسلامي وخارجه.
وفاته :
توفّي - رحمه اللّه - عقب نوبة قلبية مفاجئة عن السادسة والثمانين من عمره الحافل بالأعمال القيامة والماثر العظيمة ، والخدمات الجليلة في مجال الفكر والدّعوة والأدب يوم الجمعة في 23 من شهر رمضان المبارك عام 1420 ه

(1/34)


ص : 35
(وكان آخر يوم من شهر ديسمبر عام 1999 م) في مسقط رأسه «رائي بريلي».
(1/27)
صلّي عليه في أنحاء العالم الإسلامي صلاة الغائب ، وصلّى كذلك حوالي خمسة ملايين من المسلمين الوافدين من مختلف أصقاع العالم في الحرمين الشريفين في 27 رمضان بعد صلاة العشاء ، رحمه اللّه رحمة واسعة ، وتغمّده بها وأسكنه فسيح جنانه.
خلقه وخلقه :
كان - رحمه اللّه - نحيف البدن ، ونحيل العود ، نقيّ اللون ، وقورا مهيبا في غير عبوس أو فظاظة ، طلق الوجه دائم البشر ، نظراته عميقة نفاذة ، ونبراته دقيقة أخّاذة ، فيها بحة.
كان جمّ التواضع ، هادئا ، محبا للخير ، ودودا محبوبا من كافة الطبقات.
كان خير مثل للعالم ، الورع الخلوق ، الذي يضمر الخير للجميع ، كان مثالا في النزاهة ، والتواضع والجرأة النادرة في الدعوة إلى الإصلاح ، وفي الاستقامة ، والحرص على الحقّ.
كان عدوّا للمظاهر الكاذبة ، يتخفّف في ثيابه وطعامه وفراشه ، ويكره التكلّف والمجاملة الزائدة ، ولا يقيم للمال وزنا في حياته ، كانت ثقته بربّه فوق كلّ شيء ، وكانت مثابرته على النضال في سبيل ما يؤمن به مضرب الأمثال ، وإخلاصه العميق كان سرّ نجاحه ، بينما يفشل الآخرون.
كان دائم المطالعة ، حريصا على صحبة الكتاب في خلواته وأوقات فراغه ، وكان شديد الاهتمام والعناية بكتب السيرة - على صاحبها ألف ألف سلام - وبكتب السلف والتاريخ والأدب.

(1/35)


ص : 36
كان فصيح اللسان ، بليغ الكلام ، وكان يمتاز بتمكّن عجيب من اللغة العربية ، وتذوّق رفيع للأدب ، وكانت تراكيبه اللفظية تلفت السامع ، وتستهوي القلب ، وكان يغلب على أسلوبه العنصر العاطفي الملتهب ، ومع ذلك إذا طرق باب البحث أجاد وأفاد وأمتع.
كان شديد العبادة والاجتهاد في رمضان ، وكان يؤمّه مئات من الناس من أنحاء الهند ويصومون معه ويقومون ، ويتحوّل المكان الذي يقضي فيه رمضان إلى زاوية عامرة بالذكر والتلاوة ، والسهر والعبادة.
(1/28)
كان من أعظم آماله - رحمه اللّه - أن يرى الإسلام سائدا على الأرض ، وأن يرى الدول الباغية مقهورة حتى يسلّي نفسه ويستبشر ، ويرى انتقام اللّه من الذين حاربوا الإسلام وأذلّوا المسلمين.
مؤلّفاته :
للعلّامة الندوي - رحمه اللّه - مؤلّفات قيمة ، ورسائل ممتعة في السيرة ، والفكر ، والدّعوة ، والأدب ، والتراجم ، نذكر هنا ما هو الأشهر منها بالعربيّة :
1 - السيرة النبوية.
2 - الطريق إلى المدينة.
3 - سيرة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه وسلّم (للمبتدئين).
4 - المرتضى (في سيرة سيدنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه).
5 - رجال الفكر والدّعوة في الإسلام (أربع مجلّدات).
6 - الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي ودعوته إلى اللّه.

(1/36)


ص : 37
7 - شخصيات وكتب.
8 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟!
9 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية.
10 - الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية.
11 - إلى الإسلام من جديد.
12 - المسلمون وقضية فلسطين.
13 - روائع من أدب الدعوة في القرآن والسيرة.
14 - الأركان الأربعة في ضوء القرآن والسنة.
15 - العقيدة والعبادة والسّلوك.
16 - التربية الإسلامية الحرّة.
17 - المدخل إلى الدراسات القرآنية.
18 - المدخل إلى دراسات الحديث.
19 - ربّانية لا رهبانيّة.
20 - القاديانية والقادياني دراسة وتحليل.
21 - في مسيرة الحياة (ثلاثة أجزاء في سيرته الذاتية).
22 - مختارات من أدب العرب (مجلّدان).
23 - روائع إقبال.
24 - إذا هبّت ريح الإيمان.
25 - المسلمون في الهند.
26 - مذكّرات سائح في الشرق العربي.

(1/37)


ص : 38
27 - قصص النبيّين (للأطفال).
28 - قصص من التاريخ الإسلامي (للأطفال).
(1/29)
وللعلّامة غير هذه المؤلّفات والكتب - مئات المقالات والمحاضرات والبحوث في السيرة النبوية ، والفكر ، والدّعوة ، والأدب ، والتراجم وفي موضوعات مختلفة ، وقد جمعناها ونشرناها مصحّحة ومنقّحة في سلسلة «تراث العلّامة الندوي» فقد صدر منها حتى الآن :
1 - محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة (ثلاث مجلّدات).
2 - مقالات إسلامية في الفكر والدّعوة (مجلّدان).
3 - دراسات قرآنية.
4 - مقالات في السيرة النبوية.
5 - من أعلام المسلمين ومشاهيرهم.
6 - أبحاث في التعليم والتربية الإسلامية.
7 - أبحاث في الحضارة الإسلامية والتربية.
8 - بحوث في الاستشراق والمستشرقين.
9 - رحلات العلّامة أبي الحسن علي الحسني الندوي.
10 - مكانة المرأة في الإسلام.
11 - خطابات صريحة إلى الأمراء والرّؤساء.
12 - اسمعيّات «1».
___________
(1) من يريد الاستزادة من الاطلاع على حياته وشخصيته داعية ، ومفكّرا ، ومربّيا وأديبا يرجع إلى كتابنا «أبو الحسن علي الحسني الندوي الإمام المفكّر الداعية الأديب» (الطبعة الثالثة) طبع في دار ابن كثير بدمشق.

(1/38)


ص : 39
السّيرة النّبويّة للدّاعية الحكيم ، المفكّر الإسلاميّ الكبير للعلّامة السيد أبي الحسن علي الحسني النّدوي (1333 - 1420 ه) (1914 - 1999 م) تحقيق وتعليق سيّد عبد الماجد الغوريّ

(1/39)


ص : 41
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مقدّمة الطّبعة الحادية عشرة
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين ، محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1/30)
أما بعد! فإنّ أكبر مجموع من كلمات الشّكر ، وإبداء السرور ، لا يكفي للتعبير عما يجده مؤلّف الكتاب - الذي يعرف قدره - من السرور ، والشكر والامتنان ، على صدور الطبعة الحادية عشرة لكتابه المفضّل المحبوب «السيرة النبوية» في سنة 1415 ه - 1995 م ، ولا يجد إلى ذلك سبيلا إلّا أن يستعين بالقول المأثور في الشكر والامتنان ، والاعتراف بالفضل والإحسان ، «الحمد للّه الذي بعزّته وجلاله تتمّ الصالحات».
وينتهز المؤلّف - ككلّ مؤلّف فاحص يواصل سيره في طلب المزيد الجديد ، والمنير المفيد ، في رحلته العلمية التأليفية - هذه الفرصة لضمّ زيادات ، ليست كبيرة القامة ، ولكنها كبيرة القيامة ، وتعديلات يسيرة ، إلى هذه الطبعة الحادية عشرة ، وآثر - في ضوء تجاربه كمؤلّف - أن يكون ذلك تحت إشرافه وعلى كثب منه.
وإلى القراء الكرام ، والمؤسّسات العلمية ، والمراكز التعليمية والتربوية ؛ التي عنيت بهذا الكتاب وأثرته دراسة وتدريسا ، وفحصا وتدقيقا ، هذه الطبعة الجديدة المزيدة ، والحمد للّه أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.
1 سلخ رجب 1416 ه 21/ 12/ 1995 م
2 المؤلف أبو الحسن علي الحسني النّدوي دار العلوم لندوة العلماء - لكهنؤ

(1/41)


ص : 42
تقديم الطّبعة السّابعة
الحمد للّه ربّ العالمين ، والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين محمد وآله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/31)
وبعد ؛ فقلب المؤلّف وقلمه يسجدان للّه شكرا ويلهجان بحمده نطقا وكتابة ، على تقديم الطبعة السابعة «للسيرة النبوية» فقد صدرت الطبعة الأولى سنة 1397 ه (1977 م) والطبعة السادسة في 1405 ه (1984 م) ، من دار الشروق بجدّة ، ولقي الكتاب من القرّاء والمعنيّين بالموضوع ، ورجال التربية والمؤسّسات العلمية ، عناية يحمد اللّه عليها المؤلّف ، ونقلت إلى عدّة لغات غير العربية مثل الأردوية والهندية (اللغة الرسمية في الهند القريبة إلى السّنسكريتية) والإنجليزية والتركية والأندونيسية ، وعني بها الدارسون في إطار هذه اللغات المنتشرة في نطاق واسع.
وقد سنحت للمؤلّف فرصة الاطّلاع على ما كتب في السيرة النبوية وما يتصل بها تاريخيا ، وجغرافيا ، وحضاريا ، واجتماعيا ، ودراسات مقارنة ، خصوصا في اللغات الثلاث : العربية ، والأردوية ، والإنجليزية ، في هذه الفترة ، فالتقط منها بعض ما يزيد في المواد الموضوعية ، وشرح خلفيات الحوادث والدراسة المقارنة ، ويلفت نظر المؤلّف إلى إيضاح بعض الجوانب التاريخية والعلمية ، والدعوية في السيرة النبوية فاستفاد من ذلك ، وقام بضمّ زيادات ذات قيمة يبلغ عددها إلى عشرين زيادة ، بين موجزة ومستفيضة ، يجدها القارىء في مكانها.
ولم يقتصر المؤلّف - من أوّل عهده بتأليف هذا الكتاب ، إلى استئناف

(1/42)


ص : 43
(1/32)
النظر فيه والزيادة والتنقيح - على عرض الوقائع والأخبار ومجرّد التاريخ والتوقيت كقائمة معلومات رتيبة خشبية ، بل عني كذلك باستنتاج نتائج عميقة المعنى بعيدة المدى ، ذات قيمة في دراسة سير الأنبياء ودعواتهم ، لا سيّما سيرة سيّدهم وخاتمهم صلّى اللّه عليه وسلّم ودعودته ، وفي النفسيات البشرية ، وعلم الاجتماع والأخلاق ، وهي من وحي السيرة ومن حقوقها وواجباتها على الدارس المؤمن والمعنيّ بتربية الأجيال المسلمة ، وتوجيه المربّين والدعاة ، والمؤلّفين والباحثين في موضوع السيرة.
وقد جاءت هذه الطبعة - بتوفيق اللّه تعالى ويسره - جامعة بين مواد السيرة الأصيلة الموثوق بها ، وبين أحدث ما كتب وتوصّل إليه الباحثون في هذا الموضوع ، وبين الأمانة التاريخية والتحقيق العلمي ، وبين تغذية الإيمان والعاطفة بما لا سبيل إليه إلّا في السيرة ، وهي غاية أكبر عدد من قرّائها ، وحاجة الجميع من أفراد البشر ، وذلك من غير تفخيم أو تلوين ، فالسيرة غنيّة عن كلّ هذا ، فائقة في روعتها وجمالها ، قائمة بذاتها في التأثير على النفوس والعقول.
وأخيرا المؤلّف يحمد اللّه على أنه فسح في أجله ، وهيّأ له الأسباب ، حتّى يتمكّن من النظر في كتابه وتناوله بالتنقيح والزيادة ، ويشكر «دار الشروق» العزيزة وصاحبها الحبيب الفاضل سعادة الأستاذ محسن أحمد باروم على عنايتها بنشر هذا الكتاب وإصداره طبعة بعد طبعة ، والعناية بحسن إخراجه ، ويسأل اللّه لهما التوفيق الدائم وحسن القبول.
1 بومباي الهند 17/ من ربيع الثاني 1407 ه 20/ 12/ 1986 م
2 أبو الحسن عليّ الحسني النّدوي أمين عام ندوة العلماء لكهنؤ (الهند)

(1/43)


ص : 44
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مقدّمة الكتاب في طبعة الأولى «1»
(1/33)
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين ، محمّد وآله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد ؛ فقد كانت السيرة النبوّية - على صاحبها الصلاة والسّلام - المدرسة الأولى التي تعلّم فيها مؤلف هذا الكتاب ، وقد دخلها في سنّ مبكّرة ، لا يدخل فيها الأطفال في عامة الأحوال ، والفضل في ذلك يرجع إلى الجوّ الذي كان يسود بيته وأسرته ، فقد كانت السيرة تكوّن عنصرا أساسيا في الثقافة التي يتلقّاها أبناء الأسرة وأطفال البيت ، وإلى المكتبة الصغيرة البسيطة المؤلّفة من منظوم ومنثور ، التي كانت تنتقل من يد إلى يد ، ثم إلى تربية أخيه الأكبر الدكتور السيد عبد العلي الحسني ، وتوجيهه الحكيم ، فقرأ في صباه أفضل ما كتب في السيرة النبوية في «أردو» - لغة مسلمي الهند - ، وهي أغنى لغات العالم الإسلامي بعد اللغة العربية في موضوع السيرة ، وهي تحتوي على أقوى وأجمل ما كتب فيها في العصر الأخير «1».
ثم لمّا صار يشدو باللغة العربية عكف على كتب السيرة ، التي ألّفت
___________
(1) اقرأ قصة صلة المؤلف بكتب السيرة ، وتأثيرها في ثقافته وعقليته وسيرته في كتاب «الطريق إلى المدينة» المقال الأول بعنوان «الكتاب الذي لا أنسى فضله» ص (15) من طبعة دار ابن كثير بدمشق.

(1/44)


ص : 45
فيها ، وكانت في مقدّمتها «السيرة النبوية» لابن هشام ، و«زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيّم الجوزية ، ولم يدرسهما دراسة علمية فحسب ، بل عاش فيهما زمنا طويلا ، يذوق بهما حلاوة الإيمان ، ويغذّي بما جاء فيهما من القصص والأخبار عاطفة الحبّ والحنان ، ومن المقرّر أن السيرة أقوى العناصر التربوية وأكثرها تأثيرا في النفس والعقل بعد القرآن ، ثم قرأ ما وصلت إليه يداه من كتب السيرة المؤلّفة قديما وحديثا ، وفي لغات مختلفة.
(1/34)
وكانت السّيرة هي المادّة الأولى التي يعتمد عليها في كتاباته ومحاضراته ، يستمد منها القوّة في البيان ، والتأثير في العقول والقلوب ، والدلائل القوية ، والأمثلة البليغة ، لإثبات ما يريد إثباته ، وهي التي كانت ولا تزال تفتّق قريحته ، وتشعل مواهبه ، وما من كتابة ذات قيمة من كتاباته إلا وعليها مسحة من جمال السيرة ، وفضل لدراستها والتأمل فيها.
وقد جمع ما كتب في جوانب السيرة المختلفة ، وعظمة البعثة المحمّدية وما ألقاه من محاضرات وأحاديث ، في كتاب أسماه «الطريق إلى المدينة» «1».
وقد عاش المؤلّف هذه المدّة الطويلة ، وقد ألّف عشرات من الكتب لا يفكّر في إفراد كتاب في السيرة النبوية ، رغم أنه كان يشعر بمسيس الحاجة إلى كتاب كتب في أسلوب عصريّ علميّ ، استفيد فيه من خير ما كتب في القديم والحديث ، مؤسّسا على مصادر السيرة الأولى الأصيلة ، مطابقا لما جاء في القرآن والسنة الصحيحة ، لم يكتب في الأسلوب الموسوعي) cideapolcycnE (الحاشد للمعلومات في غير نقد وتمحيص ، الأسلوب الذي
___________
(1) ظهرت لهذا الكتاب ثلاث طبعات في المدينة المنورة ، ولكهنؤ ، وآخرها طبعة دار ابن كثير ودار القلم بدمشق.

(1/45)


ص : 46
(1/35)
اعتاده أكثر المؤلّفين المتوسّطين والمتأخّرين وقليل من المؤلّفين المتقدّمين ، والذي كان مثار كثير من التساؤلات التي برّأ اللّه السيرة الكريمة منها ، وأغنى المسلمين عنها ، قد نالته يد التنقيح والتحقيق من غير تقليد للاتجاهات العصرية ، وخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشكّكين ، متمشيا مع المقرّرات الدينية التي تفهم في ضوئها الكتب السّماوية وسير الأنبياء ، والمعجزات ، والأخبار الغيبية ، قائما على مبدأ أنه سيرة نبيّ من الأنبياء ، مبعوث من اللّه ، مؤيّد منه ، لا سيرة عظيم من العظماء ، أو زعيم من الزعماء ، يسوغ أن يقدّم إلى كل مثقف منصف من المسلمين وغير المسلمين من غير تحفّظ أو استثناء ، أو حاجة إلى تأويل ، يعتمد فيه المؤلّف على الحوادث والوقائع ، ومادة السيرة ، ويدعها تنطق بلسانها ، وتشقّ الطريق بنفسها إلى القلوب والعقول ، أكثر مما يعتمد على فلسفته للحوادث وتعليله للأخبار ، ومقدماته الطويلة العريضة ، فالسيرة النبوية غنية بجمالها وروعتها وسحرها على النفوس والعقول ، ووقعها منها موقع القبول ، من شفاعة شافع وتدليل حكيم ، وبراعة أديب ، وجلّ ما يحتاج إليه المؤلّف ، هو جمال العرض ، وحسن الترتيب ، وجودة التلخيص.
ثم يتجلّى فيه العقل والعاطفة جوارا بجوار ، فلا يكون فيه البحث العلمي والنقد التحليلي على حساب العاطفة والحب والإيمان ، اللذان لا بدّ منهما في تذوّق السيرة والاستفادة منها وفهم قضاياها وأحكامها وحوادثها ، فإنه إذا تجرّد الكتاب من العاطفة والحب والإيمان ، كان خشبيا مصنوعا لا حياة فيه ، وكذلك يجب ألا يكون العنصر العاطفي العقيدي على حساب المتطلبات العقلية السليمة التي نماها هذا العصر بصورة خاصة ، وعلى حساب المنطق السليم الذي لم يتجرد منه عصر من العصور ، فيكون كتاب عقيدة وتقليد فحسب ، لا يطيق قراءته ولا يسيغ ما جاء فيه إلا الأقوياء في الإيمان ،
(1/36)

(1/46)


ص : 47
والراسخون في الإسلام ، من الذين نشؤوا في بيئة دينية خالصة لا شأن لها بالعالم الخارجي ، وبالثقافة العصرية ، وذلك وإن كانت موهبة من اللّه ، فإن سيرة نبيّ أرسل إلى الناس كافة ، وأرسل رحمة للعالمين ، لا يجوز أن تجعل مقصورة على هذه الطبقة السعيدة المؤمنة ، محجورة على من لم تسمح ظروفهم بالنشوء في هذه البيئة المسلمة المؤمنة ، وأرادت حكمة اللّه أن يولدوا في بيئات غير إسلامية ، ثم يدركهم اللطف الإلهي ، وتهبّ عليهم نفحة من نفحات هذه السيرة العطرة ، فينتقلون بقوتها وجاذبيتها إلى حظيرة الإيمان ومعسكر الإسلام ، وليس حق غير المسلمين على هذه السيرة وحظهم فيها أقلّ من حق المسلمين الذين نشؤوا في ظلال الإيمان والإسلام ، والدواء حاجة المريض أكثر من حاجة السليم ، والقنطرة يحتاج إليها من يعيش وراء النهر أكثر مما يحتاج إليها من يعيش دونه.
ثم لا يسع المؤلّف في السيرة صرف النظر عن البيئة التي كان فيها وجودها وقيامها ، وعن العصر الذي كان فيه طلوعها وبزوغها ، فلا بد من وصف الجاهلية العالمية الضاربة أطنابها على الأرض كلها في القرن السادس المسيحي ، ومدى ما وصل إليه هذا العصر من الفساد والانحطاط ، والقلق والاضطراب ، ووصف حالته الخلقية والاجتماعية ، والاقتصادية والسياسية وما تضافر عليه من عوامل الإفساد والإضلال والتدمير والإبادة ، من حكومات جائرة ، وأديان محرّفة ، وفلسفات متطرفة ، وحركات هدّامة.
وحين أراد المؤلّف أن يكتب فصلا في تفصيل وتوسّع على العصر الجاهلي يقدم به كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟» وجد في ذلك صعوبة لا ينساها حتى اليوم ، واضطرّ إلى أن يجمع المعلومات من المراجع الأجنبية والكتب التي ألّفت في تاريخ البلاد والأمم ، والدّول المعاصرة لنشوء الإسلام ، في اللغات الأوربية ، فالتقطها من ثنايا هذه الكتب كما تلتقط حبّات
(1/37)

(1/47)


ص : 48
السّكّر الدقيقة من أفواه النّمل (حسب المثل الأردي) ، فجاء هذا الفصل الموسّع «1» ، الذي ينير الطريق لمن يقرأ كتب السيرة ، ويحاول أن يدرك عظمة البعثة المحمدية وضخامة المهمة التي اضطلعت بها والنتائج العظيمة الجسيمة التي أسفرت عنها.
وكان كلّ كتاب يؤلّف في السيرة النبوية في العصر الحديث جديرا بهذا النوع من البحث والنمط في التحقيق ، وإلقاء الأضواء القوية العلمية على العصر الجاهلي والتصوير الدقيق الأمين لما كان يجيش به من فساد واضطراب ، وانهيار وانتحار.
وذلك شأن البيئة التي كانت فيها البعثة ، وظهور الإسلام ، والبلد الذي ظهرت فيه هذه الدعوة ، وولد فيه صاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - وقضى فيه ثلاثا وخمسين سنة من عمره ، وعاشت فيه الدعوة ثلاث عشرة سنة ، فلا بدّ أن يعرف الدارس للسّيرة مدى ما وصل إليه العقل فيه والوعي والمدنيّة ، ومكانة هذا البلد الاجتماعية والسياسية وحالته الدينية والعقائدية ووضعه الاقتصادي والسياسي ، وقوّته الحربية والعسكرية حتى يعرف طبيعة هذا البلد وعقلية سكانه والعقبات التي كانت تعترض في سبيل انتشار الإسلام وشقه الطريق إلى الأمام.
وقل مثل ذلك وأكثر عن مدينة (يثرب) التي انتقل إليها الإسلام ، وهاجر إليها الرسول وأصحابه ، وأراد اللّه أن تكون مركز الإسلام الأول ، فلا يقدّر مدى قيمة النجاح الذي حقّقه الإسلام وقدرته على التربية والبعث الجديد ، وحل المعضلات ، والجمع بين العناصر المتناقضة وعظمة المأثرة النبوية ،
___________
(1) جاء هذا الفصل في الباب الأول ، في كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟» بعنوان : «الإنسانية في احتضار» طبع دار ابن كثير بدمشق.

(1/48)


ص : 49
(1/38)
وإعجازها في تأليف القلوب وتربية النفوس ، إلا إذا عرف الإنسان وضعيّة هذه البيئة الغريبة المعقّدة التي واجهها الرسول والمسلمون.
ولا تفهم كثير من الحوادث والأحكام التي يمرّ بها القارىء في كتب السيرة والحديث إلا إذا عرف حالة المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وطبيعة أرضها وجغرافية هذا البلد وما حوله ، وما كان يتركب به من عناصر إنسانية وإقليمية ، وصلات أجزاء عمرانه بعضها ببعض ، والأعراف والمعاملات الشائعة قبل الهجرة وانتشار الإسلام فيه.
فإذا جهل القارىء كلّ هذا ، وبدأ رحلته في كتب السيرة شعر بأنه يمشي في نفق لا يبصر فيه ما حوله ، وكان على غير بينة من الأمر.
وكذلك القول عن الحكومات المعاصرة والبلاد المجاورة ، فلا يتبيّن القارىء خطورة الإقدام الذي قامت به الدعوة الإسلامية ، وقوة مغامرتها ، إلا إذا عرف حجم هذه الحكومات التي كانت تقوم حوله ، والتي خاطبها الإسلام ودعاها الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى الإيمان برسالته ، وقبول حكم الإسلام ، وما وصلت إليه من المدنية والثقافة ، والقوة الحربية والرفاهية والعمران ، وما كان يتمتع به ملوكها من حول وطول ، وصولة وشوكة.
وقد ألقى العلم الحديث ضوءا على تاريخ هذه الحكومات والبلاد والمجتمعات التي كانت تعيش فيها ، ورفع الستار عن كثير مما كان مجهولا أو غامضا أو ملتويا في العصر القديم ، فكان من الواجب أن يستعين بكل ذلك المؤلّف العصريّ في السيرة النبوية ، ويستعين بالحديث الأحدث ممّا كتب ونشر من كتب التاريخ والجغرافية ، والدراسة المقارنة.
كان المؤلّف يشعر بكلّ هذا مع اعتراف بجهود المؤلّفين في هذا الموضوع ، وبقيمة ما صدر عن أقلامهم في فترات مختلفة ولغات مختلفة ،

(1/49)


ص : 50
وفضله في الدعوة الإسلامية ، وتحبيب السيرة إلى نفوس القراء ، وتقريبها إلى أذهان الناشئة.
(1/39)
وكان يرى السعادة في تأليف كتاب جديد في السّيرة النبوية لينخرط في سلك المؤلّفين النورانيّ في هذا الموضوع الحبيب الجليل.
ولكنّه كان يتهيّب الكتابة في هذا الموضوع في توسّع وتفصيل ، لضيق وقته ، وضعف بصره ، ولأنه جرّب أن كتاب سيرة لعظيم من العظماء فضلا عن نبيّ من الأنبياء ، فضلا عن سيّد الأولين والآخرين ، وأشرف المرسلين ، من أصعب الموضوعات التي يعالجها المؤلّفون وأدقّها ، وقد مارس موضوع تأليف السّير والتراجم للشخصيات المشهورة وأعلام المسلمين من القدماء والمحدثين والمعاصرين عمليا ، فقد اشتغل بكتابة السّير وحياة العظماء من أئمّة المسلمين وقادتهم ، والمصلحين والعلماء الربّانيّين ، بعد ما شبّ عن الطوق ، وأمسك القلم ، وعرف الكتابة ، وقد كتب بقلمه آلافا من الصفحات في سيرة هؤلاء العظماء ، وعاش بين التراجم والسّير منذ الصغر ، فقرأ منها الكثير وكتب منها الكثير «1».
ومن هنا عرف دقّة هذا الموضوع ، وضخامة هذه المسؤولية ، فمن المؤلّفين من تتغلّب عليه نزعة أو اتجاه خاصّ ، فيخضع له من يترجمه من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر ، فتأتي كتابته صورة لعقليته وعاطفته ،
___________
(1) [و من تلكم الكتب - فضلا عن السيرة النبوية هذه - «المرتضى» في سيرة أمير المؤمنين سيدنا أبي الحسن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكرّم وجهه ، طبع في دار القلم بدمشق و«رجال الفكر والدّعوة في الإسلام» في أربعة أجزاء ؛ طبع أخيرا في دار ابن كثير بدمشق ، وعشرات من المقالات في سيرة الأئمّة المصلحين والعلماء الربانيّين من القدماء والمعاصرين ، فقد جمعناها في كتاب مستقلّ ، ونشرناها بعنوان «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» في سلسلة «تراث العلامة الندوي» صدر في دار ابن كثير بدمشق ].

(1/50)


ص : 51
ممثّلة لاتجاه خاص كان يسيطر على مؤلف الكتاب.
(1/40)
ومنهم من يريد أن يصوّر أحد العظماء فيصوّر نفسه ، ويريد أن ينظر إليه نظرة مجردة ، فيبدأ ينظر إليه من خلال ميوله وتجاربه ووجهة نظره ، ويسلّط عليه مقاييسه الخاصة.
إنّ من درس علم النفس والأخلاق ، وعني بدراسة الشخصيات المعاصرة ، وعاش معها طويلا عرف أنّ النزول في أعماق نفس إنسان والإحاطة بافاقها ، وتصويرها تصويرا دقيقا شاملا من أصعب أنواع المعرفة وأساليب البيان وأدقّها ، وأنه لا يحسن ذلك بعض الإحسان ، ولا يقدر عليه بعض القدرة إلا من عرف شيئا كثيرا من خوالج النفس وخواطرها ، وآمالها وآلامها ، وأحزانها وأشواقها والتهاب الروح ، ولوعة القلب ، وقد رأى كيف يبيت هذا الإنسان ليله ويقضي نهاره ، وكيف يعاشر أهله ويعامل أصحابه ، قد رآه في السّلم والحرب ، والرّضا والغضب ، وفي العسر واليسر ، والضّعف والقوّة ، ومن أحوال النفس الإنسانية ومشاعرها وأحاسيسها ، ومن مظاهر الجمال والكمال ما لم توضع له ألفاظ بعد ، ولا تفي به ثروة لغوية مهما اتّسعت ودقّت.
والسّيرة النبويّة المحمّدية تتميّز من بين سير أفراد البشر - وفيهم الأنبياء وغير الأنبياء - بدقّتها وشمولها ، واستيعابها لدقائق الحياة وتفاصيلها وملامحها وقسماتها ، وذلك بفضل علم الحديث ، الذي لا يوجد له نظير ، لا في تاريخ الأنبياء ولا في تاريخ العظماء ، وكتب السّير والشمائل ، وما جمع وحفظ من الأدعية «1» والأذكار النبوية ، ومناجاته صلى اللّه عليه وسلم لربّه آناء الليل
___________
(1) ليراجع مقال المؤلّف في صلة الأدعية النبوية بالسيرة ؛ وقيمتها وأهميتها في دراستها ، وأنها مرآة تجلت فيها خصائص النبوة وأسرارها وصلتها باللّه وبالخلق ، والمعرفة الدقيقة لحقائق -

(1/51)


ص : 52
(1/41)
والنهار وما حفظ ونقل من جوامع الكلم ، وما أثر عن الوصافين الحاذقين من أصحابه وأهل بيته في صفته التي لم تحفظ كتب الآداب والتاريخ والأنساب ، صفة أكثر منها دقة ، وأعظم منها استيعابا للملامح البشرية والدقائق الخلقية «1».
ولذلك لم يكن الأمر في تأليف السيرة النبوية من الصعوبة والغموض ، والافتراض والقياس ، كما هو في سير العظماء الأبطال ، وأنّ سيرته صلى اللّه عليه وسلم أكمل السّير كما كانت أجملها ، وهي مؤسّسة على نصوص قرآنية ووثائق تاريخية ودقائق في الخلق والخلق ، وتفاصيل في العادات والعبادات ، والأخلاق والمعاملات ، لا يتصوّر فوق ذلك ، وهي أقرب إلى الحقيقة والواقع ، قربا لا يتصوّر فوقه ، ولا يطمع في أكثر منه ، بعد أن مضى على هذه الحياة الطيبة الكريمة مدة طويلة.
ولكن رغم وجود هذا الفارق الكبير بين سيرته صلى اللّه عليه وسلم وبين سير العظماء بل وبين سير الأنبياء ، ورغم دقّتها التي لا دقّة فوقها ، وشمولها الذي لا شمول فوقه ، لا بدّ من الاعتراف بأن تصوير حياته وأخلاقه ، واستيعاب المعجزات التي اشتملت عليها سيرته ودعوته وحياته الانفرادية والاجتماعية ، ومعاملته
___________
- الحياة الإنسانية ، وعلم النفس والأخلاق ودقائقها ؛ وقد نشر هذا المقال في رسالة مفردة في الأردية ، ونقلها إلى العربية الأستاذ نور عالم الأميني الندوي ، ونشرتها «المختار الإسلامي» في القاهرة بعنوان «دراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية» [و نشرت أخيرا بعنايتنا في دار البشائر الإسلامية ببيروت ، مع مقال للعلّامة المؤلّف بعنوان «نظرات في الأدب النبوي ، ودراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية»].
(1/42)
(1) [اقرأ للتفصيل مقال العلّامة المؤلّف «النبي الخاتم ، والدين الكامل ، ومالها من أهمية في تاريخ الأديان والملل» ضمن مقالاته في السيرة النبوية التي جمعناها في كتاب مستقلّ بعنوان «مقالات حول السيرة النبوية» صفحة (115) ، صدر في سلسلة «تراث العلامة الندوي» عن دار ابن كثير بدمشق عام 1423 ه - 2002 م ].

(1/52)


ص : 53
مع اللّه ومع الخلق ، وآيات الحسن والإحسان في تكوين خلقه وخلقه ، وفي حبّه ورأفته ، وفي دعائه وابتهاله ، وفي تألّمه للإنسانية ومصيرها ، وفي منطقه وحكمته ، وفي جامعيته وكماله ، يكاد يكون مستحيلا ، وأنّ ما جاء في كتب السّير والشمائل - على جماله وروعته - هو بعض ما خصّه اللّه به من جمال السيرة وكمال الخلق والخلق لا كلّه ، وإن جلّ ما هنالك أنها محاولات وجهود يشكر عليها هؤلاء المؤلّفون ويؤجرون عليها ، وهي ثروة عامة خالدة ، يجد فيها كل إنسان وكل جيل من البشر ، وكل طبقة من طبقات الناس حظها من الهداية والنور والتقليد والاقتداء لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب : 21].
لكلّ ذلك كنت أتهيّب الكتابة في السيرة النبوية والتأليف فيها ، وأستعظمها وأستصغر نفسي.
وقد حثّني عدد من الفضلاء وكرام الأصدقاء «1» على أن أؤلّف كتابا في السيرة النبوية في اللغة العربية أراعي فيه عقلية الجيل الجديد وذوقه ومستوى فهمه ونفسيته ، وما جد من طلبات وحاجات وأسلوب كتابي ومنهج علمي ، فلكل عصر أسلوبه ولغته ، ومقادير وترتيبات في الأدوية والأغذية ، وذلك كما قدمنا ، من غير إخضاع السيرة النبوية للأهواء والأغراض وللنظريات العلمية التي تتغير صباح مساء ، والشبه والاعتراضات التي يدفع إليها التعصّب الدينيّ أو الجهل العلمي أو الغرض السياسيّ.
(1/43)
وشرح اللّه صدري أخيرا لهذا التأليف ، فعكفت على هذا الموضوع
___________
(1) في مقدمتهم صديق المؤلف فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة [توفّي - رحمه اللّه - بتركية عام 1413 ه (1992 م)].

(1/53)


ص : 54
وعشت فيه ، أقرأ كتب السيرة والحديث ، وكل ما أستعين به في هذا الموضوع من القديم والحديث ، وبدأت أكتب معتمدا على أصحّ ما كتب وألّف في هذا الموضوع ، واستعنت بما كتب في هذا الموضوع في العصر القديم والعصر الحديث ، وبالمراجع الأجنبية التي توضح الكثير من السيرة ، والتاريخ المعاصر ، وتلقي ضوءا على الحكومات والمجتمعات المعاصرة «1».
وحاولت أن يجمع الكتاب بين الجانب العلمي وبين الجانب التربوي البلاغي ، لا يطغى أحدهما على الآخر ، وأن يشتمل على أكبر مقدار من القطع النابضة الدافقة بالحيوية والتأثير ، الآسرة للقلوب والنفوس التي لا يوجد نظيرها في سيرة إنسان ولا في تاريخ فرد أو جيل ، أو دعوة أو دين ، وذلك كله من غير تنميق أو تلوين ، أو تحبير أو تحسين ، فجمال الطبيعة والحقيقة لا يحتاج إلى تجميلات خارجية ، أو تزيينات صناعية.
وكان هذا الكتاب شغلي الشاغل ما بين شوال 1395 ه وشوال 1396 ه (أكتوبر 1975 م - أكتوبر 1976 م) لم أشتغل بغير هذا الموضوع إلا اضطرارا ، تتخلّل ذلك فترات قليلة من المرض ورحلات طويلة في الشّرق والغرب ، حتى يسّر اللّه إتمامه في غرة شوال سنة 1396 ه ، وها هو الآن بين يدي القراء.
وأرى لزاما عليّ أن أشكر صديقين فاضلين لقيت منهما مساعدة كبيرة في تأليف هذا الكتاب ، وهما فضيلة الشيخ برهان الدين السّنبهلي - أستاذ الحديث والتفسير في دار العلوم ندوة العلماء - وقد أعانني في تخريج الأحاديث والبحث عنها ، والتحقيق في بعض ما جاء في كتب السيرة ، جزاه
(1/44)
___________
(1) وفي آخر الكتاب قائمة للمراجع العربية والأجنبية.

(1/54)


ص : 55
اللّه خير الجزاء ، والأستاذ محيي الدين أحمد «1» فقد ساعدني مساعدة غالية في دراسة المراجع الأجنبية ، والتقاط المعلومات المفيدة من كتب تاريخ الأمم والبلاد ، والموسوعات الأجنبية ، والمؤلّف شاكر لفضله معترف لجهوده وإخلاصه.
ولما كان هذا الكتاب كله إملاء لعجز المؤلّف عن الكتابة مباشرة استعان ببعض الإخوان في كتابته ، وكان في مقدّمتهم العزيزان : محمد معاذ الإندوري الندوي ، وعلي أحمد الكجراتي الندوي ، وساهم في ذلك الأستاذ نور عالم الأميني الندوي.
وقد كان للأستاذ محمد حسن الأنصاري فضل في وضع الخرائط التاريخية الجغرافية التي زيّن بها الكتاب ، وزاد في قيمته العلمية ، كما كان للأستاذ الكبير الدكتور محمد شفيع رئيس قسم الجغرافيا في جامعة «عليّ كره» الإسلامية ومساعد نائب رئيس الجامعة ، وللقسم الجغرافي في الجامعة فضل في تحسينها وإكمالها ، والمؤلّف شاكر للإخوان جميعا.
واللّه أسأل أن ينفع بهذا الكتاب وأن يتقبّله تقبّلا حسنا ، وأن يجعله ذخرا للآخرة ، ووسيلة لدراسة هذه السيرة الطاهرة والاستزادة منها والانتفاع بها ، وكفى للمؤلّف شكرا ، وللكتاب قيمة إذا أثار كامن الحبّ والإيمان في نفس مؤمن ، وانجذابا في قلب أحد من غير المسلمين إلى هذه السيرة الطاهرة العطرة ، وحملته على دراسة الإسلام وتفهمه ، إنّه وليّ التوفيق.
الجمعة 5/ 11/ 1396 ه 29/ 10/ 1976 م
أبو الحسن عليّ الحسني النّدوي رائي بريلي - الهند
___________
(1) وهو الذي وفّق أخيرا لنقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية ، وقد صدرت له طبعتان.

(1/55)


ص : 56
خريطة الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية
(1/45)
رسمنا أسماء الأماكن والبحار والبحيرات والأنهار كما كانت تسمى في القرن السادس المسيحي حسب نطقها اللاتيني

(1/56)


ص : 57
الفصل الأول مدخل إلى السّيرة النّبويّة
العصر الجاهليّ :
أ - نظرة إجمالية على الوضع الدّيني في القرن السادس المسيحيّ.
ب - إطلالة على البلاد والأمم في القرن السادس المسيحيّ :
1 - الإمبراطورية الرّومانية الشّرقية.
2 - الإمبراطورية الإيرانيّة السّاسانية.
3 - الهند.
4 - أوربّة.
5 - الجزيرة العربية.
لماذا بعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في جزيرة العرب ؟
جزيرة العرب قبل البعثة.
مكّة في زمن البعثة وعند ظهور الإسلام.

(1/57)


ص : 59
العصر الجاهليّ
نظرة إجماليّة على الوضع الدّيني في القرن السّادس المسيحيّ
أصبحت الدّيانات العظمى ، وصحفها العتيقة ، وشرائعها القديمة - الّتي مثّلت في أزمان مختلفة دورها الخاصّ في مجال الدّيانة والأخلاق والعلم - فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرّفين والمنافقين ، وعرضة الحوادث الدّامية والخطوب الجسيمة حتّى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأوّلون ، وأنبياؤها المرسلون ، أنكروها وتجاهلوها «1».
1 - اليهودية :
أصبحت اليهوديّة مجموعة من طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة ، وهي - بصرف النظر عن ذلك - ديانة سلاليّة ، لا تحمل للعالم رسالة ، ولا للأمم دعوة ، ولا للإنسانيّة رحمة.
___________
(1/46)
(1) اقرأ قصة ما تعرضت له صحف الأمم السابقة - صاحبة الديانات الشهيرة - من تحريف وتبديل وضياع وإبادة أحيانا ؛ في ضوء الوثائق التاريخية ، وشهادات علماء هذه الديانات من أسفار العهد العتيق والعهد الجديد إلى «أوستا» الإيرانية ، و«ويدا» صحف الهند العتيقة في كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» المحاضرة السابعة عنوان «الصحف السماوية السابقة ؛ والقرآن ، في ميزان العلم والتاريخ» ص 198 - 206 (طبعة دار القلم ، دمشق ، بيروت) [و في «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» للعلّامة الندوي ، ج : 3 ، ص : 119 ، طبع دار ابن كثير دمشق ].

(1/59)


ص : 60
وقد أصيبت هذه الدّيانة في عقيدة كانت لها شعارا من بين الدّيانات والأمم وكان فيها سرّ شرفها ، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزّمن القديم وهي عقيدة التّوحيد الّتي وصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ، فقد اقتبس اليهود كثيرا من عقائد الأمم الّتي جاوروها أو وقعوا تحت سيطرتها ، وكثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنيّة الجاهليّة ، وقد اعترف بذلك مؤرّخو اليهود المنصفون ، فقد جاء في «دائرة المعارف اليهودية» ما معناه :
«إنّ سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان تدلّ على أنّ عبادة الأوثان والآلهة ، كانت قد تسرّبت إلى نفوس الإسرائيليين ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنّفي في بابل ، وقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة ، إنّ التّلمود أيضا يشهد بأنّ الوثنية كانت فيها جاذبية خاصّة لليهود» «1».
(1/47)
ويدلّ تلمود «2» بابل الّذي يبالغ اليهود في تقديسه ، وقد يفضلونه على التوراة وكان متداولا بين اليهود في القرن السّادس المسيحيّ ، وما زخر به من نماذج غريبة من خفّة العقل وسخف القول ، والاجتراء على اللّه ، والعبث بالحقائق ، والتلاعب بالدّين والعقل ، على ما وصل إليه المجتمع اليهوديّ في هذا القرن من الانحطاط العقليّ وفساد الذوق الدينيّ «3».
2 - المسيحية :
أمّا المسيحيّة فقد امتحنت بتحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، ووثنيّة
___________
(1) 69 - 568. p, IIX - LOV, aidepolcycnE hsiweJ.
(2) كلمة تلمود معناها كتاب تعليم ديانة اليهود وآدابهم ؛ وهي مجموعة حواش وشروح لكتاب «المشنا» : «الشريعة» لعلماء اليهود في عصور مختلفة.
(3) اقرأ للتفصيل «اليهودي على حسب التلمود» «للدكتور روهلنج» وترجمته العربية في «الكنز المرصود في قواعد التلمود» للدكتور يوسف حنا نصر اللّه (من الفرنسية).

(1/60)


ص : 61
الرّومان المتنصّرين «1» ، منذ عصرها الأول ، وأصبح كلّ ذلك ركاما ، دفنت تحته تعاليم المسيح البسيطة ، واختفى نور التّوحيد وإخلاص العبادة للّه وراء هذه السّحب الكثيفة.
يتحدّث كاتب مسيحيّ فاضل عن مدى تغلغل عقيدة التثليث في المجتمع المسيحيّ ، منذ أواخر القرن الرابع الميلاديّ ، فيقول :
«تغلغل الاعتقاد بأنّ الإله الواحد مركبّ من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحيّ وفكره ، منذ ربع القرن الرابع الأخير ، ودامت كعقيدة رسميّة مسلّمة ، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحيّ ، ولم يرفع الستار عن تطوّر عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلاديّ» «2».
(1/48)
ويتحدّث مؤرّخ مسيحيّ معاصر عن ظهور الوثنية في المجتمع المسيحيّ في مظاهر مختلفة وألوان شتى ، وتفنّن المسيحيون في اقتباس الشعائر والعادات والأعياد والأبطال الوثنية من أمم وديانات عريقة في الشرك بحكم التقليد أو الإعجاب أو الجهل ، جاء في «تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر» :
«لقد انتهت الوثنية ، ولكنها لم تلق إبادة كاملة ، بل إنها تغلغلت في النفوس واستكنّ كلّ شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها ، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدا من شهدائهم ، ولقبوه
___________
(1) راجع كتاب «الصراع بين الدين والعلم» للمؤلف الأوربي الشهير «درابر reparD» ص 40 41.
(2) ملخص ما جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة ، مقال التثليث المقدس ، ج 14 ؛ ص 295.

(1/61)


ص : 62
بأوصاف الآلهة ، ثمّ صنعوا له تمثالا ، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشّهداء المحليين.
ولم ينته هذا القرن حتى عمّت فيهم عبادة الشهداء والأولياء ، وتكونت عقيدة جديدة ، وهي أنّ الأولياء يحملون صفات الألوهية ، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسطا بين اللّه والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين ، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها ، وغيّرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة ، حتى تحوّل في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح» «1».
(1/49)
وجاء القرن السادس المسيحيّ ، والحرب قائمة على قدم وساق ، بين نصارى الشام والعراق وبين نصارى مصر ، حول حقيقة المسيح وطبيعته ، تحولت بها المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات متنافسة يكفّر بعضها بعضا ، ويقتل بعضها بعضا ، كأنها حرب بين دينين متنافسين ، أو أمتين متحاربتين «2» ، فأصبح العالم المسيحيّ في شغل بنفسه عن محاربة الفساد ، وإصلاح الحال ، ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح للإنسانية.
3 - المجوس :
أمّا المجوس فقد عرفوا من قديم الزّمان بعبادة العناصر الطبيعية وأعظمها النار ، وقد عكفوا على عبادتها أخيرا ، يبنون لها هياكل ومعابد ، وانتشرت بيوت النار هذه في طول البلاد وعرضها ، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة ،
___________
(1) راجع
Rev. James Houston Bzxter The History of Christianity In The Light of Modern Knowledge, (Glasgow, 1959) p. 407.
(2) راجع «فتح العرب لمصر» ل «ألفردبتلر» تعريب محمد فريد أبو حديد ، ص 37 ، 38 ، 47.

(1/62)


ص : 63
وانقرضت كلّ عقيدة وديانة غير عبادة النار وتقديس الشمس ، وأصبحت الديانة عندهم عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصّة ، أمّا خارج المعابد فكانوا أحرارا ، يسيرون على هواهم ، وما تملي عليهم نفوسهم ، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لا دين لهم ولا خلاق ، في الأعمال والأخلاق «1».
يصف مؤلّف «إيران في عهد السّاسانيّين» الدّانماركيّ الأستاذ «آرتهر كرستين سين» طبقة رؤساء الدّين ووظائفهم فيقول :
(1/50)
«كان واجبا على هؤلاء الموظّفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم ، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء ، وكانوا مكلّفين بأدعية خاصّة ، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنّار والأكل والعطس وحلق الشعر وقلم الأظفار ، وقضاء الحاجة وإيقاد السّراج ، وكانوا مأمورين بألّا يدعوا النار تنطفىء ، وألا تمسّ النار والماء بعضهما بعضا ، وألا يدعوا المعدن يصدأ ، لأنّ المعادن عندهم مقدّسة» «2».
وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار ، وقد حلف «يزدجرد» - آخر الملوك السّاسانيين - بالشمس مرة ، وقال : «أحلف بالشّمس التي هي الإله الأكبر» وقد كلّف التائبون عن المسيحيّة عبادة الشمس إظهارا لصدقهم «3».
___________
(1) اقرأ كتاب «إيران في عهد الساسانيين» للبروفيسور «آرتهر كرتسن سين» أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة «كوبنهاجن» بالدانمارك ، المتخصص في تاريخ إيران ، و«تاريخ إيران» تأليف «شاهين مكاريوس» المجوسي.
(2) إيران في عهد الساسانيين : ص 155.
(3) المصدر السابق : ص 186 - 187.

(1/63)


ص : 64
وقد دانوا بالثنويّة في كلّ عصر وأصبح ذلك شعارا لهم ، وآمنوا بإلهين اثنين أحدهما النور أو إله الخير ، ويسمّونه «آهور مزدا» أو «يزدان» والثاني الظلام أو إله الشر ، وهو «أهرمن» ولا يزال الصّراع بينهما قائما والحرب دائمة «1».
يذكر المؤرّخون للدّيانة الإيرانية مجموعة أساطير متصلة بالآلهة) ygolohtyM (لا تقلّ في غرابتها وتفاصيلها الدقيقة عن الميثولوجيا الإغريقيّة أو الهنديّة «2».
4 - البوذية :
(1/51)
أمّا البوذيّة - الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى - فقد تحوّلت وثنيّة تحمل معها الأصنام حيث سارت ، وتبني الهياكل ، وتنصب تماثيل «بوذا» حيث حلّت ونزلت «3» ، ولم يزل العلماء يشكّون في إيمان هذه الديانة ومؤسّسها بالإله الخالق للسّماوات والأرض والإنسان ولا يجدون ما يثبت ذلك ، ويحارون في قيام هذه الديانة العظيمة بغير الإيمان باللّه «4» فيها.
5 - البرهميّة :
أمّا البرهميّة - دين الهند الأصيل - فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة والإلهات ، وقد بلغت الوثنيّة أوجها في القرن السّادس فبلغ عدد الآلهة في هذا
___________
(1) نفس المصدر باب الدين الزردشتي ديانة الحكومة : ص 183 - 233.
(2) إيران في عهد الساسانيين : ص 204 - 209.
(3) راجع كتاب «الهند القديمة» للأستاذ «إيشورا توبا» أستاذ تاريخ الحضارة الهندية في جامعة «حيدرآباد» الهند ، وكتاب «اكتشاف الهند») aidnI fo yrevocsiD ehT (لمؤلفه «جواهر لال نهرو» رئيس وزراء الهند الأسبق ، ص 201 - 202.
(4) اقرأ مقالة «بوذا» في دائرة المعارف البريطانية.

(1/64)


ص : 65
القرن إلى 330 مليون «1» وقد أصبح كلّ شيء رائع ، وكلّ شيء هائل ، وكلّ شيء نافع ، إلها يعبد ، وارتقت صناعة نحت التّماثيل في هذا العهد ، وتأنّق فيها المتأنّقون.
يقول الأستاذ الهندوكيّ الفاضل «سي ، وي ، ويد» في كتابه (تاريخ الهند الوسطى) وهو يتحدّث عن عهد الملك هرش (606 - 648 م) وهو العهد الذي يلي ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة :
(1/52)
«كانت الديانة الهندوكية والديانة البوذية وثنيتين سواء بسواء ، بل ربّما كانت الديانة البوذية قد فاقت الديانة الهندوكية في الإغراق في الوثنية ، كان ابتداء هذه الديانة - البوذية - بنفي الإله ، ولكنّها بالتدريج جعلت «بوذا» الإله الأكبر ، ثم أضافت إليه آلهة أخرى مثل savatsihdoB على مرّ الزمن ، لا سيّما أرسخت الوثنيّة قدميها في المدرسة البوذية الفكرية التي تسمّى «مهايانا» بالتأكيد ، وقد بلغت أوجها في الهند ، حتى أصبحت كلمة «بوذا») ahdduB (مرادفة لكلمة «الوثن» أو «الصنّم» في بعض اللغات الشرقيّة «2».
ممّا لا شكّ فيه أنّ الوثنيّة كانت منتشرة في العالم المعاصر كلّه ، لقد كانت الدنيا كلّها من البحر الأطلسيّ إلى المحيط الهادىء غارقة في الوثنيّة ، وكأنّما كانت المسيحية والديانات الساميّة والديانة البوذيّة تتسابق في تعظيم
___________
(1) راجع «الهند القديمة» لمؤلفه «آر ، سي ، دت» ج 3 ؛ ص 276 ، و«الهندوكية السائدة» لمؤلفه, yellaMO. S. S. L ص 6 - 7.
(2) مثل الفارسية واللغات المنشقة عنها كالأردية ، فهي تعبر عن الوثن أو الصنم بكلمة «بد» وهذا التعبير منتشر في الشعر والأدب وكلام الناس في إيران والهند ، والناس في الهند يطلقون على «بوذا» كلمة «بدها» فيقولون : «جوتم بدها» ، وكلمة (بد) و(بدها) متقاربتان نطقا (المؤلف).

(1/65)


ص : 66
الأوثان وتقديسها ، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة «1» واحدة» «2».
ويقول أستاذ هندوكيّ فاضل آخر في كتابه الذي سمّاه : «الهندوكيّة السائدة» :
(1/53)
إنّ عملية «خلق الآلهة» لم تنته على هذا ، فلم تزل تنضمّ آلهة صغيرة في فترات تاريخية مختلفة إلى هذا «المجمع الإلهيّ» في عدد كبير ، حتّى أصبح منهم حشد يفوق الحدّ والإحصاء ، كان كثير منهم آلهة سكّان الهند القدامى ، ألحقوا بالهة الديانة الهندوكيّة ، يذكر أنّ عدد هؤلاء قد بلغ 330 مليونا «3».
6 - الجاهليّة العربية :
أمّا العرب الذين آمنوا في الزمن القديم بدين إبراهيم ، وقام في أرضهم بيت اللّه الحرام ، فقد ابتلوا في العصر الأخير لبعد عهدهم من النبوة والأنبياء ، والانحصار في شبه جزيرتهم بوثنيّة سخيفة لا يوجد لها نظير إلا في الهند البرهمية الوثنية ، وترقّوا في الشرك فاتخذوا من دون اللّه آلهة ، واعتقدوا أنّ لهم مشاركة في تدبير الكون ، وقدرة ذاتية على النفع والضرر ، والإيجاد والإفناء ، وانغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها ، فكان لكلّ قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل لكلّ بيت صنم خصوصيّ «4».
وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة اللّه
___________
(1) [الحلبة : ميدان سباق الخيل ].
(2)
C. V. Vaidya : History of Mediaeval Hindu India, Vol, I (Poona, 1921) p. 101.
(3)
L. S. S. O= Malley, C. I. E. I. I. C. S. : Popular Hinduism, the Religion of the Masses (Cambridge, 1935) pp. 6 - 7.
. (4) اقرأ كتاب «الأصنام» للكلبي ؛ ص 33.

(1/66)


ص : 67
وحده - وفي فنائها ، ثلاثمئة وستّون صنما «1» ، وتدرّجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر ، من أيّ جنس كان ، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجنّ والكواكب ، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات اللّه ، وأنّ الجنّ شركاء اللّه ، فامنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم «2».
___________
(1/54)
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب : أين ركز النبي صلى اللّه عليه وسلم الراية يوم الفتح برقم (4287) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة ، برقم (1781) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، برقم (3138) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه ؛ وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا برقم (3352) ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب الصلاة في الكعبة برقم (2027) من حديث عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) كتاب الأصنام : ص 44.

(1/67)


ص : 68
خريطة الوضع السياسي للجزيرة العربية قبل الإسلام

(1/68)


ص : 69
العصر الجاهليّ
إطلالة على البلاد والأمم في القرن السّادس المسيحيّ
هذا شأن الدّيانات التي ظهرت في زمانها الدعوة إلى اللّه ، أمّا البلاد المتمدّنة التي قامت فيها حكومات عظيمة ، وشاعت فيها علوم كثيرة ، وكانت مهد الحضارة والصناعات والآداب ، فقد كانت بلادا مسخت فيها الديانات ، وفقدت أصالتها وقوّتها ، وفقد المصلحون ، وغاب المعلّمون.
1 - الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشرقيّة :
فالدولة الرّومانية الشرقية «1» ، ازدادت فيها الأتاوات ، وتضاعفت الضرائب ، حتى أصبح أهل البلاد يفضّلون على حكومتهم كلّ حكومة أجنبيّة ، وحدثت اضطرابات إثر اضطرابات ، وثورات إثر ثورات ، وقد هلك عام 532 م في اضطراب واحد في عهد جيستن الأوّل) I, nitsuJ (ثلاثون ألف شخص في القسطنطينيّة «2» - عاصمة المملكة - وأصبح الهمّ الوحيد اكتساب
___________
(1/55)
(1) الإمبراطورية الرومانية الشرقية هي المعروفة بالإمبراطورية البيزنطية ويعرفها العرب بالروم ، وكانت تحكم في العصر الذي نتحدث عنه ، دول يونان وبلقان ، وآسيا الصغرى ؛ وسورية وفلسطين ، وحوض البحر الأبيض المتوسط بأسره ؛ ومصر ، وكل إفريقية الشمالية ، وكانت عاصمتها القسطنطينية ، وكان ابتداء الإمبراطورية المذكورة سنة 395 ؛ وانتهاؤها بغلبة العثمانيين على القسطنطينية سنة 1453 م.
(2) تاريخ العالم للمؤرخين) 37. p IIV. loV dlroW ehT fo yrotsiH s= nairotsiH (

(1/69)


ص : 70
المال من أيّ وجه ، ثمّ إنفاقه في التّرف ، وقد أمعنوا في طرق التسلية ، حتى وصلوا فيها إلى الوحشيّة «1».
جاء في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» تصوير لما كان عليه المجتمع البيزنطيّ من التناقض والاضطراب والهيام بالتمتّع والتسلية ، وإنّ وصلت إلى حد القسوة والهمجيّة ، فيقول المؤلّفان الفاضلان :
«كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعيّة للبيزنطيّين ، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم ، وعمّت الرهبانية ، وشاعت في طول البلاد وعرضها ، وأصبح الرجل العاديّ في البلاد يتدخّل في الأبحاث الدينية العميقة ، والجدل البيزنطيّ ، ويتشاغل بها.
كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطنيّ ، ولكن نرى هؤلاء - في جانب آخر - حريصين أشدّ الحرص على كلّ نوع من أنواع اللّهو واللعب ، والطّرب والترف ، فقد كانت هناك ميادين رياضيّة واسعة تتّسع لجلوس ثمانين ألف شخص ، يتفرّجون فيها على مصارعات بين الرّجال والرّجال أحيانا ، وبين الرّجال والسّباع أحيانا أخرى.
وكانوا يقسّمون الجماهير في لونين : لون أزرق ولون أخضر ، لقد كانوا يحبّون الجمال ، ويعشقون العنف والهمجيّة ، وكانت ألعابهم دمويّة ضارية أكثر الأحيان ، وكانت عقوباتهم فظيعة تقشعرّ منها الجلود.
(1/56)
وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف ، والمؤامرات والمجاملات الزائدة ، والقبائح والعادات السيئة» «2».
___________
(1) اقرأ كتاب «سقوط دولة روما وانحطاطها» لإدوارد جيبون : 3 - 5.
(2).
T. Walter Wallbank and Alastair M. Taylor : Civilisation, Past and Present, (1954) pp. 261 - 62.
-

(1/70)


ص : 71
أمّا مصر - إحدى ولايات الدّولة البيزنطية الغنيّة - فكانت عرضة لاضطهاد دينيّ فظيع ، واستبداد سياسيّ شنيع ، وكان البؤس والشقاء ممّا كانت تعانيه مصر ، التي كانت مصدرا كبيرا لرخاء الدولة وغناها ، وقد اتخذها الروم شاة حلوبا يحسنون حلبها ، ويسيئون علفها «1».
أما سورية - ولاية الإمبراطورية البيزنطيّة الآخرى - فكانت مطيّة المطامع الرومانيّة ، وكان الحكم حكم الغرباء الذي لا يعتمد إلّا على القوّة ، ولا يشعر بشيء من العطف على الشعب المحكوم ، وكثيرا ما كان السّوريّون يبيعون أبناءهم ليوفّوا ما كانت عليهم من ديون ، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق «2».
2 - الإمبراطورية الإيرانية السّاسانية «3» :
كانت الزّردشتية - وهي التي خلّفت المزدائية - ديانة إيران القديمة ، ومن
___________
(1) فتح العرب لمصر : لمؤلفه «الفردبتلر» ، و«تاريخ العالم للمؤرخين» : ج 7.
(2) اقرأ للتفصيل «خطط الشام» للأستاذ كردعلي : ج 1 ، ص 101.
(1/57)
(3) كانت أعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية - بعد انشقاقها عن الإمبراطورية الرومانية الكبرى - مساحة وأبهة وثروة ؛ وقد تأسست على يد «أردشير» في سنة 224 م ، وكانت تحكم حين بلغت أوجها : أسبرته ، وخوزستان ، وميديه ، وفارس ، وأذربيجان ، وطبرستان ، وسرخس ، وجرجان ، وكرمان ، ومرو ؛ وبلخ ، وصغد ، وسيستان ، وهراة ، وخراسان ، وخوارزم ، والعراق ، واليمن من الجزيرة العربية ، وقد دخلت بعض ولايات الهند مثل كجه ، وكاتتيهاوار ، ومالوه ، في حكمها في بعض الفترات ، وقد اتسعت هذه الإمبراطورية اتساعا كبيرا منذ القرن الرابع المسيحي ، وقد أوغلت في الشمال والشرق وبلغت أقصى حدودهما. وقد كانت طيسيفون (المدائن) عاصمة الإمبراطورية ، ومقر الإمبراطور الإيراني ، وكانت مجموع مدائن كما يبدو من اسمها العربي ، وقد بلغت أوجها في الرقي والمدنية والبذخ ؛ في القرن الخامس إلى ما بعد (راجع للتفصيل «إيران في عهد الساسانيين» للبروفيسور آرتهر كرستن سين).

(1/71)


ص : 72
المرجّح أنّ «زردتشت» صاحب هذه الديانة ظهر في القرن السابع قبل الميلاد ، وكانت مؤسسة منذ أول يومها على الحرب القائمة بين النور والظلام ، وبين روح الخير وروح الشرّ ، أو بين إله الخير وبين إله الشرّ.
وجاء «ماني» في أوائل القرن الثالث المسيحي مجدّدا لهذه الديانة ، مضيفا إليها «1» ، وتبعه «شاه بور» - الذي خلف أردشير (241 م) مؤسّس الدولة الساسانية ، واحتضن دعوته ، ثمّ أصبح معارضا له ، فقد كان «ماني» يدعو إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد والشرّ من العالم ، ويعلن أن امتزاج النور بالظلمة شرّ يجب الخلاص منه ، فحرّم النكاح استعجالا للفناء ، وانتصارا للنور على الظلمة ، بقطع النسل.
(1/58)
وقضى أعواما في النفي ، ثمّ عاد إلى إيران ، وقتل في عهد بهرام الأول ، ولكنّ تعاليمه لم تمت بموته ، بل بقيت تؤثّر في التفكير الإيرانيّ ، والمجتمع الإيرانيّ مدة طويلة.
وظهر مزدك في أوائل القرن الخامس المسيحيّ ، فدعا إلى إباحة الأموال والنساء ، وجعل الناس شركاء فيها ، وقويت دعوته ، وكان الناس يدخلون على الرّجل في داره ، فيغلبونه على منزله وأمواله ، لا يستطيع الامتناع منهم ، وقد جاء في وثيقة إيرانية تاريخية تعرف ب «نامه تنسر» تصوير لذلك العصر الذي انتشرت فيه الدعوة المزدكية ، وكانت لها السيطرة والنفوذ :
«و انتهكت الأعراض ، وعمّ خلع العذار ، لقد نشأ جيل لا كرامة فيه ولا عمل ، ولم يكن له رصيد ولا ماض مجيد ، وليس له اهتمام بمصير الشعب ، ولا إشفاق عليه ، ولا يتصف بكمال ومهارة ، كانت تسيطر عليهم اللامبالاة
___________
(1) اقرأ لمعرفة تعليمات ماني ودعوته وفلسفته ، الباب الرابع من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» (النبيّ ماني وديانته) ص 233 - 269.

(1/72)


ص : 73
والبطالة ، وكانوا بارعين في النميمة ، والخبث ، والافتراء ، والبهتان ، وقد اتخذوا ذلك وسيلة لكسب القوت والوصول إلى الثروة والجاه» «1».
ويقول «آرتهر كرستن سين» :
«كانت النتيجة أن انتشرت ثورات الفلاحين ، وكان النهّابون يدخلون في قصور الأغنياء وينهبون ما يجدون فيها من أموال وأثاث ، ويلقون القبض على النساء ، ويستولون على الأملاك والعقارات ، فأصبحت الأراضي والمزارع مقفرة خربة ، لأنّ هؤلاء الملاك الجدد لم يكن لهم عهد ، ولا معرفة بالفلاحة» «2».
(1/59)
ظهر من ذلك أنّه كان في إيران القديمة استعداد عجيب دائما لقبول الدّعوات المتطرّفة المغالية ، وكانت دائما تحت تأثير ردود فعل عنيفة ، وكانت تتأرجح بين «أبيقورية» «3» جامحة وتنسك مغال حينا ، وبين احتكار سلاليّ ، أو طبقيّ ، أو دينيّ ، وشيوعية متطرفة وفوضويّة مطلقة حينا آخر ، أفقدها هذا التأرجح الاتزان والاقتصاد والهدوء.
وكانت الأحوال سيئة جدّا في هذه الإمبراطورية - الإيرانية السّاسانية - في القرن السادس المسيحيّ ، فكانت تحت رحمة الملوك الذين كانوا يحكمون بالوراثة ، ويرون أنفسهم فوق الناس وفوق بني آدم ، وكانوا يخاطبون بكلمة «الإله» وتضاف إليهم كلمة الألوهية بطريق مكشوف ، وكان الإمبراطور
___________
(1) نامه تنسر : طبع مينوي ، ص 13.
(2) إيران في عهد الساسانيين : ص 477.
(3) مذهب «أبيقور» الفيلسوف الإغريقي الذي قال بأن المتعة هي الخير الأسمى.

(1/73)


ص : 74
«الإنسان الأول» وكان لا يسمّى باسمه عند الخطاب ، وكان يعتبر من نسل الآلهة «1».
(1/60)
وكانت موارد البلاد كلّها ملكا لهؤلاء الملوك ، وقد تطرّفوا في اكتناز الأموال ، وادّخار الطرف ، والأشياء الغالية ، والتأنّق في المعيشة ، والتمتّع بالحياة ، وقد وصل الولوع بالتلذّذ ، وترفيه الحياة ، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة ، إلى حدّ الخيال والشعر لا يتصوّره إلّا من توسّع في دراسة تاريخ إيران القديمة ، وشعرها وأدبها «2» ، واطّلع على تفاصيل مدينة «طيسيفون» وإيوان كسرى ، وبهار كسرى «3» ، (بساط الربيع) ، وتاج كسرى ، وما كان يختصّ بملوكهم من خدم وحشم ، وزوجات وجوار ، وغلمان وطهاة ، ومربّين للطيور والسّباع ، وأوان وقنص ، التفاصيل الأسطورية التي يدهش لها الإنسان «4» ، وقد بلغ ذلك إلى حدّ أن يزدجرد آخر ملوك إيران لمّا خرج من عاصمته - المدائن - هاربا ينجو بنفسه في الفتح الإسلاميّ العربيّ أخذ معه - وهو في حالة الفرار - ألف طاه ، وألف مغنّ ، وألف قيّم للنّمور ، وألف قيّم للبزاة ، وحاشية أخرى ، وكان يستقلّ هذا العدد ، ويعتبر نفسه لاجئا حقيرا ، ويتصوّر أنّه في حالة يرثى لها من قلّة الحاشية ، وفقدان أسباب الترفيه والتسلية «5».
هذا بجانب ما كان يعانيه الشعب من بؤس وشقاء ، وتعب وعناء ، وتذمّر وبكاء ، فكان أفراد هذا الشعب في جهد من العيش للحصول على ما يسدّ
___________
(1) إيران في عهد الساسانيين : ص 339.
(2) اقرأ على سبيل المثال «إيران في عهد الساسانيين» ص 161 - 162.
(3) راجع تاريخ الطبري : ج 4 ؛ ص 178.
(4) راجع «تاريخ إيران» شاهين مكاريوس ، طبع 1898 م ، ص 90.
(5) راجع للتفصيل «إيران في عهد الساسانيين» ص 681.

(1/74)


ص : 75
(1/61)
رمقهم ، ويستر عورتهم ، يرزحون تحت أثقال الضرائب والإتاوات ، ويرسفون في القيود والأغلال ، ويعيشون عيش البهائم ، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم ، أو دخلوا الأديرة فرارا من الضرائب والخدمة العسكرية «1» وكانوا وقودا حقيرا في حروب طاحنة مدمّرة ، قامت في فترات من التاريخ ، ودامت سنين طوالا بين المملكة الشرقية الساسانية والمملكة الغربية البيزنطية ، لا مصلحة للشعب فيها ولا رغبة «2».
3 - الهند :
أمّا الهند التي برزت في العصر القديم في العلوم الرياضيّة وعلم الفلك والطبّ والتعمّق في الفلسفة ، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين لها على أنّ أحطّ أدوارها ديانة ، وخلقا ، واجتماعا ، ذلك العهد الذي يبتدىء من مستهلّ القرن السادس الميلاديّ «3» ، فانتشرت الخلاعة حتّى في المعابد وأصبحت لا عيب فيها ، لأنّ الدين قد أضفى عليها لونا من القدس والتعبّد «4».
وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة ، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار «5» ، وإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج ولا تستحق احتراما ، وانتشرت عادة إحراق الأيامى نفوسهن على وفاة أزواجهن ، خاصّة في الطبقات الشريفة والأرستقراطيّة إظهارا للوفاء ، وفرارا من الشقاء ، وتسمّى
___________
(1) إيران في عهد الساسانيين : ص 681.
(2) راجع الباب الخامس من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» (مملكة الشرق ومملكة الغرب) ص 269 - 333.
(3) راجع «الهند القديمة» ج 3 ، لمؤلفه آرسي ، دت) ttuD. C. R (
(4) ستيارته بركاش لديانند سرسوتي : ص 344.
(5) اقرأ استهلال قصة مهابهارت (الملحمة الهندية الكبرى).

(1/75)


ص : 76
هذه العادة ب «ستّي» ولم تزل زوالا كليا إلا بعد الاحتلال الإنجليزيّ «1».
(1/62)
وامتازت الهند من بين جاراتها وأقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب ، والامتياز بين الإنسان والإنسان ، وكان نظاما قاسيا لا هوادة فيه ولا مرونة ، مدعما بالدين والعقيدة ، خاضعا لمصلحة الآريّين المحتلّين ، والبراهمة المحتكرين للديانة والقداسة ، قائما على أساس الحرف والصنائع وتوارثها ، والعنصرية والسّلالية ، وكان ذلك تابعا لقانون مدنيّ سياسيّ دينيّ ، وضعه المشرّعون الهنديّون الذين كانت لهم صفة دينية ، أصبح القانون العام للمجتمع ودستور الحياة ، وهو يقسّم سكان الهند في أربع طبقات :
(1) طبقة الكهنة ورجال الدين ، وهم «البراهمة».
(2) ورجال الحرب والجندية وهم «شتري».
(3) ورجال الفلاحة والتجارة وهم «ويش».
(4) ورجال الخدمة وهم «شودر» وهم أحطّ الطبقات ، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله ، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها.
وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد ، والبرهميّ رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله ، ولا يجوز فرض جباية عليه ، ولا يعاقب بالقتل في حال من الأحوال.
أمّا «شودر» فليس لهم أن يقتنوا مالا ، أو يدّخروا كنزا ، أو يجالسوا برهميّا ، أو يمسّوه بيدهم ، أو يتعلّموا الكتب المقدّسة «2».
___________
(1) اقرأ رحلة الرحالة الفرنسي برنير وتاريخ الراجوات والأمراء في القرون الوسطى.
(2) راجع للتفصيل القانون المدني الاجتماعي الهندي المسمّى ب «منو شاستر» الأبواب : 1 - 2 - 8 - 9 - 10 - 11.

(1/76)


ص : 77
وكانت الهند في حالة فوضى وتمزّق تحكمها إمارات وحكومات تعدّ بالمئات ، تضعفها حروب ومنافسات ، ويسود الاضطراب وسوء الإدارة واختلال الأمن وإهمال شؤون الرعيّة والاستبداد.
(1/63)
وكانت تعيش في عزلة عن العالم ، يسيطر عليها الجمود ، والتزمّت ، والتطرّف ، في العادات والتقاليد ، والتفاوت الطبقيّ ، والتعصّب الدمويّ والسّلاليّ.
يتحدّث مؤرّخ هندوكيّ أستاذ التاريخ في إحدى جامعات الهند ، عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند ، فيقول :
«كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا ، منطوين على أنفسهم ، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالميّة ، وهذا الجهل أضعف موقفهم ، فنشأ فيهم الجمود ، وعمّت فيهم أمارات الانحطاط والتّدهور ، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح ، وهكذا كان الشأن في الفنّ المعماريّ ، والتصوير ، والفنون الجميلة الآخرى».
«كان المجتمع الهنديّ راكدا جامدا ، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات ، وتمييز معيب بين أسرة وأسرة ، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى ويشدّدون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب.
أمّا المنبوذون فكانوا يعيشون - مضطرّين - خارج بلدهم ومدينتهم» «1».
4 - أوربّة :
أمّا الأمم الأوربيّة - المتوغّلة في الشمال والغرب - فكانت تعيش في ظلام
___________
(1). 33. p) 0791, ihleD weN (, aidnI ni eluR milsuM : nahahaM rahdaydiV

(1/77)


ص : 78
الجهل والأميّة ، والحروب الدامية ، وكانت بعيدة عن جادّة قافلة الحضارة الإنسانية ، والعلوم والآداب ، لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعالم.
كانت أجسامهم قذرة ، ورؤوسهم مملوءة بالأوهام «1» ، وكانوا يزهدون في النظافة واستعمال الماء ، ويغالي الرهبان منهم في تعذيب الأجسام ، والفرار من الإنسان «2» ، وكانوا يبحثون في أنّ المرأة حيوان أم إنسان ، ولها روح خالدة أم ليست لها روح خالدة ، وأنّ لها حقّ الملكيّة ، والبيع ، والشراء ، أم ليس لها شيء في ذلك ؟
(1/64)
يقول روبرت بريفولت : ) tluaffirB treboR ( «لقد أطبق على أوربة ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا ، وقد كانت همجيّة ذلك العهد أشدّ هولا ، وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنّها كانت أشبه بجثّة حضارة كبيرة قد تعفّنت ، وقد انطمست معالم هذه الحضارة ، وقضي عليها بالزوال ، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي ، كإيطاليا ، وفرنسا ، فريسة الدّمار والفوضى والخراب» «3».
5 - الجزيرة العربية في العصر الجاهلي :
أمّا العرب فساءت أخلاقهم ، فأولعوا بالخمر والقمار ، وبلغت بهم القساوة والحميّة المزعومة إلى وأد البنات ، وشاعت فيهم الغارات ، وقطع الطّرق على القوافل ، وسقطت منزلة المرأة ، فكانت تورث كما يورث المتاع
___________
(1) تاريخ الفلسفة : للبروفيسورثيلي) yllihT (.
(2) اقرأ للتفصيل كتاب «تاريخ الأخلاق الأوربية» لمؤلفه الشهير) ykceL (ج 2 ، باب «من قسطنطين إلى شارلمان».
(3). 461. p, ytinamuH fo gnikaM ehT

(1/78)


ص : 79
أو الدابّة ، ومن المأكولات ما هو خاصّ بالذكور ، محرّم على الإناث ، وكان يسوغ للرجل أن يتزوّج ما يشاء من النّساء من غير تحديد.
وكانت العصبية القبليّة والدمويّة شديدة جامحة ، وأغرموا بالحرب ، حتى صارت مسلاة لهم وملهى وهواية ، ينتهزون للتسلية وقضاء هوى النّفس نشوب حرب لها مسوّغ ، أو لا مسوّغ لها ، يدلّ على ذلك ما قاله الشاعر الجاهليّ (الرقّاد بن المنذر بن ضرار الضبّي) :
إذا المهرة الشّقراء أدرك ظهرها ... فشبّ الإله الحرب بين القبائل
وأوقد نارا بينهم بضرامها ... لها وهج للمصطلي غير طائل «1»
ويقول (عمير التّغلبيّ) المعروف بالقطامي ، وهو يعبّر عن رغبة أهل الجاهلية في القتال ، وتحيّن الفرص له :
(1/65)
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلّا أخانا «2»
وهانت عليهم إراقة الدّماء ، فتثيرها حادثة تافهة ، وتدوم الحرب أربعين سنة ، يقتل فيها ألوف من الناس «3».
أمّا من جهة الأخلاق ، فكانت فيهم أدواء وأمراض متأصّلة ، وأسبابها فاشية.
فكان شرب الخمر واسع الشّيوع ، شديد الرّسوخ فيهم ، تحدّث عن معاقرتهم والاجتماع على شربها الشعراء ، وشغلت جانبا كبيرا من شعرهم وتاريخهم وأدبهم ، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم ، وكثر فيها التدقيق
___________
(1) ديوان الحماسة : بشرح الأعلم : ص 271.
(2) المصدر السابق : ص 377.
(3) راجع الشعر الجاهلي والكتب التي ألفت في أيام العرب وأخبارهم.

(1/79)


ص : 80
والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب «1» ، وكانت حوانيت الخمّارين مفتوحة دائما يرفرف عليها علم يسمّى (غاية).
قال لبيد بن ربيعة العامري «2» :
قد بتّ سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعزّ مدامها
وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التّجارة مرادفة لبيع الخمر ، كما قال لبيد : و(غاية تاجر).
وقال عمرو بن قميئة «3» :
إذا أسحب الرّيط «4» والمروط «5» إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللّمما «6»
وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهليّة ، قال الشاعر الجاهليّ «7» :
أعيّرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا بن ريطة ظاهر
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
وكان عدم المشاركة في مجالس القمار عارا. يقول الشاعر :
وإذا هلكت فلا تريدي عاجزا ... غسّا ولا برما ولا معزالا
قال قتادة : كان الرّجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيقعد حزينا
___________
(1) اقرأ كتاب المخصص : لابن سيده : 1/ 82 - 101.
(2) ديوانه : ص 314.
(3) ديوان الحماسة : ص 682.
(1/66)
(4) [الرّيط ، جمع الرّيطة : وهو كلّ ثوب لم يلفّق (باخر) كالرّداء].
(5) [المروط ، جمع المرط : وهو كساء خزّ معلم الطّرفين ، أو ملحفة يؤتزر بها].
(6) [اللّمم ، جمع اللّمّة : وهي الشعرة التي تلمّ بالمنكب ].
(7) ديوان الحماسة : ص 254 ، وهو لسبرة بن عمرو.

(1/80)


ص : 81
سليبا ، ينظر إلى ماله في يد غيره ، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضا «1».
وكان أهل الحجاز : العرب واليهود ، يتعاطون الرّبا ، وكان فاشيا فيهم ، وكانوا يجحفون فيه ، ويبلغون إلى حدّ الغلوّ والقسوة ، قال الطّبريّ :
«كان الرّبا في الجاهلية في التضعيف وفي السّنين ، يكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حلّ الأجل ، فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلّا حوّله إلى السّن التي فوق ذلك ، إن كانت ابنة مخاض «2» يجعلها ابنة لبون «3» في السنة الثانية ، ثم حقّة «4» ، ثم جذعة «5» ، ثم رباعيا «6» هكذا إلى فوق.
وفي العين «7» يأتيه ، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، وإن لم يكن عنده أضعفه أيضا ، فتكون مئة ، فيجعلها إلى القابل مئتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة يضعفها له كلّ سنة أو يقضيه» «8».
___________
(1) تفسير الطبري ، تفسير آية : إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ [المائدة : 91].
(2) [ابنة مخاض أو ابن مخاض : ولد النّاقة الذي دخل في السنة الثانية ، والأنثى بنت مخاض ].
(3) [ابنة لبون أو ابن لبون : ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة ، سمّي بذلك لأنّ أمّة ولدت غيره فصار لها لبن ].
(4) [الحقّ من الإبل : ما دخل في السنة الرابعة ، وأمكن ركوبه والحمل عليه ، وسمّي بذلك لأنّه استحقّ الركوب والتحميل ].
(1/67)
(5) [الجذع : هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية ، وقيل : البقر في الثالثة أو من الضّأن ما تمّت له سنة].
(6) [رباعيّا : هو الذي يلغي رباعيته ، (والرّباعية : السّنّ بين الثنية والنّاب) : الإبل يربع في السنة السابعة ، والبقر والخيل في الخامسة ، والغنم في السنة الرابعة].
(7) [العين : الذهب ].
(8) تفسير الطبري : 4/ 59.

(1/81)


ص : 82
وقد رسخ الرّبا فيهم ، وجرى منهم مجرى الأمور الطبيعية التي صاروا لا يفرّقون بينه وبين التّجارة الطبيعية ، وقالوا : إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة : 275].
وقال الطّبري : «إنّ الذين كانوا يأكلون الرّبا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه ، يقول الغريم لغريم الحقّ : زدني في الأجل وأزيدك في مالك ، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحلّ ، فإذا قيل لهما ذلك ، قالا : سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال» «1».
ولم يكن الزّنى نادرا ، وكان غير مستنكر استنكارا شديدا ، فكان من العادات أن يتّخذ الرجل خليلات ، وتتّخذ النساء أخلّاء بدون عقد ، وقد كانوا يكرهون بعض النساء على الزّنى.
قال ابن عبّاس : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزّنى يأخذون أجورهم «2».
وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف ، تؤكل حقوقها ، وتبتزّ أموالها ، وتحرم إرثها ، وتعضل بعد الطّلاق ، أو وفاة الزّوج من أن تنكح زوجا ترضاه «3» ، وتورث كما يورث المتاع أو الدّابة «4».
وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد ، ذكر الهيثم بن عديّ - على ما حكاه عنه الميدانيّ - أنّ الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة ، فكان
___________
(1) تفسير الطبري : 4/ 69.
(2) المصدر السابق : 18/ 401.
(1/68)
(3) قال تعالى : فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة : 232].
(4) قال تعالى : لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء : 19].

(1/82)


ص : 83
يستعمله واحد ويتركه عشرة ، فجاء الإسلام ، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد ، منهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ، ومخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ ، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤما منهم بهذه الصّفات.
وكانوا يقتلون البنات ، ويئدونهنّ بقسوة نادرة في بعض الأحيان ، فقد يتأخّر وأد الموءودة لسفر الوالد أو شغله ، فلا يئدها إلّا وقد كبرت ، وصارت تعقل ، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات ، وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق «1».
ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر ، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب ، فكان يشتريهم بعض سراة العرب وأشرافهم «2» فصعصعة ابن ناجية يقول : «جاء الإسلام وقد فديت ثلاثمئة موءودة» «3».
ومنهم من كان ينذر - إذا بلغ بنوه عشرة - نحر واحدا منهم ، كما فعل عبد المطّلب.
ومنهم من يقول : الملائكة بنات اللّه - سبحانه عمّا يقولون - فألحقوا البنات به تعالى «4».
ظلام مطبق ويأس قاتل :
وقصارى القول : إنّ القرن السادس المسيحيّ - الذي كانت فيه البعثة
___________
(1) بلوغ الأرب في أحوال العرب : للآلوسي.
(2) اقرأ «بلوغ الأرب في أحوال العرب» للآلوسي.
(3) كتاب الأغاني.
(4) بلوغ الأرب [و انظر «المرأة العربية في العصر الجاهلي» للدكتورة ليلى صباغ ].

(1/83)


ص : 84
(1/69)
المحمّدية - وما يليه من فترة زمنيّة ، كان من أحطّ أدوار التاريخ ، ومن أشدّها ظلاما ويأسا من مستقبل الإنسانية وصلاحيتها للبقاء والازدهار.
نظرة عامّة على العصر الجاهلي :
قد أحسن المؤلّف الإنجليزيّ المعروف ه - ج - ولز) slleW. G. H (تصوير هذا العصر ، فقال - وهو يبحث الظروف السّائدة في عهد الحكومتين ؛ السّاسانية والبيزنطية في القرن السادس للميلاد - :
«كانت العلوم والفلسفة والسياسة في حالة احتضار في عهد هذين النّظامين المتحاربين والمتّجهين إلى الانحطاط ، فقد كان الجيل الأخير من فلاسفة (أثينا) «1» عاضّا على المؤلّفات الأدبية العتيقة بالنواجذ ، بكلّ احترام وحبّ ، ولو بدون فهم لها.
فلمّا انقرض هذا الجيل ، لم تبق طبقة ولا أفراد أحرار شجعان ، يتزعّمون حرية الفكر وحرية التعبير ، ولا الذين يحتفظون - على الأقلّ - بتراث فكر حرّ ، وبحث نزيه جديّ ، على دأب القدماء والسابقين لهم.
وبجانب ما كان للفوضى السياسية والاجتماعية من دور كبير في القضاء على مثل هذه الطبقة ، كان من العوامل التي ساعدت على شلل الفكر الإنسانيّ ، وتجمّد القرائح البشرية.
إنّ هذا العصر كان عصر العصبية وعدم التسامح في ظلال الحكومتين الإيرانيّة والبيزنطيّة ، فقد كانت هاتان الحكومتان دينيتين نوعا ما ، وقد كانتا فرضتا قيودا على العقل البشريّ».
___________
(1) أثينا) iainihtA (عاصمة اليونان اليوم ، كانت عاصمة العالم الحضارية والديموقراطية في العصور القديمة.

(1/84)


ص : 85
وبعد ما قصّ الكاتب قصة زحف الإمبراطورية الإيرانية على الإمبراطورية البيزنطية ، ثم انتصار البيزنطيين على الإيرانيين في شيء من التوسّع ، عاد إلى وصف التّدهور الاجتماعيّ والخلقيّ السائد في أواخر القرن السادس المسيحيّ ، فقال :
(1/70)
«كان يسوغ لمتتبّع - غير محنّك ناضج الفكر - للأوضاع السائدة في أوائل القرن السابع المسيحيّ ، أن يتنبّأ بسهولة وبثقة بأنّ أوربة ، وآسيا ، ستقعان تحت رحمة المغول الوحوش في غضون بضعة قرون قادمة ، فلم تكن في أوربة الغربية أمارات للأمن والنظام وحكم القانون ، وقد كانت المملكتان :
البيزنطيّة والإيرانية مشغولتين في حرب إبادة وتدمير ، بينما كانت الهند في حالة توزّع وبؤس» «1».
ظهر الفساد في البرّ والبحر
وبالجملة فقد كانت الإنسانية في عصر البعثة في طريق الانتحار ، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشرّ ، والحسن والقبيح ، وكان الناس في شغل شاغل وفكر ذاهل ، لا يرفعون إلى الدّين والآخرة رأسا ، ولا يفكّرون في الروح والقلب ، والسعادة الآخروية وخدمة الإنسانية ، وإصلاح الحال لحظة ، وربّما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمّه دينه ويعبد ربّه ، لا يشرك به شيئا ، ويتألم للإنسانية ومصيرها البائس ، وصدق اللّه العظيم :
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم : 41].
___________
(1)) ، 1924 (. 140 - 144.

(1/85)


ص : 87
لماذا بعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم في جزيرة العرب
قد اقتضت حكمة اللّه أن تطلع هذه الشمس التي تبدد الظلام ، وتملأ الدّنيا نورا وهداية ، من أفق جزيرة العرب الذي كان أشدّ ظلاما ، وكان أشدّ حاجة إلى هذا النور الساطع.
(1/71)
وقد اختار اللّه العرب ، ليتلقّوا هذه الدعوة أولا ، ثمّ يبلّغوها إلى أبعد أنحاء العالم ، لأنّ ألواح قلوبهم كانت صافية ، لم تكتب عليها كتابات دقيقة عميقة يصعب محوها وإزالتها ، شأن الروم ، والفرس ، وأهل الهند ، الذين كانوا يتيهون ويزهون بعلومهم وآدابهم الراقية ، ومدنيّاتهم الزاهية ، وبفلسفاتهم الواسعة ، فكانت عندهم عقد نفسية وفكرية ، لم يكن من السّهل حلّها.
أمّا العرب فلم تكن على ألواح قلوبهم إلا كتابات بسيطة خطّتها يد الجهل والبداوة ، ومن السّهل الميسور محوها وغسلها ، ورسم نقوش جديدة مكانها ، وبالتعبير العلميّ المتأخّر : كانوا أصحاب «الجهل البسيط» «1» الذي تسهل مداواته ، بينما كانت الأمم المتمدّنة الراقية في هذا العصر مصابة ب «الجهل المركّب» «2» الذي تصعب مداواته وإزالته.
وكانوا على الفطرة ، وأصحاب إرادة قوية ، إذا التوى عليهم فهم الحقّ
___________
(1) [الجهل البسيط : هو عدم العلم كما من شأنه أن يكون عالما].
(2) [الجهل المركّب : هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع ].

(1/87)


ص : 88
حاربوه ، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم ، أحبّوه واحتضنوه ، واستماتوا في سبيله.
يعبّر عن هذه النفسية العربية خير تعبير ، ما قاله سهيل بن عمرو ، حين سمع ما جاء في كتاب الصّلح في الحديبيّة «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك» «1» ، وما قاله عكرمة بن أبي جهل حين حمي الوطيس في معركة اليرموك ، واشتدّ عليه الضغط : «قاتلت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كلّ موطن وأفرّ منكم اليوم ؟!» ثمّ نادى : من يبايع على الموت ، فبايعه من بايعه ، ثمّ لم يزل يقاتل حتى أثبت جراحا وقتل شهيدا» «2».
(1/72)
وكانوا واقعيّين جادّين ، أصحاب صراحة وصرامة ، لا يخدعون غيرهم ولا أنفسهم ، اعتادوا القول السديد ، والعزم الأكيد ، يدلّ على ذلك دلالة واضحة ما روي عن قصة بيعة العقبة الثانية ، التي تلتها الهجرة إلى المدينة ، قال ابن إسحاق :
«لمّا اجتمعت الأوس والخزرج في العقبة ليبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال العبّاس بن عبادة الخزرجيّ : «يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟
قالوا : نعم.
قال : إنّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبية ، برقم (4178) و(4179) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في صلح العدو برقم (2765) ، والبيهقي في السنن (5/ 215) والدلائل (4/ 99 - 100)].
(2) راجع «تاريخ الطبري» ج 4 ، ص 36.

(1/88)


ص : 89
ترون أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتل ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو واللّه إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة «1» الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو واللّه خير الدّنيا والآخرة.
قالوا : فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول اللّه إن نحن وفّينا ؟
قال : الجنّة.
قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه» «2».
وقد صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه وبايعوا رسوله ، وقد قال سعد بن معاذ «3» على لسانهم يوم بدر :
«فو الّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد «4» لفعلنا» «5».
وقد تجلّى هذا الصّدق في العزم ، والجدّ في العمل ، وروح الامتثال للحقّ ، في الجملة التي تؤثر عن عقبة بن نافع القائد العربيّ المسلم ، فقد خاض البحر الأطلسيّ بجيشه وخيله ، ثمّ قال : «يا ربّ لولا هذا البحر
(1/73)
___________
(1) نهكة الأموال : أي نقصها.
(2) سيرة ابن هشام ؛ القسم الأول ، ص 446 ، (طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية).
(3) كذا في الأصل ، وفي صحيح مسلم (سعد بن عبادة).
(4) [برك الغماد : قال ياقوت : هو أقصى حجر اليمن. والبرك : حجارة مثل حجارة الحرة خشنة ، يصعب المسلك عليها].
(5) زاد المعاد : ج : 1 ، ص : 342 - 343. سيرة ابن هشام : ج : 1 ، ص : 615 ، والقصة في الصحيحين [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب غزوة بدر ، برقم (1779)].

(1/89)


ص : 90
لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك» «1».
أمّا اليونان والرّومان ، وأهل إيران ، فقد اعتادوا مجاراة الأوضاع ، ومسايرة الزمان ، لا يهيجهم ظلم ، ولا يستهويهم حقّ ، ولا تملكهم فكرة ودعوة ، ولا تستحوذ عليهم استحواذا يتناسون فيه أنفسهم ، ويجازفون فيه بحياتهم ولذّاتهم.
وكان العرب بمعزل عن أدواء المدنية والترف ، التي يصعب علاجها ، والتي تحول دون التحمس للعقيدة والتّفاني في سبيلها.
وكانوا أصحاب صدق وأمانة وشجاعة ، ليس النّفاق والمؤامرة من طبيعتهم ، وكانوا مغاوير حرب «2» ، وأحلاس خيل «3» ، وأصحاب جلادة وتقشّف في الحياة ، وكانت الفروسية هي الخلق البارز الذي لا بدّ أن تتصف به أمة تضطلع بعمل جليل ، لأنّ العصر كان عصر الحروب والمغامرات ، والفتوّة والبطولة.
وكانت قواهم العملية والفكرية ، ومواهبهم الفطرية ، مذخورة فيهم ، لم تستهلك في فلسفات خيالية ، وجدال عقيم «بيزنطيّ» ومذاهب كلامية دقيقة ، وحروب إقليمية سياسية ، فكانت أمّة بكرا ، دافقة بالحياة والنشاط ، والعزم والحماس.
وكانوا أمّة نشأت على الهيام بالحريّة والمساواة ، وحبّ الطبيعة ، والسّذاجة ، لم تخضع لحكومة أجنبية ، ولم تألف الرقّ والعبودية ، واستعباد الإنسان للإنسان ، ولم تتمرّس الغطرسة الملوكيّة الإيرانية أو الرّومانية ،
(1/74)
___________
(1) الكامل : لابن الأثير ، ج 4 ، ص 46.
(2) [أي المقاتلون الكثير والغارات على الأعداء].
(3) [أحلاس الخيل ، أي : ملازمون لظهورها أو رياضتها].

(1/90)


ص : 91
واحتقارها للإنسان والإنسانية ، فكان الملوك في إيران - المملكة المجاورة للجزيرة - فوق مستوى الإنسان والإنسانيّة ، فكان الملك إذا احتجم ، أو فصد له ، أو تناول دواء ، كان ينادى في النّاس ألا يمارس إنسان من رجال البلاط ، أو سكّان العاصمة عملا ، ويكفّوا عن كلّ صناعة أو ممارسة لنشاط «1» ، وإذا عطس فلا يسوغ لأحد من رعاياه أن يدعو له ، وإذا دعا أن يؤمن عليه ، لأنّه فوق مستوى البشر ، وإذا زار أحدا من وزرائه أو أمرائه في بيته كان يوما مشهودا خالدا يؤرّخ به في رسائله ويصبح تقويما جديدا ، ويعفى من الضريبة إلى مدة معينة ، ويتمتع باستثناءات أو مسامحات وتكريمات ، لأنّ الملك شرّفه بالزيارة «2».
هذا فضلا عن الآداب الكثيرة التي يتقيّد بها رجال البلاط ، وأركان الدولة ، وأفراد الشعب ، ويحافظون عليها محافظة دقيقة ، من الوقوف بحضرته ، والتكفير له «3» ، وقيام كقيام العباد أمام الرّبّ في الصّلوات ، وهو تصوير حال كانت عليه إيران السّاسانية في عهد أفضل ملوكها بالإطلاق ، وهو كسرى الأول المعروف بأنوشيروان العادل (531 - 579 م) فكيف في عهد الملوك الذين اشتهروا في التاريخ بالظلم والعسف والجبروت ؟
وقد كانت حرّيّة إبداء الرّأي والملاحظة - فضلا عن النقد - مفقودة تقريبا
___________
(1) إيران في عهد الساسانيين : ص 535 - 536.
(2) المصدر نفسه : ص 543.
(1/75)
(3) كفر له : خضع بأن يضع يده على صدره ويطأطىء رأسه ويتطامن تعظيما ، وكانت عادة متبعة في إيران. ومن هنا شاع هذا التعبير ؛ ودخل في لغة العرب ؛ جاء في «لسان العرب» والكفر تعظيم الفارسي لملكه والتكفير لأهل الكتاب أن يطأطىء أحدهم رأسه لصاحبه كالتسليم عندنا ، وقال في شرح شطر بيت لجرير : فضعوا السلاح وكفروا التكفيرا ؛ كما يكفر العلج للدهقان يضع يده على صدره ويتطامن له ( «لسان» ج 7 ، ص 466 مادة كفر).

(1/91)


ص : 92
في المملكة الإيرانيّة الواسعة ، وقد حكى الطّبريّ حكاية طريفة عن عهد أفضل ملوكها وأعدلهم «كسرى أنوشيروان العادل» تدلّ كلّ الدلالة على مدى ما وصل إليه الحكم الإيرانيّ من الاستبداد والحظر على إبداء الرأي الجريء والتعليق الجريء في البلاط الإيرانيّ ، فيقول :
«أمر الملك قبّاذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها ، ليضع الخراج عليها ، فمسحت ، غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة ، حتّى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النّخل والزيتون والجماجم «1» ، ثمّ أمر كتّابه فاستخرجوا جعل ذلك ، وأذن للناس إذنا عاما ، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليه الجمل التي استخرجت من أصناف غلّات الأرض وعدد النّخيل والزيتون والجماجم ، فقرأ ذلك عليهم ، ثمّ قال لهم كسرى : إنّا قد رأينا أن نضع على ما أحصي من جريان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع ، ونأمر بإنجامها «2» في السنة في ثلاثة أنجم ، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا من ثغر من ثغورنا أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ، ببذلنا فيه مالا كانت الأموال عندنا معدة موجودة ، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال ، فما ترون فيما رأينا من ذلك ، وأجمعنا عليه ؟
فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة ولم ينبس بكلمة ، فكرّر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
(1/76)
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى : أتضع أيّها الملك - عمّرك اللّه - الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت ، وزرع يهيج ، ونهر
___________
(1) [الجماجم ، مفردها جمجم : الآبار ، أو الفلّاحون ].
(2) [نجّم عليه دينه : أي ؛ قسطه أقساطا].

(1/92)


ص : 93
يغور ، وعين أو قناة ينقطع ماؤها ؟
فقال له كسرى : يا ذا الكلفة المشؤوم! من أيّ طبقات النّاس أنت ؟
قال : أنا رجل من الكتّاب.
فقال كسرى : اضربوه بالدّويّ «1» حتّى يموت ، فضربه بها الكتّاب خاصة تبرّؤا منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه ، حتى قتلوه ، وقال الناس : نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج» «2».
ولم يكن الرّومان يختلفون عن الإيرانيّين كثيرا ، وإن لم يبلغوا شأوهم في الوقاحة وامتهان الإنسانية وإهدار كرامتها ، فقد روى المؤرّخ الأوربيّ) trapohC rotciV (في كتابه «العالم الرومانيّ» ما ترجمته :
«كانت القياصرة آلهة ، ولم يكن ذلك عن طريق الوراثة ، بل كان كلّ من تملّك زمام البلاد كان إلها ، وإن لم تكن هناك أمارة تدلّ على وصوله إلى هذه الدّرجة ، ولم يكن لقب «أغسطس» sutsuguA الملوكيّ المفخم ينتقل من إمبراطور إلى إمبراطور بموجب دستور أو قانون ، ولكن لم يكن من شغل مجلس الشيوخ الرّومانيّ إلا أن يؤكّد صحة كلّ حكم يصدر بحدّ السيف ، ولم تكن هذه الإمبراطورية إلا صورة لدكتاتورية عسكرية» «3».
ولم يكن السّجود للملوك نادرا ، فقد حكى أبو سفيان بن حرب في القصّة التي رواها عن هرقل قيصر الرّوم حين بلغه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام ، وقد جاء في آخر هذه القصّة :
___________
(1) الدواة ، جمعها : دوى ودويّ ودويّ (اللسان : دوا).
(2) تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 121 - 122 ، وروى القصة بطولها مؤلّف كتاب «إيران في عهد الساسانيين» نقلا عن الطبري.
(1/77)
(3). 814. p) 8291, nodnoL (dlroW namoR ehT

(1/93)


ص : 94
«فلمّا رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان ، قال : ردّوهم عليّ ، وقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه ، فكان ذلك آخر شأن هرقل» «1».
أمّا الهند فقد بلغ فيها إهدار كرامة الإنسان ، وازدراء الطبقات التي اعتبرها الشعب الآريّ المحتلّ للبلاد ، والقانون المدنيّ الذي وضعه مشرّعوه ، مخلوقا خسيسا لا يتميّز عن الحيوان الدّاجن إلا بأنّه يمشي على اثنين ، ويحمل صورة الآدميّ ، وإنّ كانوا سكّان البلاد الأصليّين ، مبلغا يصعب تصوّره ، فقد نصّ هذا القانون على أنّه : «إذا مدّ أحد من المنبوذين إلى برهميّ يدا أو عصا ، ليبطش به ، قطعت يده ، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله «2» وإذا ادّعى أنّه يعلمه سقي زيتا فائرا «3» ، وكفّارة قتل الكلب ، والقطّة ، والضّفدع ، والوزغ ، والغراب ، والبومة ، ورجل من الطبقة المنبوذة سواء» «4».
إذا قورن ذلك بما اعتاده العرب من الحريّة ، وعزّة النفس ، والاقتصاد في التعظيم والأدب قبل ظهور الإسلام ، ظهر فرق هائل بين طبيعة الأمّتين ، ووضع المجتمعين : العجميّ والعربيّ ، فكانوا يخاطبون ملوكهم بقولهم :
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب كيف كان بدء الوحي ... برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسّير ، باب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل ... برقم (1773) ، والترمذي في أبواب الاستئذان ، برقم (2717) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب كيف يكتب إلى الذمي ، برقم (5136) ، وأحمد : (1/ 263) ، والبيهقي في السنن : (9/ 177) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) منو شاستر : الباب العاشر.
(3) المصدر السابق.
(4) 343 - 423. p, aidnI tneicnA, ttuD. C. R.

(1/94)


ص : 95
(1/78)
«أبيت اللّعن» و«عم صباحا» وقد بلغت هذه الحريّة والتماسك والاحتفاظ بالكرامة بالعرب إلى حدّ كانوا يمتنعون في بعض الأحيان عن الخضوع لمطالب بعض ملوك العرب وأمرائهم ، ومما يستطرف في ذلك أنّ أحد ملوك العرب طلب من رجل من بني تميم في الجاهلية فرسا له ، يقال له «سكاب» فمنعه إياها ، وقال أبياتا أوّلها : [من الوافر]
أبيت اللّعن إنّ سكاب «1» علق «2» ... نفيس لا تعار ولا تباع
مفدّاة مكرّمة علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع
سليلة سابقين تناجلاها ... إذ نسبا يضمّهما الكراع «3»
فلا تطمع - أبيت اللعن - فيها ... فمنعكها بشيء يستطاع «4»
وقد سرت هذه الحريّة ، والاعتداد بالنفس ، والأنفة من التذلّل ، إلى جميع طبقات الشعب ، وعمّت الذكور والإناث ، يدلّ على ذلك ما ذكره المؤرّخون العرب عن سبب قتل عمرو بن كلثوم الفارس المشهور والشاعر الفحل ، لعمرو بن هند ملك الحيرة ، فقد ذكروا أن عمرو بن هند ملك الحيرة أرسل إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمّه ، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب ، وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب ، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات ، ودخل عليه عمرو بن كلثوم في رواقه ، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرّواق ، وقد كان عمرو بن هند أمر أمّه أن تنحي الخدم إذا دعا
___________
(1) [سكاب : اسم فرس ، مأخوذ من سكبت الماء إذا صببته ، كأنّها تسكب الجري ، فسمّاه من فعلها].
(2) [العلق : هو نفيس المال الذي إذا علقته الكفّ ضنّت به لنفاسته ].
(3) [الكراع : اسم يجمع الخيل والسلاح ].
(4) ديوان الحماسة (باب الحماسة) : ص 67 - 68.

(1/95)


ص : 96
بالظرف ، وتستخدم ليلى ، فدعا عمرو بمائدة ، ثمّ دعا بالظرف فقالت هند :
(1/79)
«ناوليني يا ليلى ذلك الطبق!» فقالت ليلى : «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها» فأعادت عليها وألحّت ، فصاحت ليلى : «و اذلّاه يا لتغلب» فسمعها عمرو بن كلثوم ، فثار الدم في وجهه ، ووثب إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرواق ، فضرب به رأس عمرو بن هند ، وانتهب بنو تغلب ما في الرواق وساروا نحو الجزيرة «1» ، وقال في ذلك عمرو بن كلثوم قصيدته المشهورة التي عدّت من المعلّقات السبع «2».
ولمّا دخل المغيرة بن شعبة رسول المسلمين على رستم ، وهو في أبهته وسلطانه ، جلس معه - على عادة العرب - على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه ، وأنزلوه ومغثوه «3» ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنّا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا ، إلا أن يكون محاربا لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ، ولم آتكم ، ولكن دعوتموني» «4».
وفي جزيرة العرب ، وفي مكّة كانت الكعبة ، التي بناها إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - ليعبد اللّه فيها وحده ، ولتكون مصدر الدعوة للتوحيد إلى آخر الأبد.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ «5» [آل عمران : 96]
___________
(1) الجزيرة : تسمى جزيرة آقور ، وهي تقع بين دجلة والفرات ، وفيها ديار بكر وتغلب.
(2) مقتبس من كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ، ص 36.
(3) المغث : الضرب الخفيف (القاموس واللسان : مغث).
(4) الطبري ج 4 ، ص 108.
(5) «بكة» : علم للبلد الحرام ، ومكة وبكة لغتان فيه ، وكثيرا ما يقع التبادل بين الميم والباء -

(1/96)


ص : 97
(1/80)
وقد بقيت كلمة وادي «بكّة» في التوراة على ما دخل فيها من التحريف والتغيير ، إلّا أنّ المترجمين حوّلوها إلى «وادي البكّاء» وجعلوها اسم نكرة بدل علم ، وقد جاء في مزامير داود ما نصّه :
«طوبى لأناس عزّهم بك ، طرق بيتك في قلوبهم ، عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا» (مزامير «1» 84 - 5 - 6 - 7).
وقد انتبه علماء اليهود بعد قرون إلى أنّ هذه الترجمة كانت خاطئة ، فقد جاء في دائرة المعارف اليهوديّة اعتراف بأنّه واد مخصوص لا ماء فيه ، وأنّ في ذهن من صدرت عنه هذه العبارات صورة لواد له أوضاع طبيعية عبّر عنها بهذه الكلمة «2».
وقد كان ناقلو هذه الصّحف إلى الإنجليزيّة أكثر أمانة ودقة في الترجمة من الذين قاموا بالترجمة العربيّة ، فقد تركوا كلمة «بكّة» كما كانت في الأصل ، وكتبوها بالحرف الاستهلالي ، كما تكتب الأعلام ، ففي الترجمة الإنجليزيّة كما يلي «3» :
Blessed is the man whose strength is in the Thee; In Whose heart are the ways of them who passing thorough the Valley of (Baca) make it well. (psalms
: ن آرقلا ه لقن امك امهؤاعد ن اك و ، ةبعكلا دعاوقل امهعفر دنع ل يعامسإ وم يهاربإ ءاعدل ةباجتسا م لس وه يلع هّ للا ى لص ه تثعب ت ناك و98 - 5 - 6).
___________
- في اللغة العربية ، كلازم ولازب ؛ ونميط ونبيط.
(1) الكتاب المقدس في مطبعتها في ساحة استور من مدينة نيويورك ؛ لندن 1804 م.
(2). 514. p 11. Y, aidepolcycnE hsiweJ
(3) مستفاد من «التفسير الماجدي» [بالأردوية] للأستاذ الكبير عبد الماجد الدريابادي ، وكتاب «رحمة للعالمين» ج 1 ، للقاضي سليمان المنصور فوري.

(1/97)


ص : 98
(1/81)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة : 129].
وقد جرت سنّة اللّه باستجابة أدعية المخلصين المبتهلين - فضلا عن الأنبياء والمرسلين - والصحف السماوية والأخبار الصادقة مشحونة بأمثلتها ، وقد جاء في التوراة نصّ يدل على استجابة هذا الدعاء الذي دعا به إبراهيم ، فقد جاء في سفر التكوين ما لفظه :
«و على إسماعيل استجبت لك هو ذا أباركه وأكبّره وأكثّره جدا ، فسيلد اثني عشر رئيسا وأجعله لشعب كبير».
ولذك صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنّه كان يقول عن نفسه : «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى» «1».
وفي التوراة - على ما أصابها من التحريف - شواهد على أنّ هذا الدعاء قد استجيب ، فقد جاء في كتاب التثنية (18 - 15) على لسان نبيّ اللّه موسى ، ما نصه :
«يقيم لك الربّ إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي ، له تسمعون».
وقد دلّت كلمة «إخوتك» على أنّ المراد بها هم بنو إسماعيل ، الذين هم أبناء عمومة بني إسرائيل ، وقد جاء ما يؤيّد هذا بعد آيتين (18 - 17) من نفس الصحيفة ، وهو كما يلي :
«قال لي الربّ : قد أحسنوا فيما تكلّموا ، أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه ، فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به» ، (سفر التثنية 17 - 18).
___________
(1) [أخرجه أحمد (5/ 262) ، والطبراني في الكبير برقم (7729) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 84) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 222) : وإسناد أحمد حسن ].

(1/98)


ص : 99
(1/82)
وكلمة «أجعل كلامي في فمه» يعني محمّدا صلى اللّه عليه وسلم فهو النبيّ الوحيد الذي بكلام اللّه نصّا وفصّا ، وأعلن اللّه عن ذلك بقوله : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم : 3 - 4] ، وبقوله : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت : 42].
أمّا صحف أنبياء بني إسرائيل ، فهي لا تدّعي أنّها من كلام اللّه لفظا ومعنى ، ولا يتحرّج علماء هذه الطوائف من إضافة تأليفها إلى الأنبياء ، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما يلي :
«إنّ الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس (العهد القديم) كما تقول الأخبار اليهوديّة القديمة ، من تأليف النبيّ موسى ، باستثناء ثماني آيات أخيرة جاء فيها الحديث عن موت موسى ، وما زال الرّبيون يعنون بتناقضات واختلافات وردت في هذه الصّحف ، وما زالوا يصلحونها بحكمتهم ولباقتهم»»
.
وأمّا الأناجيل الأربعة التي تسمّى «العهد الجديد» فهي أبعد من أن تكون كلاما إلهيا لفظا ومعنى ، يقتنع بذلك كلّ من أجال النظر فيها وتصفّحها ، وفي الحقيقة هي بكتب السيرة والأخبار أشبه منها بالكتب المنزّلة من اللّه ، المبنيّة على الوحي والإلهام «2».
ثمّ إنّ موقع الجزيرة العربيّة الجغرافيّ ، يجعلها جديرة بأن تكون مركزا لدعوة تعمّ العالم ، وتخاطب الأمم «3» ، فهي مع كونها جزءا من قارّة آسيا تقع
___________
(1). 985. p 9,. loV aidepolcycnE hsiweJ
(2) راجع للتفصيل كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» فصل «الصحف السماوية السابقة والقرآن في ميزان العلم والتاريخ» ؛ ص 198 - 213 الطبعة الرابعة ، و«محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة» ج : 3 ، ص : 119.
(3) أعلن الدكتور حسين كمال الدين رئيس قم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة الرياض ، -

(1/99)


ص : 100
(1/83)
بمقربة من قارّة إفريقية ، ثم قارّة أوربة ، وكلّ منها مركز الحضارات ، والثقافات ، والدّيانات ، والحكومات القويّة الواسعة ، وتمرّ بها القوافل التجارية ، التي تصل بين بلاد مختلفة ، وقد تصل بين قارّات تحمل من بلد ما يستطرف وينتج فيه إلى بلد يفتقر إليه.
وتقع هذه الجزيرة بين قوّتين متنافستين : قوة المسيحيّة وقوّة المجوسية ، وقوّة الغرب وقوّة الشرق ، وقد ظلّت رغم ذلك كلّه محتفظة بحريّتها وشخصيّتها ، ولم تخضع لإحدى الدّولتين إلا في بعض أطرافها ، وفي قليل من قبائلها ، وكانت في خير موقف لتكون مركزا لدعوة إنسانيّة عالمية ، تقوم على الصعيد العالميّ وتتحدّث من مستوى عال ، بعيدة عن كلّ نفوذ سياسيّ ، وتأثير أجنبيّ.
لذلك كلّه اختار اللّه الجزيرة العربية ، ومكة المكرّمة ، لتكون مبعث الرسول ومهبط الوحي ، ونقطة انطلاق للإسلام في العالم.
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : 124]
فترة حالكة مؤيسة :
وبالرّغم من هذه المواهب التي أكرم اللّه بها العرب ، والمزايا التي امتازت
___________
- في حديث صحفي نشر في القاهرة ؛ أنه توصل إلى ما يشبه النظرية الجغرافية التي تؤكد أن مكة المكرمة هي مركز اليابسة في الكرة الأرضية ، أي مركز الأرض ، وقد بدأ بحثه برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض عن مدينة مكة المكرمة - وذلك لتصميم جهاز عملي رخيص يساعد على تحديد القبلة - وفجأة اكتشف على الخريطة أن مكة المكرمة تقع في وسط العالم. ومن خلال بحثه هذا توصّل إلى معرفة الحكمة الإلهية في اختيار مكة المكرمة لتكون مقرا لبيت اللّه الحرام ، ومنطلقا للرسالة السماوية. ( «الأهرام» 15/ 1/ 1397 ه الموافق 5/ 1/ 1977 م العدد 32898 السنة 103).

(1/100)


ص : 101
(1/84)
بها الجزيرة العربيّة ، التي تجلّت بها حكمة اللّه في اختيارها مهدا للبعثة المحمديّة وظهور الإسلام لم تكن في الجزيرة العربية أمارات يقظة ، أو آثار قلق ظاهر ، وما كان «الحنفاء» «1» والباحثون عن الحقّ ، الذين لا يجاوز عددهم رؤوس الأصابع ، إلّا كعدد ضئيل من اليراع ، يطير في ليلة شاتية ، مطيرة ، شديدة الظلام ، فلا يهدي تائها ، ولا يدفىء مقرورا.
وكانت هذه الفترة - التي بعث فيها محمد صلى اللّه عليه وسلم من أشدّ الفترات التي مرّت بها الجزيرة العربية ظلما وانحطاطا ، وأبعد من كلّ أمل في الإصلاح ، وأصعب مرحلة واجهها نبيّ من الأنبياء ، وأدقّها.
وقد أحسن أحد الكتّاب الإنجليز في السيرة النبويّة وليم ميور) riuM mailliW riS ( - وهو معروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام - تصوير هذه الفترة ، والإنكار على ما قاله بعض الكتاب الأوربيّين ، أنّ البركان كان متهيّئا للانفجار ، فجاء محمد صلى اللّه عليه وسلم في أوانه ومكانه ، فناوله شرارة من النّار ، فانفجر ، يقول :
«لم تكن الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربيّة صالحة لقبول أيّ تغير ، أو نهضة عندما كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم شابا ، ولعلّ اليأس عن إصلاح القوم لم يصل ذروته مثل ما وصل في عصره ، ولكن حينما تضعف الثقة بسبب واحد لنتيجة خاصة ، تفتعل له أسباب أخرى ، وتعتبر أسبابا لحدوث هذه النتيجة.
من ذلك ما يقوله النّاس : إنّ محمدا صلى اللّه عليه وسلم حين نهض ، نهض معه العرب كلهّم لإيمان جديد ، ووقفت الجزيرة العربية وقفة رجل واحد ، ثم يستنتجون
___________
(1) الذين نبذوا الوثنية ، وتمسكوا بعقيدة التوحيد التي دعا إليها سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

(1/101)


ص : 102
من ذلك أنّ الجزيرة العربية كلّها كانت متهيّئة متحمّسة إذ ذاك لتحوّل مفاجىء عظيم.
(1/85)
ولكنّ التاريخ عندما يكذّب هذه النتيجة ، إذا تأمّلنا في تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام بقلب هادىء ، فلم تنجح جهود المسيحيّين المتواصلة ، ودعوتهم وموعظتهم المستمرة خلال خمسة قرون إلا في كسب عدد قليل جدّا من بعض القبائل ، فتمرّ موجة صغيرة على سطح بحر الحياة العربية الهادىء ، نتيجة لتلك الجهود الحقيرة الضعيفة ، التي قام بها دعاة المسيحية ، تتخلّلها حينا بعد حين موجات أكثر قوة وعمقا ، يتجلّى فيها تأثير الدعوة اليهودية ، ولكنّ موجات الوثنية العربية والأوهام الإسماعيليّة كانت أعنف وأطغى ، كان هذا التيّار الجاهليّ الوثنيّ يضرب جدران الكعبة».
وقال في مكان آخر من هذا الكتاب :
«و كانت أوضاع العرب قبل البعثة المحمّدية بعيدة عن كلّ تغيير دينيّ ، كما كانت بعيدة كلّ البعد عن وحدة الصفوف واجتماع الشّمل ، وكان دينهم يقوم على أساس وثنيّة سخيفة تعمّقت جذورها ، واصطدمت بصخرتها محاولات نصارى مصر والشام للإصلاح ، فباءت بالفشل» «1» :
وبهذه الحقيقة التاريخيّة التي تشبه لغزا علميّا يشيد العالم الغربيّ الشهير) htimS htrowsoB (بوسروت إسمث في إيجاز ولكن في قوّة ووضوح :
«إنّ مؤرّخا يمتاز من بين زملائه بالاتجاه الفلسفيّ يقرر بأنّه لم تكن من بين الثورات التي تركت ارتسامات خالدة على تاريخ البشرية العمرانيّ ؛ ثورة
___________
(1) «حياة محمد» لسير وليم ميور.
Sir William Muir : Life Of Mohammad Vol. I,. (London, 1885) p. CCXXXV - VI.

(1/102)


ص : 103
أبعد من القياس والأمل عند العقل البشريّ من ظهور الإسلام في العرب ، فقد كان حادثا لم يكن يتوقّع حدوثه.
(1/86)
إنّنا مضطرّون إلى أن نسلّم أنّ علم التاريخ - إذا كان هنالك شيء يستحقّ أن يسمّى علم التاريخ - يبقى حائرا مرتبكا في العثور على حلقات الأسباب والعلل التي يجب عليه البحث عنها (بحكم منصبه ووظيفته) لحدوث هذا الإنقلاب» «1».
الحاجة إلى نبيّ مرسل :
كانت الأوضاع الفاسدة ، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن المسيحيّ ، أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلّمون من أفراد الناس ، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد ، أو إزالة عادة من العادات ، أو قبول عبادة من العبادات ، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات ، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلّمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر.
ولكنّ القضية كانت قضية إزالة أنقاض جاهلية ، ووثنية تخريبية ، تراكمت عبر القرون والأجيال ، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين ، وجهود المصلحين والمعلّمين ، وإقامة بناء شامخ مشيّد البنيان ، واسع الأرجاء ، يسع العالم كلّه ، ويؤوي الأمم كلّها.
قضية إنشاء إنسان جديد ، يختلف عن الإنسان القديم في كلّ شيء ، كأنّه ولد من جديد ، أو عاش من جديد أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام : 122].
قضية اقتلاع جرثومة الفساد ، واستئصال شأفة الوثنية ، واجتثاثها من
___________
(1). 6781, nodoL, msinademmahoM dna dammahoM : htimS htrowsoB

(1/103)


ص : 104
جذورها ، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر ، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخا ، لا يتصور فوقه ، وغرس ميل إلى إرضاء اللّه وعبادته ، وخدمة الإنسانية ، والانتصار للحق ، يتغلب على كلّ رغبة ، ويقهر كلّ شهوة ، ويجرف بكلّ مقاومة.
(1/87)
وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة ، والسّلوك بها على طريق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون ، وآخرها جنّة الخلد التي وعد المتّقون ، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قول اللّه تعالى في معرض المنّ ببعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران : 103].
إنّه لم يعرف في تاريخ البشريّة كلّه عمل أدقّ وأعقد ، ومسؤولية أعظم وأضخم ، من مسؤولية محمّد صلى اللّه عليه وسلم كنبيّ مرسل.
كما أنّه لم يعرف غرس أثمر مثل غرسه ، وسعي تكلّل بالنجاح مثل سعيه ، إنّها أعجوبة العجائب ، ومعجزة المعجزات.
وقد شهد بذلك أديب وشاعر فرنسيّ في قوّة وبلاغة ، ووضوح وصراحة ، يقول «لامارتين» : «1») enitramaL ( :
«إنّ إنسانا لم ينهض أبدا - متطوّعا أو غير متطوّع - لمثل هذا الهدف الأسمى ، لأنّ هذا الهدف كان فوق طاقة البشر ، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام ، التي حالت بين الإنسان وخالقه ، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربّه ، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية العقلية المعقولة
___________
(1) لامارتين) enitramaL (1790 - 1869 م.

(1/104)


ص : 105
الساطعة ، في ضباب هذه الوثنيّة السائدة والآلهة المادية ، هو ذلك الهدف الأسمى والأعلى ، إنّه لم يحمل إنسان مثل هذه المسؤولية الضخمة ، والمهمّة العظيمة الجليلة ، التي تخرج عن طوق البشر ، بمثل هذه الوسائل الحقيرة الضئيلة».
إلى أن قال :
(1/88)
«و أروع من ذلك أنّه هزّ تلك الأصنام والآلهة ، والأديان ، والتصوّرات ، والعقائد والنفوس الإنسانية هزة عنيفة ، إنّه بنى على أساس ذلك الكتاب الذي يعتبر كلّ كلمة منه مصدر التشريع ، قومية ربانية ، ألّفت بين أفراد كلّ جيل ، وسلالة ، ولغة.
إنّ الميّزة الخالدة لهذه الأمة ، التي كوّنها لنا محمد صلى اللّه عليه وسلم أنّها شديدة المقت والتقزز من الآلهة الباطلة ، شديدة الحبّ للّه الواحد الذي يتنزّه عن المادة وشوائبها ، وهذا هو الحبّ الذي يدفعه إلى الثأر والانتصاف من كلّ إهانة توجّه إلى الذات الإلهيّة ، وهذا الحبّ يعتبر أساس سائر الفضائل عند هذه الأمّة.
لقد كان إخضاع ثلث العالم لهذه العقيدة الجديدة من مأثرته بلا ريب ، لكنّ الأصحّ أنّه كان معجزة العقل لا معجزة فرد واحد ، إنّ الإعلان بعقيدة التوحيد في زمن كانت تئنّ فيه الدّنيا تحت وطأة أصنام لا حصر لها ، كان معجزة مستقلة بذاتها.
وما لبث محمّد صلى اللّه عليه وسلم أن أعلن هذه العقيدة أمام الملأ ، حتى أقفرت المعابد القديمة من عبادها فلا داعي فيها ولا مجيب ، وتكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان» «1».
___________
(1) لا مارتين) enitramaL (في كتابه) eiuqruT al ed erirotsiH (ج 2 ؛ ص 276 - 277 -

(1/105)


ص : 106
إنّما كان يحتاج هذا الانقلاب الشامل ، وهذا البعث الجديد للإنسانية إلى رسالة جديدة ، من أعظم الرّسالات ، وإلى رسول يرسله اللّه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كلّه ، وصدق اللّه العظيم :
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة : 1 - 3].
___________
(1/89)
- (باريس 1854) مقتبس من كتاب) dlroW eht ni malsI (للدكتور «زكي علي» ص 15 - 16 ، (لاهور - 1947 م).

(1/106)


ص : 107
خريطة توزيع القبائل العربية في جزيرة العرب

(1/107)


ص : 108
خريطة بعض الأوثان التي عبدها العرب في الجاهلية

(1/108)


ص : 109
جزيرة العرب قبل البعثة «1»
تحديد جزيرة العرب :
ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة ، تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة ، فهي أكبر شبه جزيرة في العالم ، ويطلق علماء العرب عليها تجوّزا اسم (جزيرة العرب) ، تحيط بها المياه من أطرافها الثّلاثة ، وهي إقليم في الجنوب الغربيّ من آسيا ، يحدّه من الشّرق الخليج العربيّ المعروف عند اليونان باسم «الخليج الفارسيّ» ، ومن الجنوب المحيط الهنديّ ، أمّا حدّه الغربيّ فهو البحر الأحمر ، كما يسمّى في الخارطات الحديثة ، المعروف باسم «الخليج العربيّ») sucibarp suniS (في الخارطات اليونانيّة واللّاتينيّة ، وب «بحر القلزم» في الكتب العربيّة القديمة ، وحدّه الشّماليّ خطّ وهميّ يمتدّ (في اصطلاح العلماء العرب) من خليج العقبة
___________
(1) اقتصرنا في هذا الفصل على ما يهم القارىء للسيرة النبوية معرفته من طبيعة هذه البلاد ، ووضعها الجغرافي ، ومكانتها في تاريخ الديانات والأمم ، وطبائع أهلها ، فلا يشق طريقه - في دراسة السيرة - منعزلا عن البيئة التي أدت فيها رسالتها ، جاهلا لها كل الجهل ، وهو مقتبس مما كتب عن الجزيرة قديما وحديثا ؛ وقد استفدنا من كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي (1 - 9) كثيرا. وموضع تفصيل أكثر في هذا الموضوع ؛ هي الكتب التي ألّفت في جغرافية جزيرة العرب ، وصفتها وخططها ، وتاريخ الحضارة العربية والأدب العربي ، وهي كثيرة.

(1/109)


ص : 110
(1/90)
حتّى مصبّ شطّ العرب في الخليج العربيّ.
وقد قسّم الإسلاميّون جزيرة العرب على خمسة أقسام :
1 - الحجاز ، والحجاز يمتدّ من أيلة (العقبة) إلى اليمن ، وسمّي حجازا - فيما يقولون - لأنّه سلسلة جبال تفصل تهامة - وهي الأرض المنخفضة على طول شاطىء البحر الأحمر - عن نجد.
2 - وتهامة ، وقد وصفناها.
3 - واليمن.
4 - ونجد. وهو الجزء المرتفع الّذي يمتدّ من جبال الحجاز ، ويسير شرقا إلى صحراء البحرين ، وهو مرتفع فسيح ، فيه صحراوات وجبال.
5 - والعروض ، وهي تتصل بالبحرين شرقا ، وبالحجاز غربا ، وسمّيت بالعروض لاعتراضها بين اليمن ونجد ، وتسمّى باليمامة أيضا «1».
طبيعة الجزيرة ، وأهلها :
وقد تغلّبت الصّحراويّة على شبه الجزيرة ، وظهر الجفاف عليه لعوامل طبيعيّة وحوادث جيولوجية ، وبسبب الموقع الجغرافيّ ، فكان ذلك كلّه سببا في قلّة نفوس جزيرة العرب في الماضي وفي الحاضر ، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضريّة ، وحكومات مركزيّة كبيرة فيها ، وفي سبب تفشّي البداوة ، وغلبة الطّبيعة الأعرابية على أهلها ، وبروز روح الفرديّة عند أهلها ، وتقاتل القبائل بعضها مع بعض ، لذلك انحصرت الحضارة في الأماكن
___________
(1) يردّ الرواة أقدم رواياتهم في هذا التقسيم إلى عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه.

(1/110)


ص : 111
الممطورة ، والأماكن التي خرجت فيها المياه الجوفيّة عيونا وينابيع ، أو قاربت المياه فيها سطح الأرض فأمكن حفر الآبار فيها.
فالحياة في جزيرة العرب ، هي هبة الماء ، فكانت القوافل تؤمّه ، وإليه كانت الطبيعة تقذف بالأعراب من كلّ مكان ، وكانوا لا يرتبطون بالأرض ارتباط المزارع بأرضه ، فلا يستقرّون في مكان إلّا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء ، فإذا جفّ الكلأ ، وقلّ الماء ارتحلوا إلى مواضع جديدة.
(1/91)
ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية ، يتمثّل مجتمعهم في القبيلة ، فالقبيلة هي الحكومة والقوميّة في نظر البدويّ ، وكانت هذه الحياة لا تعرف الرّاحة والاستقرار ، ولا تعترف إلا بمنطق القوّة ، حياة جلبت المشقّة لأصحابها ، والمشقّة لمن يقيم على مقربة منهم من الحضر ، فهم في نزاع دائم فيما بينهم ، ثمّ هم في نزاع مع الحضر.
ولكنّ العربيّ من ناحية أخرى مخلص ، مطيع لتقاليد قبيلته ، كريم يؤدّي واجبات الضّيافة ، والمحالفة في الحروب ، كما يؤدّي واجبات الصّداقة ، مخلصا في أدائها ، بحسب ما رسمه العرف ، وقد نطق به شعرهم ، وزخر به أدبهم ، من حكم وأمثال ، ومثل ، وقيم.
والعربيّ يحبّ المساواة ، ويعشق الحرّية ، وهو رجل جادّ ، صارم ، قلّ في مجتمعه الإسفاف ، محافظ ، متمسّك بحياته ، معتزّ بما كتب له ، وإن كانت حياة خشونة وصعوبة.
والممعن في البداوة منهم ضعيف الإيمان بدين ، قلّ أن يؤمن إلّا بتقاليد قبيلته ، وما ورثه عن آبائه ، مثله الأعلى في الأخلاق تركّز فيما سمّاه المروءة ، وتغنّى بها في شعره وأدبه.

(1/111)


ص : 112
مراكز عمران وحضارة :
(1/92)
وفي تلك المواضع الّتي توفّرت فيها المياه ، من مطر ، وعيون ، وآبار ، ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات ، وأسواق موسميّة ، كان لها أثر خطير في حياة العرب عموما ، ونشأت مجتمعات ، لها طبيعة خاصّة ، وشخصيّة مستقلّة ، متأثّرة بطبيعة الأرض ، وطبيعة الجوّ ، وطبيعة الحرف والصّناعات ، وطرق العيش الّتي يمارسها هذا المجتمع ، فكان في مكّة مجتمع خاصّ ، له طابع متميّز ، وكذلك لأهل الحيرة ولأهل يثرب ، وكان مجتمع اليمن من أغنى المجتمعات العربيّة وأرقاها ، لأوضاعه الخاصّة ، وتاريخه الحضاريّ القديم ، والسّياسيّ الحديث ، فتفوّق في إنتاج الغلّة ، وتربية الحيوان ، واستخراج المعادن ، وأقام له قصورا وحصونا ، واستورد آلات تساعده في ممارسة الصّناعات ، وتيسير الحياة ، من العراق وبلاد الشّام ، ومن إفريقية.
طبقات العرب :
اتّفق الرّواة وأهل الأخبار ، أو كادوا يتّفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات :
1 - عرب بائدة.
2 - وعرب عاربة.
3 - وعرب مستعربة.
واتّفقوا أو كادوا يتّفقون على تقسيم العرب ، من حيث النسب إلى قسمين :
قحطانيّة ، منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانيّة ، منازلهم الأولى في الحجاز.

(1/112)


ص : 113
كذلك يقسّم النّسّابون عدنان إلى فرعين كبيرين ، ربيعة ومضر.
وكان بين القحطانيّة والعدنانيّة منافسة قديمة ، كما كان بين ربيعة ومضر عداء شديد ، ظلّ قرونا طويلة.
واتفقوا على أنّ القحطانيّة هم الأصل ، والعدنانيّة الفرع «1» منهم أخذوا العربيّة ، وبلسانهم تكلّم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز ، وإسماعيل هو الجدّ الأكبر للعرب المستعربة ، أي العرب العدنانيين.
(1/93)
وللنّسب عند العرب شأن كبير ، وقد أقرّ به أهل الخبرة من العجم ، فقد قال رستم قائد قوّاد الفرس لأهل مجلسه حين استخفّوا بالمغيرة بن شعبة رسول المسلمين ، واحتقروه لرثاثة ثيابه ، وتبذّله : «ويلكم .. إنّ العرب يستخفّون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب» «2».
وحدة اللغة :
وكان خليقا بهذا القطر الواسع ، الّذي يكاد يكون شبه قارّة ، أن تتعدّد فيه اللغات وتتنوّع ، لبعد المسافة بين مواطن القبائل ، وبين جنوبيّ الجزيرة وشماليّها ، وقلّة اتصال أهل الجنوب بأهل الشّمال ، وأهل الشّرق بأهل الغرب ، وبحكم العصبيّة القبليّة والسّلاليّة السائدة عليهم ، وتأثّر القبائل المتاخمة للرّوم والفرس بلغاتهم.
وقد كثر عدد اللّغات في أوربة الوسطى ، وفي شبه القارة الهنديّة ، كثرة
___________
(1) يرى بعض المحققين في هذا العصر أن العدنانيين هم أصل العرب ، ولبها ، والعرب العاربة الأولى ، عكس ما يراه ويزعمه أكثر أهل الأخبار : ويقولون : إن كل ما روي من هذا التقسيم لم يرو من النصوص الجاهلية ؛ وإنما ورد متواترا من الكتب المدونة في الإسلام ، وأكثرها مبنيّ على أقوال الرواة المنتمين إلى الأصول القحطانية اليمنية ، واللّه أعلم.
(2) البداية والنهاية : لابن كثير ، ج 7 ، ص 40.

(1/113)


ص : 114
هائلة ، ولا يزال عدد اللّغات المعترف بها في دستور الهند يبلغ 15 لغة إقليمية ، تختلف فيما بينها اختلاف لغات مستقلة ، قائمة بذاتها ، حتّى يحتاج أبناؤها للتفاهم إلى ترجمان ، أو لغة أجنبية كالإنجليزية.
(1/94)
ولكن امتازت الجزيرة العربية على سعتها ، وترامي أطرافها ، وتشتّت قبائلها ، بوحدة اللغة ، كانت ولا تزال أداة تفاهم والتقاء لجميع أبناء هذه الجزيرة ، حضرهم وبدوهم ، والقحطانيّ منهم والعدنانيّ ، وهي اللغة العربيّة على اختلاف لهجاتها ، وفروقها الإقليميّة الّتي تقتضيها طبيعة اللغات وفلسفتها ، وطبيعة الأقاليم والأجواء ، وطبيعة الانعزال والانطواء.
فاللغات تختلف في لهجاتها بمسافات ، قد تطول وقد تقصر ، وكانت هذه الوحدة اللغويّة التي امتازت بها هذه الجزيرة من أهمّ أسباب تيسير مهمّة الدعوة الإسلاميّة ، وسرعة انتشار الإسلام فيها ، ومخاطبة الوحدات العربيّة المنتشرة ، في لغة واحدة ، هي اللغة العربيّة الفصحى ، وبكتاب واحد هو القرآن العربيّ المبين.
جزيرة العرب في تاريخ الأمم والديانات :
قد تبيّن من الآثار العتيقة أنّ بلاد العرب كانت مأهولة بالنّاس ، منذ العصور «الباليوليتية») cihtiloelaP (أي العهود الحجرية المتقدّمة ، ومن أقدم الآثار الّتي عثر عليها آثار من أيام العصور المعروفة ب) naillehC (أي الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجريّ.
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التّوراة ، تشرح علاقات العبرانيّين بالعرب ، وما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إلى ما بين 750 ، والقرن الثاني قبل المسيح ، وقد وردت في التّلمود إشارات إلى العرب كذلك.

(1/114)


ص : 115
(1/95)
وفي كتب «يوسفيوس فلافيوس» الذي عاش بين سنة 37 و100 للمسيح تقريبا معلومات ثمينة عن العرب ، وأخبار مفصّلة عن العرب والأنباط ، ووردت في الكتب اليونانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام - على ما فيها من خطأ - أخبار تاريخية جغرافية كبيرة الخطورة ، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة ، لولاها لم نعرف عنها شيئا ، وتعدّ الإسكندرية من أهمّ المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب ، وعادات سكّانها ، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجّار البحر المتوسط.
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيّين «خيلوس» (525 - 456 قبل المسيح) و«هيرودوتس» (480 - 425 ق. م).
وهناك طائفة من الكتّاب الذين تركوا لنا آثارا وردت فيها إشارات إلى العرب ، والبلاد العربيّة ، منهم (بطليموس) الذي عاش في الإسكندريّة في القرن الثاني للمسيح ، وهو صاحب مؤلّفات في الرّياضيات منها «كتاب المجسطي» المعروف في اللغة العربيّة.
وفي الموارد النصرانية مادة غزيرة عن تاريخ العرب في الجاهليّة والإسلام ، وإن كانت خاصة بما له صلة بالنصرانيّة وانتشارها ، ومراكز نشاطها.
والعرب في التوراة ، هم الأعراب ، أي سكان البوادي ، لذلك فإنّ النّعوت الواردة فيها عنهم ، هي نعوت لعرب البادية.
وكذلك في كتب اليونان ، والرّومان ، والأناجيل ، نعوت قصدت بها الأعراب ، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتي الرومان واليونان ، ويسلبون القوافل ، ويأخذون الإتاوات من التّجار والمسافرين.
وقد وصف ديدوروس الصّقليّ العرب بأنّهم يعشقون الحريّة ، فيلتحفون

(1/115)


ص : 116
السماء ، ويعتقدون بالإرادة الحرّة ، والحريّة المطلقة.
وبذلك يصفهم (هيرودوتس) ، فيقول : إنّهم يقاومون أيّ قوة تحاول استرقاقهم ، واستذلالهم ، فالحرية عند العرب هي أكبر شعار ، وميزة يمتاز بها العرب في نظر الكتبة اليونان ، واللاتين.
(1/96)
وكذلك الصّلات بين العرب والهند ، ومعرفة إحداهما بالآخرى ، والتبادل التجاريّ والثقافيّ بين البلدين قديم ووثيق ، وسابق على الإسلام والفتح الإسلاميّ بكثير ، وكانت الهند من أعرف الأقطار الآسيوية بالعرب ، وأقرب إليها ، لعوامل جغرافية ، واقتصادية ، كما تدلّ على ذلك المصادر الهندية والعربية ، والاكتشافات الحديثة «1».
صلة الجزيرة بالنبوّات ، والأديان السماوية :
والجزيرة العربية مهد نبوّات كثيرة ، ومبعث عدد من الأنبياء ، وقد جاء في القرآن : وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف : 21].
والمراد به نبيّ اللّه هود الذي أرسل إلى عاد ، وعاد من العرب البائدة على قول المؤرّخين ، وكان موطنها «الأحقاف» و(الحقف) كثيب مرتفع من الرّمال.
وكانت منازل عاد على المرتفعات المتفرّقة في جنوب الجزيرة ، وهي الآن تقع في الجنوب الغربيّ من الربع الخالي ، قريبا من «حضرموت» ، لا عمران فيها ولا حياة ، وكانت جنّات ومتنزّهات معمورة بأقوام جبابرة
___________
(1) اقرأ للتفصيل كتاب «الصلات بين العرب والهند» للعلامة السيد سليمان الندوي ، وهو أحسن وأوسع ما كتب في هذا الموضوع.

(1/116)


ص : 117
يسمّون قوم عاد ، فأهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية جلبت عليهم طوفانا من الرمال «1».
وقد دلّت الآية على أنّ هودا لم يكن هو الأول أو الآخر من الأنبياء الذين بعثوا في هذه البلاد ، بل سبقه أنبياء ولحقوا به ، فقد قال : وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الأحقاف : 21].
وكذلك صالح نبيّ ثمود ، كان مبعثه في جزيرة العرب ، فإنّ ثمودا كانت تسكن «الحجر» ، الذي بين الحجاز وتبوك.
(1/97)
وقد نشأ إسماعيل في مكّة ، وعاش فيها ومات.
وإذا صحّ أنّ مدين تدخل في جزيرة العرب في إطارها الواسع ، فقد كان شعيب الذي أرسل إليها من العرب. فقد كانت «مدين» في أطراف أرض العرب من ناحية الشّام ، قال أبو الفداء : «كان أهل مدين قوما عربا ، يسكنون مدينتهم «مدين» ، الّتي هي قريبة من أرض معان ، من أطراف الشام ، مما يلي من ناحية الحجاز ، قريبا من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعدهم بمدة قريبة» «2».
وكانت أرض العرب مأوى لكثير من أصحاب الرّسالات والدّعوات ، الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وتنكّرت لهم أوطانهم ، فلم يجدوا مأوى إلّا في هذه الأرض البعيدة عن نفوذ الملوك الجبّارين ، والرؤساء الظالمين ، كما كان الشأن مع إبراهيم في مكّة ، وموسى في مدين ، هذا عدا الديانات التي لقيت اضطهادا في مهدها ، فأوت إلى مواطن في الجزيرة ،
___________
(1) قال تعالى : وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة : 6 - 7].
(2) قصص الأنبياء : للشيخ عبد الوهاب النجار ، ص 275 ؛ ج 1.

(1/117)


ص : 118
فهاجر عدد كبير من اليهود ، حين لقوا اضطهادا من الرومان إلى أرض اليمن ، ومدينة يثرب.
ولجأت النصرانيّة إلى أرض نجران فرارا من حكم القياصرة الذين اضطهدوها «1».
إسماعيل عليه السّلام في مكة :
(1/98)
قصد سيدنا إبراهيم مكّة ، وهي في واد محصور بين جبال جرداء ، ليس فيه ما يعيش عليه الناس ، من ماء ، وزرع ، وميرة ، ومعه زوجه هاجر ، وولده إسماعيل ، فرارا من الوثنيّة المنتشرة في العالم ، ورغبة في تأسيس مركز يعبد فيه اللّه ، ويدعو الناس إليه ، ويكون منارا للهدى ، ومثابة للناس ، ونقطة انطلاق لدعوة التوحيد ، والحنيفية السمحة والدين الخالص «2».
تقبّل اللّه هذا العمل الخالص ، وبارك في هذا المكان ، وأجرى اللّه الماء لهذه الأسرة المباركة الصغيرة ، المؤلّفة من أمّ وابن - وقد تركهما إبراهيم في هذا المكان القاحل المنعزل عن العالم - وكان بئر زمزم ، وبارك اللّه في هذا الماء.
وكان إبراهيم لا يزال في جهاد ، ودعوة ، وانتقال من مكان إلى مكان ، يدعو الناس إلى اللّه ، ويعود إلى مكّة ، فيقضي فيها أياما ، ثمّ يغادرها «3».
___________
(1) استفدنا في هذا البحث الأخير من كتاب «خاتم النبيين صلى اللّه عليه وسلم» للعلامة محمد أبو زهرة ؛ ج 1 ، فصل «أرض النبوة الأولى هي أرض العرب».
(2) القرآن الكريم سورة البقرة [الآية : 126] ، وسورة إبراهيم [الآية : 37].
(3) تؤيّد ذلك الروايات اليهودية وتقول : إنّ إبراهيم كان يتردّد إلى إسماعيل بين آونة وأخرى ويزوره سرا في الصحراء (تعني الجزيرة العربية) راجع :
D. Sidersky - des - origines des legends Musalmans (Paris. 1933) pp. 51 - 53.

(1/118)


ص : 119
ونشأ إسماعيل ، وأراد إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل ، وهو غلام يسعى ، إيثارا لحبّ اللّه تعالى على حبّه ، وتحقيقا لما رآه في المنام.
واستسلم إسماعيل لهذا الأمر ورضي به ، وفداه اللّه بذبح عظيم «1» ، وسلّمه ليكون عون أبيه في الدعوة إلى اللّه ، وليكون جدّ آخر نبيّ وأفضل الرسل ، وجدّ أمة تضطلع بأعباء الدعوة إلى اللّه والجهاد في سبيلها.
(1/99)
وعاد إبراهيم إلى مكّة ، واشترك الأب والابن في بناء بيت اللّه ، وكان دعاؤهما أن يتقبّل اللّه هذا البيت ، ويبارك فيه ، وأن يعيشا على الإسلام ، ويموتا عليه ، ولا ينقطع بموتهما بل ترثه ذريّته ، فتحتضنه ، وتغار عليه ، وتدعو إليه ، وتؤثره على كلّ عزيز ، فتنتشر هذه الدعوة في العالم ، وأن يبعث اللّه فيها نبيّا من ذريّته ، يجدّد دعوة جدّه إبراهيم ، ويتمّ ما بدأه.
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة : 127 - 129].
ودعا إبراهيم أن يظلّ هذا البيت آمنا دائما ، وأن يسلّم اللّه أولاده من عبادة الأصنام ، الّتي لم يكن هو أشدّ كراهة لشيء ، ولا أكثر تقزّزا ، ولا أخوف لشيء على ذرّيته منها.
فقد رأى مصير الأمم ومصير الأسر ، بعد الأنبياء الذين بعثوا فيها ، وبعد الجهود الجبّارة والدّعوات القويّة التي قاموا بها ، وكيف أصبحت بعد
___________
(1) [قال تعالى : وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ] ، سورة الصافات [الآية : 107].

(1/119)


ص : 120
مفارقتهم للدنيا فريسة الشياطين المفسدين ، والدجّالين المضلّلين من عبّاد الأوثان ودعاة الجاهليّة.
(1/100)
وتمنّى أن يكون أولاده وأولاد أولاده على اتصال دائم بدعوته وجهاده ، يذكرون قصّة محاربته للوثنيّة ، وخلعه للأوثان ، وتحطيمه لها ، ومصارمته للوالد السّادن لبيت الأصنام ، وفراقه للأهل والوطن ، وأن يذكروا سرّ اختيار هذا المكان القاحل ، الذي لا يصلح للزّرع ، وازدهار المدنية ، ويعرفوا سرّ إيثاره على المدن الكبيرة ، والأمكنة الصالحة للفلاحة والتجارة ، وأسباب العيش ، وأن يعوّض عن ذلك بأن يعطف عليهم القلوب ، ويهوي إليهم الأفئدة ، ويسوق إليهم الرزق الكريم ، ويجبي إليهم ثمرات كلّ شيء :
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم : 35 - 37]
قبيلة قريش :
وتحقّق كلّ ذلك ، فبارك اللّه في ذرّيتهما ، وتوسّعت الأسرة الإبراهيمية العربية ، فقد صاهر إسماعيل جرهم «1» - وكانوا من العرب العاربة - وبارك اللّه في ذريّة إسماعيل ، حتى كان منه عدنان ، وتناقلت العرب العدنانية أنسابها ، وهي أكثر الأنساب العربية صحة وحفظا وتداولا.
___________
(1) قيل : إنّ جرهم كانت أولى القبائل العربية التي أقامت بمكة ، وقد استهواها المقام هناك لوجود ماء لا ينقطع ، وجاء في بعض الروايات أنّها كانت هناك قبل أن يترك إبراهيم زوجه هاجر وابنه إسماعيل في هذا الوادي.

(1/120)


ص : 121
(1/101)
وكثر أولاد عدنان ، اشتهر منهم معدّ بن عدنان ، ونبغ في أولاده مضر ، ونبغ من أولاده فهر بن مالك.
وسمّي أولاد فهر بن مالك بن النّضر «قريشا» وغلب هذا الاسم على جميع الأسماء ، فاشتهرت هذه القبيلة ب «قريش» وأقرّ أهل العرب كلّهم لقريش بعلوّ النّسب ، والسيادة ، وفصاحة اللغة ، ونصاعة البيان ، وكرم الأخلاق ، والشجاعة ، والفتوّة ، وذهب ذلك مثلا لا يقبل نقاشا ولا جدلا «1».
قضيّ بن كلاب وأولاده :
ومن أولاد فهر قصيّ بن كلاب.
وظلّ أمر مكة لجرهم ، حتى غلبهم على ذلك خزاعة ، وكانت سدانة البيت فيهم ، إلى أن عظم شأن قصيّ بن كلاب ، وظهر فضله فانتقلت إليه ، وانضمّت له قريش ، وأجلوا خزاعة عن مكّة ، وتمّ له أمر مكة ، وكان سيّدا مطاعا ، كانت إليه حجابة البيت ، وعنده مفاتيحه ، فلا يدخل أحد إلا بإذنه ، وسقاية زمزم ، والرّفادة «2» ، والندوة التي يجتمعون فيها للمشورة ، والرأي ، واللواء في الحرب ، فحاز شرف مكة كلّه.
وتنبّل في أولاده عبد مناف ، وكان هاشم أكبر أبناء والده عبد مناف ، وكان كبير قومه ، وكانت عنده السّقاية والرّفادة ، وهو والد عبد المطلب :
جدّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وقد ولي عبد المطّلب السّقاية والرّفادة بعد عمّه المطلب بن
___________
(1) اقرأ للتفصيل «سيرة ابن هشام» ج 1 ، وكتب السيرة والأنساب.
(2) الرّفادة : طعام كانت قريش تجمعه كلّ عام لأهل الموسم ؛ ويقولون : هم أضياف اللّه تعالى.

(1/121)


ص : 122
عبد مناف ، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبّه قومه ، وعظم خطره فيهم «1».
بنو هاشم :
(1/102)
وكان بنو هاشم واسطة العقد في قريش ، وإذا قرأنا ما حفظه التاريخ وكتب السيرة من أخبارهم وأقوالهم - وهو قليل من كثير جدا - استدللنا به على ما كان يمتاز به هؤلاء من مشاعر الإنسانية الكريمة ، والاعتدال في كلّ شيء ، ورجاحة العقل ، وقوّة الإيمان بما للبيت من مكانة عند اللّه ، والبعد عن الظلم ، ومكابرة الحق ، وعلوّ الهمّة ، والعطف على الضعيف والمظلوم ، والسخاء ، والشجاعة.
وما تشتمل عليه كلمة «الفروسية» عند العرب ، من معان كريمة ، وخلال حميدة ، تمثّل السيرة التي تليق بأجداد الرسول الكريم صلى اللّه عليه وسلم وتتفق مع ما كان يفضّله ويدعو إليه ، من مكارم الأخلاق ، غير أنّهم عاشوا في زمن الفترة ، وسايروا أبناء قومهم ، في عقائد الجاهليّة وعباداتها.
الوثنية في مكة : تاريخها ومصادرها :
وبقيت قريش متمسّكة بدين إبراهيم الخليل وبدين جدّها إسماعيل ، متمسّكة بالتوحيد ، وبعبادة اللّه وحده ، حتى كان عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي ، فكان أوّل من غيّر دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وأحدث في الحيوانات من التعظيم والتسييب والتحريم ما لم يأذن به اللّه ، ولم تعرفه شريعة إبراهيم ، وكان قد خرج من مكّة إلى الشام ، فرأى أهلها يعبدون
___________
(1) اقرأ للتفصيل «السيرة النبوية» لابن هشام ، ج 1 (أولاد عدنان).

(1/122)


ص : 123
الأصنام ، ففتن بها ، وجلب بعضها إلى مكّة ، فنصبها ، وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها «1».
(1/103)
ولا غرابة في أنّه مرّ في طريقه إلى الشّام من «البتراء» التي ضبطها المؤرّخون والجغرافيّون القدامى ب «بطراء» و«بطرة» ، وهي تقع الآن في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية ، وكانت القصبة العربية الصخريّة المشهورة عند اليونان والرومان ، قيل : إنّه أنشأها الأنباط ، وهم من أصل عربيّ ، قبل آلاف من السّنين ، وقد بلغوا في المدنيّة والصناعة شأوا بعيدا ، وكان بينهم شعراء وأطباء وتجار كبار ، وكانوا يرحلون إلى مصر والشام وبلاد الفرات وروما ، ويجوز أنّهم كانوا يمرّون بالحجاز في طريقهم إلى وادي الفرات ، وكانوا مع ذلك منغمسين في الوثنيّة السافرة ، ينحتون الأصنام ويعبدونها ،
___________
(1/104)
(1) سيرة ابن هشام ق 1 ، ص 76 - 77 ، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، كان أول من سيّب السوائب» ؛ [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، برقم (4623) ، ومسلم في كتاب الكسوف ، باب صلاة الكسوف ، برقم (901) ، وأحمد في مسنده (2/ 275)]. وفي حديث رواه محمد بن إسحاق ؛ أنه كان أول من غير دين إسماعيل ؛ فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، (راجع «السيرة النبوية» لابن كثير ؛ ج 1 ص 64 - 65). وممّا تحقق من متابعة كتب التاريخ أن جدّ عمرو بن لحي لأمه كان آخر ولاة مكة ، وقد آلت هذه التولية إلى عمرو بن لحي ، وقد أبدى الأزرقي ما كان يتمتع به من شأن وفخامة (ص 49 133) ، وقد بلغ من المجد شأوا لم يبلغه أحد قبله في الجاهلية ، وهو أول من غيّر دين إسماعيل ودعا إلى الوثنية السافرة (جمهرة أنساب العرب ، ص 235) ، وهو أول من أحدث تغييرا في مناسك الحج. ويبدو من متابعة المصادر التاريخية أنه سبق ظهور الإسلام بأربعة قرون ونصف. (ملخص البحث الذي جاء في دائرة المعارف الإسلامية ، الصادرة من «دانش كاه بنجاب» لاهور ، مجلد 14/ 3 ص 263 - 265).

(1/123)


ص : 124
قيل : إنّ «اللّات» التي هي في مقدّمة الأصنام التي كان يعبدها أهل شماليّ الحجاز ، استوردوها من «البتراء» وجعلوها في أصنامهم الرئيسيّة «1».
ويؤيّد ذلك ما جاء في كتاب «تاريخ سورية» لمؤلّفه فيليب حتّي) ittiH. K. P (حول المناطق النبطية أي شرقيّ الأردن حاليا ، يقول :
«و كان زعيم هؤلاء الآلهة «ذي الشرا» ، وكان يشبه عمودا مستطيلا أو حجرا أسود مربعا ... وكانت «اللّات» الآلهة الخاصة للعرب متصلة ب «ذي الشرا» ومن الآلهة النبطية الآخرى التي ورد ذكرها في كتابة من الكتابات الأثرية ، هي «مناة» و«العزّى» وقد ورد ذكر «هبل» أيضا في تلك الكتابات» «2».
(1/105)
ولا يعزبنّ عن البال أنّ هذا العصر كان عصر انتشار الوثنيات حول الجزيرة العربية ، ومنها حوض البحر الأبيض المتوسط ، فلم تظهر دعوة المسيح وحواريه بعد ، التي عارضت الوثنية ، وقللت من حدتها ونشاطها.
أمّا اليهودية فقد كانت ديانة سلالية محصورة في بني إسرائيل ، لم تؤذن لدعوة غير بني إسرائيل إلى التوحيد.
ويؤيّد ذلك ما جاء في كتاب «العرب قبل محمد» لمؤلّفه yraeLO ycaL eDL. قال :
«و لا يبعد عن الصحة أن يقال : إنّ عبادة التماثيل إنّما كانت من منح
___________
(1) وقد زارها المؤلف ، ولا حظ كثرة المعابد الوثنية المحفورة في الجبل في 19/ 8/ 1973 م ، أثناء جولته في غرب آسيا ؛ عضوا في وفد لرابطة العالم الإسلامي في مكة [اقرأ عن هذه الرحلة في كتاب «رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي مشاهداته - محاضراته - لقاءاته - انطباعاته» إعداد المحقّق ص (215) ، طبع دار ابن كثير بدمشق ].
(2). 38 - 283. p) 1591, nodnoL (. airyS fo yrotsiH : ittiH. K. P

(1/124)


ص : 125
سورية وفدت إلى الجزيرة عن طريق التقاليد الشاميّة اليونانيّة المنتشرة في سورية ، ولعلّها لم تكن سائدة في سائر أنحاء العرب» «1».
وكذلك كانت الوثنيّة منتشرة في وادي الفرات وشرقيّ الجزيرة العربية ، وكان بين الجزيرة وهذه المنطقة اتصالات تجارية وعلاقات وديّة ، فلا يستبعد أن يكون لهذه المنطقة نصيب في انتشار الوثنيّة في الجزيرة.
وقد صرّح) xuoR segroeG (في كتابه «العراق القديم» بأنّ الكتابات الأثرية في العراق تدلّ على أنّ الوثنية كانت منتشرة فيها في القرن الثالث المسيحيّ فيما بعد ، وهي كانت مسكنا للآلهة ، منها أجنبية ومنها محليّة «2».
(1/106)
وقيل : إنّ عبادة الأصنام نشأت في قريش تدريجيّا ، فقد توصّلوا من تعظيم حجارة الحرم ، التي كانوا يحملونها معهم إذا ظعنوا من مكّة ، تعظيما للحرم ، ومحافظة على ذكراه ، إلى أن صاروا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلّفوا خلفا نسوا ما كانوا عليه ، وعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات ، وفيهم - على ذلك - بقايا من عهد إبراهيم يتمسّكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحجّ والعمرة «3».
وتاريخ الأمم والدّيانات في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ، ومن الوسائل إلى الغايات ، ومن المقدّمات إلى النتائج ، يؤيد ما ذهب إليه هؤلاء من تعليل
___________
(1) 79 - 691. p) 7291, nodnoL (,) dammahoM erofeB aibarA (.
(2) راجع للتفصيل 48 - 382. p) 2791 (, qarI tneicnA.
(3) راجع للتفصيل في أسماء الأصنام وأخبارها ومواطنها وأسباب اتخاذها كتاب «الأصنام» للكلبي ، و«بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» تأليف العلامة السيد محمود شكري الآلوسي ، الجزء الثاني ؛ (ذكر شيء من أخبار الأصنام وسبب اتخاذ العرب لها) ص 200 215.

(1/125)


ص : 126
بدء الوثنية في العرب بصفة عامة وفي قريش بصفة خاصّة ، وتاريخ بعض الشعوب الإسلامية وطوائفها في التدرج إلى عبادة الصّور والضرائح ومغالاتها في التعظيم والتقديس يؤيّد ذلك.
لذلك ألحّت الشريعة الإسلامية على سدّ الذرائع المؤدّية إلى الشّرك ، والغلوّ في الأشخاص والآثار «1».
حادثة الفيل :
ووقع حادث عظيم لم يحدث مثله في تاريخ العرب ، وكان دليلا على ظهور حادث أكبر ، وعلى أنّ اللّه يريد بالعرب خيرا ، وأن للكعبة شأنا ليس لغيرها من بيوت الدّنيا ومراكز العبادة ، وقد نيطت بها رسالة ودور في تاريخ الديانات ومصير الإنسانيّة ، لا بدّ أن تؤدّيه وأن تقوم به.
(1/107)
___________
(1) ودلائله في الشريعة والأحاديث الصحيحة أكثر من أن تحصى ؛ منها الحديث المشهور «لا تتخذوا قبري عبدا» [أخرجه أبو داود عن أبي هريرة ، في كتاب المناسك ، باب في زيارة القبور ، برقم (4042) ، وأحمد في مسنده (2/ 367)] وحديث «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» [أخرجه البخاري عن أبي هريرة ، في كتاب التطوّع ، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، برقم (1189) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل المساجد الثلاثة ، برقم (1397)]. وحديث «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم» [أخرجه البخاري عن ابن عباس ، في كتاب أحاديث الأنبياء ، برقم (3445) ، وأحمد في مسنده (1/ 16)] وغيرها ، وهي حكمة النهي عن تصوير ذي روح في الإسلام والتشديد فيه. وقد تدرّجت أمم في القديم من الحب والتعظيم إلى التصوير ونحت التماثيل ، ومنها إلى العبادة السافرة ، قال ابن كثير في تفسير آية : وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح : 23] عن محمد بن قيس قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم : «لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم» فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس ؛ فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ؛ فعبدوهم.

(1/126)


ص : 127
خريطة أصحاب الفيل

(1/127)


ص : 128
إيمان قريش بمكانة البيت عند اللّه :
(1/108)
ويتجلّى هذا الإيمان بأنّ لهذا البيت مكانة عند اللّه ، وأنّه حاميه ومانعه ، في حديث دار بين عبد المطّلب - جدّ الرسول وسيّد قريش - و«أبرهة» - ملك الحبشة - وقد أصاب له الملك مئتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وقد أعظمه أبرهة ، ونزل له عن سريره ، فأجلسه معه ، وسأله عن حاجته ، فقال :
حاجتي أن يردّ عليّ الملك مئتي بعير أصابها لي.
فلمّا قال له ذلك ، زهد فيه الملك ، وتفادته عينه ، وقال : أتكلّمني في مئتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه ، لا تكلّمني فيه ؟!.
قال له عبد المطّلب : إنّي أنا ربّ الإبل ، وإنّ للبيت ربّا سيمنعه.
قال : ما كان ليمتنع منّي.
قال : أنت وذاك «1».
إذا فلا سلطان عليها لزاحف ، ولا سبيل إليها لمهاجم ، وإنّ اللّه بالغ أمره في بيته ودينه.
وكان من خبره أنّ أبرهة الأشرم عامل النّجاشيّ (ملك الحبشة) على اليمن بنى ب «صنعاء» كنيسة عظيمة ، سمّاها «القلّيس» وأراد أن يصرف إليها حجّ العرب ، وغار من الكعبة أن تكون مثابة للناس ، يشدّون إليها الرحال ، ويأتون من كل فجّ عميق ، وأراد أن يكون هذا المكان لكنيسته.
وعزّ ذلك على العرب الذين رضعوا لبان حبّ الكعبة وتعظيمها ، لا يعدلون بها بيتا ، ولا يرون عنها بديلا ، وشغلهم ذلك ، وتحدثوا به ،
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 49 - 50.

(1/128)


ص : 129
فخرج كنانيّ ، ودخل الكنيسة ، وأحدث فيها ، فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه «1».
ثمّ سار وخرج معه بالفيل ، وتسامعت به العرب ، فنزل عليهم كالصّاعقة ، وأعظموه ، وفزعوا له ، وأرادوا كفّه عن ذلك ومحاربته ، فرأوا أن لا طاقة لهم بأبرهة وجنوده ، فوكّلوا الأمر إلى اللّه تعالى ، وكانوا على ثقة بأنّ للبيت ربّا سيحميه.
(1/109)
وانحازت قريش إلى شعف «2» الجبال والشّعاب ، تخوّفا عليهم من معرّة الجيش ، ينظرون ماذا سيصنع اللّه بمن اعتدى على حرمته ، وقام عبد المطلب ، ومعه نفر من قريش ، فأخذوا بحلقة باب الكعبة ، يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
وأصبح أبرهة متهيّئا لدخول مكّة ، وهو مجمع لهدم البيت ، وهيّأ فيله ، وكان اسم الفيل «محمودا» وبرك الفيل في طريق مكّة ، وضربوا الفيل ليقوم ، فأبى ، ووجّهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول.
وهنالك أرسل اللّه تعالى عليهم طيرا من البحر ، مع كلّ طائر منها أحجار
___________
(1) يمكن أن يكون السبب في حملة أبرهة أهمّ وأوسع من حادث أريد به تنجيس معبد ، وأن يكون قصد أبرهة فتح مكة لربط اليمن ببلاد الشام ، وتوسيع حكم النصرانية ، ونفوذها في الجزيرة العربية ، وكان ذلك في صالح الروم والحبش ؛ وهم نصارى على السواء ، وكانت هذه الخطة - مهما كانت الدوافع إليها - تؤدّي إلى خراب البيت الذي قدّر له أن يكون هدى ومثابة للناس ، ورمز النبوة الأخيرة ؛ وتجريد مكة من سيادتها الروحية ، وذلك ما لا يرضاه اللّه. ويجوز أن يكون الروم هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة ، لماربهم السياسية ، ومنها إضعاف نفوذ الفرس المنافس الوحيد للنفوذ الرومي على بلاد العرب.
(2) [الشّعف : جمع الشّعفة ، وهي من كل شيء : أعلاه ].

(1/129)


ص : 130
يحملها ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وخرج أهل الحبشة هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا ، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم ، تسقط أنامله ، أنملة أنملة ، حتّى قدموا به «صنعاء» فمات شرّ ميتة «1».
وذلك ما حكاه القرآن ، يقول :
(1/110)
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) «2» تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) «3» فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل : 1 - 5].
وقع حادثة الفيل ودلالتها :
فلمّا ردّ اللّه الحبشة من مكة ، وأصابهم ما أصاب ، أعظمت العرب قريشا ، وقالوا : هم أهل اللّه ، قاتل اللّه عنهم وكفاهم العدوّ ، وازدادوا تعظيما للبيت ، وإيمانا مكانته عند اللّه «4».
وكان ذلك آية من اللّه ، ومقدّمة لبعثة نبيّ يبعث في مكّة ، ويطهّر الكعبة من الأوثان ، ويعيد إليها ما كان لها من رفعة وشأن ، وتكون لدينه صلة عميقة دائمة بهذا البيت ، ودلّ هذا الحادث على قرب ظهور هذا النبيّ وبعثته.
واستعظم العرب هذا الحادث ، وكان جديرا بذلك ، فأرّخوا به ، وقالوا وقع هذا في عام الفيل ، وولد فلان في عام الفيل ، ووقع هذا بعد عام الفيل
___________
(1) اقرأ لتفصيل حادثة الفيل ، «سيرة ابن هشام» ج 1 ص 43 - 57.
(2) الأبابيل : الجماعات.
(3) السجيل : الشديد الصلب.
(4) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 57.

(1/130)


ص : 131
بكذا من السّنين ، وعام الفيل يصادف سنة 570 م «1».
وما مضى على وقعة الفيل خمس سنوات حتّى انتقم اللّه من الأحباش ، فما لبث أن أزال حكمهم من بلاد اليمن ، فخلت الجزيرة العربية من آثار النفوذ المسيحيّ واستعمار الأحباش في وقت واحد.
جاء في «قيام الدولة العربية» ما خلاصته : «قد قامت حركة وطنية في دولة حمير لتخليص اليمن من حكم الأحباش ، وقد استنجد سيف بن ذي يزن بكسرى فارس فأمدّه بحملة سنة 575 م بقيادة وهرز ، وقد تغلّب هذا القائد على الأحباش في اليمن» «2».
___________
(1/111)
(1) الرأي الغالب بين الناس أنّ حملة أبرهة على مكة كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة ، وميلاد الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان في عام هذه الحملة ، وهو العام الذي عرف ب (عام الفيل) وهو يوافق سنة (570 م) أو (571 م). وقد ذهب بعض الرواة إلى غير ذلك ، يرجع للتفصيل إلى المجلّد الثالث من كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي ، ص : 507 - 508.
(2) قيام الدولة العربية : ص : 28 ، لمؤلّفه محمد جمال سرور.

(1/131)


ص : 133
مكّة زمن البعثة وعند ظهور الإسلام
مكّة مدينة لا قرية :
يتخيّل كثير من النّاس ممّن لا علم لهم بأحوال العصر الذي كانت فيه البعثة ، وليس لهم اطّلاع واسع على أيّام العرب وأخبارهم وشعرهم وعوائدهم ، أنّ مكّة كانت قرية صغيرة ، وكانت الحياة فيها في طور الطفولة العقلية والاجتماعية والحضارية ، وكانت أشبه بمسكن للقبائل ، فيه مضارب من الشّعر ، تسود فيها حياة الخيام ، وبين معاطن الإبل «1» ، ومرابض الغنم ومرابط الخيل ، متناثرة في حواشي الوادي وشعاب الجبال ، يتبلّغ أهلها ببلغة من العيش ، ويتعيّشون على الخبز القفار «2» أو لحم الإبل الذي لم يحسن شواؤه ولم يكمل استواؤه ، ويلبسون اللباس الخشن الذي يتخذونه من أصواف الإبل وأوبارها ، لا شأن لهم بتوسع في المطاعم والمشارب ، أو تأنّق في اللباس ، أو لين من العيش ، ورقّة في الشّعور ، وتوسّع في الخيال.
إنّ هذه الصّورة القاتمة لمكّة ، لا تتفق مع الواقع التاريخيّ ومع ما تناثر في كتب التاريخ ودواوين الأدب والشعر الجاهليّ ، من وصف مكّة وما كان عليه أبناؤها ، في منتصف القرن السادس المسيحيّ من آداب وأعراف وعادات
___________
(1) [معاطن الإبل : أي : مبرك الإبل عند الماء].
(2) [الخبز القفر والقفار : أي غير المأدوم (القاموس المحيط)].

(1/133)


ص : 134
(1/112)
ومظاهر كثيرة في الحياة ، قد انتقلت من طور بدائيّ بدويّ إلى طور بدائيّ مدنيّ ، ولا تتّفق مع ما وصفها القرآن بنعوت وأسماء لا تليق بقرية صغيرة ، وحياة بدويّة ، فقد سمّاها «أمّ القرى» في قوله : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى : 7]. وقوله : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين : 1 - 3]. وقوله : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» [البلد : 1 - 2].
والحقّ أنّ مكّة قد انتقلت في منتصف القرن الخامس الميلاديّ ، من طور البداوة إلى طور الحضارة ، وإن كانت حضارة بالمعنى المحدود ، وخضعت لنظام يقوم على اتفاق تطوّعيّ وتفاهم جماعيّ وتوزّع للمسؤوليات والمهام ، وكان ذلك على يد قصيّ بن كلاب الجدّ الخامس للرسول.
وكان عمران مكّة بطبيعة الحال محصورا في نطاق ضيّق ، وكانت مكّة بين الأخشبين ، وهو جبل «أبي قبيس» المشرف على الصّفا ، والآخر الجبّل الذي يقال له «الأحمر» ، وكان يسمّى في الجاهليّة ب «الأعرف» ، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان.
إلّا أنّ وجود البيت في هذا الوادي ، وما كان يتمتّع به جيرانه وسدنته بصفة خاصّة ، وسكان الوادي بصفة عامّة ، من شرف ومكانة وأمن ، كان مغريا لكثير من القبائل العربيّة ، وخصوصا المجاورة ، للانتقال إلى جوار
___________
(1/113)
(1) ولا ينافي ذلك قوله تعالى : وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] ؛ فكثيرا ما يطلق لفظ القرية على البلد ؛ قال ابن كثير في تفسيره هذه الآية : «و الظاهر أن مرادهم رجل كبير من أيّ البلدتين كان» ، تفسير ابن كثير : ج 6 ، ص 225 ، طبع دار الأندلس.

(1/134)


ص : 135
البيت ، فازداد العمران ، وتوسّع النطاق على مرّ الزمان ، وحلّت البيوت المرصوفة بالحجر ، أو المبنية بالطين والحجر محلّ الخيام والأخبية ، وانطلقت الحركة العمرانية ممّا يلي المسجد الحرام إلى بطحاء مكّة في أعلاها وأسفلها ، وكانوا يبنونها أوّل الأمر بحيث لا تستوي على سقوف مربّعة احتراما للبيت ، ثمّ هان عليهم ذلك بالتدريج ، فلم يروا بذلك بأسا ، وتوسّعوا فيه ، إلا أنّهم كانوا لا يرفعون بيوتهم عن الكعبة.
وزعم بعض أهل الأخبار أنّ أهل مكّة كانوا يبنون بيوتهم مدوّرة تعظيما للكعبة ، وأوّل من بنى بيتا مربّعا «حميد بن زهير» ، فاستنكرته قريش.
وكانت بيوت أثريائها وساداتها مقامة بالحجر ، وبها عدد من الغرف ، ولها بابان متقابلان ، ليتمكّن النّساء من الخروج من الباب الآخر ، عند وجود ضيوف في الدّار.
ومن أعلى جبل أبي قبيس الذي يشرف على مكّة من الشرق ، يبدو شكلها المستطيل من الشّمال إلى الجنوب في بطن واد ضيق ، وعندما ينظر إليها المرء لأول وهلة فإنّه لا يكاد يميّزها عن الأديم الذي تقوم عليه ، إنّ الجبال الجرداء الصخرية التي تحيط بها لا تفصلها عنها أية واحة ، فليس بينها وبين مكّة أيّ بقعة خضراء ، وإنّ سطوح منازلها لتختلط بمنهار الصخور التي تحدّرت على سفوح تلك الجبال.
أمّا بعد أن تراض العين شيئا فشيئا ، فإنّها تميّز البيوت والدّور ، وتكشف المداخل الخفيّة ، ويتنبّه الإنسان بغتة لمنظر مفاجىء لمدينة كبيرة ، لم يكن يظنّ وجودها في هذا المكان ، إنّ العين تراها تكبر دون حدّ؛ حتّى ليكاد الإنسان يعزو اتساعها المفاجىء إلى سحر ساحر ، وتبدو الصّخور بدورها

(1/135)


ص : 136
وكأنّها تحوّلت إلى منازل ، وتبدو الآكام أشبه بضواح واسعة لا يدرك الطرف لها نهاية «1».
نشأة مكّة الجديدة وصاحبها :
كانت نشأة مكّة الجديدة على يد قصيّ بن كلاب ، فهو الذي جمع قريشا ، وأسكنهم مكّة ، وخطّ لهم الرّباع «2» ، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم ، واختطّ بنوه من بعده مكة رباعا ، فكانوا يقطنونها ، ويبيعونها ، وأقامت على ذلك قريش ، ليس بينهم اختلاف ولا تنازع.
تنظيم حياة وتوزيع مناصب ومسؤوليات :
تملّك قصيّ على قومه وأهل مكّة ، وكانت إليه الحجابة ، والسّقاية «3» ، والرّفادة «4» ، والندوة ، واللواء.
وهو الذي أسّس دار الندوة لا صقة بالمسجد الحرام ، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ، وهي دار قصيّ بن كلاب ، وهي دار الشّورى لقريش ودار الحكم والمجتمع في مكّة ، فما تنكح امرأة ، ويتزوّج رجل من قريش ، وما يتشاورون في أمر نزل بهم ، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلّا في
___________
(1) آتين دينيه ، «محمد رسول اللّه» ، ص 56 (مقتبسا من «أم القرى» لفؤاد علي رضا ، ص (197 - 198).
(2) الرّباع : المنازل وما حولها ، واحد ربع بالفتح ، ذكرها أبو الوليد الأزرقي (ت 223 ه) في كتابه «أخبار مكة» بتفصيل [واف ].
(3) معنى سقاية الحاج : أنهم كانوا يملؤون للحجّاج حياضا من الماء يحلونها بشيء من التمر والزبيب ، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة.
(1/115)
(4) الرّفادة : طعام كان يصنع للحجّاج على طريق الضيافة ؛ وكانت قريش تساعد قصيّا على ذلك بما تقدّمه له من الخرج الذي تخرجه كل سنة (الخضري : ص 36).

(1/136)


ص : 137
خريطة مكة المكرمة

(1/137)


ص : 138
هذه الدار ، وما تدرّع جارية إذا بلغت إلّا في هذه الدار ، يشقّ عليها فيها درعها (خمارها) ثم تتدرّعه ، ثمّ ينطلق بها إلى أهلها.
وكان أمره في قومه في حياته ومن بعد موته كالدّين المتّبع لا يعمل بغيره ، ولم يكن يدخل دار الندوة من غير بني قصيّ إلا ابن أربعين سنة ، ويدخلها بنو قصيّ جميعا ، وحلفاؤهم كبيرهم وصغيرهم. وكانت دار الندوة خاصّة بهاشم ، وأمية ، ومخزوم ، وجمح ، وسهم ، وتيم ، وعديّ ، وأسد ، ونوفل ، وزهرة ، وهؤلاء عشرة رهط من عشرة أبطن.
وانقسمت المناصب بعد موته ، فكان في «بني هاشم» السّقاية ، وفي «بني أمية» العقاب راية قريش ، وفي «بني نوفل» الرفادة ، وكان في «بني عبد الدار» اللواء والسّدانة مع الحجابة ، وكان في «بني أسد» المشورة.
فلم يكن رؤساء قريش يتّفقون على أمر حتّى يعرضوه عليه ، فإن وافقه ولّاهم عليه ، وإلا تخيّر وكانوا له أعوانا.
وكانت المسؤوليات موزّعة بين رجال من قريش ، أقرّت لهم بالفضل وحصافة الرأي.
فكانت إلى أبي بكر الصديق - وهو من بني تيم - الأشنان وهي الديّات والمغرم ، فكان إذا احتمل شيئا ، فسأل فيه قريشا صدّقوه وأمضوا حمالة من نهض معه ، وإن احتمل غيره ، خذلوه.
وكان إلى خالد بن الوليد - وهو من بني مخزوم - القبّة والأعنّة - أما القبّة فإنّهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهّزون به الجيش ، وأمّا الأعنّة فإنه كان على خيل قريش في الحرب.
وكان إلى عمر بن الخطّاب - وهو من بني عدي - السفارة ، وذلك أنّهم

(1/138)


ص : 139
(1/116)
كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوه سفيرا ، وإن نافرهم حيّ بمفاخرة جعلوه نافرا ورضوا به.
وكان إلى صفوان بن أمية - وهو من بني جمح - الأيسار ، وهي الأزلام فكان لا يسبق بأمر هامّ حتّى يكون هو الذي يسيّره على يديه.
وكان إلى الحارث بن قيس الحكومة والأموال المحجّرة التي سموها لآلهتهم ، وكانوا يتوارثون هذه المكارم كابرا عن كابر.
النشاط التجاري وحركة التصدير والاستيراد :
وكانت لقريش رحلتان تجاريّتان ، إحداهما إلى الشّام في زمن الصيف ، والآخرى إلى اليمن في زمن الشّتاء ، وكانت أشهر الحجّ عندهم أشهرا حرما ، يعقدون فيها أسواقهم التجارية بجانب البيت وداخل حدود الحرم ، والنّاس يهرعون إلى هذه الأسواق ويؤمّونها من جهات الجزيرة البعيدة ، ليقضوا منها حاجتهم ، ويتزوّدوا لقومهم ، وقد ذكرت أسواق كانت في مكّة يستدلّ بها على ما وصلوا إليه من مدنيّة وتطوّر ، منها سوق العطّارين ، ومنها سوق الفاكهة ، وسوق الرطب ، وكان مكان للحجّامين والحلاقين ، وكانت رحبة واسعة كانت تباع فيها الحنطة ، والسمن ، والعسل ، والحبوب ، يحملها العير من الخارج ، وكانت اليمامة ريف مكّة «1» ، وكان زقاق للحذّائين ، وسوق للبزّازين.
___________
(1) لذلك لما منع ثمامة بن آثال - سيد بني حنيفة - حمل الحنطة إلى مكة بعدما أسلم ، جهدت قريش وكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسألونه أن يكتب إلى ثمامة يخلّي إليهم حمل الطعام ، ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (زاد المعاد : ج 1 ؛ ص 377) [و أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ، في كتاب الجهاد ، باب ربط الأسير ... برقم (1764)].

(1/139)


ص : 140
مكة المكرمة في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم

(1/140)


ص : 141
(1/117)
وكانت لأهل مكّة متنزهات ينتجعها المكّيّون في الأصائل ، من شهور القيظ ، وكان المتنعّمون فيهم يشتون بمكة ويصطافون بالطائف ، وكان كثير من فتيانهم اشتهروا بالأناقة في الحياة والتجمّل في اللباس ، وكانت كسوة بعضهم تقوّم بمئات من الدراهم.
وقد نشطت الحركة التجارية في مكّة ، فكان تجّارها يتجوّلون في بلاد كثيرة من إفريقية وآسيا ، ويحملون من كلّ بلد ما يستطرف ويستظرف فيها ، وما تشتدّ إليه الحاجة في بلادهم.
فكانوا ينقلون من إفريقية الصمغ ، والعاج ، والتبر ، وخشب الآبنوس ، ومن اليمن الجلود ، والبخور ، والثياب ، ومن العراق التوابل ، ومن حاصلات الهند الذهب ، والقصدير ، والحجارة الكريمة ، والعاج ، وخشب الصندل ، والتوابل ، والزعفران ، ومن مصر والشّام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير والخمور.
وكانوا يرسلون إلى بعض الملوك والأمراء ما يستطرف من بضائع مكّة ، وكان من أعجب ما يختار منها الأدم ، وهي الجلود ، كما فعلت قريش حين بعثت إلى النّجاشيّ - ملك الحبشة - عبد اللّه بن ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل ، ليستردّا من هاجر من المسلمين إلى الحبشة ، فأرسلوا معهما من الهدايا ممّا يستطرف من متاع مكّة وكان الأدم.
وكانت من النساء تاجرات ، لهنّ نشاط في إرسال القوافل التجارية إلى الشام وغيرها ، اشتهرت منهن خديجة بنت خويلد ، والحنظلية أمّ أبي جهل ، يشير إلى ذلك قوله تعالى : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء : 32].

(1/141)


ص : 142
الحالة الاقتصادية والعملة والمكاييل :
وهكذا فاقت مكّة في التجارة ، وأثرى كثير من أبنائها ، وتضخّمت رؤوس أموالهم ، يدلّ على ذلك أن عير قريش التجارية التي كانت عائدة من الشام عند غزوة بدر بلغت ألف بعير ، وبلغ المنقول على أثقالهم خمسين ألف دينار.
(1/118)
وكانوا يتعاملون بالعملة الرّومانية البيزنطية والعملة الإيرانية السّاسانية «1»
___________
(1) يبدو من الاستقراء الكثير ، وتتبّع ما كتب في الموضوع ، أنّ العملة في العصر الجاهلي ، وفي صدر الإسلام كانت على نوعين : (1) دراهم ؛ (2) دنانير. أمّا الدراهم فكانت على نوعين كذلك ، نوع عليه نقش فارس ؛ وتسمى بغلية ؛ وهي سود وافية ، والآخر عليه نقش الروم ، وتسمى غالبا طبرية وبيزنطية : وكانت كلها من الفضة ؛ وكانت مختلفة الأوزان ؛ ولهذا كان أهل مكة في الجاهلية يتعاملون بها وزنا لا عدا. ويتلخّص من أقوال العلماء ، أن الدرهم - وهو الذي اعتبره الشرع خمسا وخمسين حبة من الشعير الوسط في الوزن ، وتزن العشرة من الدراهم سبعة مثاقيل من الذهب ، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنتان وسبعون حبة ، وعلى ذلك حكى ابن خالدون الإجماع. وكانت النقود الفضية هي الشائعة والكثيرة الاستعمال عند العرب في عصر النبوة ، ولهذا قال عطاء : «إنما كان إذ ذاك الورق ، ولم يكن الذهب» (مصنف ابن أبي شيبة : ج 3 ، ص 222). أمّا الدنانير فكانت من الذهب ، وكانت في الجاهلية وأول الإسلام - بالشام ، وعند عرب الحجاز - كلها رومية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك ، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوبة بالرومية ، كما قال ابن عبد البر في التمهيد : وكلمة «الدينار» معربة من suiraneD وكانت عملة رومية قديمة ، ولا يزال لها رواج في بعض البلاد الأوربية وقد جاء ذكرها في الإنجيل مرارا ، وكان الدينار يزن مثقالا ، ووزن المثقال من الذهب الخالص كما قدمنا اثنتان وسبعون حبة من الشعير الوسط ، والمشهور أنه لم يتغير في جاهلية ولا إسلام.
(1/119)
وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن الدينار البيزنطي يزن 55 ، 4 من الغرامات ، وأثبت المستشرق - زمباور - في هذا الكتاب أن المثقال المكي (كذلك) يبلغ وزنه 55 ، 4 من الجرامات (راجع مادة «دينار» ؛ ج 9 ص 370) - .

(1/142)


ص : 143
وكانوا يستعملون الموازين في أسواقهم والمكاييل ، منها الصّاع ، والمدّ ، والرّطل ، والأوقيّة ، والمثقال ، ويعرفون من مفردات أثقالها أنواعا كثيرة ، وعندهم علم بالحساب اعتمد عليه القرآن في ذكر السّهام والفرائض.
أثرياء قريش ومترفوها :
وكانت بيوت وأسر اشتهرت بالثراء وسعة في المال ، ورقّة في العيش ، يمتاز فيها بنو أميّة وبنو مخزوم.
وكان ممّن اشتهر في الثراء وجمع الأموال واقتنائها وتنميتها : الوليد بن المغيرة وعبد العزّى (أبو لهب) ، وأبو أحيحة ابن سعيد بن العاص بن أميّة ،
___________
(1/120)
- والنسبة بين الدرهم والدينار ، هي نسبة 7 : 10 فالدرهم 7/ 10 من المثقال. وقد نزّله الخليفة عبد الملك ابن مروان في عهده بعد الإصلاحات التي نفذها إلى 25 ، 4 من الغرامات. أمّا المعادلة في الثمن ؛ فقد ثبت من كتب السنة ، ومذاهب الفقهاء ، وتقرر تاريخيا ، أن الدينار يصرف في ذلك العصر بعشرة دراهم. وقد جاء في سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ؛ قال : كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم 800 دينار أو 8000 درهم ، وبذلك عملت الأمة من الصحابة فمن بعدهم حتى استقر الإجماع على ذلك. ويدلّ على ذلك دلالة صريحة ما جاء في الأحاديث المشهورة من التصريح بنصاب الدراهم ، أو بمقدار الواجب فيها ، وما ذهب إليه الجمهور الأكبر من الفقهاء ؛ أن نصاب الذهب عشرون دينارا ، فثبت من ذلك أن الدينار الواحد في العصر الجاهلي وفي صدر الإسلام كان يساوي في الثمن عشرة دراهم ويعادلها ؛ وقد قال الإمام مالك في الموطأ : «السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، أنّ الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا ، كما تجب في مئتي درهم» (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) للآلوسي ، (التراتيب الإدارية) لعبد الحي الكتاني ، (فقه الزكاة) للدكتور يوسف القرضاوي ، (التفسير الماجدي) [للشيخ عبد الدريابادي ، بالأردوية والإنكليزية] ، وأكثره من (فقه الزكاة).

(1/143)


ص : 144
وهو الذي أسهم بثلاثين ألف دينار في القافلة التي كان يقودها أبو سفيان ، وعبد بن أبي ربيعة المخزوميّ.
واشتهر منهم عبد اللّه بن جدعان التيميّ الذي كان يشرب في كأس من الذهب ، وكان يطعم عددا كبيرا من المساكين والجيعان.
(1/121)
وكان العبّاس بن عبد المطّلب من أثرياء قريش ، ينفق أمواله في الناس ، ويتعامل بالرّبا ، حتّى جاء الإسلام ، وأعلن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلغاء الأموال الربويّة ، وبدأ ذلك بعمّه العباس بن عبد المطلب ، وأعلن في حجّة الوداع «و أول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب».
وكان منهم مترفون لهم مجالس سمر ، ولهم أرائك منصوبة وموائد ممدودة ، ونواد للشراب يلهون فيها ويسكرون.
وكانت عامّة مجالس أشرافهم أمام البيت ، ينشدون فيها الشعر ، ويحضرها بعض كبار شعراء الجاهلية ، مثل لبيد بن ربيعة صاحب المعلّقة المشهورة.
وقد ذكر أن عبد المطّلب بن هاشم كان يوضع له فراش في ظلّ الكعبة ، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ، حتّى يخرج إليهم ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
الصناعات والثقافة والآداب في مكّة :
ولم تكن للصناعات مكانة كبيرة عند أهل مكّة ، بل كان عندهم نوع احتقار لها ، وتعيّر منها ، ولم يباشرها في عامّة الأحوال إلّا الموالي وأبناء العجم ، إلا أنّه قد وجدت بعض صناعات كانوا مضطرّين إليها ، ومارسها بعض أبناء مكّة العرب ، فقد روي أنّ خبّاب بن الأرتّ كان قينا يعمل السّيوف.

(1/144)


ص : 145
وكانوا يلجؤون في صناعة البناء - وكان لا بدّ منه - إلى عمّال من الرّوم أو الفرس.
وكان منهم كتّاب يعرفون الكتابة والقراءة ، وإن كانت الأميّة غالبة عليهم ، ولذلك سمّاهم القرآن ب «الأمّيّين» فقال : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة : 2].
وكانت مكّة وأهلها مثلا في الجزيرة العربيّة في سلامة الذّوق والظّرف والأناقة ، شأن العواصم والمدن الرئيسية في كلّ قطر ، عريقة في الآداب.
(1/122)
أمّا لغتهم فكانت هي الميزان ، وهي المرجع ، وعليها الاعتماد في سائر أطراف الجزيرة ، وكانوا أبلغ العرب وأفصحهم وأصحّهم تعبيرا ونطقا ، وأبعدهم عن الهجنة أو الرطانة وتأثير الاختلاط بالعجم.
وكان حظّهم من تناسب الأعضاء واعتدال الخلق ، والخلق ، والهندام وحسن الشارة ، أكثر من أهل النواحي الآخرى ، حتّى كانوا شامة بين الناس ، يجمعون بين الصفات التي يسمّى مجموعها ب «الفتوة» و«المروءة» ، وتغنّى بهما شعراء العرب وخطباؤهم ، لذلك كانوا أئمة الناس في الشرّ والخير.
وكان أكثر عنايتهم بالأنساب وأخبارها ، ثمّ بالشعر ، ثم بالنجوم ، والأنواء ، والعيافة ، وشيء يسير من الطّبّ يقوم على التجربة ، والتناقل ، وشيء كثير من حلية الخيل والمعرفة الدقيقة بأعضائها وصفاتها ، والتفرّس بالرجال والخيل ، وشاعت فيهم طرق للعلاج ، كالكيّ ، والبتر ، والفصد ، والحجامة ، وتناول الأدوية.
القوّة الحربية :
أمّا قوّة مكة الحربية ، فكانت قريش تؤثر السّلم والهدوء في عامّة

(1/145)


ص : 146
الأحوال ، إذا تركت وشأنها ، شأن الشعوب والمجتمعات التي أكبر اعتمادها في الكسب والمعاش على التجارة ، ومسير القوافل ، وتنظيم الأسواق ، وتوجّه الرواد من كلّ صوب إلى بلدها ، والتقائهم التقاء يفيدها إجلالا دينيا ، وفائدة اقتصادية ، ويدرّ عليها الأرزاق الكريمة ، وإلى ذلك أشار اللّه تعالى بقوله : فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش : 3 - 4].
لذلك كانت قريش - ما لم تتحدّ عقيدتها ولم تثر غيرتها الدينية أو القبلية - تؤمن بمبدأ «التعايش السلميّ» ، ولكنّها رغم كلّ ذلك كانت قوة حربية يحسب لها الحساب ، وكانت شجاعتها مضرب المثل ، وكانت مشهورة بالفروسيّة العربيّة ، و«الغضبة المضريّة» معروفة في جزيرة العرب وآدابها وأمثالها.
(1/123)
ولم تكتف قريش بقوّتها الذاتية في الحروب ، ولكنّها كانت تستخدم قوة الأحابيش ، وهم بطون من القبائل العربيّة الضاربة حول مكّة ، من كنانة وخزيمة بن مدركة ، وخزاعة تحالفوا مع قريش ، وكان لقريش عدد كبير من العبيد والموالي ، الذين كانوا يقاتلون في صفوفها ، فكانت تستطيع أن توجّه إلى القتال بضعة آلاف مقاتل ، وقد استطاعت أن تجمع عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب. وهي أكبر قوّة حربية عرفها تاريخ الجزيرة العربية في العصر الجاهليّ.
كبرى مدن الجزيرة وعاصمتها الروحية والاجتماعية :
وبهذا المركز الدينيّ ، والمكانة الاقتصادية ، وقيادة النشاط التجاريّ ، والتقدّم في المدنيّة والآداب ، أصبحت مكّة كبرى مدن الجزيرة العربية ، وبدأت تنافس صنعاء اليمن في زعامة الجزيرة ، بل إنّها تفوقت عليها ، بعد ما

(1/146)


ص : 147
حدث باليمن من استيلاء الحبشة عليها ، وتملك الفرس لها ، في منتصف القرن السادس المسيحيّ ، وفقدت مملكة الحيرة ومملكة غسان الشيء الكثير من العظمة والأبّهة ، فأصبحت مكّة بعد ذلك كلّه هي عاصمة جزيرة العرب الروحيّة والاجتماعيّة من غير منافس ولا مشارك.
الناحية الخلقية :
وكانت الناحية الخلقية ضعيفة - غير الأعراف والآداب والقيم الجاهليّة التي كانوا يؤمنون بها ويعضّون عليها بالنّواجذ - فقد فشا فيهم القمار ، والميسر ، وافتخروا به ، وفشت فيهم الخمر وانتشرت القيان ، ومجالس اللهو ، وحفلات العزف ، يقدّم فيها الشراب ، وفشا فيهم بعض الفواحش ، وقد وجد الظلم والقسوة ، وغمط الناس ، وبطر الحق ، وأكل أموال الناس بالباطل.
ولا تصوير للحالة الخلقية التي كان يعيشها أهل الجزيرة بصفة عامة وأهل مكة بصفة خاصة ، أبلغ وأصدق من تصوير جعفر بن أبي طالب الهاشميّ القرشيّ - وهو ابن مكة الأصيل - للحياة العربية والأخلاق الجاهلية أمام النجاشيّ ، وقد جاء فيه :
(1/124)
«أيها الملك! كنّا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منّا الضعيف» «1».
___________
(1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1 ، ص 336 ، يرجع في معرفة المجتمع الجاهلي إلى فصل «المجتمع العربي» من كتاب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي : 4/ 271 - 414 [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 202) و(5/ 290 - 292) ؛ وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 115) ؛ وابن هشام في السيرة : (1/ 344) ؛ والبيهقي في -

(1/147)


ص : 148
الناحية الدينية :
وكانت الناحية الدينية أضعف - بحكم بعد العهد بالنبوّات ، وفشوّ الجهل ، وانتشار الوثنية ، التي اقتبسوها من الأمم المجاورة فغلوا فيها - من الناحية الأدبية والحضاريّة ، فأغرقوا في الوثنيّة ، وأولعوا بالأصنام ، فكان في جوف الكعبة وفنائها ثلاثمئة وستّون صنما.
وكان كبيرها عندهم «هبل» وكان على بئر في جوف الكعبة ، وهي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة ، وكان بالعقيق الأحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى ، أدركته قريش كذلك ، فجعلوا له يدا من ذهب.
وكان أمام البيت صنمان «أساف» و«نائلة» ، وموضعهما عند الكعبة ، أحدهما يلصق بالكعبة ، والآخر بموضع زمزم ، فنقلت قريش الذي يلصق بالكعبة إلى الآخر ، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما ، وكان على الصّفا صنم ، يقال له «نهيك مجاود الريح» وعلى المروة صنم ، يقال له «مطعم الطّير».
وكان في كلّ دار من مكّة صنم يعبدونه.
وكانت «العزّى» قريبا من عرفات ، وكان عليها بيت ، وكانت أعظم الأصنام عند قريش ، وكانوا يستقسمون عند أصنامهم بالأزلام.
وكانت «ذو الخلصة» بأسفل مكّة ، وكانوا يلبسونها القلائد ، ويهدون إليها الشعير والحنطة ، ويصبّون عليها اللّبن ، ويذبحون لها ، ويعلقون بيض
___________
(1/125)
- «الدلائل» (2/ 301 - 304) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24 - 27) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، غير ابن إسحاق ، وقد صرّح بالسماع ].

(1/148)


ص : 149
النعام بها ، وكانت الأصنام يطاف بها في مكّة ، فيشتريها أهل البادية ويخرجون بها إلى بيوتهم.
وكذا وصلوا - رغم ما طبعوا عليه من الفتوّة وخلال المروءة وكثير من الأخلاق العربيّة الكريمة - إلى درجة سخيفة راعنة من الوثنية وعبادة الأصنام والتمسّك بالخرافات والأوهام ، وجهل المفاهيم الدينية الصحيحة ، والبعد عن الإبراهيمية الحنيفيّة السّمحة ، درجة لم يصل إليها إلا النادر من الشّعوب والأمم «1».
هذه مكّة في منتصف القرن السادس المسيحيّ عند بعثة الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلم وطلوع شمس الإسلام من أفقها المظلم ، وصدق اللّه العظيم :
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ «2» [يس : 6]
___________
(1) يرجع في معرفة أديان العرب وعقائدهم إلى فصل «أديان العرب» من كتاب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : 6/ 5 - 449.
(2) اعتمدنا في كتابة هذا الفصل على إشارات عابرة في كتب التفسير والحديث ، ومعلومات مبعثرة جاءت في كتاب «الأصنام» للكلبي (ت 146 ه) و«السيرة النبوية» لابن هشام (ت 213 ه) ؛ و«أخبار مكة» للإمام أبي الوليد محمد الأزرقي (ت 223 ه) ، و«بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للسيد محمود شكري الآلوسي (ت 1342 ه) واستفدنا من كتاب «تاريخ مكة» للأستاذ أحمد السباعي ، وكتاب «مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول» للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف.

(1/149)


ص : 151
الفصل الثاني من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة
شجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم
ولادته ونسبه الشريف
رضاعته ، وحادثة شقّ الصدر
وفاة أمّه وجدّه ، وكفالة عمّه
(1/126)
قصة الراهب بحيرى وتفنيدها
زواجه من خديجة بنت خويلد
قصة بناء الكعبة ودرء الفتنة
حلف الفضول

(1/151)


ص : 153
شجرة النّبي صلى اللّه عليه وسلم «1»
آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات
1 - عبد اللّه آمنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (انظر مسلسل 6 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) برة بنت عبد العزى بن عبد الدار ابن قصي (انظر مسلسل 5 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
2 - عبد المطّلب فاطمة عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة (انظر مسلسل 7 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) صخرة «2» بنت عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة (انظر مسلسل 7 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
3 - هاشم سلمى عمرو بن زيد بن لبيد بن خدا بخش بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار (تيم اللّه) بن ثعلبة الخزرجي. عميرة «3» بنت صخر بن خبيب ابن الحارث بن ثعلبة بن مازن ابن النجار ساكن المدينة.
4 - عبد مناف عاتكة مرّة بن هلال بن فالج بن زكوان ابن ثعلبة بن بهنة بن سليم بن مضر (انظر رقم 18 من آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) ماوية «4» (صفية) بنت حوزة بن عمرو بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن. (رقم 17 من آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
5 - قصيّ حبّى خليل بن جثبية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة (وهو الخزاعي). هند «5» بنت عامر بن النضّر بن عمرو بن عامر (الخزاعي).
___________
(1) من إضافات المحقّق إلى الكتاب.
(2) أمّ صخرة هي تخمر بنت عبد بن قصي ، وجدّتها هي سلمى بنت عامرة بنت عميرة بنت وديعة بنت الحارث بن فهر ، وجدّة جدّتها هي عاتكة بنت عبد اللّه بن وامكة بن ظرب.
(3) أمّ عميرة هي سلمى بنت عبد الأشهل والجدّة هي أثيلة بنت رعورا.
(4) أمّ ماوية هي رتاش بنت الأسحم وجدّتها هي كبشة بنت الرافقي.
(5) أمّ هند هي ليلى بنت مازن (من خزامة).
(1/127)

(1/153)


ص : 154
آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات
6 - كلاب فاطمة سعد بن سيل (حير) بن نوف بن عامر الحاؤ ، وكان أول من بنى جدار الكعبة فقيل أربع عماما ، أزدشنوءة. ظريفية «1» بنت قيس بن أمية ذي الرأسين بن جيثم بن كنانة بن عمرو بن القين بن فهم بن عمرو ابن قيس بن عيلان بن إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
7 - مرّة هند سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك (مسلسل رقم 12 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) أمامة «2» بنت عبد مناة بن كنانة (انظر مسلسل 14 من آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم)
8 - كعب محشية شيبان بن محارب بن فهر (انظر مسلسل 11 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) وحشية «3» بنت وائل بن قاسط ابن هنسب بن أقصى بن صعمى ابن جديلة.
9 - لؤيّ ماوية كعب بن القين (هو النعمان) ابن حير بن شيع اللّه بن أسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. عاتكة بنت كاهل بن عذرة
10 - غالب عاتكة يخلد بن النضر بن كنانة (انظر مسلسل 14 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) أنيسة «4» بنت شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل.
11 - فهر الملقّب بقريش ليلى حارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة (انظر مسلسل 16 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم). سلمى «5» بنت طانجة بن إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم)
12 - مالك جندلة عامر بن الحارث بن مضاض بن زيد بن مالك الجرهمي هند بنت الطليم بن مالك بن الحارث الجرهمي.
___________
(1) أمّ ظريفية هي صخرة بنت عامر.
(2) أمّ أمامة هي هند بنت دودان بن الأسد خزيمة.
(3) أمّ وحشية هي ماوية بنت صبيعة بن ربيعة بن نزار.
(4) أمّ أنيسة هي تماضر بنت الحارث وجدّتها هي رهم بنت كامل.
(5) أمّ سلمى هي عاتكة بنت الأسد وجدّتها هي زينب بنت ربيعة.
(1/128)

(1/154)


ص : 155
آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات
13 - نضر عكرشة عدنان (الحارث) بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر (انظر مسلسل 18 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم). -
14 - كنانة برّة مر بن أد بن طانجة (أخت تميم ابن مر) [و طانجة أخو مدركة].
15 - خزيمة عوانة - هند سعد بن قيس بن عيلان بن إلياس (مسلسل 17 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم) وعد بنت إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
16 - مدركة سلمى الحاف بن قضاعة -
17 - إلياس ليلى (خندف) حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ضرية بنت ربيعة بن نزار (مسلسل 19 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم).
18 - مضر رباب حيدة بن معد (مسلسل 20 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم)
19 - نزار سودة عك بن الريث بن عدنان مسلسل 21 آباء النبي صلى اللّه عليه وسلم
20 - معد معانة جوشم بن جلهمة بن عمر بن برة بن جرهم سلمى بنت الحارث بن مالك بن غنم (من جرهم)
21 - عدنان مهدد لهم بن جلحب بن جديس بن جاثم بن أثرم (إرم).

(1/155)


ص : 157
من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة
عبد اللّه وآمنة :
كان لعبد المطّلب - سيّد قريش - عشرة أبناء ، كانوا شامة بين الناس ، وعبد اللّه واسطة العقد «1» ، وزوّجه أبوه «آمنة» بنت وهب - سيّد بني زهرة - وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا»
.
ولم يلبث عبد اللّه أن مات ، وأمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حامل به ، وقد رأت من الآثار والآيات ما يدلّ على أنّ لابنها شأنا «3».
ولادته الكريمة ونسبه الزكيّ :
وولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الإثنين اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، عام الفيل (570 المسيحي) «4» فكان أسعد يوم طلعت فيه الشمس.
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 108.
(2) المصدر السابق : ج 1 ، ص 110.
(1/129)
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 158.
(4) هذه هي الرواية المشهورة : وقد حقّق العالم الفلكي الكبير محمود باشا المصري أن ولادته صلى اللّه عليه وسلم كانت يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل ، 20 أبريل «نيسان» سنة 571 م. وجاء في بعض الروايات أنها كانت في 569 ه. وذكر القاضي محمد سليمان المنصور فوري في كتابه : «رحمة للعالمين» أن الولادة الكريمة كانت في التاسع من ربيع الأول. عام الفيل. الموافق للثاني والعشرين (22) من -

(1/157)


ص : 158
وهو محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
وينتهي نسب عدنان إلى سيّدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام «1».
فلمّا وضعته أمّه صلى اللّه عليه وسلم أرسلت إلى جدّه عبد المطّلب أنّه قد ولد لك غلام فأتاه ، فنظر إليه ، وحمله ، ودخل به الكعبة ، قام يدعو اللّه «2» ، ويحمده وسمّاه «محمّدا» وكان هذا الاسم غريبا ، فتعجّب منه العرب «3».
إمارات خارقة للعادة لولادة عالم جديد ، وبعث للإنسانية جديد :
وقد روى عدد من كبار المؤلّفين في السيرة وأصحاب الاختصاص في الحديث. ما ظهر على الولادة النبويّة المباركة من أمارات خارقة للعادة ، خارجة من التأثير البشريّ ، لافتة إلى استئناف العالم والحياة البشرية دورا جديدا في الدين والأخلاق ، ومسيرة الركب الإنسانيّ ، ومصيره ، وهي
___________
- أبريل سنة 571 م.
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 1 - 2 ، وجميع كتب السيرة والتاريخ والأنساب ، واقتصرنا على سياق نسبه صلى اللّه عليه وسلم إلى عدنان فإنه لا خلاف في ذلك.
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 159 - 160.
(1/130)
(3) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 210 ، وابن هشام : ج 1 ، ص 158. يستفاد من «الروض الأنف» للسّهيلي و«الفصول» لابن فورك ، أنه لم يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم الشريف قبل محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب - صلوات اللّه وسلامه عليه - إلا ثلاثة ، طمع آباؤهم حين سمعوا من أهل الكتاب ذكر نبي يبعث في جزيرة العرب يسمى بمحمد ؛ وعرفوا قرب زمانه ؛ وكانت أزواجهم حاملات ؛ فنذر كل واحد منهم إذا ولد له ذكر أن يسميه «محمدا» ففعلوا ذلك ، وقد ذكر عدد أكثر من هذا ، وعندي أن القضية تحتاج إلى تمحيص أكثر ، فقد استغرب هذه التسمية كل من سمعها من قريش ؛ والرواية تحتاج إلى نقد علميّ.

(1/158)


ص : 159
حوادث خارقة للعادة ، مسترعية للانتباه - ممن رزق قوة الاستنتاج والاعتبار - .
منها ارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته ، وغاضت بحيرة ساوا ، وخمدت نيران فارس ، التي كانوا يعبدونها ولم تخمد منذ ألف عام «1».
رضاعته صلى اللّه عليه وسلم :
أرضعته ثويبة جارية عمّه أبي لهب بضعة أيّام «2» ، ثمّ التمس عبد المطّلب
___________
(1/131)
(1) رواه البيهقي «في دلائل النبوة» (ج/ 1 ، ص/ 126 - 120) وابن جرير ، وابن عساكر كلّهم من حديث مخزوم بن هاني عن أبيه. وذكره أكثر أصحاب السير ، ورواه الحافظ المؤرّخ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 ه) ، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري بتوسّع في الرواية ، وما كان له من ردّ فعل على كسرى إمبراطور إيران ، وما دار حوله من حديث انطباعات في مجلسه ، وأورده الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت 747 ه) في كتابه : «السيرة النبوية» (ج 1 ، ص 215 ، والعلامة علي بن برهان الدين الحلبي (ت 1044 ه) في كتابه : «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» الشهير بالسيرة الحلبية ، (الجزء الأول). وقد قرّر ذلك وحكم بصحة الروايات العلامة محمد أبو زهرة في كتابه : «خاتم النبيين صلى اللّه عليه وسلم» (ج 1 ، ص 150). وقد ذكر هذه الروايات المؤّرخ الإنجليزي) sehguH. P. T (في كتاب) malsI fo yranoitciD ( : نقلا من المصادر الإسلامية ، من غير تعليق عليها أو تشكيك فيها (طبع لندن : ص/ 268). وفي الحقيقة أنّ ما ذكر من بدء أمارات تنبىء باستئناف العالم لدور جديد ، وخضوع مظاهر العظمة والشوكة المصطنعة ، لفجر من الهداية والسعادة والحق ، قد بدت طلائعه على العالم المتمدّن المعمور ، إشارة لطيفة للمتبصرين ، وإلا فقد كانت الولادة الكريمة - التي تليها البعثة المحمدية - أعظم وأضخم ، وأوسع وأعمق ، من أن تدلّ عليه هذه الإمارات الحسية وتنبىء باستئناف العالم والبشرية لدور جديد من البعثة الإنسانية ، عقائديا وعمليا ، وأخلاقا ، وجهودا ، وهداية وتوجيها ، لا تسعها ولا تؤدّي حقها هذه الأمارات المشاهدة الإقليمية المحدودة : وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح ، الآية : 7].
(2) [أخرج البخاريّ حديث إرضاع ثويبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم في كتاب النكاح ، باب وَأُمَّهاتُكُمُ -

(1/159)


ص : 160
(1/132)
لحفيده اليتيم ، الذي كان أحبّ أولاده إليه ، مرضعا من البادية ، على عادة العرب ، وكان العرب يؤثرون البادية لرضاعة الأطفال ونشأتهم الأولى ، لما في هواء البادية من الصفاء ، وفي أخلاق البادية من السلامة والاعتدال ، والبعد عن مفاسد المدنية ، ولأنّ لغة البادية سليمة أصيلة.
وجاءت المراضع من قبيلة بني سعد ، وكانت لها شهرة في المراضع وفي الفصاحة ، وأدركت حليمة السعديّة «1» هذه السعادة ، وكانت خرجت من بلدها تلتمس الرضعاء ، وكان العام عام جدب ، وهم في ضيق وشدّة ، وعرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على جميع المراضع فزهدن فيه ، وذلك لأنهنّ كنّ يرجون المعروف من أبي الصبيّ ، فقلن : يتيم! وما عسى أن تصنع أمّه وجدّه ؟!
وهكذا فعلت حليمة ، فانصرفت عنه أوّل مرة ، ثمّ انعطف قلبها عليه ، وألهمها اللّه حبّه ، وأخذه ، ولم تكن وجدت غيره ، فرجعت إليه ، فأخذته ، وذهبت به إلى رحلها ، ولمست البركة بيدها ، فكان لكلّ شيء في رحلها شأن غير الشأن ، ورأت البركة في اللبان والألبان ، والشارف والأتان ، وكلّ يقول : لقد أخذت يا حليمة! نسمة مباركة ، وحسدتها صواحبها «2».
___________
- اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [الفتح : 23] برقم (5101) ، ومسلم في كتاب النكاح ، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة ، برقم (1449) ، وأبو داود في كتاب النكاح ، باب : يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، برقم (2056) كلّهم من حديث أم حبيبة رضي اللّه عنها].
(1) السعدية : نسبة إلى سعد بن بكر بن هوازن ، وهي بنت أبي ذؤيب ، وزوجها الحارث بن عبد العزى.
(2) [أخرج الطبراني في الكبير قصة إرضاع حليمة السعدية للنبي صلى اللّه عليه وسلم (24/ 212 - 215) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 133 - 136) ، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 221) : رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه إلّا أنه قال : حليمة بنت أبي ذؤيب ، ورجالها ثقات ].
(1/133)

(1/160)


ص : 161
خريطة ديار بني سعد

(1/161)


ص : 162
ولم تزل تتعرّف من اللّه الزيادة والخير ، حتى مضت سنتان في بني سعد ، وفصلته ، وكان يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان ، وقدمت به صلى اللّه عليه وسلم على أمّه ، وطلبت أن تتركه عندها بعض الوقت ، فردّته إليها «1».
وجاء ملكان وهو في بني سعد ، فشقّا بطنه ، واستخرجا من قلبه علقة سوداء ، فطرحاها ثمّ غسلا قلبه ، حتى أنقياه وردّاه كما كان «2».
ورعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغنم مع إخوته من الرضاعة ، ونشأ على البساطة والفطرة ، وحياة البادية السامية ، واللغة الفصيحة التي اشتهر بها بنو سعد بن بكر ، وكان يقول لأصحابه فيما بعد : «أنا أعربكم ، أنا قرشيّ ، واسترضعت في بني سعد بن بكر» «3».
وفاة عبد اللّه وآمنة وعبد المطّلب وكفالة أبي طالب :
وقد تحقّق أنّ أبا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن عبد المطلب توفي قبل ولادته صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قافلا من الشام ، فمرض في الطريق ، ووصل إلى يثرب - مدينة أخواله بني عديّ بن النّجار - ومات هناك في شبابه.
___________
(1) اقرأ حكاية حليمة للرضاعة الطويلة البليغة الحبيبة في سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 162 - 166 ، وقد روي اختلاف في إسلام مرضعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم حليمة السعدية ، وقد رجّح السيوطيّ والحافظ مغلطائي بن قليج إسلامها.
(1/134)
(2) راجع القصة في كتب السيرة وقد رواها مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك في كتاب الإيمان ، باب «الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» [برقم (261) ، وأحمد في المسند : 3/ 121]. قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي اللّه الدهلوي (م 1176 ه) في كتابه الفريد «حجة اللّه البالغة» : «و ظهرت الملائكة ، فشقت عن قلبه ؛ فملأته إيمانا وحكمة ، وذلك بين عالم المثال والشهادة فلذلك لم يكن الشق عن القلب إهلاكا ، وقد بقي منه أثر المخيط ؛ وكذلك كل ما اختلط فيه عالم المثال والشهادة» (حجة اللّه البالغة : ج 2 ص 205).
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 167.

(1/162)


ص : 163
واختلف في عمره حينذاك ، وقد روى الواقديّ أنّه كان في الخامسة والعشرين (25) من عمره «1» وقد روي أقلّ من ذلك «2».
ولمّا بلغ صلى اللّه عليه وسلم ستّ سنين ، خرجت به أمّه إلى مدينة يثرب ، تزيره خؤولة جدّه فيها ، وتزور قبر بعلها الحبيب عبد اللّه بن عبد المطّلب «3» ، وفي عودتها إلى مكّة أدركها الموت بمكان بين مكة والمدينة ، اسمه «الأبواء» ، واجتمعت له وحشة فراق الأمّ الحنون ووحشة الغربة ، وذلك الشأن معه من يوم ولد ، وفيها من أسرار التربية الإلهية ما لا يعلمها إلا اللّه.
وعادت به أمّ أيمن بركة الحبشية إلى مكة ، وسلمته إلى جدّه عبد المطلب ، فكان مع جدّه ، وكان به حفيا ، يجلسه على فراشه في ظلّ الكعبة ويلاطفه.
فلمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثماني سنين ، مات عبد المطلب «4» ، فذاق مرارة اليتم مرة ثانية كانت أشدّ من الأولى ، فإنّه صلى اللّه عليه وسلم لم ير أباه ، ولم ينعم بعطفه وحنوّه ، فكان الشّعور بفقده شعورا عقليّا تقليديا ، وكان الشعور بفقد عبد المطّلب شعورا حسيا تجريبيا ، والفرق بينهما واضح.
(1/135)
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد عبد المطّلب مع عمّه أبي طالب ، وهو أخو عبد اللّه من أب وأمّ ، وكان عبد المطّلب يوصيه به فكان إليه ومعه ، وكان أرفق
___________
(1) طبقات ابن سعد ؛ «و الوفاء» لابن الجوزي.
(2) وقد رجح ابن سعد في الطبقات بعد ذكر روايات مختلفة وفاة عبد اللّه قبل ولادة الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وفي بعض كتب السيرة أن وفاته كانت بعد ولادة الرسول صلى اللّه عليه وسلم على اختلاف في المدة. (البلاذري. وأنساب الأشراف للطبري).
(3) وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يذكر أمورا في زيارته تلك ، نظر إلى دار بني النجار بعد الهجرة ، فقال : هنا نزلت بي أمي ؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار (شرح المواهب اللدنية ج 1 ، ص 167 - 168).
(4) سيرة ابن هشام : ق 1 ؛ ص 168 - 169.

(1/163)


ص : 164
به وأكثر حدبا عليه من أبنائه : عليّ ، وجعفر ، وعقيل «1».
قصّة الراهب بحيرى :
يقال : إنّ أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشّام ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ ذاك ابن تسع سنين «2» فتعلّق بعمّه ، فرقّ له ، واستصحبه في هذه الرّحلة ، فلمّا نزل الركب «بصرى» من أرض الشّام وبها راهب يقال له «بحيرى» في صومعة له ، اهتمّ بهم ، وصنع لهم طعاما ، ولم يكن هذا من شأنه ، لمّا رأى صنع اللّه به والخوارق من العادات ، فلمّا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتفى به وتأكّد من آثار النبوّة فيه ، ونبّه أبا طالب على علوّ مكانته ، وقال : ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه اليهود ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فرجع به أبو طالب إلى مكّة سالما.
(1/136)
وقد جاءت هذه القصة مطوّلة في سيرة ابن هشام وغيرها «3» وتكلّم في صحتها كثير من النّقاد والمحدّثين رواية ودراية ، قد جاء في «سيرة النبيّ» للعلامة شبلي النّعمانيّ أنّ جميع روايات هذه القصة مرسلة «4» ، فإنّ كلّ من
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 179.
(2) على الأصح.
(3) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب ، باب ما جاء في بدء نبوة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم برقم (3620) وقال : حسن غريب ، وابن أبي شيبة في مصنّفه برقم (18390) ، وأبو نعيم في «الدلائل» (51 - 54) ، والطبري في تاريخه : (2/ 277 - 279) ، والبيهقي في «دلائل النبوّة» (1/ 307 - 312) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 615) وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرّجاه ، وقال الذهبيّ : أظنّه موضوعا بعضه باطل ، ونقد ابن كثير لهذا الحديث في «السيرة النبوية» له (1/ 243) وقد تكلّم عليه الذهبيّ في «السيرة النبوية» له (ص : 28) وقال : حديث منكر جدا.
(4) لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ مراسيل الصحابة - رضي اللّه عنهم - حجة عند أكثر المحدّثين والفقهاء [و المرسل في اصطلاح المحدّثين : هو ما سقط من آخر إسناده من بعد التابعيّ ، -

(1/164)


ص : 165
روى هذه القصة من الصحابة ، إنّما سمعها من غيره ولم يسمعه من النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، وقد قال الترمذيّ بعد ما روى هذا الحديث : «حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه» ومن رواته عبد الرحمن بن غزوان ، وقد تكلّم فيه أكثر أهل الصناعة ، فقال العلامة الذهبيّ : كان يروي الأحاديث المنكرة ، وأشدّها نكارة الرواية التي جاء فيها قصّة «بحيرى».
(1/137)
وممّا يقدح في هذا الحديث أنّه قد جاء فيه أنّ أبا طالب أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع بلال ، قال العلامة ابن القيّم في «زاد المعاد» (1/ 18) : «و وقع في كتاب الترمذيّ وغيره أنّه بعث معه بلالا ، وأنّه من الغلط الواضح ، فإنّ بلالا إذ ذاك لعلّه لم يكن موجودا ، وإن كان فلم يكن مع عمّه ولا مع أبي بكر» (انتهى كلام العلامة النعماني) «1».
ونختم هذا النقد بما قاله الذهبيّ في قصّة «بحيرى» :
«و هو حديث منكر جدّا ، وأين كان أبو بكر ، كان ابن عشر سنين ، فإنه أصغر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسنتين ونصف ، وأين كان بلال في هذا الوقت ؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد ، وأيضا فإذا كان عليه
___________
- وصورته أن يقول التابعيّ - سواء كان صغيرا أو كبيرا - : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذا ، أو فعل كذا ، أو فعل بحضرته كذا ، وهذه صورة المرسل عند المحدّثين ، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج به اختلافا كثيرا ، من أراد التوسّع فيه فليرجع إلى كتاب «منهج النقد في علوم الحديث» لأستاذنا الدكتور نور الدين عتر ، ص : 371 - 372 ، طبع دار الفكر بدمشق ].
(1) قال ابن سيد الناس المؤلّف المشهور في السيرة ، بعد ما عدّل رواة هذا الحديث «و مع ذلك ففي متنه نكارة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى اللّه عليه وسلم بلالا ، كيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم أسنّ من أبي بكر ما يزيد من عامين ، وكانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره وأيضا فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما إلخ (عيون الأثر : ج 1 ، ص 43)».

(1/165)


ص : 166
(1/138)
غمامة تظلّله كيف يتصوّر أن يميل فيء الشجرة ؟ لأنّ ظلّ الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها ، ولم نر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ذكر أبا طالب قطّ بقول الراهب ، ولا تذاكرته قريش ، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توفّر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك «1».
مثال غريب من التعصّب الدينيّ
والإمعان في الافتراض والتخمين :
وانتهز المستشرقون والمغرضون هذه الفرصة - وهي لقاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحبر من أحبار النصارى ، شخصيته ومكانته في العالم مجهولتان - فصنعوا من الحبّة قبة ، وأسّسوا عليها بناء شامخا ، من تلقّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لتعاليم التوحيد النقية من عالم نصرانيّ.
وأغرب من هذا أنّ) xuav eD arraC (الفرنسي ألّف كتابا مستقلا في هذا الموضوع ، أسماه «مؤلف القرآن» حاول أن يثبت فيه أنّ «بحيرى» لقّن محمدا صلى اللّه عليه وسلم القرآن كلّه ، في هذا اللقاء القصير.
هذا - إن صحّت الرواية - لا يقوله عاقل رزق من سلامة العقل والإنصاف ذرّة ، فكيف يعقل أنّ غلاما لا يجاوز عمره تسع سنوات - على الأصحّ - واثني عشر عاما - على الأكثر - تلقّى من شيخ لا يعرف لغته ، ولم يجلس إليه إلّا ما يستغرقه وقت الجلوس على مائدة ، المسائل الدقيقة والتفاصيل العميقة في نقد عقيدة الشرك والمسيحية الممسوخة في القرن السادس المسيحيّ ، التي لم يهتد إليها كبار النقّاد ، والمصلحين في المذهب البروتستانتي وكبار
___________
(1) السيرة النبوية : للذهبي (طبع دار الكتب العلمية ص 28 - 29). وهي مستقاة من كتاب «تاريخ الإسلام» للحافظ الذهبي.

(1/166)


ص : 167
(1/139)
المصلحين في العالم المسيحيّ ، والتمييز الدقيق بين عقائد الفرق المسيحية وأقوالها ، وتعرض القرآن لحوادث لم تحدث إلا بعد ثلاثين وأربعين سنة ، حين أصبحت عظام (بحيرى) نخرة «1» ، كاندحار الرّوم أمام الفرس في الأعوام الأولى من القرن السابع المسيحيّ (603 - 616) إلى آخر نقطة من تراجع الجيوش وتقلّص الحكومات ، حتى كادت الإمبراطورية البيزنطية تلفظ نفسها الأخير ، وتصبح مستعمرة ساسانية حقيرة ، وانقطع كلّ أمل في نهوض الدولة البيزنطيّة وعودتها إلى أوجها الأول ، ثمّ انتصار الروم البيزنطيين الرائع ، النافي لكلّ تقدير وتخمين ، على الفرس الظافرين المنتصرين ، حتى أوغلت الجيوش الروميّة في قيادة هرقل في إيران ، وغرزت أعلام الفتح في قلب البلاد ، وأثخنت الشعب الإيرانيّ قتلا وجراحا ، وأهانت المعابد والمقدّسات الدينية ، وعادت من أسوار العاصمة ظافرة مرفوعة الرأس ، وذلك كلّه في ظرف تسع سنين «2» ، وهو ما أعلنه القرآن بقوله :
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم :
1 - 7].
وهي نبوّة لا يقدر عليها إلّا العليم القدير الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ، ولم يكن
___________
(1) [نخرة : أي : بالية].
(1/140)
(2) اقرأ مقال المؤلّف المسهب «نبوة تتحدّى ومعجزة تتحقّق» في كتاب المؤلف «المدخل إلى الدراسات القرآنية» ص 56 طبع دار ابن كثير ، دمشق سنة 1423 ه - 2002 م.

(1/167)


ص : 168
شيء أغرب خيالا ، وأبعد منالا من هذه النبوّة التي أعلنها القرآن عند فرح قريش والمشركين بانتصار المجوس المشركين على أهل الكتاب المسيحيين ، وشماتتهم بهزيمة الروم المنكرة ، فقال : وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم : 3 - 4] (والبضع ما دون العشر) واستبعدته قريش كلّ الاستبعاد ، حتى قامروا على ذلك استبعادا له.
يقول المؤرّخ الإنجليزيّ جبون) nobbiG drawdE ( :
«إنّ محمّدا تنبّأ حين بلغت فتوح الإيرانيين أوجها وقمتها ، أنّ الرايات الرومية سترتفع بالفتح والانتصار في بضع سنين ، ولم يكن شيء أبعد عن القياس من هذه النبوة التي أعلنها محمد ، لأنّ السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكم هرقل كانت تعلن بتمزّق الإمبراطوريّة الروميّة ، ونهايتها القريبة» «1».
ولكن تحقّقت هذه النبوّة بشكل غريب خارق للعادة ، وذلك في سنة 625 م (العام الثاني من الهجرة النبوية عند غزوة بدر) يقول «جيبون» في أسلوبه الأدبي القويّ المعروف :
«كما أنّ ضباب الصبح والأصيل ينقشع ويتبدد بنور الشمس البازغة الوهاج ، كذلك تحوّل الأمير الرقيق المترف الذي لم يكن يعرف إلا الشباب والهوى ، والذي كان على قدم أركاديوس في عصره «2» ، فارسا منتصرا يقود الجيوش ويفتح البلاد كسيزر «3» ، لقد أنقذت كرامة هرقل وروما بطريقة غريبة رائعة ، وعاد إليهما اعتبارهما وقيمتهما» «4».
___________
(1) تاريخ انحطاط روما وسقوطها : ج 3 ، ص 302 - 303 ، طبع 1890 م.
(2) الملك الرومي الخليع المستهتر الذي أصبح مثلا في تأريخ أوربة للتمتع المسرف والترف الفاحش.
(1/141)
(3) الإمبراطور الرومي الذي اشتهر بفتوحه العظيمة وامتداد ملكه.
(4) انحطاط روما وسقوطها : ج 4 ، ص 304 ، طبع 1890 م.

(1/168)


ص : 169
هذا إلى نبوءات أخرى وإعلانات بعيدة عن القياس والقرائن ، كالفتح المبين (صلح الحديبية) المهين في نظر كثير من المسلمين وغير المسلمين «1» ، ودخول الناس في الإسلام أفواجا «2» ، وظهوره على الدين كلّه بعد ما كان المسلمون مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس ، وقيام دولتهم وشوكتهم «3» ، وبقاء القرآن محفوظا متلوا ، مبينا مفسرا ، يتلوه ويحفظه أكبر عدد من البشر «4» إلى غير ذلك من النبوءات الغريبة ، والإعلانات المتحدية للعقل والقياس ، والأخبار الغيبية التي زخر بها القرآن «5».
ولا يصنع من هذه الحبّة قبّة إلا من أعماه التعصّب الدينيّ ، والاسترسال في الخيال ، والإمعان في الافتراض والتخمين ، والإتيان بالبعيد المضحك للعقلاء ، والتطرّف ، وإبعاد النجعة في العداء ، ولو لا ورود هذه القصّة في عامّة كتب السيرة لما أوردناها في هذا الكتاب ، ولما تعرّضنا لبحثها ونقدها «6».
___________
(1) انظر سورة الفتح.
(2) انظر سورة النصر.
(3) انظر سورة النور.
(4) انظر سورة القيامة وسورة الحجر.
(5) اقرأ للتفصيل عنوان «الأخبار الغيبية والنبوءات» في المجلد الثالث من «سيرة النبي» [بالأردوية] للعلامة السيد سليمان الندوي.
(1/142)
(6) يقول كارليل في كتابه المشهور «الأبطال») seoreH (معلقا على ما قيل إن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلقّى من الراهب «بحيرى» أساس الدين الإسلامي ومادته ، يقول : «إني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمدا سكنا معه في الدار ، ولا ماذا عساه أن يتعلّمه غلام في هذه السنّ الصغيرة من أي راهب ما ، فإن محمدا لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته ، ولا شك أن كثيرا من أحوال الشام ومشاهدها لم يكن في نظره إلا خليطا مشوّشا من أشياء ينكرها ولا يفهمها (توماس كارليل : الأبطال ص/ 68)..) pihsroW oreH dnA seoreH, lylraC samohT ( -

(1/169)


ص : 170
التربية الإلهية :
وشبّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محفوظا من اللّه تعالى ، بعيدا عن أقذار الجاهليّة وعاداتها ، فكان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأشدّهم حياء ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة ، حتى ما أسموه في قومه إلّا «الأمين» «1».
يعصمه اللّه تعالى من أن يتورّط فيما لا يليق بشأنه ، من عادات الجاهلية ، وما لا يرون به بأسا ، ولا يرفعون له رأسا ، وكان واصلا للرّحم ، حاملا لما يثقل كواهل الناس ، مكرما للضيوف ، عونا على البرّ والتقوى «2» ، وكان يأكل من نتيجة عمله ، ويقنع بالقوت.
ولمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع أو خمس عشرة سنة ، هاجت حرب الفجار بين قريش وبين قيس ، وشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيامها ، وكان ينبل «3» على أعمامه وبذلك عرف الحرب ، وعرف الفروسيّة والفتوّة «4».
ولمّا شبّ عن الطوق اتّجه إلى العمل ، فرعى الأغنام ، وفيه كسب
___________
(1/143)
- وقد انتهى الباحثون الغربيون أخيرا - وهم مسيحيون عقيدة ، وأحرار متنوّرون بحثا وتحقيقا إلى أنّ كلّ ما قيل عن تلقّي محمد صلى اللّه عليه وسلم ما جاء في القرآن ، وما عرضه على الناس بصفته أنه وحي من اللّه ، إنما كان تلقينا من القسوس والرهبان - قد تحقّق وثبت بطلانه ، وأنه افتراض ومحاولة تشكيك فقط ، ليس مبنيّا على بينة وثبوت تاريخيّ. ليرجع إلى) IIIV xP ortnI narnuB. eD (ehT, remlaP (وكذلك) 131. P ytinaitsirhC eurT ro malsI, nesnuB eD (
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 183.
(2) اقرأ شهادة خديجة - رضي اللّه عنها - لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - حين رجع من «حراء» وخشي على نفسه ، في الجامع الصحيح للبخاري في باب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم».
(3) ينبل : يعني كان يرد عليهم نبل عدوهم إذا ما رماهم.
(4) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 186.

(1/170)


ص : 171
شريف ، وتربية نفسية ، وترويض على العطف على الضعفاء ، وسياسة للأوابد ، واستنشاق للهواء النقيّ الصّافي ، وتقوية للجسم ، وفوق ذلك كلّه إنّه اتباع لسنّة الأنبياء ، فقد روي عنه أنّه قال بعد النبوّة : «ما من نبيّ إلّا وقد رعى الغنم» قيل : وأنت يا رسول اللّه ؟! ، قال : «و أنا».
وقد رعى الغنم في بني سعد مع إخوته من الرضاعة ، فلم يكن بعيدا عنه ولا جاهلا له ، وقد ثبت في (الصّحاح «1») أنّه كان يرعى الغنم في مكة على قراريط «2» يأخذها من أهلها.
زواجه - صلى اللّه عليه وسلم - من خديجة :
ولمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة ، تزوج خديجة بنت خويلد ، وهي من سيّدات قريش ، وفضليات النساء ، رجاحة عقل ، وكرم أخلاق ، وسعة مال ، وكانت أرملة ، توفّي زوجها أبو هالة ، وكانت إذ ذاك في الأربعين من سنّها ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره «3».
(1/144)
وكانت خديجة امرأة تاجرة ، تستأجر الرّجال في مالها ، وتضاربهم بشي ء
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإجارة ، باب رعي الغنم على قراريط ، برقم (2262) ، وابن ماجه في أبواب التجارات ، باب الصناعات برقم (2149) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(2) قد جاء في (سيرة النبي) - الجزء الأول - للعلامة شبلي النّعماني : «قد اختلف العلماء في معنى كلمة (قراريط) ، فذهب شيخ ابن ماجه سويد بن سعيد إلى أنها جمع قيراط وهو جزء من الدرهم أو الدينار ؛ وعلى ذلك فمعنى الحديث عنده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يرعى الغنم على الأجرة ، ومن هنالك ساقه البخاري في باب الإجارة. وذهب إبراهيم الحربي إلى أنه اسم مكان بعينه قرب أجياد ؛ وقد رجحه ابن الجوزي ، وأكد صحة رأيه العلامة العيني بدلائل قوية راجحة ، وإليه مال صاحب (نور النبراس) بعد بحث مطول مفصل».
(3) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1 ، ص 187 - 190 ، و«سيرة ابن كثير» ، ج 1 ص 262 - 265.

(1/171)


ص : 172
تجعله لهم ، وكانت قريش قوما تجّارا ، وقد كانت اختبرت صدق حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكرم أخلاقه ، ونصيحته ، حين خرج في مال لها إلى الشّام تاجرا ، وبلغها من كبر شأنه في هذه الرّحلة ، فعرضت عليه نفسها ، وكانت قد رفضت طلب كثير من أشراف قريش ، وخطبها إليه عمّه حمزة ، وخطب أبو طالب الخطبة ، فكان الزواج «1».
وكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2» وولدت له ولده كلّهم إلا إبراهيم «3».
قصة بنيان الكعبة ودرء فتنة عظيمة :
ولمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وقد أرادوا ذلك ليسقفوها ، وكانت حجارة بعضها على بعض ، من غير طين يركب بعضها على بعض ، وكانت فوق القامة ، وكان لا بدّ من هدم وبناء جديد «4».
(1/145)
فلمّا بلغ البنيان موضع الركن ، اختصموا في الحجر الأسود ، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الآخرى ، وكلّ قبيلة تريد أن يكون لها هذا
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 189 - 190.
(2) [أخرج أحمد قصّة زواجه صلى اللّه عليه وسلم من خديجة رضي اللّه عنها في المسند : (1/ 312) ؛ والطبرانيّ في المعجم الكبير ، برقم (12838) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما ، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 220) : رواه أحمد والطبراني ، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح ، وقال أحمد شاكر : إسناده فيه نظر.].
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 190 ، وكتب السّير الآخرى.
(4) قال موسى بن عقبة : وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء ، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاؤوا. (اقرأ التفصيل في «عيون الأثر» لابن سيد الناس ، ج 1 ، ص 52).

(1/172)


ص : 173
الشرف ، حتّى آل الأمر إلى الحرب ، وكانت تنشب في أهون من هذا بكثير في الجاهلية.
واستعدّوا للقتال ، وقرّبت بنو عبد الدّار جفنة مملوءة دما ، وتعاقدوا ، هم وبنو عديّ ، على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدّم في تلك الجفنة. وكانت آية الموت والشرّ.
ومكثت قريش على ذلك أياما ، ثمّ اتّفقوا على أنّ أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينهم ، فكان أول داخل عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا رأوه قالوا :
هذا الأمين رضينا ، هذا محمد.
ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بثوب وأخذ الحجر ، ووضعه فيه بيده ، ثمّ قال :
«لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثمّ ارفعوه جميعا» ففعلوا ، حتّى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه «1».
(1/146)
وهكذا درأ «2» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحرب عن قريش ، بحكمة ليست فوقها حكمة ، وكانت مقدّمة درئه للحروب والشرور عن الشعوب والأمم بعد النبوّة ، بحكمته ، وتعاليمه ، ورفقه ، وتلطّفه في الأمور ، والإصلاح بين الناس ، فيكون رحمة للعالمين كما كان رحمة للمتخاصمين والمتحاربين في قوم بسطاء أمّيين.
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 192 - 197. [انظر هذه القصّة في «المعجم الأوسط» برقم (2442) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 229) : رجاله رجال الصحيح ، غير عمير بن حفص الضرير ، وخالد بن عرعرة ، وكلاهما ثقة ، وروى القصة أيضا عبد الرزاق في مصنفه (5/ 100 - 101) والحاكم (1/ 458) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 56 - 57).].
(2) [درأ : أي دفع ].

(1/173)


ص : 174
حلف الفضول :
وشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلف الفضول «1» ، وكان أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب ، وكان سببه أنّ رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه العاص بن وائل أحد أشراف قريش ، فحبس عنه حقّه ، فاستعدى عليه الزبيديّ أشراف قريش ، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل لمكانته ، وانتهروه ، واستغاث الزّبيديّ أهل مكة ، واستعان بكلّ ذي مروءة.
وهاجت الغيرة في رجال من ذوي المروءة والفتوّة ، فاجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان فصنع لهم طعاما ، وتعاقدوا ، وتعاهدوا باللّه ، ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم ، حتى يؤدي إليه حقّه ، فسمّت قريش ذلك الحلف «حلف الفضول» وقالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ، ثم مشوا إلى العاص بن وائل ، فانتزعوا منه سلعة الزبيديّ ، فدفعوها إليه «2».
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مغتبطا بهذا الحلف ، متمسّكا به حتّى بعد البعثة يقول :
(1/147)
«لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ، ما أحبّ أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت».
تحالفوا على أن يردّوا الفضول على أهلها ، وألّا يعزّ «3» ظالم مظلوما «4».
___________
(1) انظر سبب التسمية في الحاشية رقم (4).
(2) سيرة ابن كثير : ج 1 ص 257 ، - 259.
(3) يعز : يغلب.
(4) سيرة ابن كثير : ج/ 1 ، ص/ 258. سمّت قريش هذا الحلف «حلف الفضول» ، قال بعضهم ، سمّوه بحلف الفضول ؛ لأنّه -

(1/174)


ص : 175
ويرى المتتبّع لأوضاع جزيرة العرب بصفة عامة ، ووضع مكّة المكرمة مركز الجزيرة الدينيّ والثقافيّ والسياسيّ وواقعها ، أنّ الباعث لأهل الضّمائر الحيّة على إنشاء هذا الحلف لم يكن حادثة تتعلّق بفرد واحد أو لبعض حقوق مهضومة لأفراد معدودين ، بل كان الباعث القويّ هو القلق من حالة الفوضى وعدم الثقة التي كانت تسود مكة وما حولها ، والشعور بالحاجة إلى الأمن والاستقرار - خصوصا بعد حرب الفجار - واحترام الحقوق والكرامات ، وحماية الغرباء والوافدين إلى مكّة من التجار والصنّاع.
قلق غامض وعدم ترقّب لنبوّة أو رسالة :
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجد في نفسه قلقا غامضا ، لا يعرف مصدره ولا
___________
(1/148)
- دعا إليه ثلاثة من أشرافهم ، اسم كلّ واحد منهم «فضل» وهم : الفضل بن الفضالة ، والفضل بن وداعة ، والفضل بن الحارث ، فيما قاله ابن قتيبة ، وقال غيره : الفضل بن شراعة ، والفضل بن بضاعة ، والفضل بن قضاعة ، ولذلك سموه بحلف الفضول. وقال بعضهم : إنما سمّته قريش - حلف الفضول - لأنهم قالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. [و قال ابن الأثير : «حلف الفضول» سمّي به تشبيها بحلف كان قديما بمكّة ، أيام (جرهم) على التناصف ، والأخذ للضعيف من القويّ ، وللغريب من القاطن ، قام به رجال من (جرهم) كلّهم يسمّى (الفضل) منهم : الفضل بن الحارث ، والفضل بن وداعة ، والفضل بن فضالة ( «النهاية في غريب الحديث» ج : 3 ، ص 456)]. وأمّا ما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيّبين» فلا يصح لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك حلف المطيّبين ، قال البيهقي : روي هذا التفسير مدرجا في الحديث ولا أدري قائله. قال ابن سيد الناس في كتابه «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» : «شهد النبي صلى اللّه عليه وسلم حلف الفضول ، وعمره إذ ذاك عشرون سنة ، وهذا الحلف وقع في ذي القعدة بعد حرب الفجار» (ج/ 1 ، ص/ 46). [انظر قصة الفضول في «مسند أحمد» (1/ 190) ، وفي «مسند أبي يعلى» برقم (844) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه ].

(1/175)


ص : 176
مصيره ، ولا يخطر بباله لحظة ما اللّه مكرمه به من الوحي والرسالة ، ولا يحلم بذلك في يوم من الأيام ، يقول اللّه تعالى :
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى : 52].
(1/149)
وقال : وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص : 86].
وكان من حكمة اللّه تعالى وتربيته ، أن نشأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أميّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فكان أبعد عن تهمة الأعداء ، وظنّة المفترين ، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله :
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت : 48].
وقد لقّبه القرآن بالأمّيّ فقال :
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف : 157].

(1/176)


ص : 177
الفصل الثالث العهد المكّيّ من البعثة إلى الهجرة
مبعثه صلى اللّه عليه وسلم
تحنّثه في غار حراء
إسلام خديجة وعليّ وزيد رضي اللّه عنهم
تعذيب قريش للمسلمين
إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه
الهجرة إلى الحبشة
إسلام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
مقاطعة قريش لبني هاشم
الهجرة إلى الطائف
الإسراء والمعراج

(1/177)


ص : 179
العهد المكّيّ من البعثة إلى الهجرة
تباشير الصبح وطلائع السعادة :
أتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعين سنة من عمره ، والدّنيا واقفة على شفا حفرة من النّار ، والإنسانيّة تخطو بخطى سريعة إلى الانتحار ، هنالك ظهرت تباشير الصبح وطلائع السعادة ، وآن أوان البعثة ، وتلك سنّة اللّه إذا اشتدّ الظلام وطالت الشّقوة.
(1/150)
وبلغ قلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما كان يراه من جهل وجاهلية ، وخرافة ووثنية ، وتطلّعه إلى الإرشاد والهداية ، من فاطر الكون وخالق السموات والأرض - ذروته ، كأنّ حاديا يحدوه ، فحبّب إليه الخلاء ، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده ، وكان يخرج من مكّة ويبعد ، حتى تحسر عنه البيوت ، ويفضي إلى شعاب مكة وبطونها وأوديتها ، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول اللّه! ويلتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه ، فلا يرى إلا الشجر والحجارة «1».
___________
(1) سيرة ابن هشام : 1 ج ، ص 234 - 235. وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى اللّه عليه وسلم : «إنّي لأعرف حجرا بمكة ، كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث ، إنّي لأعرفه الآن» (كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبي صلى اللّه عليه وسلم) [برقم (2277) من حديث جابر بن سمرة رضي اللّه عنه ].

(1/179)


ص : 180
وكان أوّل ما بدىء به ، الرّؤيا الصادقة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح «1».
في غار حراء :
وكان يخلو - غالبا - بغار «حراء» ، فيمكث فيه ليالي متواليات ، وكان يتزوّد لذلك ، وكان يتعبّد ويدعو على الطريقة الإبراهيميّة الحنيفيّة والفطرة السليمة المنيبة إلى اللّه «2».
مبعثه - صلى اللّه عليه وسلم - :
(1/151)
وكان في إحدى المرّات إذ جاءه اليوم الموعود لبعثته ، وكان ذلك في رمضان (17 من رمضان «3» ، في السنة الحادية والأربعين من ميلاده ، الموافق 6 أغسطس 610 م) في يقظة ووعي ، فجاءه الملك وهو بحراء ، فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارىء ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «فأخذني فغطني ، حتى بلغ منّي الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطّني الثالثة ، ثم أرسلني ، فقال :
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «4» [العلق : 1 - 5].
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي ... برقم (3) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برقم (160) ، وأحمد في مسنده : (6/ 333) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) اقرأ حديث عائشة - رضي اللّه عنها - باب (كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم).
(3) سيرة ابن كثير : ج 1 ص 392 ؛ رواية عن أبي جعفر محمد الباقر.
(4) المصدر السابق ص 392.

(1/180)


ص : 181
وكان ذلك أوّل يوم من أيام النبوّة ، وأول وحي من القرآن «1».
في بيت خديجة - رضي اللّه عنها - :
وفزع منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنّه لم يعهده ولم يسمع به ، وقد طالت الفترة ، وعهد العرب بالنبوّة والأنبياء بعيد ، وخاف على نفسه ، ورجع إلى بيته ترتعد فرائصه وقال : زمّلوني ، زمّلوني ، لقد خشيت على نفسي.
(1/152)
وسألت خديجة - رضي اللّه عنها - عن السّبب ، فقصّ عليها القصّة ، وكانت عاقلة فاضلة ، سمعت بالنبوّة والأنبياء والملائكة ، وكانت تزور ابن عمّها ورقة بن نوفل ، وكان قد تنصّر ، وقرأ الكتب ، وسمع من أهل (التوراة) و(الإنجيل) ، وكانت تنكر من أهل مكّة ما ينكره أهل الفطرة السليمة والأذهان المستقيمة.
وكانت من أعرف الناس بأخلاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمكانها منه ، وعشرتها له ، واطّلاعها على السرّ والعلانية ، وقد رأت من أخلاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشمائله ما يؤكّد أنّه الرّجل الموفّق والمؤيّد من اللّه ، المصطفى من خلقه ، المرضيّ في سيرته وسلوكه ، وأنّ من كانت هذه أخلاقه وسيرته ، لا يخاف
___________
(1) الغريب الذي يسترعي انتباه الفلاسفة والمفكّرين في العالم ، والمؤرّخين للديانات والحياة العلمية ، هو ذكر «القلم» في هذا الوحي الأول ، الذي ينزل على أميّ يبعث في أمّة أميّة في بلد تعذّر فيه وجود القلم ، ولم يجاوز عدد «الكتاب» (وهم المتعلّمون) عدد الأنامل ، فدلّ ذلك على ربط هذه الديانة والأمة التي تدين بها وتحملها ، بالقراءة والكتابة والاستعانة بالقلم ، ربطا دائما وثيقا ، بخلاف ديانات كثيرة سابقة ، وكان ذلك سرّ انبثاق حركة علمية تأليفية عالمية ، لا يوجد لها نظير في تاريخ الديانات والأمم. وكذلك كان ورود آية عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق : 5] في هذا الوحي ، حافزا على التوسع في آفاق العلم ، والاكتشاف للمجهول ، والترقّب للمزيد الجديد ، وعدم إنكار حقائق علمية ثابتة لم تكتشف في العصور الماضية.

(1/181)


ص : 182
(1/153)
عليه لمّة من الشيطان ، أو أن يكون به مسّ من الجنّ ، وأنّ ذلك يتنافى مع ما عرفته من حكمة اللّه ورأفته في خلقه ، فقالت في ثقة وإيمان وفي قوّة وتأكيد :
«كلّا! واللّه ما يخزيك اللّه أبدا ، إنّك لتصل الرّحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق» «1».
بين يدي ورقة بن نوفل :
وقد قالت ذلك خديجة ، اعتمادا على العقل السليم ، والفطرة الصحيحة ، وعلى تجاربها في الحياة ، ومعرفتها للنّاس.
ولكنّ الأمر كان أعظم من هذا ، وكان يحتاج إلى رجل له خبرة بالدّيانات وتاريخها ، والنبوّات وسننها ، ومعرفة بأهل الكتاب الذين عندهم أخبار الأنبياء وعلمهم.
فرأت أن تستعين في ذلك بابن عمّها العالم «ورقة بن نوفل» فانطلقت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه.
وأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورقة خبر ما رأى ، فقال ورقة : «و الّذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ، وإنّ قومك سيكذّبونك ، ويؤذونك ، ويخرجونك ، ويقاتلونك».
وتعجّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قال ورقة : إنّهم سيخرجونك ، لأنّه كان يعرف منزلته عند قريش ، فلا ينادونه ولا يخاطبونه إلا ب «الصّادق» وب «الأمين» فقال متعجّبا : «أو مخرجيّ هم ؟!».
قال ورقة : «نعم ، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عاداه النّاس
___________
(1) [قد مرّ تخريج هذا الحديث على صفحة (180) الحاشية (1)].

(1/182)


ص : 183
وحاربوه ، وإن أدركت ذلك اليوم ، وطالت بي الحياة ، نصرتك نصرا مؤزّرا» «1».
وفتر الوحي زمانا ، ثم تتابع ، وبدأ القرآن ينزل.
إسلام خديجة رضي اللّه عنها وأخلاقها :
وآمنت به خديجة ، فكانت أوّل من آمن باللّه وبرسوله ، وكانت بجواره ، تؤازره ، وتثبّته ، وتخفّف عنه ، وتهوّن عليه أمر الناس.
(1/154)
إسلام علي بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة رضي اللّه عنهما :
ثمّ أسلم عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل الإسلام ، أخذه من أبي طالب في أيام الضائقة ، وضمّه إليه «2».
وأسلم زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان قد تبنّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3».
فكان إسلام هؤلاء شهادة أقرب النّاس إليه ، وأعرفهم به ، وبصدقه ، وإخلاصه ، وحسن سيرته ، وأهل البيت أدرى بما فيه.
إسلام أبي بكر بن أبي قحافة وفضله في الدعوة إلى الإسلام :
وأسلم أبو بكر بن أبي قحافة ، وكانت له منزلة في قريش ، لعقله ومروءته واعتداله ، وأظهر إسلامه ، وقد كان رجلا محبّبا سهلا ، عالما بأنساب قريش
___________
(1) مقتبس من حديث عائشة ، الجامع الصحيح للبخاري ، باب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» [برقم (3)] ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 238.
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 245.
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 247.

(1/183)


ص : 184
وبأخبارها ، وكان تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، فجعل يدعو إلى اللّه وإلى الإسلام ، من وثق به من قومه ، ممّن يغشاه ويجلس إليه «1».
إسلام أشراف من قريش :
وأسلم بدعوته أشراف من قريش ، لهم مكانة وسؤدد ، منهم عثمان بن عفّان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد اللّه ، فجاء بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلموا «2».
وتلاهم رجال من قريش ، لهم شرف ومكانة ، منهم أبو عبيدة بن الجرّاح ، والأرقم بن أبي الأرقم ، وعثمان بن مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف ، وسعيد بن زيد ، وخبّاب بن الأرتّ ، وعبد اللّه بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وصهيب ، وغيرهم - رضي اللّه عنهم - «3».
(1/155)
ودخل الناس في الإسلام أرسالا من الرّجال والنّساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، وتحدّث به «4».
الدّعوة جهارا على جبل «الصّفا» :
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخفي أمره ، ومضى على ذلك ثلاث سنوات ، ثمّ أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ، وقال :
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر : 94]. وقال : وَأَنْذِرْ
___________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 : ص 249 - 250.
(2) المصدر السابق : ج 1 ص 250 - 251.
(3) المصدر السابق : ج 1 ، ص 252 - 255.
(4) المصدر السابق : ج 1 ، ص 262.

(1/184)


ص : 185
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء : 214 - 215] ، ووَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر : 89].
فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصعد على جبل «الصّفا» ونادى بأعلى صوته :
«يا صباحاه» ، وكانت صيحة معروفة مألوفة ، كلّما أحسّ إنسان بخطر عدوّ ، يغير على بلد ، أو على قبيلة ، على غفلة منهما ، نادى :
«يا صباحاه» فلم تتأخّر قريش في تلبية هذا النداء ، واجتمعوا إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث إليه رسوله.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني كعب! أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدّقتموني ؟!».
كان العرب واقعيّين عمليّين ، إنّهم رأوا رجلا جرّبوا عليه الصّدق والأمانة والنصيحة ، قد وقف على جبل يرى ما أمامه ، وينظر إلى ما وراءه ، وهم لا يرون إلّا ما هو أمامهم ، فهداهم ذكاؤهم وإنصافهم إلى تصديق هذا المخبر الأمين الصّادق ، فقالوا : نعم.
ولمّا تمّت هذه المرحلة الطبيعية البدائية ، وتحققت شهادة المستمعين ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1».
(1/156)
الحكمة البليغة في الدعوة والتعليم :
وكان ذلك تعريفا بمقام النبوّة ، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب «و أنذر عشيرتك الأقربين» برقم (4770) و(4771) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب في قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (208) ، وأحمد (1/ 281) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].

(1/185)


ص : 186
والعلوم الوهبية ، وموعظة وإنذارا ، في حكمة وبلاغة لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوّات ، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق ، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب.
فسكت القوم ، ولكنّ أبا لهب قال : «تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلّا لهذا ؟!» «1».
وقد نبّه بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحكمة لا حكمة فوقها على أنّ العدوّ اللّدود كامن في نفوسهم ، مترصّد في بيوتهم ، وهو أولى بأن يخافوه ويأخذوا له عدّته ، فالجهل عن خالق هذا الكون وربّ العالمين ، وصفاته وأسمائه الحسنى ، والوقوع في حبائل الشّرك والوثنية ، وعبادة النفس والشهوات ، والاسترسال إلى الأوهام والخرافات ، وتعدّي الحدود ، وانتهاك الحرمات ، أكثر نفورا وأعظم خطرا من جيش مترصّد ، وكتيبة كمينة «2» يحسبون لها كلّ حساب ، ويفزعون لها كلّ فزع.
إظهار قومه العداوة وحدب أبي طالب عليه :
ولمّا أظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدعوة للإسلام ، وصدع بالحقّ كما أمره اللّه تعالى ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردّوا عليه حتى ذكر آلهتهم ، وعابها ، فلمّا فعل ذلك ، أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته.
وحدب على «3» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمّه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه ،
___________
(1/157)
(1) [قد سبق تخريجه في ص (185)] أصل الحكاية في ابن كثير : ج 1 ؛ ص 455 - 456 ، رواية عن الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس ، قال وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه.
(2) الكمين : القوم يستخفون في مكمن ، ثم ينتهزون غرّة العدوّ فينهضون عليه.
(3) [حدب عليه : أي عطف ].

(1/186)


ص : 187
ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دعوته وصدعه بالحق ، لا يردّه عنه شيء ، ومضى أبو طالب يحدب عليه ويذود عنه.
فلمّا طال ذلك ، مشى رجال من قريش إلى أبي طالب ، فقالوا :
يا أبا طالب ، إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلّل آباءنا ، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلي بيننا وبينه ، فإنّك على مثل ما نحن عليه ، من دين وعقيدة.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردّهم ردّا جميلا ، فانصرفوا عنه «1».
بين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وأبي طالب :
وأكثرت قريش ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحضّ بعضهم بعضا عليه ، ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا : يا أبا طالب! إنّ لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا ، وقد رجوناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل ، فإنّا واللّه لا نصبر أكثر مما صبرنا على شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن ننازله وإيّاك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين.
وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له :
«يابن أخي! إنّ قومك قد جاؤوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق».
لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري :
وظنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنّ أبا طالب قد اضطرب في أمره ، وضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال :
___________
(1/158)
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 : ص 264 - 265 باختصار.

(1/187)


ص : 188
«يا عمّ! واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه ، ما تركته».
واستعبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبكى ، ثمّ قام ، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال :
أقبل يابن أخي! فأقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : اذهب يابن أخي فقل ما أحببت ، فو اللّه لا أسلمك لشيء أبدا «1».
تعذيب قريش للمسلمين :
ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو إلى اللّه ، ويئست قريش منه ومن أبي طالب ، ونزل غضبهم على من كان أسلم من أبناء قبائلهم ، وليس لهم من يمنعهم.
فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب ، والجوع ، والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتدّ الحرّ.
وكان بلال الحبشيّ - وقد أسلم - يخرجه مولاه أميّة بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة ، فتوضع على صدره ، ثمّ يقول له : لا واللّه لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللّات والعزّى ، فيقول - وهو في ذلك البلاء - : أحد ، أحد «2».
فمرّ به أبو بكر الصديق - رضي اللّه عنه - فأعطى أمية غلاما أسود أجلد منه ، وأقوى ، وأخذ منه بلالا وأعتقه «3».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 265 - 266 [و أخرج هذه القصة البيهقي في دلائل النبوة (2/ 187) وأبو يعلى في مسنده (12/ 176) ، والحاكم في المستدرك (3/ 577) بسياق آخر عن عقيل بن أبي طالب ، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 15) : «رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوّله ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح»].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 317 - 318.
(3) [و قد أخرج هذه القصّة أبو نعيم في «الحلية» (1/ 149) ، وابن سعد في «الطبقات» -

(1/188)


ص : 189
(1/159)
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمّه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة ، يعذّبونهم برمضاء «1» مكة ، فيمرّ بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويقول : «صبرا آل ياسر! موعدكم الجنة» فأمّا أمّه فقتلوها ، وهي تأبى إلّا الإسلام «2».
وكان مصعب بن عمير فتى مكة ، شبابا وجمالا وتيها ، وكان أبواه يحبانه ، وكانت أمّه غنية كثيرة المال ، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه ، وكان أعطر أهل مكة ، يلبس الحضرميّ من النعال ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكره ويقول : «ما رأيت بمكة أحسن لمّة «3» ولا أرقّ حلّة ، ولا أنعم نعمة ، من مصعب بن عمير».
وبلغ مصعب بن عمير أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم ، فدخل عليه ، فأسلم ، وصدق به ، فخرج ، فكتم إسلامه خوفا من أمّه وقومه ، فكان يختلف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرّا ، فبصر به عثمان بن طلحة يصلّي فأخبر أمّه وقومه ، فأخذوه وحبسوه ، فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى ، ثمّ رجع مع المسلمين ، حين رجعوا ، فرجع متغير الحال - قد حرج - يعني غلظ - فكفّت أمّه عنه من العذل «4».
___________
- (3/ 166) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنهما].
(1) [الرّمضاء : شدّة الحرّ ، ويقال أيضا للحجارة التي حميت من شدّة وقع الشمس ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص : 319 - 320 [و أخرج هذه القصة الطبراني في الأوسط من حديث عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 293) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوّم ، وهو ثقة].
(3) [اللّمّة : شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن ، سمّيت بذلك لأنّها ألمّت بالمنكبين ، فإذا زادت فهي الجمّة ( «النهاية في غريب الحديث» ج : 3 ، ص : 273)].
(1/160)
(4) طبقات ابن سعد : ج 3 ، ص 82 ، والاستيعاب : ج 1 ، ص 288.

(1/189)


ص : 190
وكان بعض المسلمين قد دخل في جوار بعض المشركين ، من أشراف قريش ورؤسائهم ، وكانوا يمنعونهم ويحمونهم.
وكان عثمان بن مظعون قد دخل في جوار الوليد بن المغيرة ، ثمّ أبت غيرته ذلك ، فردّ عليه جواره ، وكان وفيا كريم الجوار ، وقال : قد أحببت ألا أستجير بغير اللّه ، ودار بينه وبين أحد المشركين حديث أغضب المشرك ، فقام إليه ولطم عينه ، فخضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ذلك ، فقال : أما واللّه يا بن أخي! إن كانت عينك عمّا أصابها لغنية ، لقد كنت في ذمّة منيعة ، قال عثمان : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في اللّه ، وإنّي لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر ، يا أبا عبد شمس «1».
ولمّا أسلم عثمان بن عفانّ - رضي اللّه عنه - أخذه عمّه الحكم بن أبي العاص بن أميّة ، فأوثقه رباطا وقال : أترغب عن ملّة آبائك إلى دين محدث ؟
واللّه! لا أحلّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين ، فقال عثمان : واللّه لا أدعه أبدا ولا أفارقه ، فلمّا رأى الحكم صلابته في دينه تركه «2».
ويقول خبّاب بن الأرتّ : لقد رأيتني يوما أخذوني فأوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ، ثم وضع رجل رجله على صدري ، فما اتقيت الأرض - أو قال برد الأرض - إلا بظهري ، ثم كشف عن ظهره ، فإذا هو قد برص «3».
___________
(1) سيرة ابن هشام ، ج 1 ؛ ص 370 - 371 [و قد أخرج هذه القصة أبو نعيم في «الحلية» (1/ 103 - 104) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 292) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 21 - 24) برقم (8316)].
(2) طبقات ابن سعد : ج 3 ، ص 37.
(3) المصدر السابق : ج 3 ، ص 117.

(1/190)


ص : 191
محاربة قريش لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وتفنّنهم في الإيذاء :
(1/161)
فلمّا لم تلق قريش نجاحا في صرف هؤلاء الفتيان الذين أسلموا ، عن دينهم ، ولم يلن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يحابهم ، اشتدّ عليهم ذلك ، فأغروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالسّحر والشّعر ، والكهانة والجنون ، وتفنّنوا في إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذهبوا فيه كلّ مذهب.
وكان أشرافهم مجتمعين يوما في الحجر «1» ، إذ طلع عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومرّ بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، وعادوا بذلك ثلاث مرّات ، فوقف ثمّ قال : أتسمعون يا معشر قريش ؟ ، أما والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذّبح ، فأسكت القوم ، فلا حراك بهم ، وصاروا يلاطفونه بالقول.
فلمّا كان من الغد ، وهم في مقامهم ، طلع عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، وأخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، فقام أبو بكر - رضي اللّه عنه - دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول :
ربّي اللّه ؟! فانصرفوا عنه ، ورجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه ، وقد جرّوه بلحيته «2».
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فلم يلقه أحد من الناس ، إلا كذّبه وآذاه ،
___________
(1) الحجر : بكسر الحاء وسكون الجيم ؛ هو الفضاء الواقع بين الحطيم وحائط البيت ، ويسمونه ب «حجر إسماعيل» أيضا ، والحطيم قوس من البناء طرفاه إلى زاوية البيت الشمالية والغربية ، وكان «الحجر» أولا داخلا في الكعبة ؛ فلما هدم السيل الكعبة بنتها قريش من جديد ، وذلك قبل مبعثه صلى اللّه عليه وسلم بنحو خمس سنين ، فقصرت بهم النفقة ؛ فبنوا الكعبة على ما هي عليه الآن.
(1/162)
(2) [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم : باب قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «لو كنت متّخذا خليلا» برقم (3678) ، وأحمد (2/ 218) ، والبيهقي في «الدلائل» (12/ 274) من حديث عروة بن الزبير].

(1/191)


ص : 192
لا حرّ ولا عبد ، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله ، فتدثّر من شدّة ما أصابه ، فأنزل اللّه تعالى عليه : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» [المدثر : 1].
ما فعل كفّار قريش بأبي بكر :
وقام أبو بكر يوما في الناس ، يدعو إلى اللّه وإلى رسوله ، وثار المشركون على أبي بكر فوطىء ، وضرب ضربا شديدا ، وجعل عتبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين يحرفهما بوجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه.
وحملت بنو تيم أبا بكر ، وهم لا يشكّون في موته ، وتكلّم آخر النهار ، فقال : ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه ، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا ، أو تسقيه إياه ، فلمّا خلت به ألحّت عليه ، وجعل يقول : ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقالت : واللّه مالي علم بصاحبك.
(1/163)
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب ، فخرجت حتى أتت أمّ جميل ، فمضت معها ، ودنت منه أمّ جميل وهي ممن أسلم فسألها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت : هذه أمّك تسمع ، قال : فلا شيء عليك منها ، قالت : سالم صالح ، قال : فإنّ للّه عليّ ألا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأمهلتا ، حتى إذا هدأت الرّجل ، وسكن الناس ، خرجتا به يتّكىء عليهما ، حتى أدخلتاه ، ورقّ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمّي يا رسول اللّه ليس بي بأس إلا ما نال مني الفاسق من وجهي ، وهذه أمّي برة بولدها ، وأنت مبارك فادعها إلى اللّه ، وادع لها عسى أن يستنقذها بك من النار ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأمّه ، ودعاها إلى اللّه ، فأسلمت «2».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 289 - 291 ، ورواه البخاري مختصرا في باب «ما لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة».
(2) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 439 - 441 [أخرج الحميديّ هذه القصة في مسنده ، برقم (324)].

(1/192)


ص : 193
حيرة قريش في وصف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - :
وحارت قريش في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بماذا يصفونه ، وكيف يحولون بينه ، وبين من يقصده ، أو يستمع إليه ، من الوافدين من بعيد ، واجتمعوا إلى الوليد ابن المغيرة - وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم - فقال لهم : يا معشر قريش! إنّه قد حضر هذا الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ، ويردّ قولكم بعضه بعضا ، ودار بينهم حديث طويل وأخذ وردّ.
(1/164)
ولم يرض الوليد بما عرضوه ، ونقضه ، فرجعوا إليه وقالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ؟! قال : إن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء بسحر ، يفرّق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته.
فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس ، حين قدموا الموسم ، لا يمرّ أحد إلا وحذّروه إياه ، وذكروا له أمره «1».
قسوة قريش في إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومبالغتهم في ذلك :
وتفنّنت قريش ، وقسوا في إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يرعوا فيه قرابة ، وتخطّوا حدود الإنسانية.
فبينا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ساجد - ذات يوم - في المسجد ، وحوله ناس من قريش ، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور «2» ، فقذفه على ظهر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فلم يرفع
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 270 - 271 - باختصار.
(2) سلا : هو اللّفافة يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان ؛ وهي من الآدمية المشيمة.

(1/193)


ص : 194
رأسه ، فجاءت ابنته «فاطمة» - عليها السلام - فأخذته من ظهره ، ودعت على من صنع هذا ، ودعا عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم «1».
إسلام حمزة بن عبد المطلب :
ومرّ أبو جهل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم عند «الصّفا» فاذاه وشتمه ، فلم يكلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانصرف عنه.
(1/165)
ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشّحا «2» قوسه ، راجعا من قنص له ، وكان أعزّ فتى في قريش ، وأشدّ شكيمة ، وأخبرته مولاة عبد اللّه بن جدعان بما جرى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاحتمل حمزة الغضب ، ودخل المسجد ، ورأى أبا جهل جالسا في القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه ، رفع القوس ، فضربه بها ، فشجّه شجّة منكرة ، ثمّ قال : أتشتمه وأنا على دينه ، أقول ما يقول ؟ فسكت أبو جهل ، وأسلم حمزة ، وعزّ ذلك على قريش لمكانته وشجاعته «3».
ما دار بين عتبة وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
ولمّا رأت قريش أنّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزيدون ويكثرون استأذن عتبة ابن ربيعة قريشا ، أن يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيكلّمه ، ويعرض عليه أمورا ، لعلّه يقبل بعضها ، فيعطونها ، ويكفّ عنهم ، وأذنت له قريش ، واستخلفته.
___________
(1) رواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب «ذكر ما لقي النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة» [برقم (3854) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب ما لقي النبي صلى اللّه عليه وسلم من أذى المشركين ... برقم (1794) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه ].
(2) متوشّحا : متقلّدا.
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 291 - 292.

(1/194)


ص : 195
وجاء عتبة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس إليه ، وقال : يابن أخي! إنّك منّا حيث قد علمت ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلّك تقبل منها بعضها.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «قل يا أبا الوليد! أسمع».
(1/166)
قال : يابن أخي! إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا ، سوّدناك علينا ، حتّى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئيّا «1» تراه ، لا تستطيع ردّه عن نفسك ، طلبنا لك أطباء ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرّئك منه.
فلمّا فرغ عتبة ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أقد فرغت يا أبا الوليد ؟».
قال : نعم.
قال : فاسمع منّي.
قال : أفعل.
فقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آيات من سورة فُصِّلَتْ إلى السجدة ، فلمّا سمع منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، يسمع منه ، فلمّا انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة منها ، سجد ، ثمّ قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلمّا جلس إليهم ، قالوا : ما وراءك
___________
(1) رئيا : ما يتراءى للإنسان من الجن.

(1/195)


ص : 196
يا أبا الوليد ؟! قال : ورائي أنّي قد سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قطّ ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش! أطيعوني ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، قالوا : سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم «1».
هجرة المسلمين إلى الحبشة :
ولمّا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإنّ بها ملكا ، لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتّى يجعل اللّه لكم فرجا مما أنتم فيه.
(1/167)
فخرجت عند ذلك جماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة ، فكانت أوّل هجرة في الإسلام ، وكانوا عشرة رجال وأربع نسوة فيهم عثمان بن عفّان وزوجه رقيّة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أمّروا عليهم عثمان بن مظعون.
ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون ، حتّى اجتمعوا بأرض الحبشة ، منهم من خرج بأهله ، ومنهم من خرج بنفسه ، وكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلا «2».
ولم تكن الغاية الوحيدة من الهجرة إلى الحبشة الخلاص من أذى قريش ، بل كانت مقترنة بالدعوة إلى الإسلام والتخفيف من هموم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.
واستعراض قائمة المهاجرين يدلّ على سعة الدائرة البشرية وتنوّعها
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 293 - 294 [و جاء من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما ، قال الهيثمي في المجمع (6/ 19 - 20) : رواه أبو يعلى ، وفيه الأجلح الكندي ، وثّقه ابن معين وغيره ، وضعفه النسائي وغيره ، وبقية رجاله ثقات ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 321 - 330.

(1/196)


ص : 197
خريطة الهجرة إلى الحبشة

(1/197)


ص : 198
وشمولها للطبقات والمستويات في المجتمع المكيّ ، ففيها الغنيّ والفقير ، والكهل والشّابّ ، والرجال والنساء ، وينتمي أغلبهم إلى أسر مكيّة عريقة ، فدلّ على شدّة تأثير الدعوة وقوتها وشمولها.
تعقّب قريش للمسلمين :
(1/168)
ولمّا رأت قريش أنّ هؤلاء قد أمنوا واطمأنّوا بأرض الحبشة ، بعثوا عبد اللّه بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل ، وجمعوا لهما هدايا للنجاشيّ ولبطارقته «1» ، مما يستطرف من متاع مكّة ، وقدما على النجاشيّ ، وقد استمالا البطارقة ، وأرضياهم بهداياهم ، وتكلّما في مجلس الملك ، فقالا : إنّه لجأ إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم ، فهم أبصر بهم وأقرب إليهم ، وقالت البطارقة حوله : صدقا أيّها الملك ، فأسلمهم إليهما.
فغضب النّجاشيّ ، وأبى أن يقبل كلامهم ، ويسلم من لجأ إليه وإلى بلاده ، وحلف باللّه ، وأرسل إلى المسلمين ، فدعاهم ، ودعا أساقفته «2» ، وقال للمسلمين : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ؟ ولم تدخلوا في ديني ودين أحد من هذه الملل ؟.
تصوير جعفر بن أبي طالب للجاهلية وتعريفه بالإسلام :
وقام جعفر بن أبي طالب - وهو ابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له :
___________
(1) البطارقة : جمع بطريق ، وهو القائد الحاذق بالحرب.
(2) الأساقفة : علماء النصارى ؛ والواحد : الأسقف.

(1/198)


ص : 199
«أيّها الملك! كنّا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك ، حتّى بعث اللّه إلينا رسولا منّا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحّده ، ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدّماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزّور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات.
(1/169)
وأمرنا أن نعبد اللّه وحده ، لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام - فعدّد عليه أمور الإسلام - فصدّقناه وآمنّا به ، واتبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده ، فلم نشرك به شيئا وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردّونا إلى عبادة الأوثان ، من عبادة اللّه تعالى ، وأن نستحلّ ما كنّا نستحلّ من الخبائث.
فلمّا قهرونا ، وظلمونا ، وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيّها الملك!».
وسمع النجاشيّ كلّ ذلك في هدوء ووقار ، ثمّ قال : هل معك ممّا جاء به صاحبكم عن اللّه من شيء ؟.
قال جعفر : نعم.
قال النجاشيّ : فاقرأه عليّ.

(1/199)


ص : 200
فقرأ جعفر صدرا من سورة مريم ، فبكى النجاشيّ ، حتى اخضلّت «1» لحيته ، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم «2».
(1/170)
إنّ كلام جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة ، وتصويره للإسلام ، كلام حكيم قد جاء في أوانه ومكانه ، وقد دلّ على بلاغة صاحبه العقلية ، قبل أن يدلّ على بلاغته العربيّة البيانيّة ، ولا يعلّل ذلك إلّا بإلهام من اللّه وتأييد هذا الدين الذي أراد اللّه أن يتمّ نوره ، وأن يظهره على كلّ دين ، ويدلّ كذلك على سلامة الفطرة ، ورجاحة العقل ، اللتين فاق فيهما بنو هاشم قريشا ، وفاقت فيهما قريش العرب كلّهم ، فقد فضّل جعفر أن يكون جوابه حكاية حال لما كان عليه أهل الجاهلية في الجزيرة العربية ، ولما آل إليه أمرهم بعد ما أرسل اللّه رسوله فيهم ، ودعا إلى اللّه وإلى الدين الحنيفي السمح ، ومكارم الأخلاق ، وآمنوا به واتّبعوه ، وحكاية الحال - خصوصا إذا لم يجانب فيه صاحبها الصواب - أبعد شيء عن المناقشة والمناظرة ، وأقدر شيء على غرس المعاني المقصودة ، وتحقيق الأهداف المنشودة ، والتهيّؤ للتأمّل والإنصاف وحسن الاستماع «3».
خيبة وفد قريش :
ثمّ قال النجاشيّ : إنّ هذا والذي جاء به عيسى ، يخرج من مشكاة واحدة ، ثمّ أقبل على رسولي قريش ، فقال : انطلقا فلا واللّه لا أسلمهم إليكم ، ولا يكادون.
___________
(1) اخضلت : ابتلت.
(2) [أخرجه أحمد في المسند (1/ 202) و(5/ 290 - 292) والبزار (1740) وانظر في مجمع الزوائد (6/ 24 - 27)].
(3) نقلا من «روائع من أدب الدعوة في القرآن والسيرة» للمؤلف ، [انظر المحاضرة الثامنة بعنوان «تمثيل جعفر بن أبي طالب للإسلام ...»] ص 107 - 108 [و انظر «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» للعلامة المؤلّف ، إعداد المحقّق ، ج : 1 ، ص : 493 ، طبع دار ابن كثير].

(1/200)


ص : 201
(1/171)
وأطلق عمرو بن العاص آخر سهم من سهام جعبته ، وهو سهم مسموم ، فغدا على النجاشيّ من الغد ، وقال له : أيها الملك! إنّهم ليقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما ، فأقبل الملك على المسلمين ، فقال : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟.
قال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه ما جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم هو عبد اللّه ، ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثمّ قال : واللّه ما زاد عيسى ابن مريم على ما قلت مقدار هذا العود.
وردّ المسلمين ردّا كريما ، وأمّنهم ، وأمر بردّ هدايا رسولي قريش ، وخرجا من عنده مقبوحين «1» ، فأقام المسلمون بخير دار مع خير جار.
وقد هاجم النجاشيّ عدوّ له ، فانتصر المهاجرون المسلمون للنجاشيّ اعترافا بحسن موقفه من المهاجرين المضطهدين ومكافأته على حسن صنيعه «2» ، وكان ذلك مطابقا لتعاليم الإسلام الخلقيّة ولائقا بأخلاق المسلمين.
وكانت هذه الهجرة إلى الحبشة سنة خمس بعد النبوّة ، وقد بقي جعفر بن أبي طالب مع عدد من أصحابه إلى سنة 7 من الهجرة ، فقد قدم جعفر بن أبي طالب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة خيبر فكان بقاؤه في الحبشة خمس عشرة سنة ، وهي مدّة طويلة ، لا بدّ أنّ جعفرا قد انتفع بها في الدعوة إلى الإسلام ، والتعريف به في بلد امتاز عن كثير من البلاد النصرانية بالتسامح وإيواء
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 334 - 338 باختصار.
(2) راجع «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (1/ 203) [و (5/ 290 - 292)].

(1/201)


ص : 202
المضطهدين ، وعرف حاكمه بالعدل والإنسانية ، ولكنّ العهد لم يكن عهد تسجيل الحوادث ، وليست أمامنا وثائق تاريخية تثبت ذلك ، ولكنّ القياس يقتضيه.
إسلام عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه :
(1/172)
وأيّد اللّه الإسلام والمسلمين بإسلام عمر بن الخطّاب العدويّ القرشيّ ، وكان رجلا مهيبا ، ذا قوّة وشكيمة ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حريصا على إسلامه ، يدعو اللّه لذلك.
وكان من خبر إسلامه أنّ أخته «فاطمة» بنت الخطاب أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد ، وكانا يخفيان إسلامهما من عمر ، لهيبته وشدّته على الإسلام والمسلمين ، وكان خبّاب بن الأرتّ يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن.
فخرج عمر يوما متوشّحا سيفه ، يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورهطا من أصحابه ، قد ذكر له أنّهم اجتمعوا في بيت عند «الصّفا» فلقيه نعيم بن عبد اللّه - وهو من قومه بني عديّ ، وكان قد أسلم - فقال له : أين تريد يا عمر ؟
قال : أريد محمدا هذا الصّابىء ، الذي فرق أمر قريش ، وسفّه أحلامها ، وعاب دينها ، وسبّ آلهتها ، فأقتله.
فقال له نعيم : لقد غرّتك نفسك يا عمر! أفلا ترجع إلى أهل بيتك ، فتقيم أمرهم ؟
قال عمر : وأيّ أهل بيتي ؟!
قال : ختنك وابن عمّك سعيد بن زيد ، وأختك فاطمة بنت الخطّاب ، فقد واللّه أسلما ، وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما.

(1/202)


ص : 203
ورجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خبّاب بن الأرتّ ، ومعه صحيفة ، فيها سورة طه يقرئها إيّاها ، فلمّا سمعوا حسّ عمر ، تغيب خبّاب في مخدع لهم «1» ، وأخذت فاطمة الصحيفة وجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب ، فلمّا دخل ، قال : ما هذه الهينمة «2» ؟.
قالا له : ما سمعت شيئا.
قال : بلى ، واللّه لقد أخبرت أنّكما تابعتما محمّدا على دينه.
وبطش عمر بختنه سعيد بن زيد ، فقامت إليه أخته فاطمة ، لتكفّه عن زوجها ، فضربها فشجّها.
فلمّا فعل ذلك ، قالت له أخته وختنه : نعم ، قد أسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله ، فاصنع ما بدا لك!
(1/173)
ولمّا رأى عمر ما بأخته من الدم ، ندم على ما صنع ، وتوقّف وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا ، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ، وكان عمر قارئا ، فلمّا قال ذلك ، قالت له أخته : إنّا نخشاك عليها.
قال : لا تخافي ، وحلف لها بالهته ، فلمّا قال ذلك ، طمعت في إسلامه ، فقالت له : يا أخي! إنك نجس على شركك وإنّه لا يمسّها إلا الطاهر.
فقام عمر ، فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها طه ، فلما قرأ منها صدرا ، قال : ما أحسن هذا الكلام ، وأكرمه!.
___________
(1) المخدع : البيت الصغير الذي يكون في البيت الكبير.
(2) الهينمة : صوت كلام لا يفهم.

(1/203)


ص : 204
فلمّا سمع ذلك خبّاب ، خرج إليه ، وقال له : يا عمر! واللّه إنّي لأرجو أن يكون اللّه قد خصّك بدعوة نبيّه ، فإنّي سمعته أمس ، وهو يقول : «اللهمّ أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل) أو بعمر بن الخطاب» فاللّه اللّه يا عمر «1».
عند ذلك قال له عمر : فدلّني يا خبّاب على محمّد ، حتى آتيه فأسلم ، قال خبّاب : هو في بيت عند الصفا ، معه نفر من أصحابه ، فأخذ عمر سيفه ، فتوشّحه ، ثمّ عمد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب ، فلمّا سمعوا صوته ، قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنظر من خلل الباب ، فرآه متوشّحا بالسّيف.
فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فزع ، فقال : يا رسول اللّه! هذا عمر بن الخطاب ، متوشّحا السيف.
فقال حمزة بن عبد المطلب : فائذن له ، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن جاء يريد شرّا قتلناه بسيفه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ائذن له» ، فأذن له الرجل.
(1/174)
ونهض إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته «2» ، أو بمجمع ردائه ، ثم جبذه به جبذة شديدة ، وقال : «ما جاء بك يابن الخطّاب ؟ ، فو اللّه ما أرى أن تنتهي حتى ينزل اللّه بك قارعة».
فقال عمر : يا رسول اللّه! جئتك لأؤمن باللّه وبرسوله ، وبما جاء به من عند اللّه.
___________
(1) [أخرج هذه القصة ابن سعد في الطبقات (3/ 267 - 269) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 219)].
(2) الحجزة : موضع شد الإزار.

(1/204)


ص : 205
قال : فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبيرة عرف منها أهل البيت من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنّ عمر قد أسلم «1».
وعزّ المسلمون في أنفسهم ، حينما أسلم عمر ، وقد أسلم حمزة من قبل ، وعرفوا وقع ذلك في نفوس الكفّار من قريش ، وأثره في حياة مكة ، ولم يكونوا على خطأ ، فلم يستثقل المشركون إسلام أحد ولم يحسبوا له حسابا ، مثل ما فعلوا عند إسلام عمر - رضي اللّه عنه - .
وأعلن عمر إسلامه ، وشاع ذلك في قريش ، وقاتلوه وقاتلهم «2» ، حتى يئسوا منه «3».
مقاطعة قريش لبني هاشم والإضراب عنهم :
وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، فاجتمعت قريش ، وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب ، على ألّا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعونهم شيئا ، ولا يبتاعوا منهم ، فلمّا اجتمعوا لذلك ، كتبوه في صحيفة ، ثم تعاهدوا ، وتواثقوا على ذلك ، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة ، توكيدا على أنفسهم.
في شعب أبي طالب :
فلمّا فعلت ذلك قريش ، انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 342 - 346.
(1/175)
(2) [أخرج ابن حبان قصة مقاتلة عمر لقريش ، في الإحسان ، برقم (6840) ، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 65) : «رواه البزّار والطبراني باختصار ، ورجاله ثقات ، إلّا أنّ ابن إسحاق مدلّس» لكنّه صرّح بالتحديث ، فإذا إسناده صحيح ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 349.

(1/205)


ص : 206
طالب ، فدخلوا معه في شعبه «1» ، وذلك في محرّم سنة سبع من النبوّة.
وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطّلب ، وكان مع قريش.
وأقام بنو هاشم على ذلك حتّى جهدوا من ضيق الحصار ، وأكلوا ورق السّمر «2» ، وأطفالهم يتضاغون من الجوع ، حتّى يسمع بكاؤهم من بعيد ، وقريش تحول بينهم وبين التجار ، فيزيدون عليهم في السّلعة أضعافا ، حتّى لا يشتروها.
ومكثوا على ذلك نحو ثلاث سنوات «3» ، لا يصل إليهم شيء إلا سرّا ، ممن أراد صلتهم من قريش ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، وسرّا وجهارا ، وبنو هاشم صابرون محتسبون.
نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة :
وقام نفر من قريش ، من أهل المروءة والضّمائر ، في مقدّمتهم هشام بن عمرو بن ربيعة ، فكرهوا هذا التعاقد الظالم ، وعافته نفوسهم ، وكان هشام رجلا واصلا ، وكان ذا شرف في قومه ، فمشى إلى رجال من قريش ، أنس فيهم الرقة والرجولة ، فاستثار حميتهم وإنسانيتهم لنقض الصحيفة والخروج من هذا التعاقد الظالم ، ولمّا كانوا خمسة اجتمعوا وتعاقدوا على نقض الصحيفة.
فلمّا كانت قريش في أنديتها من غد ، قام زهير بن أبي أميّة ، وكانت أمّه «عاتكة» بنت عبد المطلب ، وأقبل على الناس ، قال : يا أهل مكّة! أنأكل
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 350 - 351.
(2) [السّمر : ضرب من شجر الطّلح ].
(3) فتح الباري : 7/ 373 - 377.

(1/206)


ص : 207
(1/176)
الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى ، لا يباع لهم ولا يبتاع منهم ؟! واللّه لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة الظالمة.
وتدخّل أبو جهل في الحديث ، فلم يفد ، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقّها ، فوجد الأرضة قد أكلتها إلّا «باسمك اللّهم» وكان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قد أخبر بذلك أبا طالب ، ومزقت الصحيفة وبطل ما فيها «1».
وفاة أبي طالب وخديجة رضي اللّه عنهما :
ومات أبو طالب وخديجة في عام واحد - العام العاشر من النبوّة - وهما من عرفنا من حسن الصحبة والوفاء والنصر والتأييد ، ولم يسلم أبو طالب ، وتتابعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المصائب «2».
وقع القرآن في القلوب السليمة :
وقدم الطّفيل بن عمرو الدّوسيّ مكة ، وكان رجلا شريفا ، وشاعرا لبيبا ، فحالت قريش بينه وبين رسول اللّه ، وخوّفوه من الدّنوّ إليه ، وسماع كلامه ، وقالوا : إنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنّه ولا تسمعنّ منه شيئا.
يقول الطّفيل : واللّه ما زالوا بي حتى أجمعت ألّا أسمع منه شيئا ، ولا أكلّمه ، حتى حشوت في أذني قطنا ، وغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلّي عند الكعبة ، فقمت منه قريبا ، فأبى اللّه إلّا أن يسمعني بعض قوله ، قال : فسمعت كلاما حسنا ، فقلت في نفسي : واثكل أمي! واللّه إنّي
___________
(1) على ذلك يكون حصار الشعب قد بدأ في آخر العام السابع من البعثة ، وتوفي أبو طالب في آخر السنة العاشرة من المبعث ، (فتح الباري 7/ 194).
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 415 - 416.

(1/207)


ص : 208
لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسنا ، قبلته ، وإن كان قبيحا تركته.
(1/177)
ودخل الطفيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته ، وحكى له القصّة ، فعرض عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فأسلم ، ورجع إلى قومه داعيا إلى الإسلام ، وأبى أن يساكن أهله حتى يسلموا ، فدخلوا في الإسلام جميعا ، ودعا دوسا إلى الإسلام ، وفشا الإسلام فيهم «1».
وكان أبو بكر - رضي اللّه عنه - يعبد ربّه في داره ، ولا يستعلن بصلاته ، ثمّ بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره ، وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن ، فيتقذف «2» عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، وهم يعجبون منه وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء ، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدّغنة الذي أجاره ، فقدم عليهم ، فقالوا : إنّا كنّا أجرنا أبا بكر بجوارك ، على أن يعبد ربّه في داره ، فقد جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنّا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ، فانهه فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره ، فعل ، وإن أبى إلّا أن يعلن بذلك ، فسله أن يردّ إليك ذمّتك ، فإنا كرهنا أن نخفرك «3» ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
فلمّا أخبره ابن الدّغنة بما قالت قريش ، قال أبو بكر : فإنّي أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار اللّه «4».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 382 - 384. ملخصا.
(2) أي : يزدحمون حتى يسقط بعضهم على بعض.
(3) الإخفار : هو نقض العهد.
(4) رواه البخاري في الصحيح عن عائشة [في كتاب الكفالة ، باب جوار أبي بكر في عهد - (1/208) ص : 209

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق