الأحد، 22 أبريل 2018

السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي من 210 -410


الخروج إلى الطّائف وما لقي فيها من الأذى :
ولمّا مات أبو طالب نال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قريش من الأذى ما لم تكن تطمع فيه قريش ، في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا.
(1/178)
ولمّا اشتدّ أذى قريش ، وانصرافهم عن الإسلام ، وزهدهم فيه ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطّائف ، يلتمس النصرة من ثقيف وأن يدخلوا في الإسلام ، وكان له أمل في أهل الطائف «1» ، ولا غرابة في ذلك فإنّه رضع في بني سعد وهم بمقربة من الطائف وفيهم مراضعه وحواضنه.
أضواء على الطائف :
ولمّا كانت مدينة الطّائف هي المدينة الثالثة الكبيرة (بعد مكة ويثرب) التي سعدت بقدوم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليها ، وقد كانت هذه الرحلة في سبيل الدعوة حدثا كبيرا ، ليس في السيرة النبوية وحدها بل في تاريخ النبوات والدعوات وقد قصدها مرّتين ، الأولى في شوّال في السنة العاشرة بعد البعثة ، والثانية في شوال في السنة الثامنة بعد الهجرة - استحقّت - أكثر من مدينة أخرى في الجزيرة - أن تلقى عليها بعض الأضواء لتعرف مكانتها التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة ، وإلى القارىء بعض المعلومات عنها :
تقع مدينة الطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلا تقريبا إلى الجنوب
___________
- رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعقده ، برقم (2297) ، وعبد الرزاق في المصنف برقم (9743) ، وأحمد في المسند (6/ 346)].
(1) من المرجّح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توجه إلى الطائف في أخريات شوال من السنة العاشرة (خاتم النبيين 1/ 580) للعلامة محمد أبي زهرة رحمه اللّه.

(1/209)


ص : 210
خريطة طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف

(1/210)


ص : 211
الشرقيّ من مكة «1» ، وهي واقعة على ظهر جبل غزوان ، ويبلغ ارتفاع هذا الجبل نحو ستة آلاف قدم «2».
واسم الطائف مأخوذ من السّور أو الحائط الذي كان يحيط ويطوف بالمدينة ، وكان الاسم القديم لهذه المدينة هو «وجّ» «3».
(1/179)
وكان أثرياء قريش ووجوهها قد ابتنوا قصورا في الطائف ، وكانوا يقضون فيها شهور الصيف القائظة.
وكان للعبّاس بن عبد المطلب عقارات بالطائف ، يقول البلاذريّ «4» :
«كانت لعامّة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها».
وأدّى الثراء الواسع إلى فساد اجتماعيّ ، فاشتهر أثرياء الطائف بأنّهم أصحاب ربا وزنى وخمر ، وانتشرت فيها صناعة الخمور وصناعة الزبيب ، ودبغ الجلود ، وصناعة العطور ، وتوافرت فيها موارد المياه ، وخصوبة الأرض ، فكثرت البساتين ، وطابت الثمار ، وتنوعت الفواكه ، وانتشرت الزراعة وغرس الأشجار ، وهو الشأن إلى الآن.
وكانت مصيفا للمتنعمين ، وظلّت كذلك إلى العهد الإسلاميّ فما بعده ، يقول الشاعر الأمويّ عمر بن أبي ربيعة : [من مجزوء الكامل ]
تشتو بمكّة نعمة ... ومصيفها بالطّائف
___________
(1) جواد علي (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : ج 4 ص 142 ، وذلك بالنسبة إلى الطريق القديم بين مكة والطائف ، أما بعد أن فتح الطريق الجديد المعبّد بين مكة والطائف فلا تزيد المسافة على ثمانين كيلو مترا.
(2) الإصطخري (المسالك والممالك ، ص 24) أمّا ارتفاع مدينة الطائف فلا يزيد على خمسة آلاف قدم.
(3) [وجّ : موضع بناحية الطّائف ( «النهاية في غريب الحديث» (5/ 154)].
(4) فتوح البلدان : ص 68.

(1/211)


ص : 212
ولمّا كان أهل الطائف أصحاب أملاك وبساتين ، وثراء ورخاء ، أورثهم كلّ ذلك الكبر والبطر ، وجعلهم مصداقا لقوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ : 34 - 35].
(1/180)
وانفردت ثقيف بالسيادة في الطائف ، وأصبحت من أعظم القبائل العربيّة ، التي يضرب بقوّتها وثروتها المثل ، وكانت من قبائل العرب المستعربة أي العرب العدنانية.
وكانت بين ثقيف وقريش منافسة في مجال الدين ، ورئاسة الأوثان وشعبيّتها ، وكانت تنظر إلى وثنها (اللات) كمنافس لهبل ، بل للكعبة ، فأقامت حوله حرما ، وأحاطته بنفس مظاهر التقديس وشعائر الدين ، التي كانت مختصة بالكعبة.
وحين زحف أبرهة بجيشه إلى مكة انفردت ثقيف بموقف التأييد له ، وبعثت معه أبا رغال دليلا للجيش على الطريق إلى مكة ، وقد مات هذا الدليل في الطريق ، وأبغضه العرب ورجموا قبره «1».
وكان الثّقفيون أرغد العرب عيشا كما قال (ياقوت) ، وكان هواهم مع بني أمية ، وقد التقوا على حبّ الثراء والجاه ، والتوسّع في التجارة ، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «قريش والأنصار حليفان ، وبنو أميّة وثقيف حليفان» «2».
وكان عروة بن مسعود - وهو سيّد ثقيف - زوج آمنة بنت أبي سفيان ،
___________
(1) الكامل : لابن الأثير ، ج 1 ، ص 260.
(2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب : تأليف السيد محمود شكري الآلوسي ، ج 3 ، ص 335 (الطبعة الثالثة).

(1/212)


ص : 213
وكان له منها داود بن عروة «1» ، وذهب كثير من المفسّرين أنّه المعنيّ في قوله تعالى حكاية عن أهل مكّة : وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» [الزخرف : 31].
(1/181)
وقد نبغ في ثقيف الحارث بن كلدة ، وقد رحل إلى فارس ، وتعلّم الطّبّ ، واشتهر طبّه بين العرب ، واشتهر بعده ابنه النضر وهو ابن خالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم «3» ، وقد تجوّل في عدّة أقطار وصحب الأحبار والكهنة ، وكان له إلمام بعلوم الفلسفة والحكمة ، وأخذ الطبّ من أبيه ، وكان النضر كثير العداء والحسد للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم «4».
واشتهر فيهم أمية بن أبي الصّلت ، وكان من الشّعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام ، اطلع على كتب القدماء وخاصة التوراة ، وكان في مقدمة الحنفاء ، فلمّا بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سقط في يده ، وكفر به حسدا ، وأخذ يحرّض على الرسول ، ويرثي قتلى أعدائه في وقعة بدر ، له في التوحيد والحكمة شعر كثير ، وفيه يقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «آمن شعره وكفر قلبه» «5».
وممّا يذكر لثقيف من الماثر أنّه ارتدّ غالب العرب بعد وفاة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلا قريشا وثقيفا ، يقول الحافظ ابن كثير : «و قد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 483.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة : للعلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني ، ج 2 ، ص 477.
(3) بلوغ الأرب : ج 3 ، ص 335.
(4) المصدر السابق : ص 335.
(5) بلوغ الأرب : ج 3 ، ص 121 [و قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «و كاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم» أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ، ومسلم في كتاب الشعر ، باب في إنشاد الأشعار ... برقم (2256) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].

(1/213)


ص : 214
الإسلام لم يفرّوا ، ولا ارتدّوا» «1» ، وكان لهم أثر وبلاء في الحروب الإسلاميّة ومواقف بطولية محمودة.
(1/182)
وقد قصد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطائف ، إمّا لأنّه المركز الثاني للقوّة والسيادة في الحجاز بعد مكة ، أو لأن أخواله من بني ثقيف ، فرأى أن يخرج إلى الطائف ، «يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه» «2».
وما كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم - وهو ابن مكّة الواعي - يجهل الصّلات الوطيدة بين مكّة والطائف وتزاور أبنائهما ، وإنّ أخبار تكذيب قريش له وتصدّيهم بالأذى قد بلغت الطائف ، ولكنّه تجشّم هذه الرحلة حرصا على تبليغ الرسالة وانتشار الدعوة ، وذلك يدلّ على علوّ همّته النبويّة وشدة توكّله على اللّه ، وأمله في الفطرة البشريّة السليمة.
وقد خرج الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف في شهر شوال في السنة العاشرة بعد البعثة النبويّة «3» ، ويذكر ابن سعد «4» وابن الأثير «5» ، والمقريزي «6» ، أنّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد استصحب في رحلته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة «7».
___________
(1) البداية والنهاية : ج 6 ، ص 304.
(2) الطبري : ج 2 ، ص 80.
(3) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع : ج 1 ، ص 27.
(4) طبقات ابن سعد : ج 1 ، ص 95.
(5) الكامل : ج 2 ، ص 63.
(6) إمتاع الأسماع : ج 1 ، ص 27.
(7) استفاد المؤلف في هذه الأضواء على الطائف من رسالة الدكتوراه للدكتورة نادية حسني صقر ، (الطائف في العصر الجاهلي وصدر الإسلام طبع دار الشروق في جدة الطبعة الأولى 1981 م).

(1/214)


ص : 215
في الطائف :
وكانت الطائف تلو مكة في الأهمية ، واتساع العمران ، ورفاهية السكان ، ونقل القرآن مقالة الخصوم من قريش فقال :
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31].
(1/183)
وكانت مستقرّ عبادة (اللّات) وكان صنما يعبد ويحجّ إليه ، وكانت تضارع في ذلك مكة التي كانت مستقرّ عبادة «هبل» صنم قريش الأكبر.
فلمّا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطائف ، عمد إلى نفر من سادة ثقيف وأشرافهم ، فجلس إليهم ، ودعاهم إلى اللّه ، فكان ردّهم شرّ ردّ ، واستهزؤوا به صلى اللّه عليه وسلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبّونه ويصيحون به ، ويرجمونه بالحجارة ، فعمد إلى ظلّ نخلة ، وهو مكروب ، فجلس فيه ، وكان ما لقي في الطائف أشدّ ما لقيه من المشركين ، وقعد له أهل الطائف صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ جعلوا لا يرفع رجليه إلا رموها بالحجارة ، حتى أدموه ، وهما تسيل منهما الدّماء ، وفاض قلبه ولسانه بدعاء شكا فيه إلى اللّه ضعف قوته ، وقلّة حيلته ، وهوانه على الناس ، واستعاذ باللّه تعالى وبنصره وتأييده ، فقال :
«اللّهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني «1» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا
___________
(1) [يتجهّمني : أي يستقبلني بوجه كريه ].

(1/215)


ص : 216
والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك ، أو يحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى «1» حتى ترضى ، ولا حول ولا قوّة إلا باللّه» «2».
فأرسل اللّه إليه ملك الجبال ، يستأذنه في أن يطبق الأخشبين «3» ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا» «4».
(1/184)
ولمّا رآه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وما لقي ، تحرّكت لهما المروءة ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له «عدّاس» فقالا له : خذ قطفا من العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرّجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل «عداس» ، وأسلم بما سمعه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورأى من أخلاقه «5».
وانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الطائف إلى مكّة ، وقومه أشدّ ما كانوا عليه من خلاف وعداء ، وسخرية واستهزاء.
___________
(1) [العتبى : الرّضا. يقال : يعاتب من ترجى عنده العتبى ، أي : يرجى عند الرّجوع عن الذّنب والإساءة].
(2) [أخرج الطبرانيّ قصّة ذهابه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ودعائه ، من حديث عبد اللّه بن جابر رضي اللّه عنه ، كما في مجمع الزوائد (6/ 35)].
(3) [الأخشبان : الجبلان المطيفان بمكّة ، وهما أبو قبيس والأحمر ، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان ، والأخشب : كلّ جبل خشن غليظ الحجارة (النهاية في غريب الحديث : 2/ 32)].
(4) [أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق ، باب : إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء ... برقم (3231)] ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الجهاد والسير ، باب ما لقي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من أذى المنافقين والمشركين [برقم (1795) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(5) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 419 - 422 ، وسيرة ابن كثير : ج 2 ، ص 149 - 153 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 302 (مجموعا ملخصا).

(1/216)


ص : 217
الإسراء والمعراج
ثمّ أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى «1» ، ومنه إلى ما شاء اللّه من القرب والدنوّ ، والسير في السموات ، ومشاهدة الآيات ، والاجتماع بالأنبياء :
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «2» [النجم : 17 - 18].
(1/185)
فكانت ضيافة كريمة من اللّه ، وتسلية وجبرا للخاطر ، وتعويضا عما لقيه في الطائف من الذلّة والهوان ، والجفاء والنكران.
فلمّا أصبح غدا على قريش ، فأخبرهم الخبر ، فأنكروا ذلك ، واستعظموه وكذّبوه ، واستهزؤوا به ، وأمّا أبو بكر فقال : واللّه لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ؟ فو اللّه إنّه ليخبرني أنّ الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار ، فأصدقه ، فهذا أبعد ممّا تعجبون منه «3».
___________
(1) روى البيهقيّ عن ابن شهاب الزهري أنّ الإسراء كان في السنة التي قبل الهجرة ، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة لستة عشر شهرا ، واختلفت الأقوال في الشهر الذي أسري به صلى اللّه عليه وسلم فيه ، فقيل في ذي القعدة ، وقيل في ربيع الأول ، وقيل غير ذلك ، والمشهور أن الإسراء كان في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب ، وقد اختاره الحافظ ابن سرور المقدسي ، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ، (ملخّصا من كتاب «خاتم النبيين» للعلامة محمد أبو زهرة ، ج 1 ، ص 596 ، الطبعة الأولى 1972 م). وروي عن ابن سعد في المعراج أنه وقع ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. عيون الأثر ، ج 1 ، ص 146.
(2) انظر كتب الحديث والسيرة.
(3) سيرة ابن كثير : ج 2 ؛ ص 96 ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 399 - .

(1/217)


ص : 218
معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة :
ولم يكن الإسراء مجرّد حادث فرديّ بسيط رأى فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآيات الكبرى ، وتجلّت له ملكوت السموات والأرض مشاهدة وعيانا ، بل زيادة إلى ذلك اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة ، وإشارات حكيمة بعيدة المدى.
(1/186)
فقد ضمّت قصة الإسراء وأعلنت السّورتان الكريمتان اللّتان نزلتا في شأنه وتسمّى سورة الإسراء وسورة النجم أنّ محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو نبيّ القبلتين ، وإمام المشرقين والمغربين ، ووارث الأنبياء قبله ، وإمام الأجيال بعده ، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكّة بالقدس ، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى ، وصلّى الأنبياء خلفه ، فكان هذا إيذانا بعموم رسالته
___________
- ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الإسراء كان بالجسد والروح ، وأن أقوى القرائن والدلائل على ذلك أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم عندما أعلن ذلك بين قريش فتن بعض الذين أسلموا - وارتدّ من ارتد - كما رواه ابن كثير ؛ ولو كان بالروح أو رؤيا رآها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لما كان في ذلك غرابة ، فالإنسان العادي يرى في المنام ما لا يصدقه الواقع ولا يخطر بخلد أحد ، ولقد ألف الناس في كل زمان ومكان الرؤى الغريبة والأحلام العجيبة ، ولا يسارعون إلى تكذيبها ؛ وقد روي منها كل غريب وشحنت به كتب الديانات وأخبار العظماء والنساك ، ولو كان ذلك مجرد عروج روحي ؛ أو قصة منام ؛ لبادر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى إخبارهم بأن ذلك وحي أوحي به إليه ، أو رؤيا رآها في المنام ، فضموه إلى ما كانوا يسمعون منه صباح مساء ، من وحي يوحى إليه وملك يأتيه فيكلمه ، فما أثار تلك الدهشة التي أثارها والتساؤلات الكثيرة التي بعثها ، فما هو بشيء جديد بالنسبة إليه. ومن شاء التوسّع في هذا الموضوع وتحقيق ما اشتمل عليه من أسرار وحقائق وحكم إلهية ، وإشارات لطيفة ؛ وفوائد تشريعية ؛ في ضوء الكتاب والسنة والعقل السليم ، فعليه بفصل «الإسراء إلى المسجد الأقصى ومنه إلى سدرة المنتهى» في كتاب «حجة اللّه البالغة» لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة 1176 ه ، ج : 2 ، ص 206 - 207.

(1/218)


ص : 219
(1/187)
وخلود إمامته وإنسانيّة تعاليمه ، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان ، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به ، وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم ، ومن بين الشّعوب والأمم.
وجاء الإسراء خطا فاصلا بين الناحية الضيّقة المحليّة المؤقّتة وبين الشخصيّة النبويّة الخالدة العالميّة ، فإن كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - زعيم أمة ، أو قائد إقليم ، أو منقذ عنصر ، أو مؤسّس مجد ، لم يكن في حاجة إلى الإسراء والمعراج ، ولم يكن في حاجة إلى سياحة في عالم الملكوت ، ولم يكن في حاجة إلى أن تتصل بسببه الأرض والسماء اتصالا جديدا ، لقد كان له في أرضه التي يعيش فيها وفي محيطه الذي يكافح فيه ، وفي مجتمعه الذي يسعى لإسعاده ، غنى وسعة ، لا يفكر في غيره ، ولا يتجاوز إلى رقعة أخرى من الأرض فضلا عن السموات العلا ، وسدرة المنتهى ، وفضلا عن المسجد الأقصى الذي يبعد عن بلده بعدا كبيرا ، والذي كان في ولاية الديانة المسيحيّة وحكومة الأمة الرومية القوية.
وجاء الإسراء ، وأعلن أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس من طراز القادة والزعماء الذين لا تتجاوز مواهبهم ، وجهودهم ، ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد ، ولا تسعد بهم إلا الشعوب التي يولدون فيها ، والبيئات التي ينبعون منها ، إنّما هو من جماعة الأنبياء والرّسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض ، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق ، وتسعد بهم الإنسانيّة على اختلاف شعوبها وطبقاتها وعهودها وأجيالها.
فرض الصّلوات :
وفرض اللّه عليه وعلى أمّته خمسين صلاة في كلّ يوم ، وما زال رسول اللّه

(1/219)


ص : 220
صلى اللّه عليه وسلم يسأله التخفيف ، حتى جعلها اللّه خمس صلوات في كلّ يوم وليلة ، من أدّاهنّ إيمانا واحتسابا كان له أجر خمسين صلاة «1».
(1/188)
عرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على القبائل :
وبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى أن يمنعوه من الأعداء ، ويقول : يا بني فلان! إنّي رسول اللّه إليكم ، يأمركم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا به ، وتصدّقوا به ، وتمنعوني حتّى أبين عن اللّه ما بعثني به.
فإذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله ، قام أبو لهب ، فقال : يا بني فلان! إنّ هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم ، وحلفائكم من الجنّ ، إلى ما جاء به من البدعة والضّلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه «2».
الطريق إلى الإسلام :
وكان الطريق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإلى الإسلام مفروشا بالأشواك ، محفوفا بالمخاوف والأخطار ، لا يهتدي إليه الباحث عن الحقّ إلا إذا خاطر بنفسه ، وجازف بحياته ، يدلّ على ذلك ما حكاه ابن عباس - رضي اللّه
___________
(1) حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه ؛ كتاب الصلاة ؛ باب «كيف فرضت الصلاة» [برقم (3887) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. برقم (164) ، وأحمد في المسند (4/ 208 - 210) من حديث مالك بن صعصعة رضي اللّه عنه ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 422 - 423 [أخرجه أحمد مزيدا من التفصيل في مسنده (3/ 491 - 492) ، والحاكم في المستدرك (1/ 15) ، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 55) من حديث ربيعة بن عباد الديلي ].

(1/220)


ص : 221
عنهما - من قصّة قدوم أبي ذرّ الغفاريّ إلى مكّة ولقائه للرسول صلى اللّه عليه وسلم ودخوله في الإسلام :
(1/189)
«عن ابن عبّاس - رضي اللّه عنهما - لمّا بلغ أبا ذر مبعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي ، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ يأتيه الخبر من السماء ، واسمع من قوله ثمّ ائتني ، فانطلق الأخ ، حتى قدمه وسمع من قوله ، ثمّ رجع إلى أبي ذرّ - رضي اللّه عنهما - فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر ، فقال : ما شفيتني مما أردت.
فتزوّد وحمل شنة «1» له ، فيها ماء ، حتى قدم مكة فأتى المسجد ، فالتمس النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ولا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه ، حتى أدركه بعض الليل ، فرآه عليّ فعرف أنّه غريب ، فلمّا رآه تبعه ، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ، حتى أصبح ، ثمّ احتمل قربته وزاده إلى المسجد ، وظلّ ذلك اليوم ، ولا يراه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم حتّى أمسى ، فعاد إلى مضجعه فمرّ به عليّ - رضي اللّه عنه - فقال : أما آن للرجل أن يعلم منزله ؟ فأقامه ، فذهب به معه ، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شي ء.
حتّى إذا كان اليوم الثالث ، فعاد عليّ على مثل ذلك ، فأقام معه ، ثمّ قال : ألا تحدّثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنّني ، فعلت ، ففعل ، فانطلق يقفوه ، حتى دخل على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ودخل معه ، وسمع من قوله ، وأسلم مكانه ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : ارجع إلى قومك ، فأخبرهم حتّى يأتيك أمري ، قال : والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم ، فخرج حتّى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله
___________
(1) [الشّنّة : الأسقية الخلقة ، وهي أشدّ تبريدا للماء من الجدد].

(1/221)


ص : 222
(1/190)
إلا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه ، ثمّ قام القوم ، فضربوه حتى أضجعوه ، وأتى العباس ، فأكبّ عليه ، قال : ويلكم ألستم تعلمون أنّه من «غفار» وأنّ طريق تجّاركم إلى الشام عليهم ، فأنقذه منهم ، ثمّ عاد من الغد لمثلها فضربوه ، وثاروا إليه فأكبّ العباس عليه» «1».
___________
(1) أخرجه البخاريّ [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب إسلام أبي ذر رضي اللّه عنه ، [برقم (3861) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي ذر رضي اللّه عنه ، برقم (2474)].

(1/222)


ص : 223
الفصل الرابع الهجرة إلى المدينة
إسلام الأنصار
بيعة العقبة الأولى
خصائص المدينة المنوّرة (يثرب)
بيعة العقبة الثانية
الإذن بالهجرة إلى المدينة
تآمر قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
هجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة

(1/223)


ص : 225
الهجرة إلى المدينة
بدء إسلام الأنصار :
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الموسم ، فبينما هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج من الأنصار ، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن.
وكانوا جيران اليهود في المدينة ، وكانوا يسمعونهم يخبرون بنبيّ قد أظلّ زمانه «1» ، فقال بعضهم لبعض : يا قوم! تعلمون واللّه أنّه النبيّ الذي توعّدكم به اليهود ، فلا يسبقنّكم إليه ، فأجابوه ، وصدّقوه ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك «2».
(1/191)
وانصرفوا راجعين إلى بلادهم ، وآمنوا ، وصدّقوا ، فلمّا قدموا المدينة ذكروا لإخوانهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ، حتّى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3»
___________
(1) [أظلّ زمانه : أي أقبل عليهم ودنا منهم ، كأنّه ألقى عليهم ظلّه ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 428 - 429 [و أخرجه البيهقيّ في «الدلائل» (2/ 433 - 435) ، وأبو نعيم في «الدلائل» برقم (323)].
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 429.

(1/225)


ص : 226
بيعة العقبة الأولى :
حتّى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار ، اثنا عشر رجلا (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) ، فلقوه بالعقبة الأولى ، فبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على التوحيد ، والتعفّف من السّرقة والزّنى وقتل الأولاد والطاعة في المعروف «1».
فلمّا همّ القوم بالانصراف بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ، وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلّمهم الإسلام ، ويفقّههم في الدين ، فكان يسمّى «المقرى ء» بالمدينة ونزل على أسعد بن زرارة ، وكان يصلّي بهم «2».
سبب تهيّؤ الأنصار للإسلام :
وكان من صنع اللّه تعالى لرسوله وللإسلام ، أن هيأ اللّه الأوس والخزرج «3» - وهما قبيلتان عربيّتان عظيمتان في مدينة يثرب - لتقدرا هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها ، وتسبقا أهل عصرهما ، وأبناء الجزيرة ، إلى الترحيب بالإسلام والدخول فيه ، حين تنكّرت له قبائل العرب وفي مقدّمتها وعلى رأسها قريش وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة : 213].
وقد ساعدت على ذلك عدّة عوامل ، هي من خلق اللّه تعالى وتيسيره
___________
(1/192)
(1) [انظر حديث عبادة بن الصامت عن «بيعة العقبة الأولى» أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ... برقم (3893) ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب الحدود كفارات لأهلها ، برقم (1709) ، وأحمد في المسند (5/ 323)].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 431 - 434 ملخصا.
(3) الأوس والخزرج من الأزد ، الذين ينتمون إلى شعب قحطان ، وقد عطف ثعلبة بن عمرو جدّهم نحو الحجاز بعد خراب سد مأرب سنة 120 ق ، م ، ثم سار نحو المدينة ، كما سيأتي.

(1/226)


ص : 227
وصنعه ، كانت فارقة بين قريش وأهل مكة ، وقبائل يثرب العربية ، منها ما طبعها اللّه عليه من الرقّة واللّين وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحقّ ، وذلك يرجع إلى الخصائص الدمويّة والسّلالية التي أشار إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين وفد وفد من اليمن ، بقوله : «أتاكم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا» «1» وهما ترجعان في أصلهما إلى اليمن ، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم ، يقول القرآن مادحا لهم :
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر : 9].
ومنها أنّهما قد أنهكتهما الحروب الداخلية ، وما يوم بعاث ببعيد «2» ، وقد اكتووا بنارها ، وذاقوا مرارتها ، وعافوها ، ونشأت فيهم رغبة في اجتماع الكلمة ، وانتظام الشّمل ، والتفادي من الحروب ، وذلك ما عبّروا عنه بقولهم : «إنّا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ،
___________
(1/193)
(1) [أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي ، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن ، برقم (4388) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ... برقم (52) ، والترمذي في أبواب المناقب ، باب في فضل اليمن ، برقم (3935) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].
(2) «يوم بعاث» : آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ، وبعاث موضع في نواحي المدينة ، وكانت هذه الحرب من إيعاز اليهود في المدينة ؛ ودخل مع القبيلتين قبائل من اليهود والعرب ؛ ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا في بعاث ؛ واقتتلوا قتالا شديدا ، وصبروا جميعا ، وانهزمت الأوس في أول النهار ثم دارت الدائرة على الخزرج ؛ ووضعت الأوس فيهم السلاح ، ثم انتهوا عنهم ، وأحرقت الأوس دور الخزرج ؛ وأكثر الأنصار الأشعار في «يوم بعاث» (عن ابن الأثير ملخصا) وذلك قبل الهجرة ، بخمس سنين في أصح الروايات (فتح الباري : ج 7 ، ص 85).

(1/227)


ص : 228
فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فإن يجمعهم اللّه بك ، فلا رجل أعزّ منك» ، قالت عائشة رضي اللّه عنها : «كان يوم بعاث يوما قدمه اللّه تعالى لرسوله».
ومنها أنّ قريشا ، وسائر العرب قد طال عهدهم بالنبوّات والأنبياء ، وأصبحوا يجهلون معانيها بطول العهد ، وبحكم الأميّة والإمعان في الوثنيّة ، والبعد عن الأمم التي تنتسب إلى الأنبياء وتحمل الكتب السماوية - على ما دخل فيها من التحريف والعبث - وذلك ما يشير إليه القرآن بقوله :
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس : 6].
أمّا الأوس والخزرج فكانوا يسمعون اليهود يتحدّثون عن النبوّة والأنبياء ، ويتلون صحف التوراة ويفسّرونها ، بل كانوا يتوعّدونهم به ، ويقولون : إنّه سيبعث نبيّ في آخر الزمان ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم «1» ، في ذلك يقول اللّه تعالى :
(1/194)
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة : 89].
وبذلك لم تكن بين أبناء الأوس والخزرج وسكان المدينة من العرب المشركين تلك الفجوة العميقة الواسعة من الجهل والنّفور من المفاهيم الدينية والسّنن الإلهية التي كانت بينها وبين أهل مكة وجيرانهم من العرب ، بل قد عرفوها وألفوها عن طريق اليهود ، وأهل الكتاب الذين كانوا يختلطون بهم بحكم البلد والجوار والصلح والحرب والمحالفات ، فلمّا تعرّفوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد حضروا الموسم ، ودعاهم إلى الإسلام ، ارتفعت الغشاوة عن
___________
(1) تفسير ابن كثير : ج 1 ، ص 217.

(1/228)


ص : 229
عيونهم ، وكأنّهم كانوا من هذه الدّعوة على ميعاد.
خصائص المدينة المنوّرة (يثرب) :
وكان من حكمة اللّه تعالى في اختيار المدينة دارا للهجرة ، ومركزا للدّعوة ، عدا ما أراده اللّه من إكرام أهلها ، وأسرار لا يعلمها إلّا اللّه ، أنّها امتازت بتحصّن طبيعيّ حربيّ ، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة ، فكانت حرة «1» الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية ، وحرة واقم مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية ، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة ، هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصّنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب) وكانت الجهات الآخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النّخيل والزّروع الكثيفة ، لا يمرّ منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكريّ ، وترتيب الصّفوف.
(1/195)
وكانت خفارات عسكرية صغيرة ، كافية بإفساد النظام العسكريّ ومنعه من التقدّم ، يقول ابن إسحاق : «كان أحد جانبي المدينة عورة ، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل ، لا يتمكّن العدوّ منها».
ولعلّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهيّة في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة : «إنّي رأيت دار هجرتكم ، ذات نخل بين لابتين»»
___________
(1) و«الحرة» أو «اللابة» منطقة سوداء من الحجارة النخرة المحترقة أو المؤلفة من السائل البركاني يمتنع فيها المشي بالأقدام ، ومشي الإبل والخيل - فضلا عن مرور الجيش - وقد ذكر العلامة مجد الدين الفيروز آبادي (ت 823 ه) في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» في حرف الحاء : حرات كثيرة تحيط بالمدينة من عدة جوانب يدنو بعضها ، ويبعد بعضها ؛ وتحميها من الغزو من الخارج أو تحدث صعوبات وعراقيل في تحرك الجيوش (راجع الكتاب ، ص 108 - 114).
(2) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ... [برقم -

(1/229)


ص : 230
وهما الحرتان ، فهاجر من هاجر قبل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة شكيمة ، ألفوا الحرية ، ولم يخضعوا لأحد ، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة ، إتاوة أو جباية ، وقد جاء ذلك صريحا في الكلمة التي قالها سعد بن معاذ - سيّد الأوس - لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان ، لا نعبد اللّه ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا» «1».
يقول ابن خالدون : «و لم يزل هذان الحيّان قد غلبوا اليهود على يثرب ، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك ، ويدخل في ملّتهم من جاورهم من قبائل مضر «2».
(1/196)
وجاء في «العقد الفريد» : «و من الأزد الأنصار ، وهم الأوس والخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو بن عامر ، وهم أعزّ الناس أنفسا ، وأشرفهم همما ، ولم يؤدّوا إتاوة قطّ إلى أحد الملوك» «3».
وكان بنو عديّ بن النّجار أخواله دنيا «4» ، فأمّ عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم ، فقد تزوّج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عديّ بن النجّار ، وولدت لهاشم عبد المطلب ، وتركه هاشم عندها ، حتّى صار غلاما دون
___________
- (3905) ، وفي كتاب الكفالة ، باب جوار أبي بكر في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعقده ، برقم (2297) ، وأحمد : (6/ 198) ، والحاكم : (2/ 3 - 4) ووافقه الذهبي ، والحديث إسناده صحيح ].
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 223.
(2) تاريخ ابن خالدون : ج 2 ، ص 289.
(3) العقد الفريد : ج 3 ، ص 334 (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة).
(4) هو ابن عمي دنية ودنيا ودنيا ، أي لحّا (القاموس : دنا).

(1/230)


ص : 231
المراهقة ، فذهب إليه عمّه المطلب ، فجاء به إلى مكة ، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعيّة ، ومنهم أبو أيوب الأنصاريّ الذي نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان ، والمهاجرون ، ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان ، ولمّا هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، وقام الأنصار بنصره ، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام ، وكانوا كجسد واحد ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهليّة ، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلا إلى قلوبهم ، لإثارة الفتنة والتعزّي بعزاء الجاهلية باسم الحميّة القحطانيّة أو العدنانية.
(1/197)
فكانت مدينة (يثرب) - لكلّ ذلك - أصلح مكان لهجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها دارا وقرارا ، حتى يقوى الإسلام ، ويشقّ طريقه إلى الأمام ، ويفتح الجزيرة ثمّ يفتح العالم المتمدّن.
انتشار الإسلام في المدينة :
وجعل الإسلام يفشو في منازل الأنصار - الأوس والخزرج - وأسلم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وهما سيّدا قومهما ، من بني عبد الأشهل من الأوس ، بحكمة من أسلم قبلهما ، وتلطفهم ، وبحسن دعوة مصعب بن عمير - رضي اللّه عنه - وأسلم بنو عبد الأشهل عن آخرهم ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون «1».
بيعة العقبة الثانية :
ورجع مصعب بن عمير إلى مكة في العام القابل ، وخرج عدد من
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 436 - 438 مختصرا.

(1/231)


ص : 232
المسلمين من الأنصار مع حجّاج قومهم من أهل الشرك ، حتّى قدموا مكة ، فواعدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة ، فلمّا فرغوا من الحجّ ، ومضى ثلث اللّيل ، اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، وهم ثلاثة وسبعون رجلا ، وامرأتان من النساء ، وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه.
وتكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتلا القرآن ، ودعا إلى اللّه ، ورغب في الإسلام ثمّ قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه ، واستوثقوا منه ألا يدعهم ، ويرجع إلى قومه ، فوعد بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «أنا منكم وأنتم منّي ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم».
واختار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس «1».
إذن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة :
(1/198)
ولمّا بايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام ، والنصرة له ، ولمن اتبعه ، فأوى إليهم عدد من المسلمين ، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه ، ومن معه بمكة من المسلمين ، بالخروج إلى المدينة ، والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» فخرجوا أرسالا.
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 441 - 443 [انظر تفصيلات بيعة العقبة الثانية في «مسند أحمد» (3/ 322) ، وفي «السّنن الكبرى» للبيهقي (9/ 9) وفي «المستدرك» للحاكم (2/ 924 - 925) وغيرهم أخرجوها من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ].

(1/232)


ص : 233
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ينتظر الإذن من اللّه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.
ولم تكن هجرة المسلمين من مكة هيّنة سهلة تسمع بها قريش ، وتطيب بها نفسا ، بل كانوا يضعون العراقيل في سبيل الانتقال من مكة إلى المدينة ، ويمتحنون المهاجرين بأنواع من المحن ، وكان المهاجرون لا يعدلون عن هذه الفكرة ، ولا يؤثرون البقاء في مكّة ، مهما دفعوا من قيمة ، فمنهم من كان يضطرّ إلى أن يترك امرأته وابنه في مكّة ، ويسافر وحده ، كما فعل أبو سلمة ، ومنهم من كان يضطرّ إلى أن يتنازل عن كلّ ما كسبه في حياته وجمعه من ماله ، كما فعل صهيب رضي اللّه عنه.
قالت أمّ سلمة - رضي اللّه عنها - : لمّا أزمع أبو سلمة - رضي اللّه عنه - الخروج إلى المدينة ، رحّل لي بعيره ، ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري ، ثمّ خرج يقود بي بعيره ، فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده ، وأخذوني منه.
(1/199)
قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وقالوا : واللّه لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم.
وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ، ففرّق بيني وبين ابني وبين زوجي ، فكنت أخرج كلّ غداة ، فأجلس في الأبطح ، فما أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريبا منها ، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة ، فرأى ما بي ، فرحمني ، فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة ،

(1/233)


ص : 234
فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ فقالوا : الحقي بزوجك إن شئت ، فردّ بنو الأسد إليّ عند ذلك ابني ، فارتحلت بعيري ، ثمّ أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثمّ خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق اللّه ، حتّى إذا كنت ب «التنعيم» لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدّار ، فقال : إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟
قلت : أريد زوجي بالمدينة.
قال : أو ما معك أحد ؟
قلت : ما معي أحد إلّا اللّه وابني هذا.
فقال : واللّه ما لك من مترك ، فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي يهوي بي ، فو اللّه ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنّه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثمّ استأخر عنّي ، حتّى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحطّ عنه ، ثمّ قيده في الشجر ، ثمّ تنحّى إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح ، قام إلى بعيري فقدّمه ، فرحله ، ثمّ استأخر عنيّ وقال : اركبي ، فإذا ركبت فاستويت على بعيري ، أتى فأخذ بخطامه ، فقادني حتّى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتّى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف ب «قباء» قال : زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة اللّه ، ثمّ انصرف راجعا إلى مكة.
(1/200)
فكانت تقول : ما أعلم أهل بيت في الإسلام ، أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، وما رأيت صاحبا قطّ كان أكرم من عثمان بن طلحة «1».
___________
(1) وأسلم عثمان بن طلحة هذا بعد الحديبية ، وهاجر ، ودفع إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح مفاتيح الكعبة (ابن كثير ؛ ج 2 ، ص 215 - 217).

(1/234)


ص : 235
ولمّا أراد صهيب الهجرة ، قال له كفّار قريش : أتيتنا صعلوكا حقيرا ، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثمّ تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟
واللّه لا يكون ذلك!
فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي ، أتخلّون سبيلي ؟.
قالوا : نعم.
قال : إنّي قد جعلت لكم مالي.
وبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «ربح صهيب ، ربح صهيب» «1».
وهاجر عمر بن الخطاب ، وطلحة ، وحمزة ، وزيد بن حارثة ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزّبير بن العوّام ، وأبو حذيفة ، وعثمان بن عفان ، وآخرون - رضي اللّه عنهم أجمعين - وتتابعت الهجرة ولم يتخلّف مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة غير من حبس وفتن ، إلا عليّ بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة رضي اللّه عنهما - «2».
تامر قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التامر الأخير ، وخيبتهم فيما أرادوا :
ولمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد صار له أصحاب وأنصار في المدينة ولا سلطان لهم عليها ، تخوّفوا من خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، وعرفوا أنّه إذا كان ذلك ، فلا حيلة لهم فيه ، ولا سبيل لهم عليه ، فاجتمعوا في «دار النّدوة» وهي دار قصيّ بن كلاب ، وكانت قريش لا تقضي أمرا إلّا فيها ، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واجتمع فيها أشراف قريش.
___________
(1/201)
(1) ابن كثير نقلا عن ابن هشام : ج : 2 ، ص 223 [و أخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/ 522 - 523) ، والحاكم في «المستدرك» (3/ 400) وصحّحه ووافقه الذهبي ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 470 - 479.

(1/235)


ص : 236
واجتمع رأيهم أخيرا على أن يؤخذ من كلّ قبيلة فتى شابّ صاحب جلادة ونسب ، فيها جموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويضربوه ضربة رجل واحد ، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، وتفرق القوم على ذلك ، وهم مجمعون له.
وأخبر اللّه رسوله بهذه المؤامرة ، فأمر عليّ بن أبي طالب أن ينام على فراشه ، متسجّيا ببردته ، وقال : لن يخلص إليك شيء تكرهه.
واجتمع القوم على بابه ، وهم متهيّئون للوثوب ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخذ حفنة من تراب في يده ، وأخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم ، وهو يتلو آيات من سورة يس من أوّلها إلى قوله تعالى : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس : 9].
وأتاهم آت ، فقال : ما تنتظرون هاهنا ؟
قالوا : محمدا.
قال : خيّبكم اللّه ، قد واللّه خرج وانطلق لحاجته.
وتطلّعوا ، فرأوا عليّا نائما على الفراش ، فلم يشكّوا في أنّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا أصبحوا قام عليّ - رضي اللّه عنه - عن الفراش ، فخجلوا ، وانقلبوا خائبين «1».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 480 - 483 [و أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ص : (64) ، والطبري في تاريخه : (2/ 373)].

(1/236)


ص : 237
خريطة هجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم

(1/237)


ص : 239
هجرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم إلى المدينة
(1/202)
وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبي بكر ، فقال له : إنّ اللّه قد أذن لي في الخروج والهجرة ، فقال أبو بكر : الصّحبة يا رسول اللّه! قال : «الصحبة» وبكى أبو بكر - رضي اللّه عنه - من الفرح ، وقدّم أبو بكر راحلتين ، كان قد أعدّهما لهذا السفر ، واستأجر عبد اللّه بن أريقط ، ليدلّهما على الطريق «1».
تناقض غريب :
وكانت قريش - رغم عدائها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورميه عن قوس واحدة - عظيمة الثقة بأمانته ، وصدقه ، وفتوته ، فليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لثقته به ، فكان عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشيء الكثير من هذه الودائع ، فأمر عليا - رضي اللّه عنه - بأن يتخلّف بمكة حتّى يؤدّيها عنه «2» ، وصدق اللّه العظيم : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام : 33].
درس من الهجرة :
وقد أثبتت الهجرة النبوية أنّ الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كلّ حبيب
___________
(1) [أخرجه البخاريّ في كتاب مناقب الأنصار ، باب هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة برقم (3905) ، وعبد الرّزاق في مصنّفه برقم (9743) ، وأحمد في مسنده (6/ 346) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 484 - 485.

(1/239)


ص : 240
وعزيز وأليف وأنيس وعن كلّ ما جبلت الطبائع السليمة على حبّه وإيثاره ، والتمسّك به والتزامه ، ولا يتنازل عنهما لشي ء. وقد اقترن تاريخ الدعوات العظيمة والديانات القديمة بالحركة ، حركة الأفراد أحيانا وحركة الجماعات أحيانا كثيرة.
(1/203)
وقد كانت مكة - فضلا عن كونها مولدا ومنشأ للرسول وأصحابه - مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب ، ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبّه منهم مجرى الروح والدم ، ولكنّ شيئا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن ، ومفارقة الأهل والسكن ، حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة ، وتنكّر أهلها لهما.
وقد تجلّت هذه العاطفة المزدوجة - عاطفة الحنين الإنسانيّ وعاطفة الحبّ الإيمانيّ - في كلمته التي قالها مخاطبا لمكّة : «ما أطيبك من بلد وأحبّك إليّ ، ولو لا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» «1».
وذلك عملا بقول اللّه تعالى :
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[العنكبوت : 56].
إلى غار ثور :
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر من مكة مستخفيين ، وأمر أبو بكر ابنه عبد اللّه بن أبي بكر أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما بمكة ، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهارا ويريحها عليهما ليلا ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام.
___________
(1) أخرجه الترمذي [في أبواب المناقب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، باب : في فضل مكة ، برقم (3926) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].

(1/240)


ص : 241
من روائع الحبّ :
ولم يزل الحبّ منذ فطر اللّه الإنسان ملهما للدقائق العجيبة ، باعثا على الإشفاق على من تعلّق به القلب وأحبّته النفس ، وهذا كان شأن أبي بكر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الرحلة.
(1/204)
وقد روي أنّه لمّا انطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر ، كان يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «يا أبا بكر! ما لك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يديّ ؟» فقال : يا رسول اللّه! أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثمّ أذكر الرّصد فأمشي بين يديك «1».
فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول اللّه! حتّى أستبرىء لك الغار ، فدخل فاستبرأه ، حتى إذا كان ، ذكر أنّه لم يستبرىء الحجرة ، فقال : مكانك يا رسول اللّه! حتى أستبرىء فدخل فاستبرأ ، ثمّ قال : انزل يا رسول اللّه! فنزل «2».
وللّه جنود السموات والأرض :
ودخلا الغار ، وبينما هما كذلك إذ بعث اللّه العنكبوت ، فنسجت ما بين الغار والشجرة التي كانت على وجه الغار ، وسترت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ، وأمر اللّه حمامتين وحشيتين ، فأقبلتا تدفّان حتّى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة «3» ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح : 4].
___________
(1) البداية والنهاية : لابن كثير ؛ ج 3 ؛ ص 180 ، نقلا عن البيهقي برواية عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
(2) المصدر السابق ، ج 3 ، ص 180.
(3) رواه الحافظ ابن عساكر بسنده عن جماعة من الصحابة (ابن كثير ؛ ج 2 ؛ ص 240 - 241).

(1/241)


ص : 242
أدقّ لحظة مرّت بها الإنسانيّة :
واقتفى المشركون أثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانت أدقّ لحظة مرّت بها الإنسانيّة في رحلتها الطويلة ، وكانت لحظة حاسمة ، فإمّا امتداد شقاء لا نهاية له ، وإمّا افتتاح سعادة لا آخر لها ، وقد حبست الإنسانية أنفاسها ، ووقفت خاشعة حين وصل الباحثون إلى فم الغار ، ولم يبق بينهم وبين العثور على منشودهم إلا أن ينظر أحدهم إلى تحت قدميه.
(1/205)
ولكنّ اللّه حال بينهم وبين ذلك ، فاختلط عليهم الأمر ، ورأوا على باب الغار نسج العنكبوت «1» ، وإلى ذلك أشار اللّه تعالى بقوله : فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة : 40].
لا تحزن إنّ اللّه معنا :
وبينما هما في الغار ، إذ رأى أبو بكر آثار المشركين ، فقال :
يا رسول اللّه! لو أنّ أحدهم رفع قدمه ، رآنا. قال : ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما «2» ؟ وفي ذلك يقول اللّه تعالى :
ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة : 40].
___________
(1) [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 348) ، وعبد الرزاق في مصنّفه (5/ 389) برقم (9743) ، والطبراني في الكبير برقم (12155) ، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 236) وقال : سنده حسن ، وحسّن إسناده أيضا ابن كثير في السيرة (2/ 239)].
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [برقم (3653) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي اللّه عنهم ، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، برقم (2381) ، وأحمد في المسند (1/ 4) من حديث أبي بكر رضي اللّه عنه ].

(1/242)


ص : 243
ركوب سراقة في أثر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وما وقع له :
وجعلت قريش في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فقدوه ، مئة ناقة ، لمن يردّه عليهم ، ومكثا في الغار ثلاث ليال ثمّ انطلقا ، ومعهما عامر بن فهيرة ودليل من المشركين «1» ، استأجره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ بهم على طريق السواحل.
(1/206)
وحمل سراقة بن مالك بن جعشم الطمع على أن يتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويردّه على قريش ، فيأخذ مئة ناقة منهم ، فركب على أثره يعدو ، وعثر به الفرس ، فسقط عنه فأبى إلا أن يتبعه ، فركب في أثره ، وعثر به الفرس مرة ثانية ، فسقط عنه ، وأبى إلا أن يتبعه ، فركب في أثره ، فلمّا بدا له القوم رآهم ، وعثر به الفرس مرة ثالثة ، وذهبت يداه في الأرض ، وسقط عنه ، وتبعهما دخان كالإعصار.
وعرف سراقة حين رأى ذلك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حماية اللّه تعالى ، وأنّه ظاهر لا محالة ، فنادى القوم ، وقال : أنا سراقة بن جعشم ، أنظروني أكلمكم ، فو اللّه لا يأتيكم منّي شيء تكرهونه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر :
«قل له : وما تبتغي منّا ؟» قال سراقة : تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك ، فكتب عامر بن فهيرة كتابا في عظم أو رقعة «2».
___________
(1) [هو عبد اللّه بن أريقط كما ذكره العلّامة المؤلّف تحت عنوان : «هجرة الرسول إلى المدينة» ، وكما في «السيرة النبوية» لابن هشام : «... فاستأجر عبد اللّه بن أرقط - كذا عند ابن هشام - رجلا بن بني الديل بن بكر ... وكان مشركا يدلّهما على الطريق ، (ج 1 ، ص 417 ، طبع دار ابن كثير بدمشق)].
(2) سيرة ابن هشام : ج : 1 ؛ ص 489 - 490 ؛ ورواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة باختلاف بعض الألفاظ [برقم 3906].

(1/243)


ص : 244
نبوءة لا يسيغها العقل الماديّ :
(1/207)
وفي هذه الحال التي اضطرّ فيها نبيّ اللّه إلى الهجرة ، والخروج من مكّة ، والقوم يطاردونه ويتبعون آثاره ، نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اليوم البعيد الذي يطأ فيه أتباعه تاج كسرى وعرش قيصر ، ويفتحون خزائن الأرض ، فتنبأ في هذا الظلام الحالك بهذا النور الباهر ، وقال لسراقة : «كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟».
إنّ اللّه قد وعد نبيّه بالنصر والفتح المبين ، ولدينه بالظهور العامّ والفتح التامّ ، وقال : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة : 33].
وقد أنكر ذلك قصار النظر وضعاف العقول ، واستبعدته قريش ، ولكنّ عين النبوة ترى البعيد قريبا إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران : 9].
وكان كذلك ، فلمّا أتي عمر - رضي اللّه عنه - بسواري كسرى ومنطقته وتاجه ، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها «1».
وعرض عليه سراقة الزاد والمتاع ، فلم يقبله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يزد أن قال : «أخف عنّا» «2».
رجل مبارك :
ومرّا في مسيرهما بأمّ معبد الخزاعيّة ، وكانت عندها شاة خلّفها الجهد عن الغنم ، فمسح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمّى اللّه ، ودعا ، فدرّت ،
___________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب : لابن عبد البر ، ج 2 ، ص 597.
(2) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم [برقم 3906].

(1/244)


ص : 245
فسقاها ، وسقى أصحابه ، حتى رووا ، ثمّ شرب ، وحلب فيه ثانيا ، حتّى ملأ الإناء ، فلمّا رجع أبو معبد ، سأل عن القصّة ، فقالت : لا واللّه إلا أنّه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ، ووصفته له وصفا جميلا ، قال :
واللّه إنّي لأراه صاحب قريش الذي تطلبه «1».
(1/208)
ولم يزل يسلك بهما الدّليل ، حتّى قدم بهما «قباء» ، وهي في ضواحي المدينة ، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول ، يوم الإثنين «2». فكان مبدأ التاريخ الإسلاميّ.
___________
(1) زاد المعاد ، ج 2 ص 309 [و أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 9 - 10) وصحّحه ، ووافقه الذهبي ].
(2) رواه البخاري ، [في كتاب مناقب الأنصار] باب «هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة» [رقم : 3906].

(1/245)


ص : 247
الفصل الخامس العهد المدنيّ
تصوير المدينة المنوّرة عند الهجرة
الرسول صلى اللّه عليه وسلم في المدينة :
المؤاخاة - الصحيفة - المسجد
الإذن بالقتال معركة بدر الحاسمة
غزوة أحد غزوة الخندق
غزوة بني قريظة
غزوة بني المصطلق وحديث الإفك
صلح الحديبية
دعوة الملوك والأمراء إلى الإسلام
غزوة خيبر غزوة مؤتة
فتح مكة غزوة حنين
غزوة الطائف غزوة تبوك
عام الوفود حجة الوداع
الوفاة
أزواجه أمّهات المؤمنين وأولاده وأسباطه صلى اللّه عليه وسلم

(1/247)


ص : 249
تصوير المدينة عند الهجرة
اختلاف بين المجتمع المكيّ والمجتمع المدنيّ :
ولكي نأخذ صورة إجمالية صحيحة عن مدينة (يثرب) - التي اختارها اللّه دار هجرة للرّسول ، ومنطلق الدعوة الإسلامية في العالم ، ومهد أوّل مجتمع إسلاميّ يقوم بعد ظهور الإسلام - يجب أن نعرف وضعها المدنيّ ، والاجتماعيّ ، والاقتصاديّ ، وصلة القبائل المقيمة فيها ، بعضها ببعض ، ومركز اليهود فيها ، الاجتماعيّ ، والاقتصاديّ ، والحربيّ ، والواقع الذي كانت تعيشه هذه المدينة الخصبة الغنية ، التي التقت فيها ديانات ، وثقافات ، ومجتمعات مختلفة ، بخلاف مكّة ذات الطبيعة الواحدة ، والطابع الموحّد ، والدين المشترك ، وإلى القارىء بعض الأضواء.
اليهود :
(1/209)
المرجّح في ضوء التاريخ أنّ غالبية اليهود حلّوا بالجزيرة العربيّة بصفة عامة ، ومدينة يثرب بصفة خاصة ، في القرن الأول الميلاديّ ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون :
«بعد حرب اليهود والرّومان سنة 70 م التي انتهت بخراب بلاد فلسطين ، وتدمير هيكل بيت المقدس ، وتشتّت اليهود في أصقاع العالم ، قصدت جموع كثيرة من اليهود بلاد العرب كما حدّثنا عن ذلك المؤرّخ اليهوديّ

(1/249)


ص : 250
«يوسي فوس» الذي شهد تلك الحروب ، وكان قائدا لبعض وحداتها ..
وتؤيّد المصادر العربية كلّ هذا» «1».
وكانت في المدينة ثلاث قبائل كبيرة رئيسية من اليهود ، بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين ، وهي : «قينقاع» و«النّضير» و«قريظة» ، ويقدّر أنّ رجال قينقاع المحاربين ، بلغ عددهم سبعمئة ، كما كان عدد رجال النّضير مثل هذا العدد ، وكان الرجال البالغون من قريظة ما بين سبعمئة وتسعمئة «2».
وكانت العلاقة بين هذه القبائل الثلاث مضطربة متوتّرة ، وقد يكون بعضهم حربا على بعض ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون :
«قد كانت هناك عداوة بين بني قينقاع وبقية اليهود ، سببها أنّ بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم «بعاث» وقد أثخن بنو النّضير وبنو قريظة في بني قينقاع ، ومزّقوهم كلّ ممزّق ، مع أنّهم دفعوا الفدية عن كلّ ما وقع في أيديهم من اليهود ، وقد استمرّت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد
___________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام : للدكتور إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) ، ص 9 ؛ مطبعة الاعتماد القاهرة 1927 م.
(1/210)
(2) استفيد في هذا التقدير مما جاء في سيرة ابن هشام من الأعداد عند الحوادث والحروب ، كجلاء بني النضير ، وقتل الرجال من بني قريظة ، وغير ذلك من القرائن. و«قينقاع» و«النضير» و«قريظة» هي القبائل اليهودية الأم ، ولها توابع يلتحقون بها ، وينسبون إليها كبني هدل ، التابعين لبني قريظة ، كان منهم بعض كبار الصحابة الذين أسلموا من أهل الكتاب ، وكبني زنباع وهم فرع من فروع بني قريظة ، وقد جاءت أسماء لجماعات يهودية في العقد الذي تم بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين اليهود ، كيهود بني عوف ، ويهود بني النجار ؛ ويهود بني ساعدة ، ويهود بني ثعلبة ، وبني جفنة ، وبني الحارث ، وغيرها ، وقد جاء في هذا العقد بعد ذكر هذه الجماعات «إنّ بطانة يهود كأنفسهم» ؛ وذلك الذي حمل السمهودي صاحب كتاب «وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى» على أن يقول : «إنّ يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة» ؛ (وفاء الوفا : ص 116).

(1/250)


ص : 251
يوم «بعاث» ، حتى وقعت الحرب بين الأنصار وبين بني قينقاع ، فلم ينهض معهم أحد من اليهود في محاربة الأنصار.
وقد أشار القرآن إلى عداوة اليهود فيما بينهم بقوله :
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ «1» [البقرة : 84 - 85].
(1/211)
وكانوا يعيشون في أحياء وقرى مختلفة خاصة بهم ، فكانت بنو قينقاع يسكنون داخل المدينة في محلّة خاصة بهم ، بعد أن طردهم إخوانهم بنو النّضير وقريظة من مساكنهم التي كانت خارج المدينة ، وكانت مساكن بني النضير بالعالية بوادي «بطحان» على بعد ميلين أو ثلاثة من المدينة ، وكانت عامرة بالنّخيل ، والزّروع ، وكانت بنو قريظة يسكنون في منطقة (مهزور) التي تقع على بعد بضعة أميال من جنوب المدينة «2».
وكانت لهم حصون ، وآطام ، وقرى ، يعيشون فيها متكتّلين «3» مستقلّين ، لم يتمكّنوا من إنشاء حكومات يحكمها اليهود ، بل كانوا مستقلّين في حماية سادات القبائل ورؤسائها ، يؤدّون لهم إتاوة في كلّ عام ، مقابل حمايتهم لهم ، ودفاعهم عنهم ، ومنع الأعراب من التعدّي عليهم ، وقد لجؤوا إلى عقد المحالفات معهم ، وكان لكلّ زعيم يهوديّ حليف من
___________
(1) اليهود في بلاد العرب : ص 129.
(2) بنو إسرائيل في القرآن والسنة : للدكتور محمد سيد الطنطاوي ، ص 77.
(3) [متكتّلين : أي متّحدين ، ومتّفقين على رأى واحد].

(1/251)


ص : 252
الأعراب ومن رؤساء العرب «1».
وكانوا ينعتون أنفسهم بأنّهم أهل العلم بالأديان والشّرائع ، وكانت لهم مدارس «2» يتدارسون فيها أمور دينهم ، وأحكام شريعتهم ، وأيامهم الماضية ، وأخبارهم الخاصّة برسلهم وأنبيائهم ، كما كانت لهم أماكن خاصة يقيمون فيها عباداتهم وشعائر دينهم ، وكانت تسمّى «المدراس» وكان المكان الذي يتجمّع فيه اليهود لتبادل المشورة في سائر أحوالهم الدينية والدنيوية.
وكانت لهم تشريعاتهم ونظمهم الخاصة بهم ، أخذوا بعضها عن كتبهم ، وبعضها وضعه لهم كهّانهم وأحبارهم من عند أنفسهم ، وكانت لهم أعيادهم الخاصة بهم ، وأيام خاصة ، يصومون فيها ، كيوم عاشوراء «3».
(1/212)
ويبدو أنّه ضعفت صلتهم بدينهم الأصيل والتعليمات التي جاءت في صحفهم ، وأصبحوا على مرّ الأيام لا يتميّزون عن جيرانهم العرب ، إلّا بأثارة من عقيدة التوحيد ، وتمييز بين الحلال والحرام ، ولمّا جاء الإسلام بعقيدة التوحيد النقيّة الحاسمة كما جاء في القرآن ، زال تميّزهم في ذلك أيضا.
وقد بلغوا غاية الإسفاف والتدنّي في الأخلاق ، وأصبحوا يستعينون في قضاء ماربهم بأمور خفيّة مدسوسة كالسّحر ، ودسّ السّمّ في الطعام ، وتسلية النفس بالتنكيت والتوريب «4» ، واستعمال الكلمات الموهمة ذات المعنيين شأن المجتمعات الحاقدة المغلوبة على أمرها ، وبراعة اليهود في فنون السّحر
___________
(1) ملخّص من «تاريخ العرب قبل الإسلام» ج 7 ، ص 23 للدكتور جواد علي.
(2) تحقّق من المصادر اليهودية أنّ هذه المدارس كانت مركزا للتعليم الديني العالي وكانت كالكليات والجامعات في عصرنا (راجع دائرة المعارف اليهودية).
(3) بنو إسرائيل في القرآن والسنة : ص 80 - 81.
(4) التوريب : أن تورّي عن الشيء بالمعارضات والمباحات (لسان العرب والقاموس المحيط).

(1/252)


ص : 253
والكهانة من الحقائق المسلّمة في التاريخ ، وظلّ قادتهم وعلماؤهم يعترفون بذلك بشيء من التيه والافتخار ، وأشار إلى ذلك القرآن بقوله : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... الخ [البقرة : 102] ، وقد ظلّ هذا الواقع باقيا إلى عهد الرسالة ، يقول المستشرق اليهوديّ الشهير مارجليوث) htuoilograM (المعروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته في كتابه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«كان هؤلاء اليهود بارعين في فنّ السّحر ، وكانوا يفضّلون أسلحة الفنّ الأسود (السّحر) على القتال السّافر ، والمبارزة في ساحة الحرب» «1».
(1/213)
وسيأتي في قصّة غزوة خيبر محاولة دسّ السّمّ في شاة مشويّة قدّمت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم للتخلّص منه ، وسلم منه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ومات بشر بن البراء بن معرور «2».
وأمّا استخدام الكلمات المعروفة بطريقة خاصة وإرادة معانيها المستهجنة فقد جاء في القرآن : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة : 104]. أخرج أبو نعيم في (الدّلائل) عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنّ اليهود كانوا يقولون : «راعنا» سرّا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو سبّ قبيح بلسانهم ، كانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين سدّا للباب وقطعا للألسنة ، وإبعادا عن المشابهة ، ومعنى هذه الكلمة عند اليهود اسمع -
___________
(1). 981. p, malsI fo esiR ehT dna dammahuM shtuoilograM. S. D
(2) رواه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب الشاة التي سمّت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم بخيبر [برقم (4249) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب السّمّ ، برقم (2190) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري في كتاب الطب ، باب ما يذكر في سمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (5777) ، وأحمد : (2/ 451) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].

(1/253)


ص : 254
لا سمعت - وقيل : أرادوا نسبته صلى اللّه عليه وسلم - وحاشاه - إلى «الرّعن» مشتقّا من الرعونة وهي الجهل والحمق ، والألف حينئذ لمدّ الصوت «1».
(1/214)
وروى البخاريّ بسنده عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها ، قالت : كان اليهود يسلّمون على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، يقولون : «السّام عليك» «2» ويعنون به الموت ، وفي الحديث «لكل داء دواء ، إلا السّام» «3» أي : الموت ، وفي ذلك نزلت الآية : وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «4» [المجادلة : 8].
وابتلوا كذلك بانحطاط خلقيّ جنسيّ ، وتورّط فيما لا يليق بمجتمع فاضل متماسك يقوم على شريعة وتعليمات سماويّة ، تجلّى ذلك في قصة امرأة من العرب وقعت في سوق بني قينقاع ، وقد جلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده ، إلى ظهرها ، فلمّا قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه «5» ، ويبدو أنّ هذه الحادثة لم تكن فريدة من نوعها ، ويتعذّر وقوعها في أسواق العرب غالبا.
وكانت معظم معاملاتهم مع غيرهم تقوم على الرهان ، وتعاطي الرّبا ، وكانت لهم من طبيعة منطقة المدينة الزراعيّة فرصة إلى ذلك ، لأنّ الزّرّاع
___________
(1) روح المعاني : للعلامة شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي : ج 1 ، ص 348 - 349.
(2) رواه البخاري ، في كتاب الدعوات [باب الرّفق في الأمر كلّه ، برقم (6024) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام ... ، برقم (2165) من حديث عائشة رضي اللّه عنها].
(3) مجمع بحار الأنوار : ج 3 ، ص 155.
(4) راجع «روح المعاني» ، و«تفسير ابن كثير».
(5) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 48.

(1/254)


ص : 255
عادة يحتاجون إلى اقتراض الأموال لحين الحصاد «1».
(1/215)
وكانت الرّهون لا تقتصر على الرهائن الماليّة ، بل تخطّتها إلى رهن النساء والولدان ، وقد جاء في قصّة قتل كعب بن الأشرف النّضري التي رواها الإمام البخاريّ - رحمه اللّه - في صحيحه ، أنّه قال له محمد بن مسلمة : قد أردنا أن تسلفنا وسقا «2» أو وسقين ، فقال : نعم ، ارهنوني ، قالوا : أيّ شيء تريد ؟! قال : ارهنوني نساءكم ، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟! قال : فارهنوني أبناءكم ، قالوا : كيف نرهنك أبناءنا فيسبّ أحدهم فيقال : رهن بوسق أو وسقين ؟! هذا عار علينا ، ولكنّا نرهنك اللأمة «3».
ومن طبيعة هذه الرّهون خصوصا إذا كانت في الأبناء والنساء : نشوء الحقد والكراهة بين الراهنين والمرتهنين ، لا سيّما وأنّ العرب اشتهروا بالغيرة الشديدة على نسائهم وشدّة الأنفة.
وقد ترتّب على سيطرة اليهود على الجوانب الاقتصاديّة في المدينة وضواحيها أن قوي نفوذهم الماليّ ، وصاروا يتحكّمون في الأسواق تحكّما فاحشا ، ويحتكرونها لمصلحتهم ومنفعتهم ، فكرههم السواد الأعظم من الناس بسبب أنانيتهم واشتطاطهم في أخذ الرّبا ، وحصولهم على غنى وثراء بطرق يأنف العربيّ عن سلوكها والتّعامل بها «4».
___________
(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة : 79.
(2) [الوسق : مكيال معلوم ، ستّون صاعا ، والصّاع : مكيال تكال به الحبوب ونحوها ، وهو عند فلّاحي الشام : نصف المدّ الشامي ، أي : يعادل (9) لترات ].
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي ، باب «قتل كعب بن الأشرف» [برقم (4037) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب قتل كعب بن الأشراف طاغوت اليهود ، برقم (1801) ، من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ]. وقد سرد القصة ابن هشام باختلاف يسير في «السيرة النبوية» ج 2 ، ص 51.
(4) بنو إسرائيل في القرآن والسنة : ص 79.

(1/255)


ص : 256
(1/216)
ولما طبعوا عليه من الجشع ، ولسياستهم التوسعيّة ، يقول) yraeLO ycaL - eD (في كتابه «العرب قبل محمد» :
«ساءت العلاقات بين أولئك البدو (المدنيين) «1» واليهود المستعمرين في القرن السابع الميلاديّ ، فإنّهم كانوا قد وسّعوا مناطقهم المزروعة إلى مراعي هؤلاء البدو» «2».
وكانت علاقة اليهود بالأوس والخزرج - سكان المدينة العرب - خاضعة للمنفعة الشخصية والمكاسب الماديّة ، فهم يعملون على إثارة الحرب بين الفريقين ، متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ، كما حصل ذلك في كثير من الحروب التي أنهكت الأوس والخزرج ، وكان يهمّهم فقط أن تكون لهم السيطرة المالية على المدينة ، وحديثهم عن النبيّ المرتقب شجّع الأوس والخزرج على الدخول في الإسلام «3».
أمّا لغة اليهود في بلاد العرب ، فقد كانت العربية بطبيعة الحال ، ولكنّها لم تكن خالصة ، بل كانت تشوبها الرّطانة العبريّة ، لأنّهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركا تاما ، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراساتهم «4».
أمّا الجانب الدينيّ والدعويّ فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون :
«لا شكّ أنّه كان في المقدرة اليهوديّة أن تزيد في بسط نفوذها الدينيّ بين
___________
(1) المراد بهم القبائل العربية ؛ مثل الأوس والخزرج ومن جاورهم من العرب في ضواحي المدينة.
(2). 471. p 7291 nodnoL, dammahoM erofeB aibarA
(3) مستفاد من كتاب «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» للدكتور محمد سيد طنطاوي ، ج : 1 ، ص 73 إلى 101.
(4) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول : للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف ، ص 203.

(1/256)


ص : 257
(1/217)
العرب ، حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة ، ولكنّ الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأنّ الأمة الإسرائيلية لم تمل بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها ، وأنّ نشر الدعوة الدينيّة من بعض الوجوه محظور على اليهود» «1».
عجز اليهود كعادتهم أن يكيّفوا أنفسهم ومجتمعهم بالحقائق والواقع والتطوّرات الحديثة ، ويفهموا التحدّي الحديث وينتفعوا بالفرصة المتاحة ويدينوا بالإسلام ، فيأخذوا مكانهم اللّائق بثقافتهم وعقليتهم وتجاربهم والقوى المودعة فيهم ، وذلك مصير كلّ مجتمع يعيش على التاريخ ، والإدلال بالنسب والتمنّيات والأحلام المعسولة ، ورواسب الماضي والقيادات المفلسة المنهارة.
إنّ اليهود لم يستطيعوا أن يبرزوا وجودهم ، ويثبتوا صلاحيتهم وتفوّقهم كأمّة ذات رسالة وكتاب سماويّ ، وكورثة الأنبياء السابقين وذرّيتهم ، فلم يزعجهم ولم يحرّك ساكنهم ما كان عليه العرب من وثنيّة سخيفة وجاهلية منحطة ، ولم يدعوا - على الأقلّ - إلى عقيدة التوحيد التي تميّزوا بها عبر العصور والأجيال ، ورغم الانحطاط الخلقيّ ومواضع الضعف فيهم ، ولعلّ السبب الرئيسيّ هو عدم ارتياحهم إلى دعوة غير الإسرائيليين إلى دين الأنبياء ، بل امتناعهم عن ذلك عبر التاريخ - كما يقول (إسرائيل ولفنسون) وكما قالت السيدة مريم جميلة اليهودية الأمريكية سابقا ، والمهتدية إلى الإسلام : ثمّ الإخلاد إلى الراحة والانغماس في الكسب والمعيشة ، كما هي طبيعة اليهود.
ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ عددا من العرب المنتمين إلى الأوس والخزرج وغيرهما من القبائل العربية الأصيلة ، دانوا باليهودية عن رغبة منهم ، أو بتأثير
___________
(1) راجع «اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسون ، ص 72.

(1/257)


ص : 258
(1/218)
المصاهرة والزواج ، أو بحكم النشأة في البيئة اليهودية ، وقد كان في يهود العرب جميع هذه الأنواع ، وقد ثبت أنّ التاجر اليهوديّ الكبير والشاعر المشهور كعب بن الأشرف الذي يعرف بالنّضريّ كان من قبيلة «طيى ء» تزوّج أبوه في «بني النضير» ، فنشأ كعب بن الأشرف يهوديا متحمّسا. قال ابن هشام : «و كان رجلا من طيىء ، ثم أحد بني نبهان ، وكانت أمّه من بني النّضير» «1».
وكان بعض من لا يعيش له ولد من العرب ينذر ، إذا ولد له ابن وعاش هوّدوه ، وكان في المدينة عدد من العرب الذين دخلوا في اليهوديّة عن هذا الطريق.
روى الإمام أبو داود السّجستاني بسنده عن ابن عباس قال : «كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد ، أن تهوّده ، فلمّا أجليت بنو النّضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل اللّه تعالى : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة : 256]. قال أبو داود : المقلات : التي لا يعيش لها ولد» «2».
الأوس والخزرج :
تنتمي بطون الأوس والخزرج - سكّان المدينة العرب - إلى القبائل الأزدية اليمنيّة ، وكانت موجات هذه الهجرة من اليمن إلى يثرب متفرّقة في أوقات مختلفة ، وكانت لعوامل متعدّدة ، منها اضطراب أحوال اليمن وغزو الأحباش ، وإهمال أمر الإرواء ، بخراب سدّ «مأرب».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ؛ ص 51.
(2) راجع : سنن أبي داود ، كتاب الجهاد ، باب «في الأسير يكره على الإسلام» [برقم (2682)].

(1/258)


ص : 259
وعلى هذا فالأوس والخزرج أحدث عهدا في المدينة من اليهود «1».
وقد سكنت بطون الأوس في المنطقة الجنوبية والشرقية ، وهي منطقة العوالي من يثرب ، بينما سكنت بطون الخزرج المنطقة الوسطى الشمالية ، وهي سافلة المدينة ، وليس وراءهم شيء في الغرب إلى خلاء حرة الوبرة «2».
(1/219)
وانقسم أمر الخزرج إلى أربعة أبطن ، وهم : مالك ، وعديّ ، ومازن ، ودينار ، كلّها من بني النجّار المعروف ب «تيم اللات» ، وقد سكنت بطون بني النجار في المنطقة الوسطى التي حول مسجد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.
وقد سكن الأوس المناطق الزراعية الغنية في المدينة ، وجاوروا أهمّ قبائل اليهود وجموعهم ، واستوطن الخزرج مناطق أقلّ خصبا ، وقد جاورهم قبيلة يهوديّة كبيرة واحدة ، وهي «القينقاع» «3».
ليس من السّهل الحصول الآن على إحصاء دقيق عن عدد رجال الأوس والخزرج ، ولكنّ الباحث المتتبع للحوادث يستطيع تحديد قوّتهم الحربية من المعارك التي خاضوها بعد الهجرة ، فقد بلغ عدد محاربيهم في يوم فتح مكة أربعة آلاف مقاتل «4».
وكان العرب في وقت الهجرة النبويّة أصحاب الكلمة العليا في يثرب ، وبيدهم كان توجيه الأمور بها ، ولم يستطع اليهود مقابل ذلك أن يجمعوا كلمتهم ، ويقفوا صفّا واحدا في وجه خصومهم ، فتفرّقت بطونهم ، ودخل
___________
(1) راجع «مكة والمدينة» ؛ ص 315 - 316.
(2) مكة والمدينة : ص 311.
(3) المصدر السابق : ص 313.
(4) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع : لتقي الدين أبي محمد المقريزي ، ج 1 ، ص 364 (طبع القاهرة 1941 م).

(1/259)


ص : 260
بعضها في محالفات مع الأوس ، ودخل بعضها في محالفات مع الخزرج ، وكانوا في القتال أقسى على بني جنسهم من العرب ، واستحكم عداء بين بني القينقاع وبني النّضير وبني قريظة ، جعل بني قينقاع يتركون أرضهم وزرعهم ، ويقتصرون على الصناعة «1».
(1/220)
ووقعت كذلك بين الأوس والخزرج حروب كثيرة ، أوّلها حرب سمير ، وآخرها بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات «2». وقد عمل اليهود بجانبهم على الدسّ بين الأوس والخزرج وتشجيع عوامل الفرقة ، وإذكاء روح التحاسد ، حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم «3» ، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم ب «الثعالب».
الوضع الطبيعيّ :
كانت يثرب عند الهجرة النبويّة منقسمة إلى عدّة دوائر ، تسكنها بطون عربيّة ويهوديّة ، وكل دائرة تابعة لبطن من البطون ، وكانت الدائرة تنقسم إلى قسمين : يشتمل القسم الأول على الأراضي الزراعيّة بمنازلها وسكانها ، ويشتمل القسم الثاني على الأطم «4» أو الآطام «5».
وقد بلغ عدد آطام اليهود في يثرب تسعة وخمسين أطما «6» ، ويقول الدكتور ولفنسون في وصف هذه الآطام :
___________
(1) مكة والمدينة : ص 322.
(2) المصدر السابق : ص 322 - 323.
(3) راجع القصة التي رواها ابن هشام : ج 1 ، ص 555.
(4) [الأطم جمعه : الآطام : وهو الحصن ، انظر تفسيره في الصفحة القادمة].
(5) مستفاد من كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب» للدكتور إسرائيل ولفنسون ، ص 116.
(6) وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى (صلى اللّه عليه وسلم) : للسمهودي ، ج 1 ، ص 116.

(1/260)


ص : 261
«كانت أهمية الآطام عظيمة في يثرب ، فكان يفزع إليها أفراد البطن عند هجوم العدوّ ، ويأوي إليها النساء والأطفال والعجزة ، حين يذهب الرجال لمقاتلة الأعداء ، وقد كانت الآطام تستعمل كالمخازن تجمع فيها الغلال والثّمار ، ذلك أنّها كانت معرضة في أماكنها المكشوفة للنّهب والسلب ، وكان الأطم مربعا لكنز الأموال والسّلاح ، وكان للقوافل المثقلة بالبضائع أن تنزل بالقرب منه ، كما كانت تقام على أبوابه الأسواق.
(1/221)
وكانت الآطام تشتمل - كما نظنّ - على المعابد وبيوت «المدراس» ، إذ كانت فاخرة الأثاث ، كثيرة الأدوات ، مملوءة بالأسفار ، فكان يجتمع فيها الزّعماء للبحث والمشاورة حيث يقسمون بالكتب المقدّسة ، حين يهمّون بإبرام العقود والاتفاقات» «1».
ويقول الدكتور (ولفنسون) في تفسير كلمة «أطم» : «أنّها مأخوذة من اللغة العبريّة ، فيقال أطم عينيه : أغمضهما ، وأطم أذنيه : سدّهما ، والأطم في الجدران والحيطان : هي النوافذ المغلقة من الخارج ، والمفتوحة من الداخل ، ويستعمل في السّور أي الحائط الضخم».
يقول الدكتور :
«و على ذلك يمكننا أن نفترض أنّ اليهود أطلقوا على الحصن اسم أطم ، لأنّه كان في إمكانهم أن يغلقوا أبوابه ، وإن كانت له نوافذ من الخارج وتفتح من الداخل» «2».
ومن هذه الأحياء والدّوائر المحصّنة كانت تتكوّن مدينة (يثرب) ، فهي
___________
(1) اليهود في بلاد العرب : ص 116 - 117.
(2) المصدر السابق : ص 117.

(1/261)


ص : 262
في الحقيقة مجموعة من القرى تقاربت وتجمّعت ، فتكوّنت منها المدينة ، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله :
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر : 7]. وبقوله :
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «1» [الحشر : 14].
و(حرّة واقم) التي تحدّ المدينة من الشّرق ، كانت حرة أكثر عمرانا من الوبرة ، وحين هاجر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى يثرب ، كانت حرة واقم مسكونة بأهمّ قبائل اليهود من بني النّضير وقريظة ، وعدد من عشائر اليهود الآخرى ، كما كانت تسكنها أهمّ البطون الأوسيّة بنو عبد الأشهل ، وبنو ظفر ، وبنو حارثة ، وبنو معاوية ، وفي منازل بني الأشهل كان يقوم حصنهم واقم ، الذي سمّيت الحرة باسمه «2».
الحالة الدينيّة والمكانة الاجتماعيّة :
(1/222)
كان العرب تابعين لقريش وأهل مكة في العقيدة والديانة ، ينظرون إلى قريش كسدنة للبيت ، وقادة في الدين ، وقدوة في الاعتقاد والعبادة ، خاضعين للوثنيّة السائدة على جزيرة العرب ، يعبدون من الأصنام ما تعبدها قريش وأهل الحجاز ، إلّا أنّ علاقتهم ببعض الأصنام كانت أقوى من علاقتهم ببعضها.
فكانت «مناة» لأهل المدينة ، وكانت أقدم الأصنام ، وكان الأوس والخزرج أشدّ إعظاما لها من غيرهم ، وكانوا يهلّون لها شركا باللّه تعالى ، وكانت حذو «قديد» الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل.
___________
(1) مكة والمدينة : ص 294.
(2) منزل الوحي : للدكتور محمد حسين هيكل ، ص 577.

(1/262)


ص : 263
كما كانت اللّات لأهل الطائف ، و«العزّى» لأهل مكّة ، وكان أهل هذه المدن أكثر تعصّبا وحميّة لها من غيرها ، وكان من اتّخذ في داره صنما من أهل المدينة من خشب أو غيره يسمّيه «مناة» أيضا ، كما فعل ذلك عمرو بن الجموح سيّد من سادات بني سلمة قبل أن يسلم «1».
وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عروة عن عائشة في تفسير قوله تعالى : * إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة : 158]. قالت : إنّ الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون «لمناة» الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا :
يا رسول اللّه إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بالصّفا والمروة في الجاهليّة ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : * إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «2» [البقرة : 158].
(1/223)
ولم نطّلع على صنم لهم خاصّ في المدينة اشتهر كاللّات ومناة ، والعزّى ، أو كهبل ، يعكفون على عبادته ، ويشدّ إليه الرّحال من خارج المدينة ، ويبدو أنّ الأصنام لم تنتشر في المدينة انتشارها في مكّة ، فقد كان لكلّ بيت في مكة صنم خاصّ ، وكانت الأصنام يطاف بها وتباع ، فكانوا في الوثنيّة عيالا على أهل مكة وأتباعا لهم.
وكان لأهل (المدينة) يومان يلعبون فيهما ، فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم المدينة
___________
(1) مستفاد من «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للعلامة السيد محمود شكري الآلوسي ؛ ج 1 ، ص 346 ، ج 2 ، ص 208.
(2) [أخرجه البخاري في كتاب العمرة ، باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحجّ ، برقم (1790) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب بيان أنّ السّعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلّا به ، برقم (1277) ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب أمر الصفا والمروة ، برقم (1901) ، والترمذي في تفسير القرآن ، برقم (2965) ، وأحمد (6/ 144 - 162)].

(1/263)


ص : 264
قال لهم : «قد أبدلكم اللّه تعالى بهما خيرا منهما ، يوم الفطر والأضحى» «1» ، وقد ذكر بعض شرّاح الحديث أنّهما النّيروز والمهرجان ، وكأنّهم أخذوهما من الفرس «2».
وكانت قريش تعترف بشرف الأوس والخزرج ، وهم بنو قحطان العرب العاربة ، وكانوا يصاهرونهم ، ويتزوّجون فيهم ، وقد تزوّج هاشم بن عبد مناف وهو سيد قريش في بني النجّار ، تزوّج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عديّ بن النّجار ، وهم من الخزرج إلا أنّهم كانوا يرون لأنفسهم فضلا عليهم ، وقد قال عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة الذين دعوا إلى المبارزة يوم بدر ، فخرج إليهم فتية من الأنصار فقالوا : من أنتم ؟
قالوا : رهط من الأنصار.
قالوا : ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم : يا محمد! أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
(1/224)
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ ، فلمّا قاموا ودنوا منهم ، وسمّوا أنفسهم ، قالوا : نعم أكفاء كرام «3».
وكانوا ينظرون إلى الفلاحة التي كان يمارسها أهل المدينة بحكم طبيعة أرضهم ولاعتمادهم عليها في معاشهم نظرة فيها شيء من الاحتقار ، وقد تجلّت هذه النظرة في الكلمة التي قالها أبو جهل وهو عقير ، قد قتله ابنا عفراء
___________
(1) [أخرجه أبو داود في كتاب الصّلاة ، باب صلاة العيدين ، برقم (1134) ، والنّسائي في كتاب صلاة العيد ، برقم (1556) ، والبيهقي في السّنن ، (ج 3/ 277) وغيرهم من حديث أنس رضي اللّه عنه ].
(2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
(3) ابن هشام : ج ، ص 625.

(1/264)


ص : 265
وهما من الأنصار ، وقد أدركه عبد اللّه بن مسعود وبه رمق «لو غير أكّار «1» قتلني» «2».
الحالة الاقتصادية والحضارية :
كانت مدينة يثرب بطبيعتها منطقة زراعيّة ، وكان أكثر اعتماد أهلها على الزّراعة والبساتين ، وكان من أهمّ حاصلاتها التّمر والعنب ، فكانت فيها جنّات النّخيل والأعناب «3» ، وجنّات معروشات وغير معروشات ، وزروع ونخيل صنوان وغير صنوان «4» ، ومن الزّروع الحبوب والبقول ، وكان التمر وخاصة أيام الجدب ، وتخلف الأمطار ، يسدّ كثيرا من حاجة السكان الغذائية ، وكان كعملة يتبادل بها أهلها عند الحاجة ، وكانت النّخيل مصدر خيرات كثيرة في حياتهم ، فكانوا يستخدمونه في الغذاء ، والبناء ،
___________
(1) قال العلامة محمد طاهر الفتني في «مجمع بحار الأنوار» (1/ 68) : أي الزّراع والفلّاح : وهو عند العرب ناقص يعرّض بأنّ ابني عفراء من الزراع ، فلو غيرهما قتلني لم يكن عليّ نقص [أراد به احتقاره وانتقاصه ، كيف مثله يقتل مثله ].
(1/225)
(2) [أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي برقم (4020) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب قتل أبي جهل ، برقم (1800) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(3) اقرأ حديث أبي طلحة في بيرحاء الذي رواه الشيخان : وكانت بساتين ملتفة الأغصان والأوراق حتى يدخل فيها الدبسي - وهو طائر صغير - فلا يكاد يخرج منها ، جاء في قصة أبي طلحة الأنصاري : أنه كان يصلّي في حائط له ، فطار دبسي : فطفق يتردّد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك ، فجعل يتبعه بصره ساعة ، إلى قصة تصدقه بهذا الحائط بسبب الفتنة التي فتن بها ، أخرجه مالك في موطّئه [في كتاب الصدقة ، باب الترغيب في الصدقة ، برقم (1926) ، والبخاري في كتاب الزكاة ، باب الزكاة على الأقارب ، برقم (1461) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج ، برقم (2312) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، في تفسير سورة آل عمران ، برقم (2997).
(4) راجع سورة الأنعام وسورة الرعد.

(1/265)


ص : 266
والصناعة ، والوقود ، وعلف الدوابّ «1».
ولتمر المدينة أنواع كثيرة ، وتفاصيل دقيقة تصعب الإحاطة بها «2».
ولأهل المدينة تجارب وطرق في تنمية حاصل النخيل وتحسينه استفادوها من طول المراس ، منها تأبير النخل «3».
هذا لا ينفي وجود حركة تجارية في المدينة ، ولكنّها لم تكن في القوّة والانتشار بمكانة الحركة التجارية في مكة ، إذ كان اعتماد أبناء الوادي - وهي غير ذي زرع ومياه وفيرة - على التّجارة ورحلة الشّتاء والصّيف.
وكانت في المدينة بعض الصّناعات يمارس أكثرها اليهود ، ولعلّهم جلبوها من اليمن ، فلم يزالوا فيه إلى أن غادروه في الزمن الأخير ، حاذقين في الصناعات ، وكان عامة بني قينقاع صاغة ، وكانوا أغنى طوائف اليهود في مدينة يثرب ، وكانت بيوتهم تحتوي على الأموال الطائلة ، والحليّ الكثيرة من الفضّة والذهب ، مع أنّ عددهم كان غير كثير «4».
(1/226)
وقد منح اللّه أرض يثرب ، وهي بركانية التربة ، خصبا زائدا ، وهي ذات
___________
(1) اقرأ شرح الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (في كتاب العلم ، وترجم له : «باب طرح الإمام المسألة على الناس ليختبر ما عندهم من العلم») [برقم (61)] في «فتح الباري» ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ، أو «عمدة القاري» للعيني [و أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب مثل المؤمن مثل النخلة ، برقم (2811)].
(2) تدلّ الثروة اللغوية الكبيرة التي تدور حول النخلة والتمر ، على ما كانت تشغله هذه الشجرة وثمرتها من مكان في حياة العرب عامة وأهل المدينة خاصة ، وما كان لهما من أهمية ، راجع على سبيل المثال «أدب الكاتب» لابن قتيبة و«فقه اللغة» للثعالبي ، و«المخصّص» لابن سيده ؛ وقد أفرد عدد من العلماء كتبا للنخل.
(3) التأبير : هو أن يشقّ طلع النخلة ليذر فيه شيء من طلع ذكر النخل ، (شرح مسلم للنووي).
(4) اليهود في بلاد العرب : ص 128.

(1/266)


ص : 267
وديان كثيرة ، تفيض بمياه السيول ، فتروي أرضها وتسقي النخل والزروع ، اشتهر منها وادي العقيق «1» ، الذي كان متنزّه المدينة ، وكان يتدفّق بالماء ، ويزهو بالبساتين ، وكانت الأرض صالحة لحفر الآبار ، وقد كثرت فيها البساتين ، ومنها ما هو مسوّر ويسمّيه أهل المدينة «الحائط» «2».
واشتهرت آبار كثيرة بعذوبة الماء ووفرته ، وكانت لهم شراج «3» ، وكانوا يحوّلون الماء بالمساحي إلى حدائقهم «4».
وكان من الحبوب الرئيسيّة الشعير ، ثم القمح ، وتكثر الخضراوات والبقول ، وكانت لهم طرق في المزارعة ، والمؤاجرة ، والمزابنة ، والمحاقلة ، والمخابرة ، والمعاومة ، منها ما أقرّه الإسلام ومنها ما منعه أو أصلحه «5».
___________
(1) اقرأ «معجم البلدان» لياقوت الحموي ؛ و«الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني.
(1/227)
(2) اقرأ قصة ابتلاء كعب بن مالك في الجامع الصحيح للبخاري (كتاب المغازي) وقد جاء فيه : «حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمّي» [انظر تخريجه المفصّل في هذا الفصل ، ص 492].
(3) الشرجة : هي مسيل الماء.
(4) اقرأ حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم ، وجاء فيه : «اسق حديقة فلان» ، وجاء فيه ذكر الشراج ، وتحويل الماء بالمسحاة [أخرجه مسلم في كتاب الزهد ، باب فضل الإنفاق على المساكين وابن السبيل ، برقم (2984) ، وابن حبان في الصحيح (8/ 142) برقم (3356) ، وأحمد في المسند (2/ 296)].
(5) اقرأ أبواب الحرث والمزارعة في الصحاح : و«المزابنة» : بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا ، و«المحاقلة» : بيع الزرع في سنبله ، الشعير بشعير كيلا ، والقمح بقمح كيلا ، و«المخابرة» و«المزارعة» متقاربتان ؛ وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع ؛ كالثلث ، والربع ، لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض ، وفي المخابرة يكون البذر من العامل ، وقال جماعة من أهل اللغة : هما بمعنى ، وفي صحة المزارعة والمخابرة خلاف مشهور للسلف والخلف ؛ (مستفاد من شرح النووي لمسلم). «و المعاومة» : هو بيع السنين ، ومعناه : أن يبيع ثمر الشجرة عامين ؛ أو ثلاثة أو أكثر.

(1/267)


ص : 268
وكانت العملة في مكة والمدينة واحدة ، وقد شرحناها ص (142 - 143).
وكانت المدينة تعتمد على المكاييل ، وتحتاج إليها أكثر من مكة ، لاعتماد أهلها على الحبوب والثّمار «1» ، وكانت الأكيال المستعملة في المدينة هي المدّ والصّاع والفرق والعرق والوسق «2».
أمّا الأوزان المستعملة فهي الدرهم والثقاف والدّانق والقيراط والنّواة والرّطل والقنطار والأوقيّة «1».
(1/228)
ولم تكن المدينة - على خصبها - مكتفية غذائيا ، فكان أهلها يستوردون بعض المواد الغذائية من الخارج ، وكانوا يجلبون دقيق الحوار والسمن والعسل ، من الشام. قد جاء في حديث رواه الترمذيّ عن قتادة بن النعمان - رضي اللّه عنه - : «كان الناس إنّما طعامهم بالمدينة ، التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة «3» ، من الشام من الدرمك «4» ، ابتاع الرجل منها فخصّ بها نفسه ، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التمر والشعير «5» ، والقصة تلقي ضوءا على الحالة الغذائيّة في المدينة - التي لم
___________
(1) لذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «الميزان ميزان أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة» (رواه أبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر ، وصححه ابن حبان ، والدارقطني).
(2) راجع للتفصيل والتقدير شروح كتب الحديث وكتب الخلاف ، انظر لمقاديرها «التراتيب الإدارية» ج 1 ، ص 413 - 415.
(3) الضافطة : قال الفتني : «الضافطة» و«الضفاط» من يجلب الميرة والمتاع إلى المدن ؛ وكانوا قوما من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما ، (مجمع بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 410 ؛ طبع حيدرآباد - الهند).
(4) «الدرمك» : الدقيق الحوارى ؛ واحده : «الدرمكة».
(5) انظر تفسير قوله تعالى : وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً [النساء : 107]. الآيات في جامع الترمذي [أبواب تفسير القرآن ، تفسير سورة النساء ، رقم الحديث (3036)].

(1/268)


ص : 269
تحدث بعد الهجرة فجأة - وعلى المستويات المختلفة في المعيشة.
(1/229)
وكان اليهود - كما عرف من طبيعتهم وتاريخهم في كلّ بلد - أكثر غنى من العرب ، وكان العرب بطبيعتهم العربيّة البدويّة ، لا يفكّرون في المستقبل كثيرا ، فيوفّرون له المال ، وكانوا أهل ضيافة وكرم ، يضطرون إلى الاستدانة من اليهود ، وكثيرا ما تكون هذه الاستدانة بالربا والرهن.
وكان لأهل المدينة ثروة من الإبل والبقر والأغنام ، ويستخدمون الإبل في إرواء الأراضي ويسمّونها ب «الإبل النواضح» ، وكانت لهم مراع اشتهرت منها «زغابة» و«الغابة» ، يحتطب منها الناس ، ويرعون فيها ماشيتهم «1» وكانت لهم خيل يستخدمونها في الحروب وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مكة.
وكان بنو سليم مشهورين باقتناء الخيل ، يجلبونها من الخارج.
وكانت في المدينة عدّة أسواق ، أهمّها «سوق بني قينقاع» مركز بيع الحلي والمصوغات الذهبيّة ، وكانت سوق للبزازين ، وتوجد في المدينة المنسوجات القطنية والحريرية ، والنّمارق الملونة والسّتور المرسومة «2».
وكان عطّارون يبيعون أنواع العطور والمسك ، وكان يوجد من يتّجر في العنبر والزّئبق «3».
وكانت أنواع من البيع منها ما أقرّه الإسلام ، ومنها ما منعه ، مثل
___________
(1) راجع «معجم البلدان» لياقوت الحموي ، و«وفاء الوفا» للسّمهودي.
(2) اقرأ حديث عائشة الذي [أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم تصوير .. برقم (2107) وغيره ] وقد جاء فيه ذكر القرام» قال الفتني : هو ستر رقيق وقيل صفيق من صوف ذي ألوان ، قيل : ضربته مثل حجلة العروس ، وقيل : وكان مزينا منقشا ، (مجمع بحار الأنوار : ج 4 ، ص 258).
(3) راجع «التراتيب الإدارية» للعلامة عبد الحي الكتاني (القسم التاسع).

(1/269)


ص : 270
(1/230)
النّجش «1» والاحتكار ، وتلقي الرّكبان «2» خارج المدينة ، وبيع المصرّاة «3» ، والبيع بالنّسيئة «4» ، وبيع الحاضر للبادي ، وبيع المجازفة «5» ، وبيع المزابنة «6» ، والمخاضرة «7» «8» ، وكان من الأوس والخزرج من يتعامل بالرّبا ، وإن كان ذلك نادرا بالنسبة إلى اليهود.
وقد توسّعت الحياة في المدينة بعض التوسّع ، ورقت بحكم طبيعة أهلها ، فكانت البيوت ذات طبقات «9» ، وكانت لبعض البيوت حدائق ، وكانوا يستعذبون الماء ، وقد يأتون به من بعيد ، وكانت توجد كراس «10» ، وكانت تستعمل أقداح من زجاج وأقداح من الحجارة ، وسرج منوّعة «11» ، وكانوا يستخدمون المكاتل والقفف في أعمال المنزل والزراعة ، وكان للأغنياء شيء كثير من الأثاث لبيوتهم ، خصوصا اليهود ، وكانت أنواع من
___________
(1) [النّجش : الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع ، لا ليشتريها بل ليغرّ بذلك غيره ].
(2) [الرّكبان : الذين يجلبون إلى البلد الأرزاق للبيع ، وسواء كانوا ركبانا أو مشاة ، جماعة أو واحدا].
(3) [المصرّاة : الدّابّة الحلوب حبس لبنها في ضرعها ، ليوهم المشتري كثرة اللبن ].
(4) [النّسيئة : التأخير ، يقال : باعه بنسيئة].
(5) [المجازفة : هي بيع الشيء لا يعلم كيله أو وزنه ].
(6) [المزابنة : وهي بيع الرّطب في رؤوس النّخل بالتّمر ، وأصله من الزّبن ، وهو الدفع ، كأن كلّ واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقّه بل يزاد منه ، وإنما نهي في الحديث عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة].
(7) [المخاضرة : هي بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها].
(8) انظر أبواب البيع في كتب الحديث والفقه ؛ وأحكامها من الحل والحرمة.
(9) انظر حديث الهجرة ، ونزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت أبي أيوب رضي اللّه عنه [في صحيح مسلم ، برقم (2053)].
(10) التراتيب الإدارية : ج 1 ، ص 97.
(11) المصدر السابق : ج 1 ، ص 104.
(1/231)

(1/270)


ص : 271
الحلي كالأساور ، والدمالج ، والخلاخيل ، والأقرطة ، والخواتم ، والعقود من الذهب أو من جزع ظفار «1» ، وكان الغزل والنسيج فاشيين في النساء ، فكانت الخياطة والدباغة وعمل بناء البيوت ، وضرب الطوب ، والنحت ، من الصناعات التي عرفت في المدينة قبل الهجرة.
الوضع المعقد الذي واجهه الرسول صلى اللّه عليه وسلم في مدينة يثرب :
وهكذا لم ينتقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرون من مدينة - مكة - إلى قرية - يثرب - بل انتقل من مدينة إلى مدينة ، وإن كانت هي الآخرى تختلف عن الأولى في مظاهر كثيرة للحياة ، وكانت أصغر منها نسبيا ، ولكنّ الحياة فيها كانت أكثر تعقّدا ، والقضايا التي سيواجهها الرسول أكثر تنوّعا ، لوجود ديانات وبيئات وثقافات مختلفة ، لا يتغلّب عليها ولا يصهر المدينة كلّها في بوتقة عقيدة واحدة ، ودعوة واحدة إلا الرسول المؤيد من اللّه ، الذي أعطاه اللّه الحكمة وفصل الخطاب ، وقوّة الجمع بين الأنماط البشرية الكثيرة ، والقوى المتصارعة والأهواء المتعاكسة ، وألقى عليه محبة منه ، وصدق اللّه العظيم :
هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال : 62 - 63]
___________
(1) اقرأ حديث عائشة في قصة الإفك الذي رواه البخاري في كتاب المغازي [باب حديث الإفك ، برقم (4141) ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك ، برقم (2770) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 295) ، برقم (8931) ، وعبد الرزاق في المصنّف (5/ 410) برقم (9748)]. و«الجزع» : خرز فيه سواد وبياض ؛ و«ظفار» : مدينة باليمن.

(1/271)


ص : 272
(1/232)
خريطة أثرية تقريبية للمدينة المنورة

(1/272)


ص : 273
مساكن القبائل الهامة ومواقع الغزوات الإسلامية

(1/273)


ص : 275
في المدينة
كيف استقبلت المدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟
سمع الأنصار بخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكّة ، فكانوا يخرجون كلّ يوم إذا صلّوا الصبح إلى ظاهر المدينة ، ينتظرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما يبرحون حتّى تغلبهم الشمس على الظّلال ، فيدخلون بيوتهم ، وكان الزمن زمن صيف وحرّ.
وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دخل الناس البيوت ، وكان اليهود يرون ما يصنع الأنصار ، وكان أول من رآه رجل من اليهود ، فصرخ بأعلى صوته ، وأخبر الأنصار بقدوم رسول اللّه ، فخرجوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في ظلّ نخلة ، ومعه أبو بكر - رضي اللّه عنه - في مثل سنّه - وأكثرهم لم يكن رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ذلك ، وازدحم الناس ، ما يميّزون بينه وبين أبي بكر ، وفطن لذلك أبو بكر ، فقام يظلّه بردائه فانكشف للناس الأمر «1».
واستقبلهما زهاء خمسمئة من الأنصار ، حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار : انطلقا آمنين مطاعين.
أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم ، فخرج أهل المدينة حتّى إنّ العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن : أيّهم هو ؟ أيّهم هو ؟ ، يقول أنس
___________
(1) ابن هشام : ج 1 ، ص 492 [حديث الهجرة : أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب هجرة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (3906)].

(1/275)


ص : 276
- رضي اللّه عنه - : فما رأينا منظرا شبيها به «1».
(1/233)
وخرج الناس حين قدما المدينة في الطّرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون : اللّه أكبر! جاء رسول اللّه ، اللّه أكبر! جاء محمّد ، اللّه أكبر! جاء محمد ، اللّه أكبر! جاء رسول اللّه «2».
ويقول البراء بن عازب - وكان حديث السّنّ - : قدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن : قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3»
وكبّر المسلمون فرحا بقدومه ، وما فرحوا لشيء في حياتهم كفرحهم بقدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وكانت المدينة باسمة الثّغر ، ترفل في حلل الفرح والفخر ، وكانت بنات الأنصار ينشدن «4» في سرور ونشوة : [من مجزوء الرمل ]
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب مقدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المدينة ، برقم (3932) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب ابتناء مسجد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب بناء المساجد ، برقم (453) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(2) [أخرجه البخاري في مناقب الصحابة ، باب مناقب المهاجرين ، برقم (3652)].
(3) رواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب مقدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة [برقم (3652)].
(1/234)
(4) ابن كثير ج/ 2 ، ص/ 269 ، رواه البيهقي بسنده عن ابن عباس وعائشة ، روى ابن القيم البيتين الأولين عند عودة النبي صلى اللّه عليه وسلم من تبوك إلى المدينة ، وخروج الناس لتلقيه ، قال : «و بعض الرواة يتوهم وهما ظاهريا ، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام» (زاد المعاد ج/ 2 ص/ 101). ولكنّ المشهور المستفيض أنّ هذا النشيد إنما كان عند مقدمه من مكة إلى المدينة ، وعلى ذلك تكاد تتفق كتب السيرة ، وفي الأبيات شواهد داخلية على أنها كانت عند مقدمه الأول -

(1/276)


ص : 277
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشّكر علينا ... ما دعا للّه داع
أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
يقول أنس بن مالك الأنصاريّ - وهو غلام يومئذ - : شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فما رأيت يوما قطّ ، كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا «1».
مسجد قباء وأول جمعة في المدينة :
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ب «قباء» أربعة أيام ، وأسّس مسجدا هناك ، وخرج يوم الجمعة ، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف ، فصلّاها في مسجدهم ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة «2».
___________
(1/235)
- إلى المدينة ، فإن روح الفرح والحماس التي تسيطر على هذه الأبيات تنطق بأنها قيلت وأنشدت عند الطلعة الأولى. وقد تعدّدت الثنيات في المدينة ، فلا مانع من أن يكون القادم من مكة يمر بثنية الوداع الواقعة في مدخل المدينة ، فكان المدرج الذي ينزل منه إلى بئر عروة بالجنوب الغربي بالمدينة يسمى بثنية الوداع أيضا. يقول الشيخ عبد القدوس الأنصاري في كتاب «آثار المدينة المنورة» (ص 160) : «و كما أنّ أهل المدينة كانوا يودّعون المسافر إلى جهة مكة من الثنية الواقعة بطريق مكة ، ويحق لكل من الثنيتين بهذا النظر أن تسمّى ثنية الوداع لقيام معنى الثنية الذي هو الطريق في الجبل والوداع بكل منهما ولاشتراكهما فيه ، فكلتاهما مركز لتوديع المسافرين ويقول : «و يوافقنا العباسي في تاريخه للمدينة على هذا الرأي ، وهي ثنية الوداع التي تشرف على وادي العقيق ، وتحيط به الحرة من كل جانب».
(1) أخرجه الدارمي [1/ 41 ، وأحمد (3/ 122) ، والحاكم (3/ 12) عن أنس رضي اللّه عنه بسند صحيح ].
(2) ابن هشام : ج 1 ، ص : 494 [و أخرجه الطبراني ، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 62 - 63) : رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات ].

(1/277)


ص : 278
في بيت أبي أيوب الأنصاريّ :
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة والناس يتلقّونه في الطريق أرسالا ، ويطلبون منه الإقامة عندهم ، ويقولون : أقم عندنا في العدد والعدد والمنعة ، ويمسكون بزمام النّاقة ، فيقول : «خلّوا سبيلها ، فإنّها مأمورة» ووقع ذلك مرارا.
ولمّا مرّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بحيّ من بني النجّار إذا جوار يضربن بالدفوف ويقلن :
[من الرجز]
نحن جوار من بني النّجار ... يا حبّذا محمّد من جار
حتّى إذا أتى دار بني مالك بن النجّار ، بركت على مكان فيه باب المسجد النبويّ اليوم ، وهو يومئذ مربد «1» لغلامين يتيمين من بني النجّار ، وهم أخواله صلى اللّه عليه وسلم.
(1/236)
ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الناقة ، فاحتمل أبو أيوب - خالد بن زيد النجاريّ الخزرجيّ - رحله ، فوضعه في بيته ، ونزل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبالغ أبو أيوب في ضيافته وإكرامه ، ونزل في السّفل من البيت ، وكره أبو أيوب وأعظم أن يكون في العلوّ ، فطلب منه أن يكون هو صلى اللّه عليه وسلم في العلوّ ، ويكون هو - رضي اللّه عنه - وعياله في السفل ، فقال : «يا أبا أيوب! إنّ أرفق بنا وبمن معنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت».
___________
(1) ابن كثير : ج 2 ، ص 274 [و أخرجه ابن ماجه في أبواب النكاح ، باب الغناء والدف ، برقم (1899) ، والطبراني في الصغير (ج 1/ ص 65) برقم (78) ، وأبو يعلى في مسنده (ج 6/ 134) برقم (3409) من حديث أنس رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 42) : رواه أبو يعلى من طريق رشيد عن ثابت ، ورشيد هذا قال عنه الذهبي : مجهول ].

(1/278)


ص : 279
ولم يكن أبو أيوب الأنصاريّ من الموسرين ، لكنّه كان عظيم الفرح بنزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته ، كبير الاعتداد والشكر لهذه الكرامة التي أكرمه اللّه بها.
والحبّ يلهم من أساليب الراحة وطرائق الخدمة ، ما لا يلهمه شيء آخر ، يقول أبو أيوب : وكنّا نصنع لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العشاء ، ثمّ نبعث إليه ، فإذا ردّ علينا فضله تيممت أنا وأمّ أيوب موضع يده ، فأكلنا منه ، نبتغي بذلك البركة ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفل البيت وكنّا فوقه في المسكن ، فلقد انكسر حبّ «1» لنا فيه ماء ، فقمت أنا وأمّ أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ، ننشّف بها الماء ، تخوّفا أن يقطر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه شيء فيؤذيه «2».
بناء المسجد النبويّ والمساكن :
(1/237)
ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغلامين - صاحبي المربد - «3» فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول اللّه ، فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقبله منهما هبة ، حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا «4».
___________
(1) الحبّ : الجرّة (القاموس : حبب).
(2) رواه ابن إسحاق بسنده عن أبي أيوب (ابن كثير ج 2 ، ص 227) [و أخرجه مسلم في كتاب الأشربة ، باب إباحة أكل الثوم ... ، برقم (2053) ، والترمذي في أبواب الأطعمة ، باب ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل ، برقم (1807) ، وأحمد في مسنده (5/ 94 - 95) ، والبيهقي في «الدلائل» (10/ 509 - 510) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه ].
(3) المربد : الموضع الذي يجفّف فيه التمر.
(4) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب مقدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، [برقم (3932) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب ابتناء مسجد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب في بناء المساجد ، برقم (454) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].

(1/279)


ص : 280
وعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بناء المسجد ، فكان ينقل اللّبن ، واقتدى به المسلمون ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :
اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره «1»
وكان المسلمون مسرورين سعداء ، ينشدون الشعر ، ويحمدون اللّه تعالى.
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر «2» ، حتّى بني له مسجده ومساكنه ، فانتقل إلى مساكنه.
وتلاحق المهاجرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد ، إلّا مفتون ، أو محبوس ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها «3».
(1/238)
كان من الإصلاحات والتطويرات المباركة - وإن كانت لفظية واسمية - تغيير اسم المدينة ، فقد كان اسم المدينة المنوّرة القديم «يثرب» ومعناه ذميم يتشاءم به ، لأنّ الثّرب فساد في كلام العرب ، والتثريب هو اللوم والتعيير «4» ، وكان اسما شائعا تقصد وتعرف به هذه المدينة ، وقد قال اللّه تعالى :
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب : 13].
وقد ورد في حديث صحيح أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غيّر اسمها من يثرب إلى
___________
(1) ابن كثير : ج 2 ، ص 251 [و قد سبق تخريجه في صفحة (279) حاشية (4) من حديث أنس بن مالك وأبي بكر رضي اللّه عنهما].
(2) ابن كثير : ج 2 ، ص 279 ، وهو في رواية الواقدي عند أبي سعد ، وجزم به ابن حجر في الفتح ، وقال ابن إسحاق : أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة ، حتى بني له فيها مسجده ومساكنه ، وحينئذ تكون إقامته صلى اللّه عليه وسلم عند أبي أيوب أكثر من عشرة أشهر.
(3) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 499 - 500.
(4) لسان العرب للعلامة ابن منظور ، مادة «ثرب».

(1/280)


ص : 281
«المدينة» ، ونهى عن استخدام اسمها القديم ، وقال : «هي طابة» «1» ، وورد في صحيح البخاري قوله صلى اللّه عليه وسلم : «هذه طابة» «2».
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : «من قال للمدينة يثرب فليستغفر اللّه ثلاثا إنّما هي طيبة» «3».
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار :
وآخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، وكان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين ، حتّى يؤول الأمر إلى الاقتراع ، وكانوا يحكمونهم في بيوتهم وأثاثهم وأموالهم وأرضهم وكراعهم ، ويؤثرونهم على أنفسهم.
(1/239)
وقد يقول الأنصاريّ «4» للمهاجر «5» : انظر شطر مالي فخذه ، وتحتي امرأتان ، فانظر أيّهما أعجب إليك حتى أطلقها ، ويقول المهاجر : بارك اللّه لك في أهلك ومالك ، ودلّني على السّوق.
فكان من الأنصاريّ الإيثار ، ومن المهاجر التعفّف وعزّة النفس «6».
___________
(1) [أخرجه أحمد في مسنده (4/ 285) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].
(2) [أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب خرص التمر ، برقم (1481) ، وفي كتاب المغازي ، باب نزول النبي صلى اللّه عليه وسلم الحجر ، برقم (4422) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب فضل أحد ، برقم (1392) ، وابن حبان (10/ 255) ، والبيهقي في السنن (6/ 372) وغيرهم من حديث أبي حميد].
(3) مدينة يثرب قبل الإسلام : للدكتور ياسين غضبان ، طبع دار البشير ، ص 17.
(4) [هو سعد بن الرّبيع رضي اللّه عنه ].
(5) [هو عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه ].
(6) اقرأ في الجامع الصحيح للبخاري ، «باب» إخاء النبي صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار «و باب» كيف آخى النبي صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه ؛ قصة عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع -

(1/281)


ص : 282
وكان هذا الإخاء أساسا لإخاء إسلاميّ عالميّ فريد من نوعه ، ومقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة ، تنطلق لصياغة عالم جديد ، قائم على عقائد صحيحة معيّنة وأهداف صالحة منقذة للعالم من الشّقاء والتناحر والانتحار وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخاء المعنويّ والعمل المشترك ، وكان هذا الإخاء المحدود بين المهاجرين والأنصار طليعة وشريطة لاستئناف حياة جديدة للعالم والإنسانية ، لذلك خاطب اللّه هذه الحفنة البشرية في مدينة صغيرة بقوله : إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال : 73]
كتابه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود :
(1/240)
وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهودا ، وعاهدهم ، وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم «1».
___________
- [رقم (3937) ، ومسلم في كتاب النكاح ، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .. ، برقم (1427) ، وأبو داود في كتاب النكاح ، باب قلّة المهر ، برقم (2109) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1) راجع للتفصيل «ابن هشام» : ج 1 ، ص 501. راجع للاطلاع على أهمية هذه الوثيقة السياسية التي يجوز أن تعتبر أقدم دستور دقيق مسجّل في العالم بقي بنصّه وفصّه إلى هذا اليوم ، واستعراض ما جاء فيها من موادّ وبنود عميقة في الحكمة السياسية والمدنية والحربية ، تجلّت فيها الحكمة النبوية ، والهداية الربانية ، والدراسة المتزنة للواقع ، مقالة الدكتور محمد حميد اللّه أستاذ الحقوق الدولية في الجامعة العثمانية بحيدر آباد الهند ، تعريب مؤلف هذا الكتاب (السيرة النبوية) ، جاءت في مجموعة المباحث العلمية من المقالات السنية ، (طبع إدارة جمعية دائرة المعارف العثمانية ، 1358 ه) ص/ 98 - 117 ، واقرأ نصّ الوثيقة في سيرة ابن هشام ، ق/ 1 ، ص/ 501 - 504 (طبعة مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر) ، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد ، وفي البداية والنهاية لابن كثير ، ج/ 3 ، ص/ 224 - 226 ، وفي «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة» للدكتور حميد اللّه ، (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر -

(1/282)


ص : 283
شرع الأذان :
(1/241)
ولمّا اطمأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، واستحكم أمر الإسلام ، وكان الناس يجتمعون إليه للصلاة في مواقيتها بغير دعوة ، وكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طرق الإعلان التي اعتادها اليهود والنصارى من بوق وناقوس ونار ، أكرم اللّه المسلمين بالأذان ، فأراه بعضهم في المنام ، فأقرّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشرعه للمسلمين ، واختير بلال بن رباح الحبشيّ للأذان ، وكان مؤذّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان إمام المؤذّنين إلى يوم القيامة»
.
ظهور النفاق والمنافقين في المدينة :
لم يكن في مكة نفاق «2» ؛ لأنّ الإسلام كان هناك مغلوبا على أمره ، لا يملك حولا ولا طولا ، ولا يملك لأحد نفعا ولا ضرّا ؛ وكان كلّ من يدخل فيه يعرّض نفسه للخطر والضّرر ، ويثير لها العداء ، ويهيج الأعداء ، فلا يقبل عليه إلا من صدق عزمه ، وقوي إيمانه ، وجازف بحياته ومستقبله ، ولم تكن هنالك قوتان متماثلتان ، إنّما كان المشركون الأقوياء القاهرون ، والمؤمنون المضطهدون المستضعفون ، وقد صوره القرآن بقوله البليغ : وَاذْكُرُوا إِذْ
___________
- القاهرة).
(1) [قصة شرح الأذان أخرجها أبو داود في كتاب الصلاة ، باب كيف الأذان ، برقم (499) ، والترمذي في الصلاة ، باب ما جاء في بدء الأذان ، برقم (189) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه في أبواب الأذان والسنة فيها ، باب بدء الأذان ، برقم (706) ، والدارمي (1/ 269) ، وأحمد (4/ 43) من حديث عبد اللّه بن زيد رضي اللّه عنه ].
(2) وهو الذي يرجّحه أكثر المفسرين والمؤرخين ، وجميع السور التي ذكر فيها النفاق والمنافقين مدنية ، وقد جاء في سورة براءة وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة : 101].

(1/283)


ص : 284
(1/242)
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال : 26].
فلمّا انتقل الإسلام إلى المدينة واستقرّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيها ، وبدأ الإسلام ينتشر ، ويزحف ، ويعلو ، وقام المجتمع الإسلاميّ بجميع لوازمه ، تغير الوضع ونجم النفاق ورفع رأسه ، وكان ظاهرة طبيعية نفسية لا بدّ منها ، فإنّما تظهر بادرة «النفاق» في بيئة تجمع بين دعوتين متنافستين ، وقيادتين متقابلتين ، هناك يوجد عنصر مضطرب يتأرجح بين هاتين الدعوتين ، ويتردد في إيثار إحداهما على الآخرى ، وقد ينحاز إلى دعوة ، فيكون في معسكرها ، ويعطيها ولاءه وحبّه العاطفيّ ، إلا أنّ مصالحه المادية ، وانتشار الدعوة المقابلة وانتصارها ، لا يسمح له بإعلان موقفه ، والانضواء إلى الدعوة الأولى ، وقطعه للحبال التي تربطه ببيئته الأولى ، وقد صوّر القرآن هذا الموقف المضطرب تصويرا دقيقا ، فقال :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج : 11] ، وهم الذين وصفهم بقوله : مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النساء : 143].
(1/243)
وكان على رأس هؤلاء المنافقين الذين كانوا من الأوس والخزرج واليهود عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول ، اتفقوا بعد حرب بعاث على أن يولّوه الرئاسة ويتوّجوه ، وكان قد تمّ له كلّ ذلك إذ جاء الإسلام ، وصار النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجا ، فشرق به وكرهه كرها شديدا ، قال ابن هشام : «قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وسيّد أهلها عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول العوفيّ .. لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام ، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ، ثمّ يملكوه عليهم ،

(1/284)


ص : 285
فجاءهم اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم وهم على ذلك ، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام ، ضغن «1» ، ورأى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد استلبه ملكا ، فلمّا رأى قومه قد أبوا إلّا الإسلام دخل فيه كارها ، مصرّا على نفاق وضغن» «2».
وعادى الإسلام كلّ من كان في قلبه مرض ، وفي السيادة طمع ، وضاق ذرعا بهذا الدّين الزاحف ، الذي هدم كلّ ما بناه ، ونقض كلّ ما أبرمه ، وجعل للمدينة شأنا غير الشأن ، ومن المهاجرين والأنصار أمة جديدة ، ألّف بين قلوبها ، وبذلت نفوسها دون الرسول ، وقدّمت محبّته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، فامتلأت قلوب هؤلاء المنافقين غيظا وحسدا ، فصاروا يكيدون له ، ويتربّصون به الدوائر ، ويقلّبون له الأمور ، وتكونت في المدينة جبهة معادية ، متسرّبة في المجتمع الإسلاميّ ، وكان على المسلمين أن يكونوا منها على حذر دائما ، فقد تكون أشدّ خطرا على الإسلام والمسلمين من الأعداء المجاهرين ، ومن هنا زخر القرآن بذكرهم وإزاحة السّتار عنهم ، وكان لهم مع الإسلام وللإسلام معهم شأن ، ويتردّد ذكرهم في كتب السيرة ، وفي هذا الكتاب.
طلائع عداء اليهود :
(1/244)
وبدت طلائع عداء اليهود للإسلام بعد ما كان موقفهم موقف الحياد من المسلمين والمشركين من أهل مكة والمدينة ، وربّما كانوا أميل إلى الإسلام
___________
(1) الضّغن : الحقد والعداوة والبغضاء ، وكذلك الضّغينة.
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 584 - 585 [و أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، باب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... ، برقم (4566) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب في دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وصبره على أذى المنافقين ، برقم (1798) من حديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما].

(1/285)


ص : 286
والمسلمين ، لأنّهم جميعا يلتقون على الإيمان بالنبوات والإيمان بالبعث ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل ، وهم أقرب الأمم إلى المسلمين في توحيد ذات اللّه وصفاته - على ما اعترى هذه العقيدة عند اليهود من الوهن بحكم التأثر بالأمم الجاهليّة التي جاوروها ، والبلاد الوثنيّة التي قضوا فيها أيام الجلاء والنفي الطويلة ، وما دخل فيها من الغلوّ والتقديس لبعض أنبيائهم ، كما شرحناه في كلامنا على الوضع الدينيّ لليهودية في القرن السادس المسيحيّ «1».
فكانت كلّ القرائن تدلّ على أنّهم يلتزمون هذا الحياد ، إن لم يشايعوا الإسلام الذي جاء مصدّقا لكتابهم ، والنبيّ الذي دعا إلى الإيمان بأنبياء بني إسرائيل ، وأعلن القرآن على لسان المؤمنين فقال : كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة : 285] ، ولو كان ذلك لكان للتاريخ البشريّ - فضلا عن التاريخ الإسلاميّ - اتجاه آخر ، ولكفيت الدعوة الإسلاميّة الشيء الكثير من المشاكل والقضايا التي أثارها الصراع بين الإسلام واليهودية ، والنضال بين المسلمين الذين كانوا في دور النشوء والتكوين وبين اليهود الأقوياء الأغنياء المثقّفين.
(1/245)
ولكنّ ذلك لم يكن لسببين رئيسيين :
أوّلهما : ما طبع عليه اليهود من حسد ، وضيق صدر ، وجمود.
وثانيهما : ما بدأ القرآن به من نقد لما كان عليه اليهود من عقائد باطلة ، وأخلاق منحطة ، وعادات سيئة ، وذكر لتاريخهم الماضي المليء بالأحداث من محاربة الأنبياء ودعواتهم ، والاجتراء على قتلهم ، وعنادهم ، وصدّ عن
___________
(1) راجع فصل «العصر الجاهلي» في الفصل الأول.

(1/286)


ص : 287
سبيل اللّه ، وافتراء على اللّه ، وشره للمال ، وأخذهم الرّبا وقد نهوا عنه ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكلهم السّحت ، وتحريفهم للتوراة ، وحبّهم الزائد للحياة ، وغير ذلك مما زخر به القرآن.
وإذا كان مكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زعيم سياسيّ لحسب للوضع المعقّد - الذي كانت تعيشه المدينة - حسابه ، وابتعد عن إثارة سخط اليهود وعدائهم ، إن لم يتملّقهم ويتودّد إليهم ، ولكنّه الرسول المأمور بتبليغ الرسالة ، والصدع بما أمر به ، وتمحيص الحقّ والباطل ، وعدم مسايرة الفساد والضّلال ، والمكلّف بدعوة الطوائف والأمم جميعا إلى الإسلام ، وفيهم اليهود والنصارى أهل الكتاب ، مهما كلّفه ذلك من ثمن ومشكلات طريفة ، فإنّه هو النهج النبويّ الذي سار عليه الأنبياء قبله ، وهو النهج القويم ، والفارق بين السياسة والنبوّة ، والزعماء القوميّين والأنبياء المرسلين.
هذا التعرّض لليهود في عقائدهم وحياتهم وأخلاقهم هو الذي أثار اليهود على الإسلام والمسلمين ، فغيّروا موقفهم منهم ، وناصبوا الإسلام العداء الخفيّ والسافر ، وبرزوا في الميدان ، وكان الكاتب اليهودي الفاضل «إسرائيل ولفنسون» دقيقا ومنصفا «1» في تحليل أسباب هذا النزاع ، فقال :
(1/246)
«لو وقفت تعاليم الرسول صلى اللّه عليه وسلم عند حدّ محاربته للدّيانة الوثنيّة فحسب ، ولم يكلّف اليهود أن يعترفوا برسالته ، لما وقع نزاع بين اليهود والمسلمين ، ولكان اليهود قد نظروا بعين ملؤها التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولأيّدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم ، حتى يحطّم الأصنام ، ويقضي على العقائد الوثنيّة ، لكن بشرط ألا يتعرّض لهم ولا لدينهم ، وبشرط ألا يكلّفهم الاعتراف بالرسالة الجديدة ، لأنّ العقلية اليهودية لا تلين أمام شيء يزحزحها
___________
(1) [لم يعرف عن اليهود فضل ولا إنصاف ولا أمانة علمية].

(1/287)


ص : 288
عن دينها ، وتأبى أن تعترف بأن يوجد نبيّ من غير بني إسرائيل» «1».
هذا ، وقد زاد اليهود غيظا وحقدا على الإسلام أنّه أسلم بعض أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد اللّه بن سلام «2» ، وكان ذا مكانة عالية عندهم ، ولم يكونوا يتوقّعون أن يدخل مثله في الإسلام ، فأثار ذلك الحقد الدفين فيهم «3».
ولم يقتصر اليهود على مخالفة الإسلام ، والابتعاد عنه ، بل تعدّوا ذلك إلى تفضيل عبادة أوثان المشركين على المسلمين ؛ الذين يلتقون معهم على عبادة الإله الواحد ، ونبذ الأوثان والأصنام ، وكان من المعقول المنتظر أنّهم إذا طلبت منهم المفاضلة بين دين قريش ، والدين الذي يدعو إليه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، على ما كان من خلاف بينهم وبين المسلمين - أن يشهدوا بفضل الإسلام على الوثنيّة ، ولكنّ عداء الإسلام لم يسمح لهم بذلك ، فقد روي أنّ قريشا قالت لعلماء اليهود الذين زاروهم في مكة : «يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه ، نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟! ، قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ» «4».
___________
(1/247)
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب : (ولفنسون - ص 123).
(2) [انظر قصة إسلام عبد اللّه بن سلام في «الجامع الصحيح» أخرجها البخاري ، من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، في كتاب التفسير ، باب مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ برقم (4480)].
(3) ويبلغ عدد من أسلم من اليهود وكان له شرف الصحبة 39 رجلا ، جاءت أسماؤهم وتراجمهم في كتب طبقات الصحابة ؛ كتاب «الإصابة» و«الاستيعاب» و«أسد الغابة» وغيرها ، منهم بعض كبار العلماء وأجلة الصحابة ، اعتمدنا في عدد المسلمين من أهل الكتاب على إحصاء مؤلف كتاب «الصحابة والتابعون من أهل الكتاب» للأستاذ مجيب اللّه الندوي ، طبع دار المصنفين ، أعظم كره (الهند).
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 214.

(1/288)


ص : 289
ويقول العالم اليهوديّ الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على هذا الحادث :
«و لكنّ الذي يلامون عليه بحقّ ، والذي يؤلم كلّ مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء ، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود ، وبين بني قريش الوثنيّين ، حيث فضّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلاميّة».
إلى أن قال : «ثمّ إنّ ضرورات الحروب أباحت للأمم استعمال الحيل والأكاذيب ، والتوسل بالخدع والأضاليل للتغلّب على العدوّ ، ولكن مع هذا كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش ، وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش ، بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلاميّ ، ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم ، لأنّ بني إسرائيل الذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين ، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخيّة ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكلّ عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين» «1».
(1/248)
وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله :
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء : 51].
تحويل القبلة :
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون يصلّون إلى بيت المقدس ، ومضى على ذلك ستة عشر شهرا بعدما قدم المدينة ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحبّ أن يصرف
___________
(1) اليهود في بلاد العرب : ص 142.

(1/289)


ص : 290
إلى الكعبة ، وكان المسلمون العرب - وقد رضعوا لبان حبّ الكعبة وتعظيمها ، وامتزج ذلك بلحومهم ودمائهم - لا يعدلون بالكعبة بيتا ، ولا بقبلة إبراهيم وإسماعيل قبلة ، وكانوا يحبّون أن يصرفوا إلى الكعبة ، وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس محنة للمسلمين ، ولكنّهم قالوا : «سمعنا وأطعنا» وقالوا : «آمنّا به كلّ من عند ربنا» فلم يكونوا يعرفون إلا الطاعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والخضوع لأوامر اللّه ، وافقت هواهم أم لم توافقها ، واتفقت مع عاداتهم أم لم تتّفق.
فلما امتحن اللّه قلوبهم للتقوى واستسلامهم لأمر اللّه ، صرف رسوله والمسلمين إلى الكعبة «1» ؛ يقول القرآن :
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة : 143].
وانصرف المسلمون إلى الكعبة مطيعين للّه ولرسوله ، وصارت قبلة المسلمين إلى يوم القيامة أينما كانوا ولّوا وجوههم شطرها «2».
(1/249)
___________
(1) وكان تحويل القبلة في سنة اثنتين من الهجرة.
(2) راجع الصحاح الستة ، وتفسير الآيات في تحويل القبلة في كتب التفسير [انظر الأحاديث في تحويل القبلة ، أخرجها البخاري في كتاب الإيمان ، باب الصلاة من الإيمان ، برقم (40) ، وفي كتاب الصلاة ، باب التوجه نحو القبلة .. ، برقم (399) ، وفي كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : * سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ .. برقم (4486) ، وباب وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ، برقم (4492) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، برقم (525) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، في تفسير سورة البقرة ، برقم (2962) وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات ، باب القبلة ، برقم (1010) ، وأحمد (4/ 274) ، كلهم من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].

(1/290)


ص : 291
تحرّش قريش بالمسلمين بالمدينة :
فلمّا استقرّ الإسلام بالمدينة ، وعرفت قريش أنّه في نموّ وازدهار ، وأنّ كلّ يوم يمضي يزيد في قوّته وانتشاره ، وأنّه إذا بقي الوضع هكذا ، فإنّه يفلت منهم الزمام ، ويصير كشابّ ترعرع واستكمل قوّته وشبابه ، فلا سبيل لهم إليه.
هنالك شمّروا للمسلمين عن ساق العداوة والمحاربة ، وصاحوا بهم من كلّ جانب ، واللّه سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح ، ويقول لهم :
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء : 77] حتى تهون عليهم الحياة واللذّات ، وتسهل لهم الطاعة ومخالفة النفس والإيثار.

(1/291)


ص : 293
الإذن بالقتال
فلمّا قويت الشوكة ، واشتدّ الجناح ، أذن لهم في القتال ، ولم يفرضه عليهم «1» ، فقال : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج : 39] «2».
(1/250)
وبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعث سرايا وبعوثا إلى بعض القبائل والنّواحي ، ولم تكن في غالب الأحيان حرب ، وقد تكون مناوشات ، وكانت تفيد إلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتظهر بها شوكة المسلمين ونشاطهم.
سرية عبد اللّه بن جحش :
ونخصّ بالذكر من هذه السّرايا سريّة عبد اللّه بن جحش ، فقد نزلت فيها آية ، ولأنّها تلقي ضوءا على أنّ القرآن لا يساير المسلمين في كلّ ما يصدر عنهم من تفريط أو خطأ ، وأنّه الميزان العادل في الحكم على جميع الأمم والطوائف ، وإلى القارىء قصّة هذه السرية بالاختصار :
بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن جحش الأسديّ في رجب «3» سنة اثنتين وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، وكتب له كتابا ، وأمره ألّا ينظر فيه ،
___________
(1) راجع «زاد المعاد» ج 1 ، ص 314.
(2) [انظر حادثة الإذن بالقتال في الأحاديث التي أخرجها الترمذي في أبواب تفسير القرآن في تفسير سورة الحج ، برقم (3171) ، وأحمد (1/ 216) ، والحاكم (2/ 66) - وصحّحه ، ووافقه الذّهبيّ - من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(3) كان العرب يفضّلون العمرة في رجب.

(1/293)


ص : 294
حتى يسير يومين ثمّ ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
ولمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه ، فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم ، فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش في الكتاب قال :
(1/251)
سمعا وطاعة ، ثمّ قال لأصحابه : قد أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا ، حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ، ويرغب فيها ، فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه ، لم يتخلّف عنه منهم أحد.
ومضى عبد اللّه بن جحش وأصحابه حتّى نزلوا بنخلة ، فمرّت بهم عير لقريش ، فيها عمرو بن الحضرميّ ، فلما رآهم القوم ، هابوهم ، وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه ، فلمّا رأوه أمنوا ، وقال : عمّار «1» لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب «2» فقال المسلمون : واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة
___________
(1) كتب المغازي والسير ، وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ هذه السرية كانت في جمادى الآخرة وكان حادث قتل عمرو بن الحضرمي حدث سلخ هذا الشهر.
(2) رجب أول الأشهر الحرم الأربعة ، وكان القتال ممنوعا في الشهر الحرام ، درج العرب على ذلك في الجاهلية وفي صدر الإسلام ، وكان القوم يعرفون ذلك ، والأشهر الثلاثة الباقية : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم. ذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة نسختها آية براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة : 5] وقوله تعالى : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة : 36]. سئل سعيد بن المسيب : هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟ قال : نعم ، ولم نقرأ في كتاب من كتب التاريخ والفتوح أن إعلانا صدر من -

(1/294)


ص : 295
(1/252)
ليدخلنّ الحرم ، فليمتنعنّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشهر الحرام ، فتردّد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد اللّه التّميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهم فقتله ، واستأسر اثنين منهم ، وأقبل عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين.
فلمّا قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة قال : «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ، فلمّا قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سقط في أيدي القوم ، وظنّوا أنّهم قد هلكوا ، عنّفهم إخوانهم المسلمون فيما صنعوا وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، فأنزل اللّه تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «1» [البقرة : 217].
قال العلّامة ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» : «و المقصود أنّ اللّه سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرّىء أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشّهر الحرام بل أخبر أنّه كبير ، وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشّهر الحرام ، فهم أحقّ بالذمّ والعيب والعقوبة ، لا سيّما وأولياؤه كانوا متأوّلين في قتالهم ذلك ، أو
___________
- مركز الخلافة أو القيادة الإسلامية بوقف الإجراءات الحربية لأجل شهر من الأشهر الحرم ، وعلى ذلك جرى المسلمون في عصورهم في الحروب والفتوح الإسلامية.
(1/253)
(1) سيرة ابن هشام : ج : 1 ، ص : 601 - 605 [أخرجه البيهقي (9/ 11 - 12) ، والطبري في تفسيره (2/ 349 - 350) ، وأبو يعلى في مسنده برقم (1534) ، والطبراني في الكبير برقم (1670) من حديث جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 198) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ].

(1/295)


ص : 296
مقصّرين نوع تقصير ، يغفر لهم اللّه في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند اللّه» «1».
غزوة الأبواء :
وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه «غزوة الأبواء» «2» ، وتسمّى (بواطا) كذلك ، وهي أولّ غزوة غزاها بنفسه ، ولم يلق كيدا ، فرجع ، وتلتها غزوات وسرايا.
فرض صوم رمضان :
وفي السّنة الثانية الهجريّة فرض الصوم ، وذلك بعد أن رسخت العقيدة في قلوب المسلمين ، وألفوا الصلاة ، وهاموا بها ، وتلقّوا الأوامر والأحكام الشرعيّة بقبول واستعداد ، كأنّهم كانوا منها على ميعاد ، وأنزل اللّه تعالى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 183].
وقال :
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «3» [البقرة : 185].
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 341.
(2) راجع للتفصيل في «سيرة ابن هشام» ج 1 ، ص 591 - 606.
(3) اقرأ للتفصيل وأسرار الصوم وحكمه «الأركان الأربعة» للمؤلف ، ص : 220 ، طبعة دار ابن كثير بدمشق (عام 1420 ه - 2000 م).

(1/296)


ص : 297
خريطة السرايا قبل غزوة بدر

(1/297)


ص : 298
خريطة غزوة بدر الكبرى 17/ رمضان 2 ه

(1/298)


ص : 299
(1/254)
معركة بدر الحاسمة : سنة اثنتين من الهجرة
أهميّة معركة بدر :
وفي رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، كانت غزوة بدر الكبرى «1» ، وهي المعركة الحاسمة التي تقرّر مصير الأمّة الإسلاميّة ومصير الدعوة الإسلاميّة ، وعليها يتوقف مصير الإنسانيّة المعنويّ.
فكلّ ما حدث من فتوح وانتصارات ، وكلّ ما قام من دول وحكومات ، مدين للفتح المبين في ميدان بدر ، ولذلك سمّى اللّه هذه المعركة ب «يوم الفرقان» فقال :
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال : 41].
وكان من خبر هذه الغزوة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشّام في عير عظيمة لقريش ، فيها أموالهم وتجارتهم ، وكانت الحرب قائمة بين المسلمين وبين قريش المشركين ، لا تألو قريش في محاربة الإسلام ، والصدّ عن سبيل اللّه ، وإقامة الصعوبات للمسلمين ، وكانت تبذل أموالها وكلّ ما تملكه ، من حول وطول ، ومن سلاح وكراع «2» في محاربة
___________
(1) تقع بدر على 145 كيلومترا في الجنوب الغربي من المدينة المنّورة.
(2) [الكراع : اسم لجميع الخيل ].

(1/299)


ص : 300
الإسلام ، وإضعاف شأن المسلمين ، وكانت كتائبهم تصل إلى حدود المدينة وإلى مراعيها.
فلمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشّام على رأس هذه العير ، وكان من أشدّ الناس عداوة للإسلام ، ندب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس للخروج إليها ، ولم يحتفل احتفالا بليغا ، لأنّ الأمر أمر عير لا نفير «1».
___________
(1/255)
(1) كما جاء في رواية كعب بن مالك التي جاءت في (صحيح البخاري) باب غزوة بدر. ويبدو من متابعة الأخبار والقرائن الدقيقة أنّ هذا الركب التجاري الذي اتجه إلى الشام ، إنما كان من ضمن الاستعداد للهجوم على المدينة ، فقد ثبت تاريخيا أن أهل مكة (بصفة العموم والإطباق) أسهموا في تمويل هذا الركب بسهامهم ، حتى تستطيع قريش الإغارة على المدينة ، حتى النساء أسهمن بأموالهنّ في تجهيز هذا الركب ، وكان هذا الركب التجاري عائدا ببضائع تجارية ، قيمتها نحو خمسين ألف دينار ذهبي ، وكان الهدف استخدام هذه الثروة في الإغارة على المدينة. قال البيهقي في (دلائل النبوة) 3/ 102 : يقال : كانت عيرهم ألف بعير ، ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها ، إلا بعث بها مع أبي سفيان ، وكذلك جاء في (طبقات ابن سعد). وتدلّ القرائن العقلية والعادات المتّبعة ، على أن الركب كان يحمل كمية كبيرة من الأسلحة الحربية المستوردة من الشام ، لأن مكة والحجاز لم تكن فيها مصانع للأسلحة الحربية ، وإنما كانت تستورد من الخارج ، وكانت هذه الأسلحة مهيأة ومستوردة للقتال ضد الجالية الإسلامية الصغيرة القاطنة في المدينة. فكان مما تقتضيه مصلحة الدفاع عن المدينة وعن الكيان الإسلامي الفريد القليل في العدد والعدّة ، أن يحال بين قريش وبين هدف الهجوم على المدينة ، مستعينة في ذلك بهذه الثروة الطائلة ، التي حصّلتها عن طريق التجارة ، وجلب البضائع الثمينة والمال التجاري من سورية الغنية الراقية ، إضافة إلى الأسلحة الحربية السورية ، وكان حملتها من المغيرين الجائرين على الجالية الإسلامية الصغيرة ، والمستحلّين لنفوسها وأموالها وأعراضها.
(1/256)
ويبدو من متابعة الأخبار ، واستعراض المحيط الذي أحاط بهذا الإقدام العسكري ، أنّ قريشا لما بلغهم همّ المسلمين بمواجهة الركب التجاري القادم من الشام ، استعدّت للدفاع عن هذا الركب ، ولو اقتضى ذلك الهجوم على الجالية الإسلامية اللاجئة في المدينة ، وذلك تحت قيادة أبي جهل أعدى عدوّ للإسلام - .

(1/300)


ص : 301
وبلغ أبا سفيان مخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقصده إياه ، فأرسل إلى مكة مستصرخا لقريش ليمنعوه من المسلمين ، وبلغ الصريخ أهل مكّة ، فجدّ جدّهم ، ونهضوا مسرعين ولم يتخلّف من أشرافهم أحد ، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلّف عنهم أحد من بطون قريش إلا القليل النادر ، وجاؤوا على حميّة ، وغضب ، وحنق.
تجاوب الأنصار وتفانيهم في الطاعة :
ولمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه ، وكان يعني الأنصار لأنهم بايعوه على أن يمنعوه في ديارهم ، فلمّا عزم على الخروج من المدينة ، أراد أن يعلم ما عندهم ، فتكلم المهاجرون ، فأحسنوا ، ثمّ استشارهم ثانيا فتكلّموا أيضا فأحسنوا ، ثمّ استشارهم ثالثا ، ففهمت الأنصار
___________
(1/257)
- فكان هنالك إمكانان متبائنان : إما هجوم المسلمين على الركب التجاري ، وإما مواجهة زحف قريش ، فكان من الطبيعي أن يؤثر العدد الغالب من الخارجين من المدينة مواجهة الركب التجاري فقط بطبيعة الحال ، ومقتضى الفطرة ، ويقضي اللّه بترجيح الجانب المقابل ، وهو وقوع الضربة الموجعة الحاسمة على أعداء الإسلام المغيرين ، وإشعارهم بما للإسلام والمسلمين من مستقبل زاهر. وقد سبق ذلك نزول الآية : وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال : 7 - 8]. وقد روى الطبريّ في (التفسير) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قال : «أقبلت عير أهل مكة - يريد من الشام - فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريدون العير ، فبلغ ذلك أهل مكة ، فسارعوا السير إليها ، لا يغلب عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فسبقت العير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان اللّه وعدهم إحدى الطائفتين ، فكانوا أن يلقوا العير أحبّ إليهم ، وأيسر شوكة ، وأحضر مغنما ، فلما سبقت العير ، وفاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة في القوم.

(1/301)


ص : 302
(1/258)
أنّه يعنيهم ، فبادر سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول اللّه! كأنّك تعرض بنا ، لعلّك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها ألا تنصرك إلّا في ديارهم ، إنّي أقول عن الأنصار ، وأجيب عنهم ، فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منّا كان أحبّ إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر ، فأمرنا تبع لأمرك ، فو اللّه لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان «1» ، لنسيرنّ معك ، واللّه لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك.
وقال له المقداد : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك.
فلمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك أشرق وجهه ، وسرّ بما سمع من أصحابه ، وقال : «سيروا ، وأبشروا» «2».
تنافس الغلمان في الجهاد والشهادة :
ولمّا توجّه المسلمون إلى بدر ، خرج غلام اسمه عمير بن أبي وقّاص ، وهو في السادسة عشرة من سنّه ، وكان يخاف ألا يقبله النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لأنّه صغير ، فكان يجتهد ألا يراه أحد ، وكان يتوارى ، وسأله أخوه الأكبر : سعد بن أبي وقّاص ، عن ذلك فقال : أخاف أن يردّني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنّا أحبّ
___________
(1) غمدان بضم أوّله ، وسكون ثانيه ، قصر بصنعاء باليمن كان منزل الملوك (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع). [و الذي في صحيح مسلم : برك الغماد].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 342 - 343 ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ؛ ص 614 ؛ ورواه البخاري مختصرا في [كتاب المغازي ] باب قوله : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الأنفال : 9] [برقم (3952)] ، ومسلم [في كتاب الجهاد] في باب «غزوة بدر» برقم [1779].

(1/302)


ص : 303
(1/259)
الخروج ، لعلّ اللّه يرزقني الشهادة ، وكان كذلك ، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يردّه لأنّه لم يبلغ مبلغ الرجال ، فبكى عمير ، ورقّ له قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأجازه ، وقتل شهيدا في الغزوة «1».
التفاوت بين المسلمين والكفار في العدد والعدد :
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسرعا في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا ، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان ، وسبعون بعيرا ، يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد «2» ، لا فرق في ذلك بين جنديّ وقائد ، وتابع ومتبوع ، فكان منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر وكبار الصحابة «3».
ودفع اللّواء إلى مصعب بن عمير ، وراية المهاجرين إلى عليّ بن أبي طالب ، وراية الأنصار إلى سعد بن معاذ.
ولمّا سمع أبو سفيان خروج المسلمين ، خفض ولحق بساحل البحر ، ولمّا رأى أنّه قد نجا وسلمت العير ، كتب إلى قريش أن ارجعوا ، فإنّكم إنّما خرجتم لتحرزوا عيركم ، وهمّوا بالرجوع ، فأبى أبو جهل إلا القتال «4» ، وكانت قريش بين ألف وزيادة «5» ، منهم صناديد قريش وسادتها ، وفرسانها
___________
(1) راجع «أسد الغابة» ج : 4 ، ص : 148 [و أخرج هذه القصّة البزّار في «كشف الأستار» برقم (1770) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 69) : رواه البزّار ، ورجاله ثقات ].
(2) زاد المعاد : ج : 1 ، ص : 342.
(3) [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 411) ، وابن حبان في صحيحه برقم (1688) ، والحاكم في المستدرك (3/ 20) : وصحّحه الذهبيّ ].
(4) زاد المعاد : ج 1 ، ص 343 ، وابن هشام : ج 1 ، ص 618 - 619.
(5) رواه أحمد والبزار والطبراني ، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي ، وفي فتح الباري (ج 7 ، ص 291) ، أن هذا هو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي. وقد جاءت في روايات وكتب السيرة أعداد أخرى ، وهي أرقام متقاربة.
(1/260)

(1/303)


ص : 304
وأبطالها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1».
أمرهم شورى بينهم :
ومضت قريش ، حتّى نزلوا بجانب من الوادي ، ونزل المسلمون بجانب بدر ، فجاء الحباب بن المنذر ، وقال : يا رسول اللّه! أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه اللّه ، ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال : يا رسول اللّه! فإنّ هذا ليس بمنزل ، وأشار عليه بأرض تصلح للحرب.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي ، ونهض ومن معه من الناس ، فأتى أدنى ماء من القوم ، فنزل عليه «2».
وسبق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى الماء شطر الليل ، وصنعوا الحياض وسمح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن وردها من الكفار بالشّرب «3».
وأنزل اللّه عزّ وجلّ في تلك الليلة مطرا ، كان على المشركين وابلا شديدا ، ومنعهم من التقدّم ، وكان على المسلمين رحمة ، وطّأ الأرض ،
___________
(1) [أخرجه أحمد في المسند (1/ 117) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بسند صحيح ، وأخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة بدر ، برقم (1779)].
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 620 [و أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 426) : وقال الذهبيّ : حديث منكر].
(3) مستفاد من «سيرة ابن هشام» : ج 1 ؛ ص 622.

(1/304)


ص : 305
وصلّب الرمل ، وثبّت الأقدام ، وربط على قلوبهم «1». وهو قوله تعالى :
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال : 11].
الرسول القائد :
(1/261)
وتجلّت عبقريته القيادية العسكرية - بجوار رسالته العظمى التي هي الأساس ومصدر الإلهام والهداية - في قيادته للجيش ، وتعبئته الحكيمة ، وسدّه لمنافذ الخطر والهجوم ، وتقديره الصحيح لقوّة العدوّ الحربيّة وعدده ومواضع نزوله ، جاءت تفاصيلها في كتب السيرة «2».
استعداد للمعركة :
وبني لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عريش يكون فيه ، على تلّ مشرف على المعركة ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يشير بيده : «هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، إن شاء اللّه» ، فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته «3».
ولمّا طلع المشركون ، وتراءى الجمعان ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اللهمّ
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 343.
(2) اقرأ تفاصيل الخطوات الدفاعية والإجراءات العسكرية الحكيمة التي اتخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل معركة بدر في كتاب «حديث الدفاع» للواء «محمد أكبر خان» القائد الباكستاني في «الأردوية» و«الرسول القائد» للواء الركن المتقاعد محمود شيت خطّاب القائد العراقي ، في العربية.
(3) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب غزوة بدر ، برقم (1779) وو في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب عرض مقعد الميّت من الجنة أو النار .. ، برقم (2873) ، وأحمد في مسنده (1/ 26) : والنّسائي في كتاب الجنائز ، باب أرواح المؤمنين (4/ 108) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].

(1/305)


ص : 306
هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحاربك ، وتكذّب رسولك» «1».
وكانت ليلة الجمعة ، السابع عشر من رمضان ، فلمّا أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها ، واصطفّ الفريقان «2».
دعاء وتضرّع ، ومناشدة وشفاعة :
(1/262)
عدّل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش ، فدخله ، ومعه أبو بكر ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر الابتهال ، والتضرّع ، والدعاء ، وقد علم أن لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم فالنتيجة معلومة واضحة ، نتيجة كلّ قليل ضعيف أمام قويّ كثير العدد ، ولمّا رأى الكفّتين : كفّة المسلمين وكفّة المشركين ، غير متكافئتين ، وضع صنجة «3» في كفّة المسلمين ، رجحت بها رجحانا ظاهرا ، فاستغاث باللّه الذي لا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال : 10].
وشفع للكتيبة المؤمنة القليلة العدد ، الفقيرة في العدد ، فقال :
«اللهمّ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض».
وجعل يهتف بربّه عزّ وجلّ ويقول : «اللهمّ! أنجز لي ما وعدتني ، اللهمّ
___________
(1) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ، برقم (1763) ، وأحمد في مسنده (1/ 30 - 32) من حديث عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب المغازي ، باب قول اللّه تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... برقم (3953) من حديث عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 343 - 344.
(3) [الصّنجة : أي سنجة الميزان : ما يوزن به كالرّطل والأوقيّة].

(1/306)


ص : 307
رسم ساحة القتال في غزوة بدر الكبرى ويبدو في جوانبها الحائط الذي بني حولها ، وتقع العدوة القصوى في جانب اليسار من الرسم في الجهة الجنوبية من الساحة والتي كان نزول جيش الكفار فيها. أما العدوة الدنيا فإنها تقع في نهاية الرسم الشرقي وكانت منزل الجيش الإسلامي وتقع بمقربة منها مقابر شهداء بدر التي يبدو جزء من حائطها في الرسم.
رسم ساحة القتال في غزوة بدر

(1/307)


ص : 308
(1/263)
نصرك» ويرفع يديه إلى السماء ، حتّى سقط الرّداء عن منكبيه ، وجعل أبو بكر رضي اللّه عنه - يسلّيه ، ويشفق عليه من كثرة الابتهال «1».
تعريف دقيق بالأمّة وتحديد لمركزها ورسالتها :
لقد شفع الرسول صلى اللّه عليه وسلم لهذه العصابة المؤمنة في هذه الساعة الحاسمة الدقيقة ، بالكلمة الوجيزة التي تجلّت فيها الثقة والاضطراب والسكينة والافتقار جنبا لجنب ، فكانت أدقّ تعريف بهذه الأمة وأدق تحديد لمركزها ومكانتها بين الأمم ، وقيمتها وغنائها في هذا العالم ، والثغر الذي ترابط عليه ، وهو الدعوة إلى اللّه وإخلاص الدين والعبادة له.
وقد أثبت الانتصار الرائع المعجز الذي أبطل كلّ تجربة ، صدق هذه الكلمة ودقّتها ، وأنّها كانت تصويرا دقيقا لهذه الأمّة «2».
___________
(1) راجع «زاد المعاد» ، وكتب السيرة ، ورواه في الصحيح [صحيح مسلم ] في كتاب الجهاد والسير [ (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) [برقم (1763) ، وأحمد في مسنده (1/ 30)] عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - قال : «لما كان يوم بدر نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ثلاثمئة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم القبلة ثم مد يديه ، فجعل يهتف بربه : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ؛ اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض».
(1/264)
(2) ولمّا أجاب اللّه دعاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم - على تفاوت واضح بين العدد والعدد - وبقائهم ، فكان بقاء المسلمين مشروطا بقيام حياة العبودية بهم والدعوة إلى التوحيد الخالص ، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين الدعوة إلى التوحيد الخالص ، وعبادة اللّه تعالى ورواجها وازدهارها في العالم ، لم يبق على اللّه لهم حقّ وذمة ، وأصبحوا كسائر الأمم ، خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون. فكانت الدعوة إلى اللّه وحده وعبادته وتنفيذ أحكامه وشرائعه في العالم قيمة الأمة الإسلامية بين الأمم ودورها في العالم.

(1/308)


ص : 309
هذان خصمان اختصموا في ربّهم :
ثمّ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النّاس ، فحرّضهم على القتال ، وخرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد ، فلمّا توسّطوا بين الصفين ، طلبوا المبارزة فخرج إليهم ثلاثة فتية من الأنصار فقالوا : من أنتم ؟!.
قالوا : رهط من الأنصار!.
قالوا : أكفاء كرام ، ولكن أخرجوا إلينا من بني عمّنا.
قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «قم يا عبيدة بن الحارث (ابن المطلب بن عبد مناف) وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ».
قالوا : نعم أكفاء كرام.
وبارز عبيدة - وكان أسنّ القوم - عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ الوليد بن عتبة ، فأما حمزة وعليّ فلم يمهلا خصميهما أن قتلاهما ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه ، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة ، فأجهزا عليه ، واحتملا عبيدة وهو جريح ، ومات شهيدا «1».
التحام الفريقين ونشوب الحرب :
وتزاحم الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، ودنا المشركون ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض» «2».
___________
(1/265)
(1) سيرة ابن هشام : ج : 1 ، ص : 625 [و أخرجه أحمد في مسنده (1/ 117) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في المبارزة ، برقم (2665) من حديث عليّ رضي اللّه عنه ].
(2) [أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، برقم (1901) ، وأحمد (3/ 126) ، والبيهقي في السنن (9/ 43) و(9/ 99) ، وأبو عوانة في مسنده (4/ 459) والحاكم في المستدرك (3/ 481) من حديث أنس رضي اللّه عنه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ].

(1/309)


ص : 310
أول قتيل :
وقام عمير بن الحمام الأنصاريّ ، فقال : يا رسول اللّه! جنّة عرضها السّماوات والأرض ؟
قال : «نعم».
قال : بخ بخ «1» يا رسول اللّه!.
قال : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟
قال : لا واللّه يا رسول اللّه إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهنّ ، ثمّ قال : لئن حييت حتى آكل من تمراتي هذه ، إنّها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثمّ قاتل ، حتّى قتل فكان أول قتيل «2».
والناس على مصافّهم ، صابرون ذاكرون اللّه كثيرا ، وقاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتالا شديدا ، وكان أقرب الناس من العدوّ ، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأسا «3» ، ونزّل اللّه الملائكة بالرحمة والنصر ، وقاتلوا المشركين ، وهو قوله تعالى :
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال : 12].
___________
(1) [بخ (بكسر الخاء وإسكانها) : كلمة تقال في موضع الإعجاب ].
(1/266)
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 345 ، و«سيرة ابن كثير» ج 1 ، ص 421 ، [و أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، برقم (1901) ، والحاكم في المستدرك (3/ 426) ؛ وأحمد في المسند (3/ 136 - 137) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(3) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 425.

(1/310)


ص : 311
مسابقة الإخوة في قتل أعداء اللّه ورسوله :
وتسابق الشباب في الشهادة ونيل السعادة ، وكانت مسابقة بين أخلّاء وأصدقاء ، وإخوة أشقّاء.
يقول عبد الرّحمن بن عوف : «إنّي لفي الصفّ يوم بدر ، إذ التفتّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السّنّ ، فكأنّي لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سرّا من صاحبه : يا عمّ أرني أبا جهل فقلت : يابن أخي ما تصنع به ؟
قال : عاهدت اللّه إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه ، وقال لي الآخر سرّا من صاحبه مثله ، قال : فما سرّني أنّي بين رجلين مكانهما ، فأشرت لهما إليه ، فشدّا عليه مثل الصّقرين حتّى ضرباه ، وهما أبناء عفراء» «1».
ولمّا قتل أبو جهل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «هذا أبو جهل فرعون هذه الأمّة» «2».
الفتح المبين :
ولمّا أسفرت الحرب عن انتصار المسلمين وهزيمة المشركين ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «اللّه أكبر ، الحمد للّه الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده».
وصدق اللّه العظيم :
___________
(1) أصل الرواية في الصحيحين ، واللفظ للبخاري. (كتاب المغازي باب «غزوة بدر» [برقم (3988) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب استحقاق القاتل سلب القتيل برقم (1752) ، وأحمد في المسند (1/ 193) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه ]).
(2) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 444 [و أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8468) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 261 - 262) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه ].

(1/311)


ص : 312
(1/267)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران : 123].
وأمر بالقتلى أن يطرحوا بالقليب فطرحوا فيه ، ووقف عليهم ، فقال :
«يا أهل القليب! هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا ؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقا» «1».
وقتل من سراة الكفّار يوم بدر سبعون وأسر سبعون «2» ، ومن المسلمين من قريش ستّة ومن الأنصار ثمانية «3».
وقع معركة بدر :
وتوجّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة مؤيّدا مظفّرا ، وقد خافه كلّ عدوّ له بالمدينة وحولها ، وأسلم بشر كثير من أهل المدينة.
وأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشيرين إلى المدينة منهما عبد اللّه بن رواحة ، يبشّر أهل المدينة ، ويقول : «يا معشر الأنصار! أبشروا بسلامة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم ، ويسمّي من قتل في بدر من صناديد قريش ، يبشّرهم دارا دارا ، والصبيان ينشدون الأبيات معه سرورا وشكرا ، والناس بين مصدّق ومتردّد ، حتّى أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قافلا إلى المدينة ، وجيء بالأسرى وعليهم «شقران» مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «4» ، حتّى إذا كان بالرّوحاء لقيه المسلمون
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 638 - 639 ، [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب قتل أبي جهل ، برقم (3976) ، ومسلم في كتاب الجنة ونعيمها ، باب عرض مقعد الميّت من الجنة والنار عليه .. ، برقم (2874) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(2) رواه البخاري ، عن البراء بن عازب ، [باب ] غزوة بدر من كتاب المغازي [برقم (3986)].
(3) سيرة ابن كثير : ج 1 ، ص 463.
(4) المصدر السابق : ص 470 - 473 [و أخرجه البيهقي في السّنن (9/ 147) من حديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنه ].

(1/312)


ص : 313
(1/268)
يهنّئونه بما فتح اللّه عليه ومن معه من المسلمين.
ووقعت النياحة في بيوت المشركين بمكّة ، وكثر البكاء على القتلى «1» ، ودخل الرعب في قلوب الأعداء ، ونذر أبو سفيان ألّا يمسّ رأسه ماء ، حتّى يغزو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين ، ووجد المسلمون المستخفون في مكة في أنفسهم قوّة وعزا.
إخاء العقيدة فوق إخاء الولادة :
أسر يوم بدر أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمّه ، وكان مصعب صاحب اللواء يوم بدر ، وأبو عزيز صاحب لواء المشركين ، ومرّ به أخوه مصعب ورجل من الأنصار يشدّ يديه ، فأوصاه بأن يشدّ الوثاق ، قال : إنّ أمّه ذات متاع لعلّها تفديه منك ، فقال له أبو عزيز : يا أخي هذه وصاتك بي ؟! فقال له مصعب : إنّه أخي من دونك «2».
كيف عامل المسلمون الأسرى ؟
وأوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأسرى ، فقال : «استوصوا بهم خيرا» يقول أبو عزيز هذا : «كنت في رهط من الأنصار ، حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز ، وأكلوا التّمر ، لوصيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها ، فأستحي ، فأردّها ، فيردّها عليّ ، ما يمسّها «3».
وكان من الأسرى العباس بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وابن عمّه
___________
(1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1 ؛ ص 647 - 648.
(2) سيرة ابن كثير : ج 2 ، ص 475.
(3) المصدر السابق : ج 2 ، ص 475.

(1/313)


ص : 314
عقيل بن أبي طالب «1» ، وأبو العاص بن الربيع ، زوج بنت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وكان حكم الإسلام عاما ، لا يميّز بين قريب وبعيد.
تعليم غلمان المسلمين فداء الأسرى :
(1/269)
وعفا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الأسرى ، وقبل منهم الفداء ، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم ، وكان من لا شيء له منّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأطلقه ، وبعثت قريش في فداء الأسارى وأطلق سراحهم.
وكان من بين الأسرى ، من لم يكن لهم فداء ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة «2» ، فيعلّم كلّ واحد عشرة من المسلمين الكتابة «3».
وكان زيد بن ثابت ممّن تعلّم بهذا الطريق ، وكان في ذلك من تقدير العلم وتشجيع القراءة والكتابة ما لا يحتاج إلى توضيح.
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 3.
(2) مسند أحمد : ج 1 ، ص 247.
(3) طبقات ابن سعد : ج 2 ، ص 14.

(1/314)


ص : 315
خريطة السرايا والغزوات بين بدر وأحد

(1/315)


ص : 316
خريطة إجلاء بني قينقاع شوال سنة 2 للهجرة

(1/316)


ص : 317
غزوات وسرايا بين بدر وأحد
غزوة السويق :
كان أبو سفيان قد نذر ألا يمسّ رأسه ماء ، حتّى يغزو المسلمين ، فخرج في مئتي راكب من قريش ليبرّ يمينه ، واستأذن على سلام بن مشكم سيد بني النّضير ، فأذن له ، وقراه ، وسقاه ، وبطن له من خبر الناس ، وبعث رجالا ، فقتلوا رجلين من الأنصار.
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في طلبهم ، ورجع أبو سفيان وأصحابه قبل أن يدركهم المسلمون ، وألقوا أزوادا كثيرة ، عامّتها سويق ، فسمّيت «غزوة السّويق» «1».
إجلاء بني قينقاع :
(1/270)
وكان بنو قينقاع أول يهود ، نقضوا ما بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحاربوا في بدر وأحد ، وآذوا المسلمين ، فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، حتّى نزلوا على حكمه ، وشفع فيهم حليفهم عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين ، فأطلقهم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2» وكانوا سبعمئة مقاتل ، وكانوا صاغة وتجّارا «3».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 44 - 45.
(2) المصدر السابق : ج 1 ، ص 47 - 49.
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 348.

(1/317)


ص : 318
أصدر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عفوا عاما عن هؤلاء اليهود شريطة أن يخرجوا من المدينة إلى أيّ مكان شاؤوا ، فجلوا عنها إلى الشام آمنين على أنفسهم ، وعلى ما قدروا من حمله من أموالهم ، وغادر بنو قينقاع يثرب سالمين بعد أن كانوا يتوقّعون الموت جزاء نكثهم وتمرّدهم «1».
يقول المستشرق إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» :
«كان لا بدّ من عمل حاسم إزاء بني قينقاع وهم يسكنون داخل المدينة في حيّ واحد ، من أحياء العرب وتطهير المدينة وأحياء الأنصار من غير المسلمين».
___________
(1/271)
(1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 2 ، ص 48 ، وإجلاء بني قينقاع وقع بعد غزوة بدر الكبرى ، وقد حدّد الزهري تاريخه ، وذكر أنه كان في شوال من السنة الثانية من الهجرة. يقول مونتجمري وات) ttaW yremogtnoM (في كتابه) namsetatS tehporP dammahuM (ص 130 : «لقد كان طرد قبيلة بني قينقاع أحد العوامل الهامة التي عملت على تثبيت مركز محمد ودعمه ، وسبب هذا الطرد كما ترويه بعض الروايات نزاع طفيف طرأ بين يهود قينقاع وبعض التجار المسلمين في السوق في المدينة .. إلخ». وينفي مونتجمري وات أن يكون سبب هذا الطرد قصة المرأة المسلمة التي اعتدي عليها في سوق بني قينقاع كما جاءت في كتب السيرة ، وهو يقول : «أمّا الأسباب التي أدّت بمحمد إلى اتخاذ قرار طرد اليهود فيظهر أنها أكثر عمقا من هذه الحادثة العابرة ، فاليهود لم يظهروا استعدادهم التام للاندماج في المجتمع الإسلامي». ويضيف قائلا : «و قد يكون محمد أيضا على علم بالعلاقات الوديّة بين اليهود ومناوئيه من قريش في مكة ، وهذا يعدّ مخالفة لروح الاتفاقية المبرمة بين المسلمين واليهود ، وتناقضا لها». راجع للتفصيل «غزوة بني قينقاع» للأستاذ محمد أحمد باشميل.

(1/318)


ص : 319
قتل كعب بن الأشرف :
وكان كعب بن الأشرف أحد رؤساء اليهود ، شديد الأذى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة ، فلمّا كانت وقعة بدر ، ذهب إلى مكة ، فجعل يؤلّب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى المؤمنين ، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «من لكعب بن الأشرف ، فإنّه قد آذى اللّه ورسوله» ؟ ، فانتدب له رجال من الأنصار ، فقتلوه «1».
___________
(1/272)
(1) زاد المعاد : ص 348 ، ملخّصا. وقع قتل كعب بن أشرف بعد غزوة بدر ، وقيل : غزوة بني النضير. وحدّد الواقدي ذلك بدقة وذكر أنه وقع في السنة الثالثة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول. (السيرة النبوية الصحيحة ، للدكتور أكرم ضياء العمري : ص/ 202 - 203).

(1/319)


ص : 320
خريطة غزوة أحد 15 شوال 3 هجرية

(1/320)


ص : 321
غزوة أحد شوّال سنة ثلاث من الهجرة
الحميّة الجاهلية وأخذ الثأر :
لمّا أصيب صناديد قريش يوم بدر ، ورجع فلّهم إلى مكة ، عظم المصاب عليهم ، ومشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ، فكلّموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فاستعانوا بهذا المال على حرب المسلمين ، ففعلوا واجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحرّض الشعراء الناس بشعرهم ، وأثاروا فيهم الغيرة والحميّة.
وخرجت قريش في منتصف شوّال سنة ثلاث للهجرة بحدّها وحديدها ، بأبنائها ومن تابعها من القبائل ، وخرجوا معهم بالظّعن «1» ، لئلا يفرّوا «2» ، وخرج سادة قريش بأزواجهم وأقبلوا حتّى نزلوا مقابل المدينة.
وكان من رأي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقيم المسلمون بالمدينة ، ويدعهم فإن يدخلوا عليهم قاتلوهم فيها ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكره الخروج ، وكان رأي عبد اللّه بن أبيّ ما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رجال من المسلمين ممّن فاتهم بدر : يا رسول اللّه! اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنّا عنهم وضعفنا.
فلم يزالوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيته فلبس لأمته ، وندم
___________
(1) الظعن : جمع ظعينة ، وهي المرأة ما دامت في الهودج.
(2) ابن هشام : ج 2 ، ص 60 - 62.

(1/321)


ص : 322
(1/273)
الذين اقترحوا الخروج ، فقالوا : استكرهناك يا رسول اللّه! ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلّى اللّه عليك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل» «1».
فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ألف من أصحابه «2» ، فلمّا كانوا بالشّوط بين المدينة وأحد ، انخذل عنه عبد اللّه بن أبيّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني «3».
في ميدان أحد :
ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى نزل الشّعب من أحد (وهو جبل على نحو ثلاثة كيلو متر من المدينة) وجعل ظهره وعسكره إلى أحد «4» ، وقال : لا يقاتلنّ أحد منكم حتّى نأمره بالقتال ، وتعبّأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للقتال ، وهو في سبعمئة رجل.
وأمّر على الرّماة عبد اللّه بن جبير ، وهم خمسون رجلا ، فقال : ادفع
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 63 [و أخرجه أحمد في مسنده (3/ 351) والدارميّ في كتاب الرؤيا ، باب في القمص واللبن .. ، برقم (2082) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ].
(2) لفظ ابن حزم الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أحد ، وفق أقيسة قليلة بحتة ، ولكن المشهور المستفيض ما ذكر.
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 63 [و أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي ، باب غزوة أحد ، برقم (4050) ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، برقم (2776) في أبواب تفسير القرآن ، في تفسير سورة النساء ، برقم (3028) ، من حديث زيد بن ثابت رضي اللّه عنه ].
(4) راجع لفهم «الوضع الاستراتيجي» في ميدان أحد ، كتاب «ساحات القتال في العهد النبوي» ب (اللغة الأردوية) للدكتور حميد اللّه.

(1/322)


ص : 323
الخيل عنّا بالنّبل ، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا «1» وأمرهم بأن يلزموا مركزهم ، وألّا يفارقوا ولو رأوا الطّير تتخطّف العسكر «2».
(1/274)
ولبس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم درعا فوق درع ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير رضي اللّه عنه - .
مسابقة بين أتراب :
ردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من الغلمان في يوم أحد لصغرهم ، فردّ سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، وهما ابنا خمس عشرة سنة ، وشفع أبو رافع لابنه وقال : يا رسول اللّه! إنّ ابني رافعا رام ، فأجازه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.
وعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمرة بن جندب وهو في سنّ رافع ، وردّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لصغره ، فقال سمرة : لقد أجزت رافعا ورددتني ، ولو صارعته لصرعته ، ووقعت المصارعة بينهما ، فصرع سمرة رافعا فأجيز وخرج وقاتل يوم أحد «3».
المعركة :
والتقى النّاس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقامت هند بنت عتبة في النّسوة ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال يحرضنهم ، واقتتل الناس حتّى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة الذي أخذ السيف من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 66.
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 349 ، وراجع «صحيح البخاري» كتاب المغازي ، باب غزوة أحد ، [برقم (4043) و«مسند الإمام أحمد» (4/ 293) حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 66.

(1/323)


ص : 324
رسم ساحة القتال في غزوة أحد

(1/324)


ص : 325
ووعده بأنّه يأخذه بحقّه ، حتى أمعن في الناس ، وجعل لا يلقى أحدا إلا قتله «1».
شهادة حمزة بن عبد المطلّب ومصعب بن عمير رضي اللّه عنهما :
(1/275)
وقاتل حمزة بن عبد المطّلب قتالا شديدا ، وقتل عددا من الأبطال ، لا يقف أمامه شيء ، وكان وحشيّ غلام جبير بن مطعم له بالمرصاد ، وكان يقذف بحربة له قلّما يخطىء بها شيئا ، ووعده جبير بالعتق إن قتل حمزة ، وقد قتل عمّه طعيمة يوم بدر ، وكانت هند تحرّضه كذلك على قتل حمزة وشفاء نفسها ، وحمل وحشيّ على حمزة بحربته ، فدفعها عليه حتّى خرجت من بين رجليه ، فوقع شهيدا «2».
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى قتل ، وأبلى المسلمون بلاء حسنا «3».
غلبة المسلمين :
وأنزل اللّه تعالى نصره عليهم ، وصدقهم وعده ، حتّى كشفوا المشركين عن العسكر ، وكانت الهزيمة لا شكّ فيها ، وولّت النساء مشمّرات هوارب «4».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 67 - 68.
(2) المصدر السابق : ج 2 ، ص 70 - 72 ، واقرأ القصة بلسان وحشيّ في «الجامع الصحيح» للبخاري ، [كتاب المغازي ] غزوة أحد ، باب «قتل حمزة - رضي اللّه عنه - » [برقم (4072) وأحمد (3/ 501)].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 73.
(4) المصدر السابق : ج 2 ، ص 77.

(1/325)


ص : 326
كيف دارت الدائرة على المسلمين ؟
(1/276)
وبينما هم كذلك إذ انهزم المشركون ، وولّوا مدبرين ، حتى انتهوا إلى نسائهم ، فلمّا رأى الرّماة ذلك ، مالوا إلى العسكر ، وهم موقنون بالفتح ، وقالوا : يا قوم! الغنيمة! الغنيمة! فذكّرهم أميرهم عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يسمعوا ، وظنّوا أن ليس للمشركين رجعة ، فأخلوا الثغر ، وأخلوا ظهور المسلمين إلى الخيل «1» ، وأصيب أصحاب لواء المشركين حتّى ما يدنو منه أحد من القوم ، فأتاهم المشركون من خلفهم ، وصرخ صارخ : ألا! إنّ محمدا قد قتل. فتراجع المسلمون وكرّ المشركون كرّة ، وانتهزوا الفرصة ، وكان يوم بلاء وتمحيص ، وخلص العدوّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصابته الحجارة ، حتّى وقع لشقّه ، وأصيبت رباعيته ، وشجّ في رأسه «2» ، وجرحت شفته صلى اللّه عليه وسلم وجعل الدم يسيل على وجهه ، فيمسحه ويقول : «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم ، وهو يدعوهم إلى ربّهم ؟!» «3».
ولا يعلم المسلمون بمكانه ، فأخذ عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورفعه طلحة بن عبيد اللّه ، حتّى استوى قائما ، ومصّ مالك بن سنان الدّم عن وجهه صلى اللّه عليه وسلم وابتلعه «4».
ولم تكن فرّة ، إنّما كانت جولة يضطرّ إليها الجيش ثمّ يستأنف كرّة «5» ،
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 350.
(2) [الشجّ في الرّأس : هو أن يضربه بشيء ، فيجرحه فيه ويشقّه ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 78 - 80.
(4) المصدر السابق : ج 2 ، ص 80.
(5) يقول المستشرق جيورجيو في كتابه : «نظرة جديدة في سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم» (ص 267) : «من وجهة نظر محارب متخصّص - محايد - لم يخسر المسلمون في معركة أحد ، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب ، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين ، كما لم يحتل -

(1/326)


ص : 327
(1/277)
وما أصاب المسلمين من نكسة ومحنة ، وما أصيبوا من خسارة في النفوس ، وشهادة من كان قوة للإسلام والمسلمين ، وناصرا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللدّين ، إنّما كان نتيجة زلة للرماة ، وعدم تمسّكهم بتعاليم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأمره إلى اللّحظة الأخيرة ، وإخلائهم للجبهة التي عيّنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها ، وهو قوله تعالى :
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران : 152].
روائع من الحبّ والفداء :
نزع أبو عبيدة بن الجرّاح إحدى الحلقتين من وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسقطت ثنيّته ، ونزع الآخرى ، فكان ساقط الثنيتين «1».
وتترّس أبو دجانة بنفسه دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقع النّبل في ظهره وهو منحن عليه ، حتّى كثر فيه النبل.
ورمى سعد بن أبي وقّاص دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويناوله النبيّ صلى اللّه عليه وسلم النبل ويقول : «ارم فداك أبي وأمّي» «2».
___________
- المدينة».
(1) [أخرج البخاريّ حادثة جرح الرّسول صلى اللّه عليه وسلم ، في كتاب المغازي ، باب ما أصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من الجرح يوم أحد ، برقم (4073) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب اشتداد غضب اللّه على من قتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (1793) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ، وأخرجه مسلم من حديث أنس رضي اللّه عنه أيضا برقم (1791) في الكتاب والباب نفسه ].
(1/278)
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 80 - 82 ، ورواه البخاري [في كتاب المغازي ] في غزوة أحد -

(1/327)


ص : 328
وأصيبت عين قتادة بن النّعمان ، حتّى وقعت على وجنته «1» فردّها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما «2».
وقصده المشركون ، يريدون ما يأباه اللّه ، فحال دونه نفر نحو عشرة ، حتّى قتلوا عن آخرهم ، وجالدهم طلحة بن عبيد اللّه ، وترس عليه بيده ، يقي بها النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فأصيبت أنامله وشلّت يده ، وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك ، فلم يستطع لما به من الجراح والضعف ، فجلس طلحة تحته ، حتى صعدها ، وحانت الصلاة ، فصلّى بهم جالسا «3».
ولمّا انهزم الناس ، لم ينهزم أنس بن النّضر ، عم أنس بن مالك - خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وتقدّم ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أين يا أبا عمرو ؟ فقال أنس : واها لريح الجنّة ، يا سعد إني أجدها دون أحد «4».
___________
- في باب قوله تعالى : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران : 122] [برقم (4057) و(4058) ، ومسلم في فضائل الصحابة ؛ باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه ، برقم (2411)].
(1) [الوجنة : هي أعلى الخدّ].
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 82.
(3) المصدر السابق : ج 2 ، ص 86 ، وزاد المعاد : ج 1 ، ص 350 [و أخرجه الترمذي في أبواب الجهاد ، باب ما جاء في الدرع ، برقم (1692) ، وفي أبواب المناقب ، باب مناقب طلحة ، برقم (3739) وقال : حسن غريب ، وأحمد في المسند (1/ 165) ، والحاكم في المستدرك (3/ 374) ووافقه الذهبي ].
(1/279)
(4) زاد المعاد : ج 1 ، ص 350 ، وأصل الرواية في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة أحد ، برقم (4048) ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، برقم (1903) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، سورة السجدة ، برقم (3198) ، وفي سورة الأحزاب ، برقم (3199) ، وأحمد في المسند (3/ 194) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].

(1/328)


ص : 329
وانتهى أنس بن النّضر إلى رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟
قالوا : قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ ، قوموا وموتوا على ما مات عليه رسول اللّه ، ثمّ استقبل القوم ، فقاتل حتى قتل.
يقول أنس رضي اللّه عنه : لقد وجدنا به يومئذ سبعين ضربة ، فما عرفه إلا أخته ، عرفته ببنانه «1».
وقاتل زياد بن السّكن في خمسة من الأنصار دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقتلون دونه رجلا ثم رجلا ، فقاتل زياد حتّى أثبتته الجراحة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«أدنوه منّي» فأدنوه ، فوسّده قدمه ، فمات وخدّه على قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2».
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ، وكان له أربعة أبناء شباب ، يغزون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا توجّه إلى أحد أراد أن يخرج معه ، فقال له بنوه : إنّ اللّه قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع اللّه عنك الجهاد.
وأتى عمرو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : إنّ بنيّ هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ، وو اللّه إنّي لأرجو أن أستشهد ، فأطأ بعرجتي هذه في الجنّة ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أمّا أنت فقد وضع اللّه عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه ، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة ، فخرج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا «3».
___________
(1/280)
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 82.
(2) المصدر السابق : ج 2 ، ص 81.
(3) زاد المعاد : ج 1 ، ص 353.

(1/329)


ص : 330
يقول زيد بن ثابت - رضي اللّه عنه - : بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الرّبيع ، فقال لي : إن رأيته فأقرئه منّي السلام وقل له : يقول لك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف تجدك ؟ قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو باخر رمق ، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة سيف ، ورمية سهم فقلت : يا سعد! إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول اللّه السلام ، وقل له : يا رسول اللّه! أجد ريح الجنّة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند اللّه إن خلص إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته «1».
وقال عبد اللّه بن جحش في ذلك اليوم : اللهمّ! إنّي أقسم عليك أن ألقى العدوّ غدا ، فيقتلوني ، ثم يبقروا بطني ، ويجدعوا أنفي وأذني ، ثم تسألني : فيم ذاك ؟ فأقول : فيك!.
عودة المسلمين إلى مركزهم :
ولمّا عرف المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشّعب ، وأدركه أبيّ بن خلف ، وهو يقول : أي محمد لا نجوت إن نجوت ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «دعوه» ، فلمّا دنا تناول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحربة من أحد أصحابه ، ثم استقبله وطعنه في عنقه طعنة تقلّب بها عن فرسه مرارا «2».
___________
(1) زاد المعاد : ج 2 ، ص 353 [أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 201) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، والبيهقي في «الدلائل» (3/ 248) ، والطبري في تاريخه (2/ 528) من طريق ابن إسحاق ].
(1/281)
(2) سيرة ابن هشام : (2/ 84) [أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 24) ، والحاكم في المستدرك (3/ 199 - 200) ، وأبو نعيم في «الحلية» و(1/ 109) من حديث سعد بن -

(1/330)


ص : 331
وخرج عليّ بن أبي طالب ، فملأ درقته «1» ماء ، وغسل من وجهه الدم ، وكانت فاطمة بنت الرسول صلى اللّه عليه وسلم تغسله ، وعليّ يسكب الماء بالمجنّ «2» ، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدم إلا كثرة ، أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، وألصقتها ، فاستمسك الدّم «3».
وكانت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم تنقلان القرب على متونهما تفرغانها في أفواه القوم ، ثمّ ترجعان فتملأ انها ، ثم تجيئان ، فتفرغانها في أفواه القوم «4» ، وكانت أمّ سليط تزفر «5» لهما القرب «6».
ووقعت هند بنت عتبة ، والنّسوة اللائي معها يمثّلن بالقتلى من المسلمين ، يجد عن الآذان والآنف ، وبقرت عن كبد حمزة - رضي اللّه عنه - فمضغتها ، فلم تستطع أن تسيغها ، فلفظتها «7».
___________
- وقاص رضي اللّه عنه ، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي ].
(1) [الدّرقة : التّرس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب ].
(2) [المجن : قد تكرّر في الأحاديث ذكر «المجنّ والمجانّ» وهو التّرس والتّرسة ، والميم زائدة لأنّه من الجنّة].
(3) رواه البخاري في «غزوة أحد» باب «ما أصاب النبي من الجراح يوم أحد» [برقم (4075)] ، ومسلم في [كتاب الجهاد والسير] باب «غزوة أحد» [برقم (1790)] باختلاف يسير ، [و أحمد في المسند (5/ 330) ، وابن ماجه في أبواب الطب ، باب دواء الجراحة ، برقم (3464) من حديث سهل بن سعد السّاعدي رضي اللّه عنه ] وابن هشام : ج 2 ، ص 85 وزاد المعاد : ج 1 ، ص 352.
(1/282)
(4) رواه البخاري [في كتاب المغازي ] (غزوة أحد) باب إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [برقم (4064)] ، ومسلم [في كتاب الجهاد] في باب غزوة النساء مع الرجال [برقم (1811) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(5) تزفر : تستقي.
(6) رواه البخاري ، [في كتاب المغازي ] باب «أم سليط» [برقم (4071) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ].
(7) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 91.

(1/331)


ص : 332
ولمّا أراد أبو سفيان الانصراف ، أشرف على الجبل ، ثمّ صرخ بأعلى صوته : إنّ الحرب سجال ، يوم بيوم ، اعل هبل.
فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «قم يا عمر ، فأجبه ، فقل : اللّه أعلى وأجلّ ، لا سواء ، فقتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار» «1».
قال أبو سفيان : لنا العزّى ولا عزّى لكم.
قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «أجيبوه».
قالوا : ما نقول ؟.
قال : «قولوا : اللّه مولانا ولا مولى لكم» «2».
ولمّا انصرف ، وانصرف المسلمون ، نادى : إنّ موعدكم بدر للعام القابل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجل من أصحابه : «قل نعم ، هو بيننا وبينكم موعد» «3».
وفزع النّاس لقتلاهم ، وحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حمزة ، وكان عمّه وأخاه من الرضاعة ، والمقاتل دونه.
صبر امرأة مؤمنة :
وأقبلت صفيّة بنت عبد المطّلب لتنظر إليه ، وكان أخاها لأبيها وأمّها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لابنها الزّبير بن العوام : «القها ، فأرجعها ، لا ترى ما بأخيها».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 93.
(2) رواه البخاري ، [في كتاب المغازي ] باب «غزوة أحد» برقم (4043) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في الكمناء ، برقم (2662) ، وأحمد في المسند (4/ 293) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 94.

(1/332)


ص : 333
(1/283)
فقال لها : يا أمّه! إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرك أن ترجعي ، قالت : ولم ؟
وقد بلغني أن قد مثّل بأخي ، وذلك في اللّه لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء اللّه ، وأتته ، فنظرت إليه ، وصلّت عليه ، واسترجعت واستغفرت له ، ثمّ أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدفن «1».
كيف دفن مصعب بن عمير وشهداء أحد ؟
وقتل مصعب بن عمير صاحب لواء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن أنعم فتيان قريش قبل الإسلام ، فكفّن في بردة ، إن غطّي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطّيت رجلاه بدا رأسه ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «غطّوا بها رأسه ، واجعلوا على رجله الإذخر «2»» «3».
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : «أيّهم أكثر أخذا للقرآن ؟» فإذا أشير له إلى أحد ، قدّمه في اللحد ، وقال : «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» ، وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصلّ عليهم ، ولم يغسّلوا «4».
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 97 [أخرجه أحمد (1/ 165) ، والبيهقي (4/ 401) من حديث الزبير بن العوّام رضي اللّه عنه ].
(2) [الإذخر : حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب ].
(3) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه .. ، برقم (1276) ، ومسلم في كتاب الجنائز ، باب في كفن الميت ، برقم (940) من حديث خبّاب ابن الأرت رضي اللّه عنه ].
(4) رواه البخاري [في كتاب الجنائز] ، باب «من قتل من المسلمين يوم أحد» [برقم (1343) ، والترمذي في أبواب الجنائز ، باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد ، برقم (1036) ، وأبو داود في كتاب الجنائز ، باب في الشهيد يغسل ؟ برقم (3138) ، من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ]. هذا ما جاء في الجامع الصحيح ، وقد وردت الأحاديث في الصلاة عليهم ، وفي المسألة -

(1/333)


ص : 334
(1/284)
إيثار النساء لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
عاد المسلمون إلى المدينة ، فمرّوا بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا نعوا لها ، قالت : فما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أمّ فلان! هو بحمد اللّه كما تحبّين ، قالت :
أرونيه حتّى أنظر إليه ، حتّى إذا رأته قالت : كلّ مصيبة بعدك جلل «1».
اتّباع المسلمين أثر العدوّ واستماتتهم في نصرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم :
وتلاوم المشركون ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا ، أصبتم شوكة القوم وحدّهم ، ثمّ تركتموهم ولم تبتروهم «2».
فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطلب العدوّ هذا ، والمسلمون مثخنون بالجراح ، فلمّا كان الغد من يوم الأحد ، أذّن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النّاس بالخروج في طلب العدوّ ، وأذّن ألا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس ، وما من المسلمين إلا جريح ثقيل ، فخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يتخلف منهم أحد ، وانتهوا إلى «حمراء الأسد» ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون الإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، ثمّ رجعوا إلى المدينة «3» وقد أثنى اللّه تعالى على ذلك وخلّد ذكره ، فقال :
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً
___________
- تفصيل وخلاف ، راجع شروح الحديث وكتب الخلاف.
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 99 [و أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 302) ، والطبري في تاريخه (2/ 533) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه ].
(1/285)
(2) [أي لم يقطعوهم مستأصلين ].
(3) سيرة ابن كثير : ج 3 ، ص 97.

(1/334)


ص : 335
وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران : 172 - 175].
وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون ، أكثرهم من الأنصار ، رضي اللّه عنهم ، وقتل من المشركين اثنان وعشرون رجلا «1».
تربية نفوس المسلمين :
وقد كان ما وقع في أحد من محنة للمسلمين ، تمحيصا وتربية لهم ، فلا ثقة بجماعة عاشت على سرور انتصار ، ونشوة الفتح ، وحلاوة الظفر ، ولم تذق مرارة المصائب والخسائر ، فإنّها إذا أصيبت بذلك في يوم من الأيام ، عزّ ذلك عليها واضطرب إيمانها ، ولذلك يقول اللّه تعالى :
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [آل عمران : 153].
وقد هيّأ اللّه نفوس المسلمين في هذه المعركة ، لتتلقّى نبأ وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشهادته ، وإن تأخّر ذلك ، والثبات على العقيدة ، والدعوة إليها والجهاد في سبيلها والوفاء لها في حياته ، وبعد حياته ، فلا يجبنون ولا يتخاذلون ، ولا يهنون ولا يستكينون ، فقال : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران : 144].
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 101 - 102.

(1/335)


ص : 336
(1/286)
أحبّ إلى النفس من النفس :
وفي سنة ثلاث للهجرة طلبت «عضل» «و «القارة» نفرا من المسلمين ، ليعلّموهم ، فبعث معهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة من أصحابه ، معهم عاصم بن ثابت ، وخبيب بن عديّ ، وزيد بن الدّثنة ، حتّى إذا كانوا على «الرّجيع» وهو موضع بين «عسفان» ومكة ، غدروا بهم ، قالوا : لكم عهد اللّه وميثاقه ألّا نقتلكم ، فقال بعض المسلمين : لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا ، وقاتلوا القوم حتّى قتلوا.
وأمّا زيد بن الدّثنة ، وخبيب بن عديّ ، وعبد اللّه بن طارق ، فأعطوا بأيديهم ، فأسرهم المشركون ، وقتل عبد اللّه بن طارق في الطريق ، وأمّا خبيب وزيد ، فباعوهما من قريش ، وابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب ، ليقتله بأبيه إهاب ، وأمّا زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف.
وأخرجوا زيدا من الحرم ليقتلوه ، واجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان : أنشدك اللّه يا زيد! أتحبّ أنّ محمدا عندنا الآن في مكانك وأنّك في أهلك ، قال : ما أحبّ أنّ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنّي جالس في أهلي «1» ، قال أبو سفيان : ما رأيت من النّاس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمد محمدا ، ثمّ قتل «2».
وأمّا خبيب ، فلمّا جاؤوا به ليصلبوه ، قال لهم : إن رأيتم أن تدعوني
___________
(1) ذكره عروة وموسى بن عقبة في قصة خبيب (ابن كثير : ج 3 ، ص 131).
(2) رواية ابن إسحاق (ابن هشام : ج 2 ، ص 172).

(1/336)


ص : 337
خريطة يوم الرجيع

(1/337)


ص : 338
حتّى أركع ركعتين ، فافعلوا ، قالوا : دونك ، فاركع ، فركع ركعتين ، أتمّهما وأحسنهما ، ثمّ أقبل على القوم ، فقال : أمّا واللّه لو لا أن تظنّوا أنّي إنّما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة ، وأنشد بيتين : [من الطويل ]
(1/287)
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ شقّ كان في اللّه مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «1»
بئر معونة :
بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفرا من أصحابه على طلب من عامر بن مالك ليدعوهم إلى الإسلام ، وكانوا سبعين رجلا من خيار المسلمين ، فساروا حتّى نزلوا بئر معونة ، واجتمع عليهم قبائل من بني سليم : «عصيّة» و«رعل» و«ذكوان» ، فغشوا القوم ، وأحاطوا بهم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم ، إلا كعب بن زيد ، عاش حتّى قتل يوم الخندق شهيدا «2».
___________
(1) راجع للتفصيل «سيرة ابن هشام» : ج 2 ، ص 169 - 176 ؛ ورواه البخاري في كتاب المغازي ، باب التوحيد والجهاد ، [برقم (3989) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب في الرجل يستأمر ، برقم (2660) و(2661) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ]. باختلاف يسير ، وابن كثير : ج 3 ، ص 123 - 125.
(2) راجع البخاري [أخرجه في كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ، ورعل ، وذكوان .. ، برقم (4093) من حديث عائشة رضي اللّه عنه ] ، ومسلم [في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات ... ، برقم (677) ، من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ] ، وسيرة ابن هشام [2/ 183 - 187].

(1/338)


ص : 339
كلمة قتيل كانت سببا لإسلام القاتل :
وفي هذه السّرية قتل حرام بن ملحان ، قتله جبار بن سلمى ، وكان سبب إسلامه كلمة قالها حرام ، وهو يجود بنفسه ، يقول جبار : إنّ مما دعاني إلى الإسلام أنّي طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه ، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول : فزت وربّ الكعبة! فقلت في نفسي :
ما فاز ؟! ألست قد قتلت الرجل ؟! حتّى سألت بعد ذلك عن قوله ، فقالوا :
للشهادة ، فقلت : فاز لعمر اللّه ، فكان سببا لإسلامه «1».
(1/288)
___________
(1) [أخرج هذه القصة مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات .. ، برقم (677) ، والبيهقيّ في «الدلائل» (3/ 347) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ] وابن هشام : ج 2 ، ص 187.

(1/339)


ص : 340
خريطة إجلاء بني النضير ربيع الأول سنة 4 هجرية

(1/340)


ص : 341
إجلاء بني النّضير
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بني النّضير - وهم قبيلة عظيمة من اليهود - ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر ، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف ، فرقّوا في الكلام ووعدوا بخير ، ولكنّهم أضمروا الغدر والاغتيال ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم ، فناجى بعضهم بعضا :
إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فمن رجل يعلو هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه ؟! وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي اللّه عنهم.
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من السّماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسّير إليهم ، ثمّ سار بالنّاس ، حتّى نزل بهم ، وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع ، فحاصرهم ستّ ليال ، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب ، وسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فقبل ، واحتملوا من أموالهم ما استقلّت بها الإبل ، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن العتبة والأسكفة ، فيضعه على ظهر بعيره ، فينطلق به «1» ، يقول اللّه تعالى في هذه الغزوة :
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 190 - 191.

(1/341)


ص : 342
(1/289)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر : 2].
فمنهم من خرج إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشّام ، وتخلّص المسلمون من وكر من أوكار المكيدة والمؤامرة والنّفاق والخداع ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب : 25].
وقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أموالهم إلى المهاجرين الأوّلين «1».
غزوة ذات الرقاع :
وفي سنة أربع غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نجدا فسار حتى نزل نخلا ، وكان ستة رجال - منهم أبو موسى الأشعريّ - بينهم بعير يتعقّبونه ، فنقبت أقدامهم ، وسقطت أظفارها ، فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق ، فسمّيت «غزوة ذات الرّقاع» «2».
وتقارب الناس ، ولم يكن بينهم حرب ، وقد خاف الناس بعضهم بعضا ، حتّى صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس صلاة الخوف «3».
___________
(1) [أخرج البخاري واقعة إجلاء بني النضير في كتاب المغازي ، باب حديث بني النضير ... ، برقم (4031) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها ، برقم (1746) من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما].
(1/290)
(2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرّقاع ، برقم (4128) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب غزوة ذات الرقاع ، برقم (1816) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه ، وأخرجه البخاري أيضا ، في الكتاب نفسه ، باب غزوة بني المصطلق .. ، برقم (4139) ، ومسلم في كتاب الصلاة المسافرين ، باب صلاة الخوف ، برقم (843) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ص 204.

(1/342)


ص : 343
من يمنعك مني ؟
ولمّا قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذه الغزوة ، وقفل معه النّاس أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفرّق الناس في العضاه «1» ، يستظلّون الشجر ، ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت سمرة ، فعلّق بها سيفه.
قال جابر : فنمنا نومة ، ثمّ إذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعونا ، فإذا عنده أعرابيّ جالس ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنّ هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده مصلتا ، فقال لي : من يمنعك منّي ؟ ، قلت : «اللّه» فها هو جالس ، ثمّ لم يعاقبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2».
غزوات لم يكن فيها قتال :
وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شعبان سنة أربع ، إلى بدر ؛ لميعاد أبي سفيان فنزله ، وأقام عليه ثماني ليال ، ينتظر أبا سفيان ، وخرج أبو سفيان ، ثمّ بدا له الرجوع ، وقال : إنّ عامكم هذا عام جدب ، وإنّي راجع فارجعوا ، وكفى اللّه المؤمنين القتال.
وغزا دومة الجندل «3» ، ولم يلق كيدا ، فرجع إلى المدينة «4».
___________
(1) العضاه : شجر كثير الشوك.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرقاع ، [برقم (4136) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب صلاة الخوف ، برقم (843) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].
(1/291)
(3) [دومة الجندل : وهي موضع ، تضمّ دالها وتفتح ].
(4) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 209 - 213.

(1/343)


ص : 344
خريطة السرايا والغزوات بين أحد والخندق

(1/344)


ص : 345
غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب شوّال سنة خمس من الهجرة
وفي شوّال سنة خمس كانت غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب «1» ، وكانت من الحوادث التي لها أثر بعيد في تاريخ الإسلام والمسلمين ، وفي تقرير مصير الدعوة الإسلامية ، وفي المدّ الإسلاميّ ، وكانت معركة حاسمة ، ومحنة ابتلي فيها المسلمون ابتلاء لم يبتلوا بمثله.
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب : 10 - 11].
وكان سببها اليهود ، فقد خرج نفر من بني النّضير ، ونفر من بني وائل ، فقدموا على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا قد جرّبوها واكتووا بنارها ، فصاروا يتهيّبونها ، ويزهدون فيها ، فزيّنها لهم الوفد اليهوديّ وهوّن أمرها ، وقالوا : إنّا سنكون معكم حتّى نستأصله ، فسرّ ذلك
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 214.

(1/345)


ص : 346
خريطة غزوة الخندق شوال 5 ه

(1/346)


ص : 347
قريشا ، ونشطوا لما دعوهم إليه ، واجتمعوا لذلك ، واتعدوا له.
ثمّ خرج الوفد ، فجاء غطفان ، فدعاهم إلى ذلك ، وطاف في القبائل ، وعرض عليها مشروع غزو المدينة ، وموافقة قريش عليه «1».
(1/292)
وتمّت اتفاقية عسكرية ، كان قريش واليهود وغطفان من أهمّ أعضائها ، واتّفقوا على شروط ، من أهمّها أن تشارك غطفان في «جيش الاتحاد» أو عسكر الحلفاء ، بستة آلاف مقاتل ، وأن يدفع اليهود لقبائل غطفان كلّ ثمر نخل خيبر لسنة واحدة ، وحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل ، وغطفان ستة آلاف مقاتل ، فكانوا عشرة آلاف ، وأسندت قيادة الجيش إلى أبي سفيان «2».
الحكمة ضالّة المؤمن :
ولمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزحفهم إلى المدينة ، وتحزّب الأحزاب لقتال المسلمين ، وعزمها على استئصال شأفتهم ، أهمّ المسلمين ذلك ، وتهيؤوا للحرب ، وقرّروا التحصّن في المدينة والدفاع عنها ، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل.
هنالك أشار سلمان الفارسيّ بضرب الخندق على المدينة «3» ، وكانت خطّة حربيّة متبعة عند الفرس «4» ، قال سلمان : يا رسول اللّه! إنّا كنّا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل خندقنا علينا ، وقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيه فأمر بحفر
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 214 - 215.
(2) المصدر السابق نفسه : ص 219 - 220.
(3) المصدر السابق نفسه : ص 224.
(4) وكلمة خندق معرب كلمة «كنده» وترد كلمة خندك في الفارسية أيضا بنفس المعنى. راجع (فرهنك عميد).

(1/347)


ص : 348
الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدوّ «1».
وقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخندق بين أصحابه ، لكلّ عشرة منهم أربعون ذراعا «2» ، وقد بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة ، والعرض من تسعة إلى ما فوقها «3» «4».
روح المساواة والمواساة بين المسلمين :
(1/293)
وعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حفر الخندق ، ترغيبا للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا «5» ، وكان البرد شديدا ، ولا
___________
(1) وقد تمّ حفره في شمالي المدينة الشرقي إلى غربيها ، وكان حدّه الشرقي طرف حرة واقم ، وحده الغربي غربي وادي بطحان ، حيث طرف الحرة الغربية ، (حرة الوبرة). (آثار المدينة المنورة - للأستاذ عبد القدوس الأنصاري). أمّا ما جاء من تحقيق العقيد عيسى أمين المجادل ، المنشور في مجلة «الدفاع» الصادرة من إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة بالرياض ، عدد 79 شهر ذي الحجة سنة 1410 ه : «إن الحفريات دلّت على أن الخندق كان طوله 8 كيلو مترات ، وعرضه 6 أمتار ، وعمقه 5 أمتار ، فإن ما قيل عن الطول مستبعد نظرا إلى مساحة المدينة وصعوبة الحفر إلى هذا الحد ، وعدم الحاجة إليه ، أمّا ما قيل عن العرض والعمق فإن الاعتماد عليه ممكن ولا إشكال فيه».
(2) سيرة ابن كثير : ج 3 ، ص 192.
(3) [انظر واقعة غزوة الخندق ، أخرجها البخاري من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ، في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ، برقم (4106) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب غزوة الخندق ، برقم (1803) ، وأخرجها البخاري أيضا من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي اللّه عنه في الكتاب والباب نفسه ، برقم (4098) ، ومسلم عنه أيضا في الكتاب والباب نفسه ، برقم (4098)].
(4) غزوة الأحزاب : للأستاذ محمد أحمد باشميل.
(5) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 216.

(1/348)


ص : 349
يجدون من القوت إلا ما يسدّ الرمق ، وقد لا يجدونه.
يقول أبو طلحة : شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجوع ، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بطنه حجرين «1».
وكانوا مسرورين ، يحمدون اللّه ، ويرتجزون ، ولا يشكون ولا يتعتّبون.
(1/294)
يقول أنس - رضي اللّه عنه - : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الخندق ، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلمّا رأى ما بهم من النّصب والجوع ، قال :
اللّهمّ إنّ الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له : [من الرجز]
نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «2»
قال : ويؤتون بملء كفّ من الشّعير ، فيصنع لهم بإهالة «3» سنخة «4» «5».
نور الفتوح الإسلاميّة في ظلام الحصار والشدّة :
عرض للمسلمين في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة ، لا تأخذ فيها
___________
(1) أخرجه الترمذي [في أبواب الزهد ، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (2371)] ، قال الطيبي : «عادة من اشتدّ جوعه وخمص بطنه أن يشد على بطنه حجرا ، ليتقوّم به صلبه». (مشكاة المصابيح مع هامشها ؛ ج 2 ، ص 448).
(2) أخرجه البخاري في الصحيح عن أنس رضي اللّه عنه في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق [برقم (4099) و(4100)] ، ورواه مسلم عن أنس نحوه [في كتاب الجهاد ، باب غزوة الأحزاب ، برقم (1805)].
(3) الإهالة : الودكة وكل ما يؤتدم به.
(4) السنخة : المتغيرة الريح ، الفاسدة الطعم.
(5) سيرة ابن كثير : ج 3 ، ص 184 ، نقلا عن البخاري [قد سبق تخريجه آنفا].

(1/349)


ص : 350
المعاول ، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما رآها أخذ المعول ، وقال :
«باسم اللّه» وضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : «اللّه أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام» فقطع ثلثا آخر ، فقال : «اللّه أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، واللّه إنّي لأبصار قصر المدائن الأبيض» ثمّ ضرب الثالثة ، فقال : «باسم اللّه» فقطع بقية الحجر ، فقال : «اللّه أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، واللّه إنّي لأبصار أبواب صنعاء من مكاني الساعة» «1».
(1/295)
هذا ، والمسلمون في شكّ من حياتهم ، يعضّهم الجوع ، ويؤذيهم البرد ، وينذرهم العدوّ.
المعجزات النبوية في الغزوة :
وظهرت المعجزات على يد الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإذا اشتدّت على المسلمين في بعض الخندق كدية «2» ، دعا بإناء من ماء ، فتفل فيه ، ثمّ دعا بما شاء اللّه أن يدعو به ، ونضح ذلك الماء على تلك الكدية فانهالت وعادت كالكثيب «3».
وظهرت البركة في طعام قليل ، فشبع به عدد كبير ، وكفى الجيش كلّه.
قال جابر بن عبد اللّه : إنّا يوم الخندق نحفر ، فعرضت كدية شديدة ، فجاؤوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق ، فقال : «أنا نازل» ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ، فأخذ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم المعول ، فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «4» ، فقلت : يا رسول اللّه!
___________
(1) أخرجه البيهقي [في «الدلائل» (3/ 417 - 418)] بسنده عن البراء بن عازب الأنصاري [و أخرجه أحمد في مسنده (4/ 303) و] (ابن كثير ، ج 3 ، ص 194).
(2) [الكدية : قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفأس ].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 217 - 218.
(4) أهيل أو أهيم : أي : رملا سائلا.

(1/350)


ص : 351
ائذن لي إلى البيت ، فقلت لامرأتي : رأيت بالنبيّ صلى اللّه عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر ، فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير وعناق «1» ، فذبحت العناق ، وطحنت الشعير ، حتّى جعلنا اللحم في البرمة «2» ، ثمّ جئت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم والعجين قد انكسر ، والبرمة بين الأثافي «3» ، قد كادت أن تنضج فقلت :
طعيم لي ، فقم أنت يا رسول اللّه ورجل أو رجلان ، قال : «كم هو ؟» فذكرت له ، قال : «كثير طيب. قل لها : لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنوّر ، حتّى آتي» فقال : «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار.
(1/296)
فلمّا دخلت على امرأتي ، قلت : ويحك! جاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم! قالت : هل سألك ؟ قلت : نعم ، فقال : «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز ، ويجعل عليه اللحم ويخمّر «4» البرمة والتنّور إذا أخذ منه ، ويقرّب إلى أصحابه ، ثمّ ينزع. فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا.
وبقي بقية ، قال : «كلي هذا وأهدي ، فإنّ الناس قد أصابتهم مجاعة» «5».
وفي رواية : قال جابر : جئته ، فساررته فقلت : يا رسول اللّه! ذبحنا بهيمة لنا وطحنّا صاعا من شعير كان عندنا ، فتعال أنت ونفر معك ، فصاح
___________
(1) العناق : الأنثى من ولد الماعز.
(2) البرمة : القدر.
(3) الأثافي : حجارة ثلاثة توضع عليها القدر.
(4) يخمر : يغطي.
(5) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح [في كتاب المغازي ] باب «غزوة الخندق» [برقم (4102) ، ومسلم في كتاب الأشربة ، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ، برقم (2039) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].

(1/351)


ص : 352
النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وقال : «يا أصحاب الخندق! إن جابرا قد صنع سورا» «1» «2».
إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم :
وأقبلت قريش ، حتّى نزلت أمام المدينة ، في عشرة آلاف ، وأقبلت غطفان بتوابعهم ، فنزلوا أمام المدينة أيضا ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف وبينه وبين قومه الخندق.
(1/297)
وكان بين المسلمين وبين بني قريظة عقد وعهد ، فحملهم حييّ بن أخطب سيّد بني النضير - على نقض العهد ، وقد فعل ذلك بنو قريظة بعد امتناع وتردّد ، وتحققه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «3» فعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، وهمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ، رفقا بالأنصار ، وتخفيفا عنهم ، فقد استقلّوا بأكبر نصيب من أعباء الحرب.
ثمّ عدل عن ذلك ، بعد ما رأى من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الثبات والاستقامة ، والصمود أمام العدوّ ، والإباء ، فقال سعد بن معاذ :
يا رسول اللّه! قد كنّا نحن وهؤلاء على الشّرك باللّه ، وعبادة الأوثان ، لا نعبد
___________
(1) قال الفتني في «مجمع بحار الأنوار» : اللفظة فارسية وهو طعام العرس في لغة الفرس.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه [في كتاب المغازي ] في باب «غزوة الخندق» [برقم (4102) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 220 - 221 [انظر نقض بني قريظة للعهد في حديث عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما ، أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، باب مناقب الزبير بن العوام رضي اللّه عنه برقم (3720) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب فضائل طلحة والزبير رضي اللّه عنهما ، برقم (2416) ، وأخرجه البخاري أيضا من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما في الكتاب والباب نفسه ، برقم (3719) ، ومسلم أيضا في الكتاب والباب نفسه برقم (2416)].

(1/352)


ص : 353
(1/298)
اللّه ولا نعرفه ، وهم لا يطعمون منها ثمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزّنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا ؟ واللّه ما لنا بهذا من حاجة ، واللّه لا نعطيهم إلا السّيف ، حتّى يحكم اللّه بيننا وبينهم ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «فأنت وذاك» «1».
بين فارس الإسلام وفارس الجاهلية :
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، وعدوّهم محاصرهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أنّ فوارس من قريش أقبلوا تسرع بهم خيلهم حتّى وقفوا على الخندق ، فلمّا رأوه قالوا : واللّه إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها!
ثم تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق ، فضربوا خيلهم ، فاقتحمت منه ، فجالت بهم في أرض المدينة ، ومنهم الفارس المشهور : عمرو بن عبد ودّ ، الذي كان يقوّم بألف فارس ، فلمّا وقف قال : من يبارز ؟ فبرز عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - فقال : يا عمرو! إنّك كنت عاهدت اللّه لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين ، إلا أخذتها منه.
قال : أجل.
قال له عليّ : فإنّي أدعوك إلى اللّه وإلى رسوله وإلى الإسلام.
قال : لا حاجة لي بذلك.
قال : فإنّي أدعوك إلى النّزال.
فقال له : لم يابن أخي ؟ فو اللّه ، ما أحبّ أن أقتلك.
قال له عليّ - رضي اللّه عنه - : لكنّي واللّه أحبّ أن أقتلك.
___________
(1) راجع للتفصيل سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 222 - 223.

(1/353)


ص : 354
فحمي عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره ، وضرب وجهه ، ثمّ أقبل على عليّ - رضي اللّه عنه - فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ - رضي اللّه عنه - «1» وكان من فوارسهم نوفل بن مغيرة قد اقتحم الخندق بفرسه ، فتورط فيه ، فقتل هنالك ، وخرجت خيلهم منهزمة ، حتّى اقتحمت من الخندق هاربة.
أمّ تحرّض ابنها على القتال والشهادة :
(1/299)
تقول عائشة - أمّ المؤمنين - رضي اللّه عنها - وكانت مع نسوة مسلمات في حصن بني حارثة وذلك قبل أن يضرب عليهنّ بالحجاب : مرّ سعد بن معاذ وعليه درع قصيرة ، قد خرجت منها ذراعه كلّها ، وهو يرتجز ، فقالت له أمّه : الحق يا بنيّ فقد واللّه أخرت. قالت عائشة : فقلت لها : يا أمّ سعد! واللّه لو ددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي.
وكان ما تخوّفته عائشة - رضي اللّه عنها - فرمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل «2» ، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة «3».
وللّه جنود السموات والأرض :
أحاط المشركون بالمسلمين ، حتّى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم ، فحاصروهم قريبا من شهر ، وأخذوا بكلّ ناحية ، واشتدّ البلاء ، وتجهّر النفاق ، واستأذن بعض الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة
___________
(1) ابن كثير : ج 3 ، ص 202 - 203 [أخرج الحاكم هذه القصة في «المستدرك» (3/ 32) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما ، صحّحه الذهبي ووافقه ].
(2) الأكحل : عرق في الذراع.
(3) ابن كثير : ج 3 ، ص 207 [أخرج هذه القصة أحمد في مسنده (6/ 141) من حديث عائشة رضي اللّه عنها ، وذكرها الهيثمي في المجمع (6/ 136 - 138)].

(1/354)


ص : 355
وقالوا : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الأحزاب : 13].
وبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيما وصف اللّه من الخوف والشدّة ، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفانيّ ، فقال : يا رسول اللّه! إنّي قد أسلمت ، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني ما شئت ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا إن استطعت ، فإنّ الحرب خدعة».
(1/300)
فخرج نعيم بن مسعود ، فأتى بني قريظة ، وتكلّم معهم بكلام جعلهم يشكّون في صحّة موقفهم وولائهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد ، وعدائهم للمهاجرين والأنصار ، الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمون ، وأشار عليهم بألّا يقاتلوا مع قريش وغطفان حتّى يأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونوا بأيديهم ثقة لهم ، فقالوا له : لقد أشرت بالرأي.
ثمّ خرج حتى أتى قريشا ، فأظهر لهم إخلاصه ونصيحته ، وأخبرهم بأنّ اليهود قد ندموا على ما فعلوا ، وسيطلبون منهم رجالا من أشرافهم تأمينا للعهد ، وسيسلمونهم إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيضربون أعناقهم ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش ، فكان كلا الفريقين على حذر ، وتوغّرت صدورهم على اليهود ، ودبّت الفرقة بين الأحزاب ، وتوجّس كلّ منهم خيفة من صاحبه «1».
ولمّا طلب أبو سفيان ورؤوس غطفان معركة حاسمة بينهم وبين المسلمين تكاسل اليهود ، وطلبوا منهم رهنا من رجالهم ، فتحقّق لقريش وغطفان صدق ما حدّثهم به نعيم بن مسعود ، وامتنعوا عن تحقيق طلبهم ، وتحقق لليهود صدق حديثه كذلك ، وهكذا تخاذل بعضهم عن بعض وتمزّق الشمل وتفرّقت الكلمة.
___________
(1) [انظر خدعة نعيم بن مسعود وللأحزاب فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنّفه مرسلا برقم (9737)].

(1/355)


ص : 356
وكان من صنع اللّه لنبيّه أن بعث اللّه على الأحزاب الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد ، فجعلت تقلب قدورهم وتطرح أبنيتهم ، وقام أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش! إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدّة الريح ما ترون ، ما تطمئنّ لنا قدور ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا ، فإنّي مرتحل.
(1/301)
وقام أبو سفيان إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلّي ، وأخبره حذيفة بن اليمان الذي أرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عينا إلى الأحزاب ينظر له ما فعل القوم ، ثمّ يرجع ، فأخبره بما رأى «1» ، فلمّا أصبح انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة ، وانصرف المسلمون ووضعوا السلاح «2» ، وصدق اللّه العظيم :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب : 9].
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب : 25].
ووضعت الحرب أوزارها ، فلم ترجع قريش بعدها إلى حرب
___________
(1) اقرأ القصة بطولها في صحيح مسلم [في كتاب الجهاد] ، باب «غزوة الأحزاب» [برقم (1788) ، وفي مسند أحمد (5/ 392 - 393) من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه ].
(2) اقرأ للتفصيل ابن كثير : ج 3 ، ص 214 - 221 ، رواية عن ابن إسحاق.

(1/356)


ص : 357
المسلمين ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنّكم تغزونهم» «1».
واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة على أكثر تقدير ، وقتل من المشركين أربعة «2».
___________
(1) سيرة ابن كثير : ج 3 ، ص 221.
(1/302)
(2) المصدر السابق : ج 3 ، ص 222 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق .. ، برقم (4110) وأحمد في المسند (4/ 262) و(6/ 394) والطبراني في الكبير برقم (6484) في حديث سليمان بن صرد بلفظ : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا».

(1/357)


ص : 359
غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة
نقض بني قريظة العهد :
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمّا قدم المدينة ، كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرّهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم ، وجاء فيه :
«و أنّ من تبعنا من يهود ، فإنّ له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم ، وأنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأنّ قبائل «1» يهود أمّة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم».
وجاء فيه : «أنّ بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة ، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم ، وأنّ بينهم النّصر على من دهم يثرب» «2».
___________
(1) جاء في العهد : أسماء القبائل اليهودية كبني عوف ، وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس ، وبني ثعلبة.
(2) سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 503 - 504.

(1/359)


ص : 360
ولكنّ حييّ بن أخطب اليهوديّ - سيّد بني النضير - نجح في حمل بني قريظة على نقض العهد ، وممالأة قريش ، بعد ما قال سيدهم كعب بن أسد القرظيّ : لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء ، ونقض كعب بن أسد عهده ، وبرىء مما كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(1/303)
ولمّا انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبر نقضهم للعهد ، بعث سعد بن معاذ رضي اللّه عنه - سيد الأوس - وهم حلفاء بني قريظة - وسعد بن عبادة - سيّد الخزرج - في رجال من الأنصار ، ليتحقّقوا الخبر ، فوجدوهم على شرّ مما بلغهم عنهم ، ونالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : من رسول اللّه ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد «1».
وبدؤوا بالفعل في الاستعداد للهجوم على المسلمين ، وهكذا حاولوا طعن جيش المسلمين من الخلف «2» ، وكان ذلك أشدّ وأنكى من الهجوم السافر والحرب في الميدان ، وذلك قوله تعالى : إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب : 10].
واشتدّ ذلك على المسلمين ، حتّى قال سعد بن معاذ - وكان من أولى الناس بالحدب عليهم ، يحنو عليهم في كلّ ما يلمّ بهم - لما أصابه السهم في غزوة الخندق ، فقطع منه الأكحل ، وأيقن بالموت - : «اللهمّ! لا تمتني
___________
(1) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2 ، ص 220 - 223.
(2) جاء في كتاب malsI fo yrotsiH egdirbmaC (ج 1 ، ص 49) بقلم الأستاذ الإنجليزي الشهير ttaW yremogtnoM «كانت قد بقيت في المدينة قبيلة عظيمة ، هي قبيلة بني قريظة ، وكانت تتظاهر بالإخلاص عند ما حاصر المشركون المدينة ، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنها كانت قد تمالأت مع المشركين ، وكانت تنتهز أول فرصة للهجوم على المسلمين من خلف».

(1/360)


ص : 361
حتّى تقرّ عيني من بني قريظة» «1».
المسير إلى بني قريظة :
فلمّا انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة ووضعوا السلاح ، أتى جبريل ، وقال : أو قد وضعت السلاح يا رسول اللّه ؟
(1/304)
قال : «نعم» فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فإنّي عامد إليهم ، فمزلزل بهم ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مؤذّنا ، فأذّن في النّاس : «أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا في بني قريظة» «2».
ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببني قريظة ، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، حتّى جهدهم الحصار ، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب «3».
ندم أبي لبابة وتوبة اللّه عليه :
وبعثت بنو قريظة إلى رسول اللّه أن ابعث إلينا أبا لبابة أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - لنستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم ، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان ، يبكون في
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 227. وكان سعد قد أصابه سهم قرشي لا قرظي ، وقد جاء اسم الرّامي في صحيح البخاري حبّان بن العرقة القريشي [انظر : كتاب المغازي ، باب مرجع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الأحزاب .. ، رقم (4122) و«السنن الكبرى» للبيهقي (9/ 97) ، ومسند الإمام أحمد (6/ 56)] ، فلم يكن عند سعد ترة على القرظيين ، ودافعا له إلى هذا الحكم.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 233 - 234 ؛ أخرج البخاري القصة بزيادة وتفصيل في باب مرجع النّبي صلى اللّه عليه وسلم من الأحزاب ، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم [برقم (4199)]. وأخرجها مسلم في كتاب الجهاد والسير في باب «جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل ، أهل للحكم» [برقم (1770)].
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 235.

(1/361)


ص : 362
وجهه ، فرقّ لهم وقالوا له : يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد ؟
قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه أنّه الذبح.
(1/305)
قال أبو لبابة : فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ، ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت ، وعاهدت اللّه ألّا أطأ بني قريظة أبدا ، ولا أرى في بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبدا.
ولمّا تاب اللّه عليه قال :
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة : 102].
فثار النّاس إليه ليطلقوه ، فقال : لا ، واللّه ، حتّى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده ، ومرّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح ، فأطلقه وقد أقام مرتبطا بالجذع نحو عشرين ليلة ، تأتيه امرأته في كلّ وقت صلاة ، فتحلّه للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع «1».
آن «2» لسعد ألا تأخذه في اللّه لومة لائم :
ونزل بنو قريظة على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتواثبت الأوس ، وقالوا :
يا رسول اللّه! إنّهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا «3» بالأمس ما قد علمت ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ألا ترضون يا معشر الأوس
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 236 - 238.
(2) أنى : أي حان.
(3) يعنون بني قينقاع.

(1/362)


ص : 363
أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ قالوا : بلى.
(1/306)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «فذاك إلى سعد بن معاذ» ، فأرسل إليه ، فلمّا جاء إليه ، قال له بنو قبيلته : يا أبا عمرو! أحسن في مواليك ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم ، فلمّا أكثروا عليه ، قال : لقد أنى لسعد ألّا تأخذه في اللّه لومة لائم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذّراري والنساء ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم اللّه» «1».
موافقة لشريعة بني إسرائيل :
وقد وافق ذلك قانون الحرب في شريعة بني إسرائيل ، فقد جاء في سفر التثنية (الإصحاح العشرون 10 - 11 - 12 - 13) :
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 239 - 240 ، وفي رواية البخاري [في كتاب المغازي ، باب مرجع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الأحزاب .. ، برقم (4121) و(4122)] ، ومسلم [في كتاب الجهاد ، باب جواز قتال من نقض العهد .. ، برقم (1768) (1769)] قال : قضيت بحكم اللّه ؛ وربما قال : بحكم الملك «صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب : مرجع النّبي صلى اللّه عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة». وكان عددهم حوالي ثمانمئة (800) مقاتل ، كما جاء في «الكامل» لابن الأثير (ج/ 2 ، ص/ 127). وقد شكّك في هذا العدد بعض الكتّاب المعاصرين في ضوء القياس واستبعاد وقوع ذلك في بلد صغير كالمدينة وبأمر نبي اتسمت سيرته بالرحمة والرأفة ، من غير استناد إلى شهادات تاريخية ، راجع كتاب swej ehT dammahuM damhA takaraB. D. والمراجع اليهودية ساكتة عن التعليق على هذا الحادث الذي كان جديرا باستفزاز شعورهم الديني ، وقد صنّف مؤلف يهودي اسمه صموئيل أسبك كتابا مهما في القرن السادس عشر المسيحي أسماه «ماثر شهداء اليهود» ولكنه لم يتعرض لجلاء بني قينقاع وبني النضير عن المدينة ، ولا لإعدام مقاتلي بني قريظة.
(1/307)

(1/363)


ص : 364
«حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح ، وفتحت لك فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، وتستعبد لك ، وإن لم تسالمك ، بل عملت معك حربا ، فحاصرها ، وإذا دفع الربّ إلهك إلى يدك ، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربّ إلهك».
وهذه كانت العادة المتبعة في بني إسرائيل في عهد أنبيائهم ، فقد جاء في التوراة :
«فتجنّدوا على مديان كما أمر الربّ ، وقتلوا كلّ ذكر ، وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم ، أوي ، وراقم ، وصور ، وحور ، ورابع ، خمسة ملوك مديان ، وبلعام بن باعور قتلوه بالسيف ، وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ، ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكلّ أملاكهم ، أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار». (سفر العدد ، الإصحاح الحادي والثلاثون 7 - 8 - 9 - 10).
وذلك في عهد موسى - عليه السلام - وبموافقة منه.
وقد جاء في التوراة :
«فخرج موسى والعازر الكاهن وكلّ رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلة ، فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب ، وقال لهم موسى : هل أبقيتم كلّ أنثى حيّة» (سفر العدد ، الإصحاح الحادي والثلاثون 13 - 16) «1».
___________
(1) الكتاب المقدّس : مطبعة أو كسفورد ، 1879 م.

(1/364)


ص : 365
ونفّذ في بني قريظة حكم سعد بن معاذ ، وخلت المدينة من جميع أوكار المؤامرة والمحاربة اليهودية ، وأمن المسلمون من الطّعن من الخلف ، ومن نشر الفوضى في الداخل.
(1/308)
وقتلت الخزرج سلّام بن أبي الحقيق ، وكان ممن حزب الأحزاب ، وكانت الأوس قد قتلت من قبل كعب بن الأشرف ، وكان مقدّما في عداوته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتحريض عليه ، فنجا المسلمون من الرؤوس التي كانت تكيد ضدّ الإسلام والمسلمين ، وتقود الحركات ضدّهم ، واستراح المسلمون «1».
وكان ما عامل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني قريظة مما اقتضته سياسة الحرب وطبيعة القبائل العربية واليهودية ، وكان لا بدّ من عقوبة صارمة تكون درسا للعابثين بالعهود والمحالفات ، ونكالا لما بين يديها وما خلفها ، يقول yeldoB. C. V. RL في كتابه «حياة محمد الرسول» :
«و كان محمد وحيدا في بلاد العرب ، وكانت هذه البلاد من حيث المساحة ثلث الولايات المتحدة الأمريكية ، وكان عدد النفوس فيها يبلغ خمسة ملايين نفس .. ولم يكن عنده من الجيوش التي تحمل الناس على امتثال أمره إلا الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف جنديّ ، ولم يكن هذا الجيش مسلّحا تسليحا كاملا ، فإذا وهن محمد في هذه القضية أو ترك جريمة غدر بني قريظة من غير أن يعاقبهم عليها ، لم يكن للإسلام في جزيرة العرب بقاء ، إنّه لا شكّ أنّ عملية قتل اليهود كانت عنيفة ، ولكن لم يكن حادثا فريدا من نوعه في تاريخ الديانات ، ولقد كان لهذا العمل مبرّر من وجهة نظر
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 273 [انظر خبر قتل سلام بن أبي الحقيق فيما أخرجه البخاري ، في كتاب المغازي ، باب قتل أبي رافع عبد اللّه بن أبي الحقيق ... ، برقم (4038) و(4039) و(4040) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنهما].

(1/365)


ص : 366
المسلمين ، قد تحتّم الآن على القبائل العربية واليهود أن يتأملوا مرة بعد مرة قبل أن يقدموا على غدر أو نقض عهد ، لأنّهم قد عرفوا عواقبه الوخيمة وشاهدوا أن محمدا يستطيع أن ينفّذ ما يريده» «1».
(1/309)
وقد كان من فوائد القضاء على آخر حصن من حصون اليهود في المدينة الضعف الذي طرأ على معسكر النفاق ، ونشاط المنافقين ، فقد أثّر ذلك في معنوياتهم ، وأفقدهم الشيء الكثير من الثقة والآمال الواسعة ، فقد كانوا آخر معقل من معاقلهم الكبيرة ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على غزوة بني قريظة :
«و أمّا المنافقون فقد خفت صوتهم بعد يوم قريظة ، ولم نعد نسمع لهم أعمالا أو أقوالا تناقض إرادة النّبيّ وأصحابه ، كما كان يفهم ذلك من قبل» «2».
العفو عمّن ظلم وعطاء من حرم :
بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت بثمامة بن أثال - سيّد بني حنيفة - فربط إلى سارية من سواري المسجد.
___________
(1). 302 - 202. PP) 6491 nodnoL (dammahoM efiL ehT - regnesseM ehT
(2) اليهود في بلاد العرب : ص 155. وقد أصاب الأستاذ محمد أحمد باشميل إذ قال : «غزوة الأحزاب - بحد ذاتها - ليست إلّا غزوة يهودية صرفة خطّط لها التفكير الإسرائيلي في خيبر ، وقام بتمويلها المال اليهودي ، الذي لا ينفق (إن أنفق) إلّا على إثارة الحروب ، وشراء الذمم لبسط النفوذ اليهودي. وغزوة بني قريظة في حد ذاتها امتداد لمعركة الأحزاب ، فقد كان يهود بني قريظة يمثلون الجناح الثالث للاتحاد العسكري الوثني اليهودي الذي قام لسحق المسلمين وإبادتهم إبادة كاملة» (غزوة بني قريظة : ص/ 149 - 155).

(1/366)


ص : 367
خريطة إجلاء بني قريظة سنة 5 هجرية

(1/367)


ص : 368
ومرّ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال : ما عندك يا ثمامة ؟
قال : يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال ، فاسأل تعط ما شئت.
فتركه ، ثمّ مرّ به أخرى ، وقال له مثل ذلك ، فردّ عليه كما ردّ عليه أولا ، ثم مرة ثالثة ، فقال : «أطلقوا ثمامة» فأطلقه.
(1/310)
وذهب ثمامة إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم جاءه فأسلم ، وقال : واللّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ ، واللّه ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليّ من دينك ، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ ، وإنّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فبشّره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمره أن يعتمر.
فلمّا قدم ثمامة على قريش ، قالوا : صبوت يا ثمامة! قال : لا واللّه ، ولكنّي أسلمت مع محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لا واللّه ما يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتّى يأذن فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت اليمامة ريف مكة.
فانصرف إلى بلاده ، ومنع الحمل إلى مكة ، حتّى جهدت قريش ، وكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسألونه أن يكتب إلى ثمامة يخلّي إليهم حمل الطعام ، ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «1».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 377 ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب «الإمداد بالملائكة يوم بدر» [برقم (1764) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].

(1/368)


ص : 369
غزوة بني المصطلق وقصّة الإفك
[غزوة بني المصطلق شعبان 5 هجرية]
(1/311)
وبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شعبان سنة ستّ «1» أنّ بني المصطلق وهم فرع من خزاعة ، يجمعون له .. فلما سمع خرج إليهم ، وقد خرج معه أكبر عدد من المنافقين ، خرج في غزوة «2» ، وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول ، وقد بلغت سطوة المسلمين أوجها بعد انتصارهم في غزوة الأحزاب التي اجتمعت فيها قريش وحزبت الأحزاب للقضاء على الإسلام ، اجتماعا لم تجتمع مثله ، فكانت «3» شوكة في حلقوم الكفّار في مكة ، واليهود والمنافقين في المدينة وحولها ، وعرفوا أنّ المسلمين لن يغلبوا في ساحة القتال بكثرة العدد والعدد ، فاعتمدوا أخيرا على إثارة الفتن الداخلية ، والتحريش بين المسلمين بإحياء النّعرة القوميّة القبلية ، والإساءة إلى مقام الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتشكيك المسلمين فيه ، ونشر المقالة حول عرضه وكرامته ، وأحبّ أزواجه إليه ، وبذلك يتزلزل كيان هذا المجتمع المثاليّ الوليد ، الذي كان كلّ عضو من أعضائه مرآة أخيه ، إذا سمع عنه ما يريب عاد إلى نفسه ، فرآها نزيهة ، فنفى
___________
(1) قدّم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفا معظم كتّاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة ، وتابعه ابن القيم حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة ، وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة ، (السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري).
(2) جاء في «طبقات ابن سعد» : وخرج معه بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط مثلها (كتاب الطبقات الكبرى ، 2/ 45 ، القسم الأول ، طبع ليدن ، 1325 ه).
(3) [فكانت : الضمير فيه راجع إلى سطوة].

(1/369)


ص : 370
غزوة بني المصطلق شعبان 5 هجرية

(1/370)


ص : 371
(1/312)
هذه التهمة كما ينفيها عن نفسه ، ويفقد بعضهم الثقة ببعض ، فإذا زالت الثقة بأهل بيت النبوّة ، زالت عن الجميع ، وكانت أعظم مؤامرة حاكها المنافقون وقد تجلّت هذه السياسة الماكرة في غزوة بني المصطلق أكثر ممّا تجلّت في أيّ غزوة.
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بني المصطلق ، ولقيهم على ماء لهم ، يقال له «المريسيع» «1» من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، وانهزم بنو المصطلق «2».
واقتتل أجير لعمر بن الخطاب من بني غفار ، وحليف للخزرج من جهينة ، فصرخ الجهنيّ : «يا معشر الأنصار!» وصرخ الأجير : «يا معشر المهاجرين!» فغضب عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم ، فقال : أو قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ليس الأمر إلا كما قيل : «سمّن كلبك يأكلك» أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثمّ أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم ، لتحوّلوا إلى غير داركم» «3».
___________
(1) ومن هنا سمّيت هذه الغزوة بغزوة المريسيع أيضا ، كما في طبقات ابن سعد وغيرها.
(2) كانت لغزوة بني المصطلق في المريسيع أهمية سياسية واستراتيجية واقتصادية كبيرة ، وهي الطريق الرئيسي للتجارة المكية ، وكانت طريقا فرعيا من مكة إلى المدينة كان يمرّ بها ، إلى غير ذلك من الخصائص (مستفاد من بحث الدكتور حسين مؤنس المقدم إلى مؤتمر السيرة والسنة النبوية المنعقد في الدوحة في شهر محرم عام 1400 ه).
(3) [أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، برقم (2772) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، تفسير سورة المنافقين ، برقم (3312) ، وأحمد في المسند (4/ 369 373). من حديث زيد بن أرقم رضي للّه عنه ].

(1/371)


ص : 372
(1/313)
فلمّا سمع ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر بالرحيل ، لئلا ينشغل الناس بهذه الفتنة ، ويجد الشيطان سبيلا إلى نفوسهم ، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس.
ومشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتّى أصبح ، وصدر يومهم ذلك ، حتّى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض ، فوقعوا نياما.
وقدم عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبيّ الناس ، حتّى وقف لأبيه على الطريق ، فلمّا رآه أناخ به ، وقال : لا أفارقك حتّى تزعم أنّك الذليل ، ومحمد العزيز ، فمرّ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «دعه ، فلعمري لنحسننّ صحبته ما دام بين أظهرنا» «1».
قصّة الإفك :
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد سفرا ، أقرع بين نسائه ، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه ، وخرج سهم عائشة بنت أبي بكر زوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة بني المصطلق ، فخرج بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا فرغ من سفره ذلك توجّه قافلا ، حتّى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثمّ أذّن بالرحيل ، وخرجت عائشة لبعض حاجتها ، وفي عنقها عقد لها ، فانسلّ من
___________
(1) طبقات ابن سعد : ج 2 ، ق 1 ، ص 46 ، طبع ليدن. [و قد وردت أخبار محاولة المنافقين في إثارة الفتنة بين المسلمين لما حصل بين الرجل الأنصاري والمهاجرين فيما أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) برقم (4907) والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، تفسير سورة المنافقين ، برقم (3315) ، وأحمد في المسند (2/ 392 - 393) من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما].

(1/372)


ص : 373
(1/314)
حيث لا تشعر ، فلمّا رجعت إلى الرّحل فقدت العقد فذهبت تبحث عنه وقد أخذ الناس في الرحيل ، فجاء القوم الذين كانوا يرحّلون لها البعير ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنّون أنّها فيه ، وكانت فتاة صغيرة السنّ ، خفيفة اللحم ، فلم ينتبهوا لخفّتها ، ولم يشكّوا أنّها فيه ، ورجعت عائشة إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب ، وقد انطلق الناس ، فتلففت بجلبابها ، واضطجعت في مكانها.
وبينما هي كذلك إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلمي ، وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته ، فلمّا رآها استرجع ، وقال : ظعينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قرّب البعير واستأخر ، فركبت وأخذ برأس البعير ، وانطلق سريعا يطلب الناس فأدركهم ، وقد نزلوا ، ولحقت بالركب ، فلم يرع الناس شيء ، فكان مما ألفوه في حياة البادية ومسير القوافل ، وكان حفظ الذمار والتعفف عن مثل هذه الخسائس ، من الأعراف العربية التي كانوا يحافظون عليها في الجاهليّة والإسلام «1» ، فيقول الشاعر الجاهليّ : [من الكامل ]
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها «2»
___________
(1/315)
(1) ومن أمثلته ما حكته أم سلمة ، وقد حال قومها بينها وبين زوجها أبي سلمة ، فلم يدعوها تهاجر معه إلى المدينة ، فكانت تخرج كل غداة إلى الأبطح فما تزال تبكي حتى تمسي ، سنة أو قريبا منها ، حتى رقّوا لها وقالوا : الحقي بزوجك إن شئت ، فارتحلت بعيرها وما معها أحد ، فلقيها عثمان بن طلحة الداري فرثى لها ، فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معها إلى المدينة ، قالت أم سلمة : واللّه ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ، ثم قيده في الشجر .. إلى أن قالت : فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. (سيرة ابن كثير ، ج 2 ، ص 215 - 217) وهذا قبل أن يسلم عثمان بن طلحة ، فكان صفوان بن المعطّل السّلمي أحقّ بهذا الخلق والنزاهة ، فقد أسلم قديما وصحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(2) ديوان الحماسة.

(1/373)


ص : 374
وقد كان الصحابة - رضي اللّه عنهم - مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم كالأبناء للآباء ، وأزواجه أمهاتهم ، وكان أحبّ إليهم من والدهم وولدهم والناس أجمعين ، وقد عرف صفوان بن المعطّل بالدين والصلاح والعفّة والحياء ، ذكر أنّه لم يكن له أرب في النساء.
وكانت القضية لا تسترعي انتباها ، ولكنّ عبد اللّه بن أبيّ تبنّى هذه القضية ، وتحدّث بها بعد عودته إلى المدينة ، وشايعه أصحابه من المنافقين ، واهتبلوها لإثارة الفتنة بين المسلمين وإضعاف الصّلة التي تربطهم بمقام صاحب الرسالة العظمى ومن يتصل به من أهل ، وإضعاف ثقة المسلمين بعضهم بأمانة بعض ، وتورّط في هذه المكيدة بضع من المسلمين الذين أصبحوا فريسة التشهي للحديث والترديد لكلّ ما قيل من غير تمحيص «1».
فلمّا سمعت بذلك عائشة وفوجئت به في المدينة فزعت له ، وحزنت حزنا شديدا ، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم ، وكبر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرف مصدره ، فقام من يومه ، فاستعذر من عبد اللّه بن أبيّ ، وهو على المنبر ، فقال : «يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت فيه إلا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلا معي» ، فقام أسيد بن خضير ، فقال : أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، وكان عبد اللّه بن أبيّ من الخزرج ، فاحتملت بعضهم الحميّة ، وثار الحيّان ، وكاد الشيطان أن يلعب بهم لو لا حكمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحلمه.
___________
(1) وذلك ما أشار اللّه تعالى إليه بقوله : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور : 15].

(1/374)


ص : 375
هذا ، والصّدّيقة بنت الصدّيق موقنة ببراءتها ، عزيزة النفس ، مليئة بالثقة والاعتزاز ، شأن الأبرياء الذين لا ترتقي إليهم شبهة ، ولا تلتصق بهم لوثة ، تعلم أنّ اللّه سيبرّئها ، ويبعد كل ظنّة وتهمة عن ساحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنّها لم تكن تظنّ أنّ اللّه منزل في شأنها وحيا يتلى ، ويجعله كلمة باقية في أعقاب هذه الأمّة ، ولكنّها ما تلبّثت طويلا أن أنزل اللّه على رسوله في شأنها القرآن ، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات ، فقال إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور : 11 - 12].
وبذلك انطفأت نار الفتنة ، وانحسمت مادة الفساد ، وخزي الشيطان ، وكأن لم يكن شيء ، فتشاغل المسلمون بما أمرهم اللّه به ورسوله ، وبما يعود عليهم وعلى الإنسانيّة بالخير والسعادة «1».
___________
(1) القصة مقتبسة من سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 289 - 302 ، وجاءت قصة الإفك من حديث عائشة الذي رواه البخاري [في كتاب المغازي ، باب حديث الإفك ، برقم (4141) ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك .. ، برقم (2770) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن ، تفسير سورة النور ، برقم (3180) وأحمد في المسند (6/ 59)].

(1/375)


ص : 377
صلح الحديبية ذو القعدة سنة ست من الهجرة
رؤيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتهيّؤ المسلمين لدخول مكة :
(1/318)
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد رأى في المنام أنّه دخل مكّة ، وطاف بالبيت وذلك في غير تحديد للزمان ، وتعيين للشهر والعام «1» - فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فاستبشروا به ، وفرحوا فرحا عظيما ، وقد طال عهدهم بمكّة والكعبة التي رضعوا لبان حبّها ، ودانوا بتعظيمها ، وما زادهم الإسلام إلّا ارتباطا بها وشوقا إليها ، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها ، وتطلّعت إليه تطلّعا شديدا.
وكان المهاجرون أشدّهم حنينا إلى مكّة ، فقد ولدوا ونشؤوا فيها وأحبّوها حبا شديدا ، وقد حيل بينهم وبينها ، فلمّا أخبرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، لم يشكّوا أنّ هذه الرؤيا تتفسّر هذا العام ، وقد صادف كلّ ذلك رغبة شديدة في نفوسهم ، وأثار كامن الشّوق ودفين الحبّ فتهيّؤوا للخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يتخلّف منهم إلا نادر.
___________
(1) راجع سورة الفتح 27 ، واقرأ تفسيرها في تفسير ابن كثير : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح : 27] .. إلخ.

(1/377)


ص : 378
إلى مكة بعد عهد طويل :
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة في ذي القعدة سنة ستّ معتمرا - لا يريد حربا - إلى الحديبية ومعه ألف وخمسمئة ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليعلم النّاس أنّه إنما خرج زائرا للبيت ، معظّما له «1».
(1/319)
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خراش الخزاعيّ عينا له من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتّى إذا كان قريبا من «عسفان» «2» أتاه عينه ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش «3» وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، وسار النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم حتّى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقالوا : خلأت «4» القصواء «5» ، خلأت القصواء ، فقال : «ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل «6» ، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات اللّه ، ويسألونني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إيّاها» ، ثمّ زجرها ، فوثبت به ، فعدل ، حتّى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، وشكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العطش ، فانتزع سهما من كنانته ، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه ، فما زال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه «7».
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 380 ، وابن هشام : ج 2 ، ص 308.
(2) موضع بين مكة والمدينة.
(3) الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.
(4) خلأ : كفتح ، خلوءا أي لم يبرح مكانه.
(5) اسم ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم [و القصواء : الناقة التي قطع طرف أذنها ، ولم تكن ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم قصواء ، وإنما كان هذا لقبا لها].
(6) إشارة إلى فيل أبرهة الذي حبسه اللّه عن الدخول في مكة.
(7) زاد المعاد : ج 1 ، ص 381.

(1/378)


ص : 379
فزع قريش من دخول المسلمين في مكّة :
وفزعت قريش لنزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، فأحبّ أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه - ليبعثه إليهم ، فقال :
(1/320)
يا رسول اللّه! ليس بمكّة أحد من بني عديّ بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفّان ، فإنّ عشيرته بها ، وإنّه مبلغ ما أردت ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عثمان بن عفان وأرسله إلى قريش ، وقال : أخبرهم أنّا لم نأت لقتال وإنّما جئنا عمّارا ، وادعهم إلى الإسلام ، وأمره أن يأتي رجالا بمكّة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ، ويبشّرهم بالفتح ، ويخبرهم أنّ اللّه عزّ وجلّ مظهر دينه حتى لا يستخفى فيها بالإيمان «1».
امتحان الحبّ والوفاء :
وانطلق عثمان حتّى جاء مكة ، وأتى أبا سفيان ، وعظاماء قريش ، وبلّغهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أرسله به.
وقالوا حين فرغ عن رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف البيت فطف.
فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «2».
وقال عثمان حين رجع ، وقال له المسلمون : أشتفيت يا أبا عبد اللّه من الطواف بالبيت ؟ : «بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده ، لو مكثت بها سنة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها حتّى يطوف بها
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص : 381.
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 315.

(1/379)


ص : 380
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت» «1».
بيعة الرضوان :
بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنّ عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة ، فسار المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه ألّا يفروا ، وأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيد نفسه ، وقال : هذه عن عثمان «2» ، فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة سمرة «3» في الحديبية التي أنزل اللّه عنها :
(1/321)
* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح : 18].
وساطات ومفاوضات :
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في رجال من خزاعة ، فكلّمه ، وسأله ما الذي جاء به ؟
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنّا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ، وأنّ قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرّت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم ، ويخلّوا بيني وبين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فعلوا ، وإلّا فقد جمّوا ، وإن أبوا إلا القتال ، فو الذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري حتّى تنفرد سالفتي «4» ، أو لينفذنّ اللّه أمره.
___________
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 382.
(2) المصدر السابق : ج 1 ، ص 382 ، [انظر حادثة بيعة رضوان فيما أخرجه مسلم من حديث معقل بن يسار رضي اللّه عنه ، في كتاب الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عنه إدارة القتال ... ، برقم (1858)].
(3) السمر : الطلح.
(4) السالفة : صفحة العنق عند معلق القرط.

(1/380)


ص : 381
فلمّا بلّغهم بديل ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عروة بن مسعود الثقفيّ : إنّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، وجاء عروة بن مسعود الثقفيّ ، فكلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعل عروة يرمق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما تنخم نخامة «1» إلا وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها جلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أي قوم! واللّه لقد وفدت على الملوك :
(1/322)
على كسرى وقيصر والنجاشيّ ، واللّه ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا ، ووصف لهم ما رآه ، وقد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها «2».
معاهدة وصلح :
وجاء رجل من بني كنانة ، ورجل اسمه مكرز بن حفص ، وأخبرا قريشا بما رأيا ، ثمّ بعثت قريش سهيل بن عمرو ، فلمّا رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبلا قال :
أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، وقال : اكتب بيننا وبينكم كتابا «3».
حكمة وحلم وتنازل :
فدعا الكاتب - وهو عليّ بن أبي طالب - فقال : «اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم».
___________
(1) [النّخامة : البزقة التي تخرج من أقصى الحلق ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 382.
(3) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 316 ، وأخرجه البخاري في صحيحه باختلاف يسير ؛ راجع كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء [برقم (4178) و(4179)].

(1/381)


ص : 382
فقال سهيل : أمّا «الرّحمن» فو اللّه ما ندري ما هو ، ولكن اكتب :
«باسمك اللهمّ» كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : واللّه لا نكتبها ، إلّا «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «اكتب باسمك اللهمّ».
ثمّ قال : «اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه» فقال سهيل : واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد اللّه.
فقال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «إنّي رسول اللّه وإن كذّبتموني ، اكتب محمد بن عبد اللّه» ، فأمر عليّا أن يمحوها ، فقال عليّ : لا واللّه لا أمحوها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «أرني مكانها» فأراه مكانها ، فمحاها «1».
صلح وامتحان :
فقال له النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به».
فقال سهيل : واللّه لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب.
(1/323)
قال سهيل : وعلى ألّا يأتيك منّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان اللّه! كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟!
وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، يرسف في قيوده ، قد
___________
(1) أخرجه مسلم ، في كتاب الجهاد والسير ، باب صلح الحديبية [برقم (1783) وابن أبي شيبة في المصنّف (7/ 383) ، وابن حبان في الصحيح (11/ 212) برقم (4869) والبيهقي في السنن (9/ 220) برقم (18589) من حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه ].

(1/382)


ص : 383
خرج من أسفل مكة ، حتّى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين.
قال سهيل : هذا يا محمّد أول ما أقاضيك عليه على أن تردّه.
قال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «إنّا لم نقض الكتاب بعد».
قال : فو اللّه إذا لا أقاضيك على شيء أبدا.
قال النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم : «فأجزه لي».
قال : ما أنا بمجيزه لك.
قال : «بلى ، فافعل».
قال : ما أنا بفاعل.
قال أبو جندل : يا معشر المسلمين! أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذّب في اللّه عذابا شديدا «1» ، وردّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقد اصطلح الفريقان على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، وعلى أنّه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد ، لم يردوه عليه ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه «2».
___________
(1/324)
(1) زاد المعاد : ج 1 ، ص 383 ، وأخرجه البخاري في الجامع الصحيح في كتاب الشروط ، باب «الشروط في الجهاد» [برقم (2731) و(2732) ، وأحمد في المسند (4/ 328 - 329) ، وعبد الرزاق في المصنّف برقم (9730) ، وأبو يعلى في المسند برقم (42) من حديث مروان بن حكم ، والمسور بن مخرمة].
(2) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 317 - 318.

(1/383)


ص : 384
ابتلاء المسلمين في الصلح والعودة إلى المدينة :
فلمّا رأى المسلمون ما رأوه من الصلح والرجوع ، وما تحمّل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتّى كادوا يهلكون ، ووقع ذلك من نفوسهم كلّ موقع ، حتّى جاء عمر بن الخطّاب إلى أبي بكر - رضي اللّه عنهما - فقال : ألم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى! أفأخبرك أنّك تأتيه العام ؟ قال : لا ، قال :
فإنّك آتيه ومطوف به «1».
فلمّا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الصلح ، قام إلى هديه ، فنحره ، ثمّ جلس فحلق رأسه ، وعظم ذلك على المسلمين ، لأنّهم خرجوا وهم لا يشكّون في دخول مكة والعمرة ، ولكن لمّا رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون «2».
صلح مهين أم فتح مبين ؟
ثمّ رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل اللّه تعالى :
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الفتح : 1 - 3].
قال عمر - رضي اللّه عنه - : أو فتح هو يا رسول اللّه ؟
___________
(1/325)
(1) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، [في كتاب الجزية والموادعة ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ، برم (3182) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب صلح الحديبية ، برقم (1785) ، وأحمد (3/ 486) من حديث سهل بن حنيف ].
(2) راجع للتفصيل «زاد المعاد» ج 1 ، ص 383.

(1/384)


ص : 385
قال : «نعم»! «1».
عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم :
ولمّا رجع إلى المدينة ، جاءه رجل من قريش اسمه أبو بصير عتبة بن أسيد ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرّجلين ، فخرجا به ، فخرج هاربا منهم ، حتّى أتى سيف البحر ، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتّى اجتمعت منهم عصابة ، لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشّام إلّا اعترضوا لها ، فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم تناشده اللّه والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن «2».
كيف تحوّل الصلح إلى الفتح والنصر ؟
ودلّت الحوادث الأخيرة على أنّ صلح الحديبية الذي تنازل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقبول كلّ ما ألحّت عليه قريش ، ورأوا فيه انتصارا لهم ومكسبا ، وتحمّله المسلمون في قوّة إيمانهم ، وشدّة طاعتهم للرسول ، كان فتح باب جديد لانتصار الإسلام ، وانتشاره في جزيرة العرب بسرعة لم تسبق ، وكان بابا إلى فتح مكّة ، ودعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشيّ وأمراء العرب ، وصدق اللّه العظيم :
___________
(1) راجع صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب صلح الحديبية ، [رقم الحديث (1786) ، والترمذي ، أبواب تفسير القرآن ، تفسير سورة الفتح ، رقم (3263) حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(2) زاد المعاد : ج 1 ، ص 384.

(1/385)


ص : 386
(1/326)
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة : 216].
كان من مكاسب هذا الصّلح اعتراف قريش بمكانة المسلمين ، وتسليمهم لهم كفريق قويّ كريم ، تبرم معه المعاهدات ، ويتّفق معه على مفاوضات ، ثمّ كان من أفضل ثمار هذا الصلح الهدنة ، التي استراح فيها المسلمون عن الحروب التي لا أوّل لها ولا آخر ، والتي شغلتهم واستهلكت قوّتهم ، فاستطاعوا في هذه الفترة السلمية ، أن يقوموا بدعوة الإسلام ، في ظلّ الأمن والسلام ، وفي جوّ من الهدوء والسكينة.
وأتاح هذا الصلح الفرصة للمسلمين والمشركين على السواء لأن يختلطوا بعضهم ببعض ، فيطلع المشركون على محاسن الإسلام ، وما صنع من عجائب ومعجزات في تهذيب الأخلاق ، وتزكية النفوس ، وتطهير العقول والقلوب ، من ألواث الشرك والوثنية ، والعداء والخصومة ، والضراوة بالدماء ، والولوع بالحرب في بني جلدتهم الذين لا يختلفون عنهم في نسب وبيئة ولغة.
ولم يخف عليهم - رغم عنادهم وجحودهم - أن تعاليم الإسلام وحدها وصحبة النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم هي التي ميّزتهم عن أقرانهم وبني أعمامهم ، وجعلت منهم أمة غير أمة ، ونمطا من أنماط البشرية غير النمط القديم ، فكان في ذلك باعث قويّ على تفهّم الإسلام والاعتراف بتأثيره.
فلم يمض على هذا الصّلح عام كامل حتّى دخل في الإسلام من العرب أكثر من الذين دخلوا فيه خلال خمس عشرة سنة - ومكّة لم تفتح بعد - .
يقول الإمام ابن شهاب الزّهريّ (ت 124 ه) :
«فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنّما كان القتال حيث التقى الناس ، فلمّا كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها ، وأمن الناس ،

(1/386)


ص : 387
(1/327)
وكلّم الناس بعضهم بعضا ، والتقوا فتفاوضوا في الحديث ، والمنازعة ، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» «1».
قال ابن هشام : «و الدليل على قول الزهريّ أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة ، في قول جابر بن عبد اللّه ، ثمّ خرج في عام فتح مكّة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» «2».
واستفاد بهذه الهدنة المستضعفون في مكّة ، وقد أسلم على يد أبي جندل عدد كبير من أبناء قريش في مكّة ، وضاقت قريش ذرعا بهذا الداعي إلى الإسلام ، وانتشار الإسلام في مكّة.
ولحقوا بأبي بصير ، وصار مركز دعوة وقوة للإسلام ، وتكلّمت في شأنهم قريش ، وسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يلحقهم به في المدينة ، ففعل ، ونجوا من الضيق الذي كانوا فيه بمكّة ، وكان كلّ ذلك من حسنات هذا الصلح وفوائد هذه الهدنة «3».
وكان من فوائد الموقف المسالم الذي وقفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما بدا منه من زهد في الحرب ، ورغبة في الصلح ، وحلم وأناة أن تغيّرت نظرة القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام بعد ، إلى الدين الجديد ، والداعي إليه ، ونشأ في نفوسهم إجلال للإسلام وتقدير له لم يكن من قبل ، وكانت فائدة دعويّة لا يستهان بقيمتها وإن لم تكن مقصودة ، سعى إليها الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون.
___________
(1) سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 322.
(2) المصدر السابق : ج 2 ، ص 322.
(3) راجع «زاد المعاد» : ج 1 ، ص 388 - 389.

(1/387)


ص : 388
إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص :
(1/328)
وكان صلح الحديبية فتحا للقلوب ، دخل في الإسلام خالد بن الوليد الذي كان قائد الفرسان لقريش ، وبطل معارك عظيمة ، وقد سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «سيف اللّه» وهو الذي أبلى في اللّه بلاء حسنا ، وفتح اللّه على يده الشام.
ودخل عمرو بن العاص - أحد كبار القادة والأمراء وفاتح مصر من بعد - وقد قدما المدينة بعد صلح الحديبية ، فأسلما وحسن إسلامهما «1».
___________
(1) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2 ، ص 277 - 278 [انظر قصة إسلامهما في مسند الإمام أحمد (4/ 198 - 199) ، وفي «المستدرك» للحاكم (3/ 456)].

(1/388)


ص : 389
خريطة غزوة الحديبية ذي القعدة 6 هجرية

(1/389)


ص : 390
خريطة كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الملوك

(1/390)


ص : 391
دعوة الملوك والأمراء إلى الإسلام أواخر سنة ستّ وأوائل سنة أربع من الهجرة
دعوة حكمة :
ولمّا تمّ الصلح ، وهدأت الأحوال ، وجدت الدعوة الإسلاميّة متنفّسا ومجالا للتقدّم ، فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتبا إلى ملوك العالم وأمراء العرب ، يدعوهم فيها إلى الإسلام «1» وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة «2» ، واهتمّ اهتماما كبيرا ، فاختار لكلّ واحد منهم رسولا يليق به ، ويعرف لغته وبلاده «3».
___________
(1) [دعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم للملوك والأمراء إلى الإسلام ، أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام ، برقم (1774) ، والترمذي في أبواب الاستئذان ، باب في مكاتبة المشركين برقم (2716) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه ].
(1/329)
(2) نرجّح أنّ هذه الرسائل وجّهت في شهر ذي الحجة سنة ست بعد صلح الحديبية ، كما قال الواقديّ وهو يوافق 627 م ، فإنّ في مقدّمة هؤلاء الملوك الإمبراطور الإيراني «كسرى أبرويز» ومن المقرّر أنه مات في مارس سنة 628 م ، ومن هنا يتقرّر أنّ صلح الحديبية في أوائل سنة 627 م ، وكان من الصعب وصول الرسالة الموجهة إلى هرقل كذلك ، إذا كانت وجّهت في سنة 628 م ، لأنّه كان قد توجّه في هذه السنة إلى أرمينيا. (راجع «فتح العرب لمصر» لألفرد بتلر ، ص 139 - 140).
(3) يشير كلام ابن سعد في «الطبقات» ج 2 ، ص 23 ، والسيوطي في «الخصائص الكبرى» -

(1/391)


ص : 392
وقيل له : إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم ، فصاغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاتما حلقته فضة ، ونقش فيه (محمّد رسول اللّه) «1».
وقد دلّت هذه الكتب على أنّ هذا الدّين ليس دين العرب ، أو دين الجزيرة العربيّة ، وإنما هو دين البشريّة ودين الإنسانيّة ، وكان إنذارا للسّلطات الحاكمة خارج الجزيرة المالكة للحول والطول ، والحاكمة لأوسع رقاع راقية متمدّنة ، بأنّها مهدّدة بالانقراض والزوال ، إذا لم تستجب للدعوة أو تسمح - على الأقلّ - من تمكين رعاياها للاطلاع على هذه الدعوة ، والاستماع إليها ، وتقرير مصيرها في شأنها.
___________
(1/330)
- ج 2 ، ص 11 : إلى أنّ ذلك كان على سبيل المعجزة ، فجاء فيما ساقاه من الرواية : «... فأصبح كل واحد يتكلّم لغة البلاد التي أرسل إليها» .. والمؤلّف حين لا يستبعد وقوع المعجزة ، فسيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وسير الأنبياء قبله مليئة بالمعجزات وخوارق العادات ، وإنكارها من المكابرة ، ولكنّه يرجّح أنّ ذلك كان مبنيا على الحكمة وحسن الاختيار من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يكن وجود من يحسن اللغة الرومية واللغة الفارسية ، ولغة الأقباط في مصر ، ولغة أهل الحبشة ، غريبا لكثرة اختلاط العرب بهذه الأمم الأربع وكثرة رحلاتهم التجارية إلى هذه الأقطار وتنقّلاتهم فيها ، وكانت القضية محدودة في هذه اللغات الأربع ، إذ كان لغة أمراء الجزيرة العربية ورؤساء القبائل الذين كتب إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتبه ، ودعاهم إلى الإسلام ، اللغة العربية ، وفي اختيار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دحية الكلبي لحمل رسالته إلى هرقل قيصر الروم ، معنى لطيف يؤيد ما أشرنا إليه من حسن الاختيار ، ومراعاة الحكمة ، وقد كان شابا جميل الصورة ، ذكيا فطنا ، صادق الإيمان ، وقد قيل في وصفه أنّ جبريل كان يفد على النّبي صلى اللّه عليه وسلم في صورته ، وكان أجدر بحمل هذا الكتاب إلى قيصر الروم ، وإلى بلاد الشام من غيره ، كما كانت هذه البلاد وأهلها أليق به من غيرهم.
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى (2939) والترمذي (2719) ، وأبو داود في أول كتاب الخاتم ، باب ما جاء في اتخاذ الخاتم ، برقم (4214) والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 196) ، وابن حبان في صحيحه (14/ 303) برقم (6392). وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.

(1/392)


ص : 393
الكتب التي أرسلت إلى الملوك :
(1/331)
ومن هؤلاء الملوك الإمبراطور الروميّ «هرقل» وإمبراطور فارس «كسرى أبرويز» ، والنّجاشيّ ملك الحبشة ، والمقوقس ملك مصر.
وهنا نصوص الكتب التي أرسلت إلى هؤلاء الملوك :
قد أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابه إلى «هرقل» مع دحية الكلبيّ ، وقد دفعه إلى عظيم «بصرى» فدفعه إلى هرقل ، وهنا نصّ الكتاب :
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد عبد اللّه ورسوله ، إلى «هرقل» عظيم الرّوم ، سلام على من اتبع الهدى.
أمّا بعد ؛ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك اللّه أجرك مرّتين ، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» [آل عمران : 64]».
وجاء في كتابه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى أبرويز :
___________
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد ، باب : كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام ، برقم (1773) ، والترمذي في أبواب الاستئذان ، باب ما جاء كيف يكتب إلى أهل الشرك ، برقم (2717) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب كيف يكتب إلى الذمي ، برقم (5136) ، وأحمد في المسند (1/ 263) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان ].

(1/393)


ص : 394
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن باللّه ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه إلى الناس كافة لينذر من كان حيّا ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» «1».
(1/332)
وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة :
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه ، إلى النّجاشيّ عظيم الحبشة ، سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو الملك القدّوس السّلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ، وإنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني ، فإنّي رسول اللّه ، وإنّي أدعوك وجنودك إلى اللّه عزّ وجلّ ، وقد بلّغت ونصحت فاقبل نصيحتي ، والسّلام على من اتبع الهدى» «2».
وكتب إلى المقوقس عظيم القبط :
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد عبد اللّه ورسوله إلى «المقوقس» عظيم القبط ،
___________
(1) الطبري : ج 3 ، ص 90 ، [و أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى وقيصر ، برقم (4424) ، وأحمد (1/ 243 - 305) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) طبقات ابن سعد : ج 3 ، ص 15.

(1/394)


ص : 395
سلام على من اتبع الهدى.
أمّا بعد ، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم أهل القبط ، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» [آل عمران : 64]».
___________
(1/333)
(1) «المواهب اللدنية» ، ج 3 ، ص 247 - 248. وقد اكتشفت حتى الآن خمسة رقوق ، فقد عثر المستشرق الفرنسي بارتليمي) ymelehtraB (في أحد الأديرة بناحية «أخميم» من صعيد مصر على رق جلدي قديم ، وذلك سنة 1850 م اتّضح بالدراسة أنه رسالة النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط في مصر. وأسهم المسيو بلين) nileB (في تحقيق الرسالة ، ومقارنة نصها بما ورد في الأصول ، ثم أعلن بعد ذلك عن الثقة في أصالة المخطوط ، ونشرت عن ذلك دراسة في المجلة الآسيوية سنة 1854 م ، ثم في مجلة الهلال المصرية في نوفمبر سنة 1904 م. كذلك اكتشف مخطوط جلديّ يحتمل أن يكون أصل الرسالة النبوية إلى منذر بن ساوى حاكم البحرين ، نشر الدكتور بوش) hcsuB (الألماني حوله مقالا في مجلة المستشرقين الألمان. وفي سنة 1940 م ، نشر المستشرق الإنكليزي دنلوب) polnuD (مقالا في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية أعلن فيه أنه تحصّل على رقّ جلديّ يملكه تاجر سوريّ ، يظنّ أنه رسالة النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى نجاشي الحبشة ، وذكر أن المالك السوري تخصّل على المخطوط من قسيس أثيوبي جاء إلى دمشق وقت الحرب العالمية الثانية. وفي مايو 1963 م نشر الدكتور صلاح الدين المنجد مقالا في جريدة «الحياة» ببيروت ، يعلن فيه الكشف عن رسالة النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى ، وذكر أنّ الأصل الجلدي لهذه الرسالة محفوظ لدى الأستاذ هنري فرعون أحد الوزراء اللبنانيين السابقين ، وهو مخطوط بين اللوحين الزجاجيين ، وفيه تمزيق واضح من أعلى الوسط يتّجه إلى يمين الرسالة وإلى أسفلها ، وقد خيّط هذا التمزيق بمهارة للمحافظة على مظهر الرسالة. (ملخّص من بحث الدراسات المتعلّقة برسائل النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الملوك في عصره «للدكتور عز الدين إبراهيم» ، المقدّم إلى مؤتمر السيرة ، المنعقد في الدوحة شهر محرم 1400 ه) - .

(1/395)


ص : 396
(1/334)
اعتبارات حكيمة خاصة بالملوك الذين وجّهت إليهم هذه الرسائل :
ويلاحظ القارىء الذكيّ فوارق دقيقة مؤسّسة على حكمة الدعوة والرسالات النبويّة ، روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها ، و«الخلفيات» التي يمتازون بها.
فلمّا كان «هرقل» و«المقوقس» يدينان بألوهية المسيح كليّا وجزئيا ، وكونه ابن اللّه ، جاءت في الكتابين اللذين وجّها إليهما كلمة «عبد اللّه» مع اسم النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وسلم صاحب هاتين الرّسالتين ، فيبتدىء الكتابان بعد التسمية بقوله : «من محمد عبد اللّه ورسوله إلى هرقل عظيم الروم» ، وبقوله : «من محمّد عبد اللّه ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط» بخلاف ما جاء في كتابه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى أبرويز ، فاكتفى بقوله : «من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس».
وجاءت كذلك آية : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران : 64] ، في هذين الكتابين ، وما
___________
(1/335)
- أمّا الكتاب الذي وجّه إلى الإمبراطور الروماني هرقل ، فقد كان محفوظا في إسبانيا إلى القرن السابع الهجري ، وقد أشار إلى وجوده في عصره المحدّث والمؤرّخ الشهير العلامة السّهيلي من رجال القرن السادس الهجري. وقد جاء في «إرشاد الساري» لشرح صحيح البخاري تأليف أبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني ، المتوفى سنة 923 ه ، (1/ 81) : «و حكي أنّ ملك الإفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قبج صندوقا مصفحا بالذهب ، واستخرج منه مقلمة من ذهب ، فأخرج منها كتابا زالت أكثر حروفه ، فقال : هذا كتاب نبيّكم إلى جدّي قيصر ، مازلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤنا أنّه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه».

(1/396)


ص : 397
جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز لأنّ الآية تخاطب أهل الكتاب الذين دانوا بألوهية المسيح ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح بن مريم ، وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطيّة والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيّين ، وزعيمين دينيّين كبيرين للعالم المسيحيّ ، مع اختلاف يسير في الاعتقاد في المسيح هل له طبيعة أم طبيعتان» «1».
ولمّا كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشّمس والنّار ، ويدينون بوجود إلهين ، أحدهما يمثّل الخير وهو يزدان ، والثاني يمثّل الشرّ وهو أهرمن ، وكانوا بعيدين عن مفهوم النبوّة والتصوّر الصحيح للرسالة السماوية ، جاءت في الكتاب الذي وجّه إلى الإمبراطور الإيرانيّ عبارة : (وإنّي رسول اللّه إلى الناس كافّة لينذر من كان حيّا).
من هم هؤلاء الملوك ؟
(1/336)
ولكي نشعر بأهميّة هذه الرّسائل التي وجّهت إلى دول وبلاد مختلفة ، وملوكها ، ومكانتها الصحيحة في التاريخ المعاصر ، ووقعها في القلوب والنفوس ، يجب أن نتعرّف بهؤلاء الأشخاص الأربعة : «هرقل» ، و«كسرى» ، و«النّجاشيّ» ، و«المقوقس» ، وحجم الحكومات التي كانوا يحكمونها. فقد يتصوّر القارىء الذي لم يتّسع وقته لدراسة التاريخ السياسيّ في القرن السابع المسيحيّ ، ولم تتوفّر عنده معلومات عن هذه الممالك التي كان يحكمها هؤلاء الملوك ، أنّها رسائل وجّهت إلى أمراء ، أو
___________
(1) راجع للتفصيل كتاب المؤلف : «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟!» الباب الأول ، الفصل الأول ، ص (78 - 85) طبع دار ابن كثير بدمشق.

(1/397)


ص : 398
أقيال يكثر عددهم في كلّ زمان ومكان ، أمّا من عرف مكانة هؤلاء الملوك في الخريطة السياسية في ذلك العصر ، واطّلع على تاريخهم وسيرتهم وأخلاقهم ، وما كان لهم من حول وطول ، وسطوة ورهبة ، عرف ضخامة هذا العمل الذي لا يقدم عليه إلا نبيّ مأمور من اللّه ، مكلّف بالدعوة ، بعيد عن كلّ ظلّ من ظلال الخوف والضعف تجلّى عليه ملكوت السموات والأرض فتراءى له هؤلاء الملوك دمى كسيت حللا ملوكية فاخرة ، أو تماثيل لا روح فيها ولا حياة.
هرقل الأول قيصر الروم (610 - 641 م) :
هو هرقل قيصر الروم الإمبراطور البيزنطيّ ، كان يحكم إمبراطورية واسعة ، توزّعت مع الإمبراطورية الإيرانية العالم المتمدّن في ذلك اليوم ، وحكمت نصف العالم تقريبا ، وكانت لها ولايات واسعة غنيّة متمدنة راقية ، في القارات الثلاث : أوربة ، وآسيا ، وإفريقية ، وخلفت الدولة الرومية الكبرى التي خضع لها العالم القديم «1».
(1/337)
وكان من أسرة يونانية الأصل ، ولد في «كيبوديشية» ونشأ في قرطاجنة «كارتهيج» «2» ، وكان ابن حاكم إفريقية الروميّ acrfA fo hcraxE ولم يكن شيء يدلّ على عصاميته ونبوغه ، أو عبقريته القيادية ، إلى أن قتل فوقاس) sacohP (المغتصب ، إمبراطور البيزنطية الشرعيّ موريقس) seciruaM (سنة
___________
(1) قد ذكرنا حدود هذه المملكة ، وما كانت تحكمه من ولايات ، ومقاطعات ، في أوربة وآسيا ، وإفريقية ، في الباب الأول من هذا الكتاب ، تحت عنوان «الدولة الرومية الشرقية».
(2) مدينة قديمة في إفريقية ، أسّسها الفينيقيون في 814 ق. م ، وبمقربة من أطلالها قامت مدينة تونس.

(1/398)


ص : 399
602 م الذي كان صاحب الفضل على كسرى أبرويز ، وانتهز الفرس هذه الفرصة للزحف على الدولة البيزنطية فدوّخوها واحتلّوها وأهانوها واحتضرت الدولة البيزنطيّة الشهيرة تلفظ آخر أنفاسها «1» ، فدعي هرقل من قرطاجنة فقتل فوقاس ، وتسلّم زمام الحكم والقيادة في سنة 610 م «2» ، والمملكة في صراع الموت والحياة ، وفي براثن المجاعة ، والأمراض الوبائية ، والفقر ، والعجز الماليّ.
(1/338)
وبقي هرقل في سنواته الأولى لا يبعث أملا ولا يحرّك ساكنا ، ولكن حدث فيه انقلاب في سنة 616 م (وهي السنة التي نبّأ القرآن فيها بغلبة الروم في بضع سنين) «3» ، فتحوّل من ملك متخاذل راكن إلى الدعة والترف ، إلى قائد متحمّس غيور ، قد ملكته الفكرة وثارت فيه الحميّة ، وتوجّه إلى مركز الإمبراطورية الإيرانية ، يستعيد بلاده وكرامة أمّته ، ويفتح مدن إيران الشهيرة ، ويستولي على مراكزها الكبيرة ، حتّى أوغل في قلب إيران ، وأهان الإمبراطورية الإيرانية العظيمة القديمة ، وأثخنها قتلا وجراحا ، حتّى أو شكت الإمبراطورية السّاسانية على النهاية ، وتزلزلت قوائم عرش آل ساسان ، ورجع القائد المنتصر ، فدخل القسطنطينية دخول الفاتح العظيم سنة 625 م «4» ، وتوجّه إلى بيت المقدس في سنة 629 م ، ليعيد إليه الصليب
___________
(1) اقرأ القصة مفصّلة في كتاب «انحطاط دولة روما وسقوطها» لمؤلّفه «جبون» ، وكتاب «إيران في عهد الساسانيين» لمؤلفه «آرتهر كرستن سين».
(2) وبعد مضي عام على هذا الحادث كانت البعثة المحمدية في الجزيرة العربية.
(3) واقرأ مقال «إحدى نبوءات القرآن العظيمة ونبوءة غلبة الروم» في كتاب المؤلف «المدخل إلى الدراسات القرآنية» طبعة دار ابن كثير بدمشق ، وطبعة المجمع الإسلامي العلمي ندوة العلماء لكهنؤ (الهند).
(4) وفي سنة 626 م كانت واقعة بدر الكبرى التي التقى فيها انتصار المسلمين على مشركي مكة بانتصار الروم أهل الكتاب على منافسيهم الفرس عباد النار ، وتحققت نبوءة القرآن عن غلبة -

(1/399)


ص : 400
(1/339)
المقدّس ، الذي أخذه الفرس ، وليفي بنذره ، فكان الناس يبسطون له البسط ليمشي عليها ، وينثرون عليه الرياحين «1» ، إبداء لسرورهم وإجلالهم ، وأقيم احتفال كبير بمناسبة عودة الصليب المقدّس إلى مكانه ، وإظهارا للسّرور بالفتح العظيم في القدس ، وهنا وصله كتاب النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام «2».
وعاد هرقل إلى ما كان عليه من دعة وترف ، حتّى واجه الزحف الإسلاميّ الذي أدّى إلى زوال ملكه ، وانتهاء الحكم البيزنطيّ من آسيا وإفريقية وانحصاره في أوربة وآسيا الصغرى ، وعلى كلّ فإنّه كان من كبار ملوك العالم في عصره ، لا ينافسه في اتساع المملكة ، والقوة الحربية ، وزهوّ المدنية ، إلا الإمبراطور الإيرانيّ خسرو الثاني ، ومات سنة 641 م في القسطنطينية ، ودفن فيها.
كسرى أبرويز (خسرو أبرويز الثاني) (950 - 628) :
كان ابن هرمز الرابع ، وحفيد خسرو الأول المعروف ب «أنوشيروان» العادل ، يسمّيه العرب «كسرى أبرويز» جرى تتويجه على أثر قتل والده في سنة 590 م ، وثار عليه بهرام جوبين ، وانهزم أبرويز فخرج من المملكة السّاسانية ، والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطيّ موريقس) eciruaM (واستعان به
___________
- الروم في بضع سنين (والبضع مدة دون العشرة).
(1) فتح الباري : ج 1 ، ص 31.
(2) وقد كان سبب تأخّر الكتاب النبوي إلى هرقل - بخلاف كسرى الذي وصله الكتاب قبل ذلك - أولا : أن الكتاب دفع إلى عظيم «بصرى» ليقدمه إلى قيصر ، ولعله لم يتمكن من تسليمه إياه لانشغال قيصر بالحرب ، وبعده عن عاصمته ، وثانيا : أن المراجع الغربية تذكر أن هرقل قد اضطر إلى التوجه إلى أرمينيا في سنة 628 م لقمع ثورة أو غرض آخر ، فلم يتمكن من الوفاء بنذره إلا في سنة 629 م.

(1/400)


ص : 401
(1/340)
على استرداد ملكه ، فأمدّه موريقس بجيوش جرّارة ، وبعد حروب دامية انهزم بهرام ، وتربّع خسرو على عرش آبائه.
وفي سنة 612 م زحف كسرى أبرويز على المملكة البيزنطيّة ليأخذ بثأر وليّ نعمته وأبيه المعنويّ موريقس ، من قاتله النذل المغتصب لعرش القياصرة فوقاس) sacohP (ولم يكفه قتل فوقاس عن الاستمرار في الزحف الذي ساءت فيه نيّته ، فواصله إلى القسطنطينية ووصل إلى ما لم يصل إليه سلفه من تدويخ المملكة المنافسة القديمة ، وبلغ انتصاره ومجده أوجهما في سنة 615 م حتى نجح هرقل في دحر الإيرانيّين عن بلاده ، والهجوم المنتصر على مركز المملكة السّاسانية ، حتى اضطرّ كسرى أبرويز إلى أن يغادر عاصمته ، والالتجاء إلى مكان حريز «1» ، ولكنّه ما لبث أن قتل في ثورة في سنة 628 م.
اتفقت كلمة مؤرّخي إيران على أنّ خسرو الثاني كان أعظم ملوك إيران أبهة وعظمة ، فقد بلغت الدولة السّاسانية في عهده أوجها في الزينة والمدنية والزهوّ ، ومظاهر الترف والبذخ ، وقد دخل جزء من الولاية الشمالية الغربية في الهند في حكمه «2» ، وكان يلقّب نفسه ويسمّيه كما يلي :
«في الآلهة إنسان غير فان ، وفي البشر إله ليس له ثان ، علت كلمته ، وارتفع مجده ، يطلع مع الشمس بضوئه ، وينير الليالي المظلمة بنوره» «3».
وقد بلغت في عهده المملكة الساسانية إلى ما لم تبلغ إليه في عهد من عهودها من الأبّهة ، والفخفخة ، وقد وصفه المؤرخ الطّبريّ في تاريخه بقوله :
___________
(1) [مكان حريز : أي ، حصين آمن ].
(2) إيران في عهد الساسانيين : ص 602.
(3) المصدر السابق : ص 604 ، نقلا عن تهيو في ليكتس.

(1/401)


ص : 402
(1/341)
«كان من أشدّ ملوكهم بطشا ، وأنفذهم رأيا ، وأبعدهم غورا ، وبلغ فيما ذكر من البأس والنّجدة ، والنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز ، ومساعدة القدر ومساعدة الدهر إياه ، ما لم يتهيأ لملك أكثر منه ، ولذلك سمّي «أبرويز» وتفسيره بالعربية «المظفر» «1».
وقد تأنّق تأنّقا عظيما في مظاهر الترف والمدنية ، وأبدع في أنواع الأطعمة والأشربة «2» ، وبلغ في الألطاف والأدهان والعطور شأوا بعيدا ، وقد نشأ في عهده ذوق دقيق للأطعمة اللذيذة ، والخمور الراقية ، والعطور اللطيفة ، وارتقى في عهده الغناء والموسيقا ، وأقبل الناس عليها إقبالا عظيما ، وكانت عنده نهامة بجمع الأموال ، واكتناز الكنوز ، وجمع الطرف والنفائس ، ولمّا نقل كنزه في سنة 607 - 608 م من البناء القديم إلى البناء الجديد في طيسيفون ، كان ما نقله 460 مليونا وثمانية ملايين مثقال ذهب ، وذلك ما يساوي 370 مليون وخمسة ملايين فرنك ذهبيّ ، وفي العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان في خزانته 880 مليون مثقال ذهب «3» ، وقد حكم 37 سنة ، وخلفه ابنه شيرويه.
المقوقس :
هو حاكم الإسكندرية ، والنائب العام للدولة البيزنطية في مصر ، وقد ذكره المؤرّخون العرب غالبا باسم «المقوقس» واختلفوا في تسميته الحقيقية وكنيته اختلافا كثيرا ، أمّا المؤرّخ أبو صالح الذي ألّف تاريخه في القرن السادس الهجريّ (1200 م) فسمّاه ب «جريج بن مينا المقوقس» وقد ذكر
___________
(1) تاريخ الأمم والملوك للطبري : 2/ 137 ، المطبعة الحسينية الطبعة الأولى بمصر.
(2) راجع تاريخ الأمم والملوك : للطبري ، ص 995.
(3) إيران في عهد الساسانيين : ص 611.

(1/402)


ص : 403
(1/342)
ابن خالدون أنه كان من الأقباط ، والمقريزيّ سمّاه «المقوقس الروميّ» فلما هاجم الفرس مصر فرّ حاكم الإسكندرية من قبل البيزنطيين ، واسمه) renomlA eht nhoJ (من الإسكندرية إلى قبرص ومات هناك ، فعيّن هرقل مكانه نائبا آخر اسمه «جورج» ، ولعلّه هو الذي يسمّيه العرب ب «جريج» وولّاه رئاسة الكنيسة الملكانية ، وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ تعيينه كان في سنة 621 م.
ويرجّح «ألفرد بتلر» مؤلّف كتاب «فتح العرب لمصر» أنّ العرب كانوا يعتقدون أنّ الحاكم الذي كان يحكم مصر من قبل الدولة البيزنطية بعد انتصارها على إيران ، كان يلقّب ب «المقوقس» وكان رئيس الكنيسة وحاكم مصر في وقت واحد ، فأطلقوا على جورج الذي كان نائبا عن الدولة بهذا اللقب ، ويرجّح أن «المقوقس» لقب لا علم ، وقد ردّ هذا الاسم إلى أصول قبطية ، ويمكن أن أسقفا قبطيا تسلّم زمام الحكم ، ورئاسة الكنيسة عند استيلاء الفرس على مصر ، وقد انسحبت القوات الإيرانية عن مصر في سنة 627 م ، ولكن لم توقّع وثيقة الصلح إلّا في سنة 628 م ، فيمكن أنّ كتاب النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى المقوقس وصل إليه في هذه الفترة ، حين كان الحاكم المصريّ شبه مستقل «1» ولذلك خاطبه النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم ب «عظيم القبط».
وقد كانت مصر من أغنى ولايات الدولة البيزنطيّة ، وأكثرها خصوبة وإنتاجا وسكّانا ، وكانت تموّن العاصمة بالمواد الغذائية ، وقد وصفها فاتح مصر عمرو بن العاص (م 63 ه) وقد دخلها بعد أن مضى على كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المقوقس 14 عاما ، في كتابه الذي كتبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - بقوله : «مصر تربة غبراء وشجرة
___________
(1) 045 - 805. P - C - xidneppA راجع «فتح العرب لمصر» لألفرد بتلر ، وقد ورد اسم هذا الحاكم في بعض الكتب الجزكيروس أو قيرس.
(1/343)

(1/403)


ص : 404
خضراء ، طولها شهر ، وعرضها عشر» «1».
ويدلّ على عمرانها وكثرة نفوسها أنّ عمرو بن العاص لمّا تمّ له فتح مصر سنة 20 ه (640 م) أحصى من تستحقّ عليه الجزية يومئذ ، فبلغوا أكثر من ستة ملايين «2» ، وكان الرومان يبلغون مئة ألف.
وقد جاء في كتاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه - :
«أمّا بعد ، فإنّي فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أنّي أحصيت فيها أربعة آلاف متنة «3» ، بأربعة آلاف حمام ، وأربعين ألف يهوديّ ، وأربعمئة ملهى للملوك» «4».
النجاشيّ :
إنّ هذه البلاد لم تزل تسمّى من قديم الزمان بالحبشة) ainissybA (أو أثيوبيا) aipoihtE ( ، وهي بلاد من إفريقية الشرقية ، واقعة في الجنوب الغربيّ من البحر الأحمر ولا يمكن تقدير حدودها في العصر الذي نتحدّث عنه.
وحكومتها من أقدم الحكومات في العالم ، وتقول الأخبار اليهوديّة أن ملكة «سبأ» كانت تسكن في الحبشة ، وأنّ ذرّية سليمان ما زالت تحكم الحبشة ، وقد بدأ اليهود يسكنون في الحبشة بعد خراب هيكل سليمان ،
___________
(1) النجوم الزاهرة : لابن تغري بردي ، ج 1 ، ص 32.
(2) دائرة معارف القرن العشرين : للأستاذ محمد فريد وجدي ، راجع مادة «مصر» والمؤلف يشك في صحة هذا العدد في ضوء تجارب تضخم العمران في البلاد المختلفة ، فإن عدد النفوس في مصر في عصرنا لا يزيد على أربعين مليونا.
(3) هو المكان الصلب المرتفع ، كما في القاموس.
(4) حسن المحاضرة : للسيوطي.

(1/404)


ص : 405
(1/344)
وبدأت النصرانيّة تنتشر في الحبشة منذ القرن الرابع الميلاديّ ، ولمّا بدأ ملك اليمن يضطهد المسيحيّين في بلاده طلب جستينين الأول من ملك الحبشة أن يساعد المسيحيّين في اليمن ، فاستولى على اليمن في سنة 525 م ، ودامت السلطة الحبشية على اليمن العربية نحو خمسين سنة (وفي هذه الفترة هاجم ملك اليمن من قبل الحبشة أبرهة مكّة ليخرّب البيت ، ووقعت حادثة الفيل).
وكانت عاصمة الحبشة) muxA (وكانت حكومة مستقلة لا تخضع لحكومة أجنبية ، ولا تؤدّي إليها الخراج ، ولا تتصل بالإمبراطورية البيزنطيّة إلا عن طريق الصداقة والمشاركة في ديانة واحدة (المسيحية) يدلّ على ذلك دلالة واضحة أنّ الإمبراطور البيزنطيّ «جستينين» عيّن في منتصف القرن الثالث المسيحيّ رجلا اسمه «جوليان») nailuJ (سفيرا في بلاط الحبشة «1».
ويقول) yraeLO ycaL eD (في كتابه «العرب قبل محمد» :
«كانت الحبشة منذ 522 م حتّى ظهور الإسلام مسيطرة على تجارة شرق المحيط الأحمر وإفريقية ، بل لعلّها كانت مسيطرة على تجارة الهند أيضا» «2».
وكان ملك الحبشة يلقّب دائما ب «النجاشيّ» ihsagaN asugaN.
وقد اضطربت الأقوال والروايات في تعيين هذا النجاشيّ الذي كتب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، وممّا لا شكّ فيه أنّ هنالك شخصيّتين متمايزتين ، الأول هو الذي هاجر إليه المسلمون من مكّة ، وكان
___________
(1)
A. H. M. Jones Elizabeth Monros : A History of Abyssinia (Oxford, 1935) P. 63
(2) 021. P) 7291, nodnoL () dammahoM erofeB aibarA (

(1/405)


ص : 406
(1/345)
فيهم جعفر بن أبي طالب ، وذلك سنة خمس من النبوّة ، ويستبعد أنّه صلى اللّه عليه وسلم كتب إليه كتابا يدعوه في ذلك الحين ، فإنّ الأوضاع لم تكن تسمح بذلك ، ولم يكن قد آن أوانه بعد ، ولا نعرف أنّه صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى ملك من الملوك قبل الهجرة يدعوه إلى الإسلام ، وغاية الأمر أنّه طلب منه أن يؤوي المسلمين الذين قست عليهم قريش واضطهدوهم.
ويستأنس من الأخبار التي رواها ابن هشام وغيره في كتب السيرة أنّه دخل الإيمان في قلبه ، وآمن بأنّ عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - هو عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
أمّا النّجاشيّ الذي كتب له النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم كتابا يدعوه إلى الإسلام ، فهو كما مال إليه الحافظ ابن كثير هو النجاشيّ الذي ولّي بعد المسلم صاحب جعفر بن أبي طالب ، يقول ابن كثير : «و ذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى اللّه قبل الفتح» ، ونرجّح أنه هو الذي أسلم ونعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المسلمين ، وصلى عليه ، وقد ذكر الأبيّ عن الواقديّ وغيره من أهل السير :
«أنّه النجاشيّ الذي صلّى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك في رجب سنة تسع منصرف تبوك» «1».
وبذلك يحصل التوفيق بين الروايات المختلفة ، وتدلّ عليه القرائن والدراية ، واللّه أعلم.
كيف تلقّى هؤلاء الملوك هذه الرسائل الكريمة ؟
فأمّا «هرقل» و«النّجاشي» و«المقوقس» فتأدّبوا ، ورقّوا في جوابهم ،
___________
(1) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ، باب كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام ، برقم (1774) ، والترمذي في أبواب الاستئذان ، باب مكاتبة المشركين ، برقم (2716) من حديث أنس رضي اللّه عنه ].

(1/406)


ص : 407
(1/346)
وأكرم «النجاشيّ» و«المقوقس» رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأرسل «المقوقس» هدايا منها جاريتان كانت إحداهما مارية أمّ إبراهيم بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وأمّا كسرى أبرويز ، فلمّا قرىء عليه الكتاب مزّقه ، وقال : يكتب إليّ هذا وهو عبدي ؟! فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : «مزّق اللّه ملكه» «1».
وأمر كسرى باذان وهو حاكمه على اليمن بإحضاره ، فأرسل بابويه يقول له : إن ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك ، وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنّ اللّه قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله «2».
وقد تحقّق ما أنبأ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكلّ دقّة ، فقد استولى على عرشه ابنه «قباذ» الملقب ب «شيرويه» وقتل كسرى ذليلا مهانا بإيعاز منه سنة 628 م ، وقد تمزّق ملكه بعد وفاته ، وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة ، فلم يعش «شيرويه» إلا ستة أشهر ، وتوالى على عرشه في مدّة أربع سنوات عشرة ملوك ، واضطرب حبل الدولة إلى أن اجتمع الناس على «يزدجرد» وتوجوه ، وهو آخر ملوك بني ساسان ، وهو الذي واجه الزحف الإسلاميّ الذي أدى إلى انقراض الدولة الساسانية التي دامت وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضا كلّيا ، وكان ذلك في سنة 637 م ، وهكذا تحقّقت هذه النبوءة في ظرف ثماني سنين «3» ، ولم تعد بعد ذلك الإمبراطورية الساسانية ،
___________
(1) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي ] ، باب كتاب النّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. [برقم (4424) ، وأحمد في المسند (1/ 243 - 305) من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما].
(2) تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 90 - 91.
(1/347)
(3) ملخّصا من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» ، الباب التاسع ، «عهد الدولة الساسانية الأخير الزاهر» ، ص 593 ، والباب العاشر «سقوط المملكة».

(1/407)


ص : 408
فتحققت به نبوءة أخرى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو قوله : «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» «1».
وملّك اللّه المسلمين إيران ، وهدى أهلها للإسلام ، فكان منهم أئمة في العلم والدين ، وعباقرة الإسلام ، وأعلام المسلمين ، وصدق عليهم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس» «2».
حوار بين «هرقل» وأبي سفيان :
وقد أراد «هرقل» أن يتثبّت في أمر النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وبحث عمّن يستخبره في شأنه ، وصادف ذلك وجود أبي سفيان في «غزة» فأحضره إليه - وقد جاء في تجارة - وكانت استفساراته استفسارات عاقل مجرّب خبير بتاريخ الديانات وخصائص الأنبياء وسيرهم وشأن الأمم معهم وسنّة اللّه في أمرهم ، وصدقه أبو سفيان شأن العرب الأولين حياء من أن يأثر الناس عليه كذبا ، وجرى بينهما الحوار الآتي :
هرقل : كيف نسبه فيكم ؟
أبو سفيان : هو فينا ذو نسب.
هرقل : فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله ؟
أبو سفيان : لا.
___________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم [في كتاب الفتن ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل .. ، برقم (2918)] عن ابن عيينة ، ورواه الإمام الشافعي بسنده أيضا ، وراجع ابن كثير ، ج 3 ، ص 513.
(2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 296) ، [و ابن حبان برقم (7309) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ].

(1/408)


ص : 409
هرقل : فهل كان من آبائه من ملك ؟
أبو سفيان : لا.
هرقل : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟
أبو سفيان : بل ضعفاؤهم.
هرقل : أيزيدون أم ينقصون ؟
أبو سفيان : بل يزيدون.
هرقل : فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
أبو سفيان : لا.
(1/348)
هرقل : فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
أبو سفيان : لا.
هرقل : فهل يغدر ؟
أبو سفيان : لا ، ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها ، (قال :
ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة).
هرقل : فهل قاتلتموه ؟
أبو سفيان : نعم.
هرقل : فكيف كان قتالكم إيّاه ؟
أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سجال «1» ، ينال منّا وننال منه.
هرقل : ماذا يأمركم ؟
___________
(1) [أي مرّة لنا ومرّة علينا ، وأصله أنّ المستقين بالسّجل ، يكون لكلّ واحد منهم سجل ]. (1/409)


ص : 410
أبو سفيان : يقول : اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصّلاة ، والصّدق ، والعفاف ، والصّلة.
فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه ، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، قلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يتأسّى بقول قيل قبله.
وسألتك هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت : أن لا ، فقلت : فلو كان من آبائه من ملك ، قلت : رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت : أن لا ، فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللّه.
وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت : أنّ ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت : أنّهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتّى يتمّ ، وسألتك أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
فذكرت : أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر.
(1/349)
وسألتك بم يأمركم ؟ فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا اللّه ، ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف ، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين ، وقد كنت أعلم أنّه خارج ، ولم أكن أظنّ أنّه منكم ، فلو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو

(1/410)

------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق